المدارس المشتقة من التحليل النفسي
(١) يونج وأدلر
كان يونج وأدلر — كما سبق أن ذكرنا — من تلاميذ فرويد، وقد اتخذ كلٌّ منهما لنفسه بعد ذلك وجهة مستقلة، وأنشأ مدرسة خاصة به تُعتبر مستقلة عن مدرسة التحليل النفسي الأساسية.
ولكن الكثيرين يَعتبرون هاتين المدرستين مشتقَّتين من التحليل النفسي وذلك لاصطباغهما، رغم استقلالهما، بصبغة لم تكن لتوجد لولا علاقة مؤسِّسيهما السابقة بالتحليل النفسي.
وبين المدارس الثلاث نقط تُعتبر نقط اتفاق، ولكن الخلاف بينها أوضح وخصوصًا على المسائل الأساسية كاللاشعور والجنسية.
وبالرغم من ذلك فإن كثيرًا من الكشوف التي ظهَرت فيهما لا تُعتبر مُناقضةً للتحليل النفسي مناقَضة أساسية، وإنما تُعتبر إضافات إلى معلوماتنا عن الإنسان إذا نظرنا إليها من الناحية السيكولوجية الصرفة؛ وذلك مثل «الأنماط» عند يونج، ومثل فكرة «الشعور بالضعة» عند أدلر، وسنهتمُّ في هذا الباب بإيراد هذه النواحي، ونمرُّ على سواها مرًّا سريعًا.
والمنقبض شخص تتجه طاقته الغريزية إلى داخل نفسه، وتَكيُّفُه على البيئة التي يعيش فيها يجعله ينظر إلى البيئة من وجهة النظر الشخصية؛ فهو يحاول أن يكيِّف الحقائق والأشياء طبقًا لحاجته النفسية. أما المنبسط فهو شخص يهتم بالعالم الخارجي كما هو، ولا يحاول أن يخضعه لنزعاته واتجاهاته النفسية؛ هو شخص يَقبل العالم ويتعامل معه كما هو في الواقع، بل إنه ليكيِّف نفسه حتى تلائم هذا العالم المحيط به.
وفي نظر يونج أن الإنسان الذي يكون منقبضًا في الشعور يميل إلى أن يكون منبسطًا في اللاشعور، وبالعكس.
والمُنقبض شخص يَميل للعزلة والانزواء، ويهاب الناس ويَظهر على وجهه الخجل حينما يواجههم، والتلعثُم حينما يضطر إلى محادثتهم. هو شخص يجعل حياته ملكًا له يحيطها بسياج من التكتُّم والاستتار، لا يميل لإبداء آرائه أو للاشتراك في المناقشات العلنية، وإذا اختار ملابسه فضَّل الألوان القاتمة على الألوان الزاهية، وإذا اختار مهنته فضَّل المِهنة التي تسمَح له بالتفكير والإنتاج بعيدًا عن الاحتكاك بالناس على مدًى واسع. شخص قليل التعرف بالناس، قليل الأصدقاء، تكاد تتبيَّنه في مشيته وفي لفتته وفي مصافحته باليد، يُظهر انقباضه في أسلوب كلامه وأسلوب كتابته، بل وفي تنسيق بيته وفي نظام حياته وفي الأعمال التي يُفضِّل مزاولتها والكتُب التي يُفضِّل قراءتها، يظهر في جِدِّه وفي هوايته، في مرحه وفي مَباذله، وبالجملة فإن الانقباض طابع يَطبع حياة الشخص ويظهر في مختلف ألوان سلوكه. ومن الغريب أن الشخص المُنقبِض إنما هو منقبض في سلوكه الظاهري فقط؛ أي أنه مُنقبِض من وجهة الشعور فقط، أما من ناحية اللاشعور فهو مُنبسِط، راغب في الاختلاط والاجتماع، متجه إلى العالم المحيط به، يأنَس إليه من أعماقه، ولكنه يَهابه في ظاهره.
أما المنبسط فهو شخصٌ يتَّجه بكلية نفسه إلى البيئة، يأنس إلى الناس ولا يهابهم، يُحدِّث القريب والبعيد بلا خوف ولا وجَل، يَفعل ما يحلو له بلا كثير تحفُّظ، يُكثر من المعارف والأصدقاء، يَلبس الزاهي من الألوان، ويُظهر انبساطه في مختلَف نواحي حياته المختلفة. ومن الغريب أيضًا أن أولئك المُنبسِطين الذين نراهم يَخطُبون الجماهير ولا يهابونها ويتحرَّكون في المجتمع ولا يتحفَّظون في القول أو الفعل، إنما هم في أعماقهم مُنقبِضون، وكأن مظهرهم هو رد الفعل «لمُخبرهم» كالجبان الرعديد الذي إذا واجهتْه المخاطر انقلب جريئًا مُجازفًا بحياته لا يهاب شيئًا.
