تطبيقات التحليل النفسي
(١) في الطب
إنَّ الميدان الأساسي الذي نجَح فيه التحليل النفسي هو ميدان العلاج: علاج الاضطراب العصبي بأنواعه أولًا، ثم علاج الأمراض العقلية ثانيًا. وليس ذلك بمستغرَب لأن هذا الميدان هو الذي نشأ فيه التحليل النفسي وترعرَع، وقد جُمعت حقائقه الأولى من الحالات التي عُولجت في عيادات المحلِّلين النفسيين، ولا يزال العلاج هو المصدر الأساسي الذي يغذي العلم ويَدعم حقائقه ويُضيف إليها أو يُدخل عليها بعض التعديل. ولا شك في أن ما يُجمع من الحقائق عن طريق العلاج تكون له أول ما تكون قيمة علاجية. وينظر أصحاب التحليل النفسي إليه على أنه علم تطبيقي فوق أنه علم نظري، بل هو تطبيقي أولًا ثم نظَريٌّ بعد ذلك. وهم لا يَعتبرون أيَّة دراسة نظرية لهذا العلم كافية لفهم حقائقه فهمًا صحيحًا، بل يُحتِّمون على من يريد أن يتخصَّص فيه أن يقوم بتدريب عملي طويل. ويَمتاز التحليل النفسي بأنه يجمع بين الناحيتين العلاجية والنظرية جمعًا لم يُتح لأي مدرسة أخرى في علم النفس أن تَصل إليه.
والعلاج عن طريق التحليل النفسي علاج طويل يحتاج إلى كثير من التفرُّغ والجهد اللذين يصرفان الكثيرين عن اتِّباعه؛ وذلك لأن ما يُقيمه شعور المريض من العقبات وما يثيره من المقاوَمات في طريق اللاشعور يجعل من العسير أن يصل المحلِّل إلى هذا الأخير، ومما جعل التغلُّب على هذه المقاومة أكثر عسرًا أنها مقاوَمة لا شعورية، لا يشعر بها المريض وإنما يتبيَّنها الطبيب في مظاهر الصراع التي لا تُخطئها العين المدرَّبة، والتي تبدو كلما وقف الطبيب والمريض وجهًا لوجه أمام إحدى هذه المقاومات. والطريق إلى اللاشعور طريق ملتوٍ ملتف، معقَّد طويل، لا تصل به إلى الغاية إلا بالجهد الكبير. وليس ذلك بمستغرب لأن الغاية النهائية هي العودة بالمريض إلى أصول الاضطراب عنده، والوصول إلى عهودٍ سحيقة في حياته هي عهود الطفولة، وأعماق سحيقة في نفسه هي أعماق اللاشعور، وكل ذلك ضد المقاومة التي تتجدَّد كلما لمس الطبيب نقطة حساسة في الحياة النفسية للمريض. وبذلك يصل التحليل إلى جذور الاضطراب ويحلُّ عقدة الطفولة نفسها، فيهب الشخص سلامًا داخليًّا لا يصل إليه بوسيلة أخرى من وسائل العلاج، ويَنتشله من جوِّ الأوهام والخيالات والوساوس الطفلية التي يعيش فيها، ويثبِّت أركان علاقته بالعالم الواقع، ويجعل بناءه النفسي سليمًا قادرًا على تحمُّل الصدمات والمرور في الأزمات النفسية، فهو علاج للماضي، وهو وقاية للمستقبل. كل هذا يميِّز التحليل النفسي عن غيره من وسائل العلاج.
وقد أدى التحليل رسالته أحسن أداء في المحيط المحدود الذي عمل فيه في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة، غير أنه لا يزال أمامه شوط طويل حتى يُحقِّق كل الفائدة المرجوة منه، فلا يزال عدد المختصين فيه سواء من الأطباء أو غيرهم قليلًا، ولا يزال الكثيرون ينظرون إلى هذا العلم بشيء من الشك والحذر. ولا جدال في أن الجرأة والصراحة اللتين يواجه بهما التحليل النفساني مشاكل العقل مما لا يَحتمله كل إنسان، بل الواقع أنه لا يُنتظر أن يَحتمله إلا القليل، وتجد تفسير ذلك في نظريات التحليل النفسي ذاتها. ولكن متى انتشر هذا العلم بين الناس ولمس الجميع نتائجه أمكن أن يتسع تطبيقه تدريجيًّا حتى يأتي اليوم الذي تُجنى فيه كل فوائده.
هذا من ناحية العلاج النفسي، ولكن للتحليل النفسي قيمة في توجيه عمل الطبيب