وبين هذين الطرفين المتناقضَين، يقع أوساط الناس ممَّن يتراوح سلوكهم بين الانبساط والانقباض، فتزيد في أحدهم درجة الانبساط بمقدار ما تقلُّ درجة الانقباض وبالعكس، وهؤلاء يكوِّنون الأغلبية الكبرى بين الناس.
والانبساط أو الانقباض قد يكون مظهرًا سليمًا عاديًّا، وقد ينقلب إلى مظهر شاذٍّ مرَضي، فإذا زاد الانقباض إلى الحد الذي يجعل الشخص راغبًا عن الحياة الجماعية إلى الدرجة التي تجعل من حياته جحيمًا، والتي تجعل من انقباضه عبثًا لا تَحتمله مطالب الحياة العادية، فينزوي حيث يجب الظهور والإقدام، ويَهرب من تكاليف الحياة، ويرى الأشياء والحوادث بمنظار قاتم مقلوب أوحت إليه به نفسه المُنقبِضة، إنما يُعتبر شاذًّا لا تقوم حياته على مواجهة الوقائع.
كما أن المنبسط المتطرِّف في انبساطه، الذي يُصبح عبئًا على الناس، ينتقل من جمع إلى جمع، يتحدَّث حيث يجب السكون، ويقول ما لا يَحسُن أن يقال، لا يجد جمعًا إلا وقف فيه خطيبًا، ولا حادثًا إلا دخل فيه شاهدًا، ولا شخصًا إلا أوقفه يحدثه عن نفسه، يطارد من يعرف ومن لا يعرف من الناس، ولا يجد في نفسه دافعًا يدفعه إلى تحفُّظ أو خجل أو اعتكاف، فهو شخص زاد تطرُّفه حتى أصبحت حياته العملية والاجتماعية معرَّضةً للخطر، وأصبح في عداد الشواذ.
وقد يصل الأمر بهذا وذاك إلى أن يُصبح احتمالهما مستحيلًا على الناس، فيجدان في النهاية مكانهما في مستشفيات الأمراض العقلية بجانب غيرهما ممَّن قَصُر المجتمع عن احتمالهم. وإذا دخلت أحد المستشفيات فإنك تجد النمطَين مُتمثَّلين تمام التمثيل، فتجد فريقًا من المرضى قد اختلى كلٌّ بنفسه وانزوى عن العالم الذي يحيط به؛ منهم من وقف في وسط المكان وقد غطى رأسه وجسمه بغطاء يُخفيه عن الأعين ويخفي عنه ما يحيط به من الناس والأشياء، ومنهم مَن وضع رأسه بين يديه في ركن قصيٍّ ورفض الكلام أو تناوُل الطعام، ومنهم مَن نَدر أن يفتح فمه بكلمة … ثم تجد آخرين يُهرولون ويَجْرون ويَصيحون ويخطبون ويهتفون، لا يسكُت لهم صوت ولا تهمد لهم حركة.
فالإنسان قد يكون منقبضًا تفكيريًّا، أو منقبضًا وجدانيًّا، أو إحساسيًّا، أو إلهاميًّا. وكذلك بالنسبة للمنبسط، فلكل فرد نمطه الاتجاهي العام، ثم نمطه الوظيفي الذي يحدِّد الكيفية التي يظهر بها النمط الأول في سلوكه.
فالنمط التفكيري يشمل أولئك الذين يغلب عليهم الفكر في توجيه سلوكهم، فإذا كان التفكير متجهًا إلى داخل النفس كان الشخص منقبضًا، أما إذا كان متجهًا إلى خارجها كان منبسطًا، ومعظم الفلاسفة من النوع الأول، بينما نجد الاجتماعيِّين وبعض علماء الطبيعيات من النوع الثاني.
أما النمط الوجداني فيُمثِّل الشخص الذي تتحكم فيه عواطفه أكثر من فكره. فإذا كان مُنقبِضًا كانت عواطفه قوية عميقة، أما إذا كان منبسطًا فإن منطق حياته يكون مستمدًّا من الانفعالات والعواطف السطحية، ويَغلب أن يكون النساء من الطراز الأخير.
أما النمط الإحساسي فهو الذي يهتم بالعالم الخارجي كما يظهر له عن طريق الحواس، كالفنان الذي يتأثَّر بالألوان والأشكال والأصوات التي تَعرضُها له الطبيعة تأثُّرًا يرتبط أشد ارتباط بالأثر النفساني الداخلي؛ ولذلك فهو منقبض. أما الرجل «العملي» الذي يهتم بالعالم الخارجي كما هو ويَراه كما تَعرضه له الحواس بلا نقص ولا زيادة فهو الإحساسي المنبسط.
وأخيرًا نجد الإلهاميين، أولئك الذين يُسيِّر حياتَهم «الإلهام» أو الفطنة التي لا تَستند إلى منطق واضح أو عاطفة واضحة. ونجد المتصوفين من النوع الإلهامي المنقبض، بينما نجد أغلب الخطباء والسياسيِّين من النوع الإلهامي المنبسط.
ووظيفة التحليل عند يونج لا تقف عند ماضي الشخص وإنما تمتد إلى مستقبله، فالأحلام مثلًا لها مهمة وظيفية تتعلق بالمستقبل، فوق مهمتها التفسيرية المتعلقة بالماضي؛ فمعناها لا ينصبُّ على الأشياء والأشخاص فقط، وإنما يتعلق أيضًا بالاتجاهات العقلية التي ترمي إلى أغراض مستقبلة، كالميل للتحرر من النزعات البدائية أو الوصول إلى السمو الفكري.
(٢) سيكولوجية أدلر١٣
وتتلخص سيكولوجية أدلر في أن الغرض الذي يَرمي إليه الفرد هو الوصول إلى القوة والسيطرة والسمو، وأن هذا الدافع نحو السيطرة مشتق من الشعور بالضعف والضعة الذي يحسُّ به الفرد في طفولته. فليس هناك ما يبهر نظر الطفل في مبدأ حياته مثل الفرق الهائل الذي يلمسه بين ضعفه وقلة حيلته وبين مظاهر القوة والقدرة التي تحيط به. وعلى ذلك تُصبح حياته صراعًا في سبيل الوصول إلى السيطرة والقوة. وبما أن الإناث يبقين في منزلة ثانوية من حيث السيطرة طول حياتهن، فإن هذه النزعة تظهر عندهنَّ بكيفية خاصة، فتبدو في صورة «رغبة شديدة متغالية في الذكورة» تبحث عن التحقق بصور متعددة ويُنسب إليها كثير من المتاعب التي يَلقَينها.
- «الأولى» مباشرة: وهي ترمي إلى التغلب على الضعف، والوصول إلى القوة في نفس المجال الذي يشعر فيه الفرد بالضعف. وخير مثال لذلك هو ديموستينس الخطيب الروماني المشهور، الذي بدأ حياته الكلامية بالفأفأة، وما لبث أن هاجم هذا الضعف في نفسه وأصبح أشهر خطيب عرفه العالم.
- «الثانية» غير مباشرة: وهي تَرمي إلى محاولة السيطرة والسمو في مجال آخر يَختلف عن ذلك الذي يجد فيه الشخص ضعفه، فالشخص الضعيف الجسم يحاول أن يبرز في الناحية الفكرية، وضعيف العقل يحاول أن يُسيطر في الناحية الجسمية، ومن رُزِق وجهًا قبيحًا يحاول أن يجتذب الناس إلى سلطانه بأن يَصطنع نفسًا جميلة.
- «الثالثة» وهمية: يلجأ فيها الشخص إلى الهروب من مواجهة ضعفه في حياة الواقع، فيخلق لنفسه جزءًا وهميًّا يسيطر فيه، أو يصطنع «سببًا» يَنسب إليه فشله وضعفه، كمرَض جسمي أو عقلي، فكأنه يقول بلسان الحال: «ها أنا ذا مريض لا أستطيع العمل ولو استطعته لبززت غيري وظهرت على منافسيَّ.»
وهذه الطريقة لمواجهة الضعف طريقة مَرَضية، يكون السلوك فيها من قبيل الأعراض التي لا تؤدِّي غرضًا واقعيًّا ولا قيمة لها في الحياة العملية.
وهذا الأسلوب هو نفسه الأسلوب الذي يعالج به الطفل ما يتلو من مشكلات حياته الأساسية؛ فهو يختار المهنة التي يجد فيها تحقيقًا لغرض السيطرة الذي اتجه إليه، ويجد في ثناياها الوسائل التي تجعل لأسلوبه فرصة النجاح. كما أنه في حبه وزواجه يرمي إلى نفس الأغراض ويتأثر بالأسلوب الأول.
ذكرنا طرفًا عن هذين المذهبَين بشيء من التفصيل لأنهما يُعتبران في عُرْف الكثيرين مشتقَّين من التحليل النفسي. وليس معنى الاشتقاق الاتفاق، بل بالعكس. فإن هناك خلافًا حقيقيًّا بين هذه المدارس، فأدلر قد هجر ناحيتين أساسيتين من التحليل النفسي؛ أولاهما الغريزة الجنسية، والثانية اللاشعور، أو على الأقل قد قلَّل من أهميتهما إلى الدرجة القصوى.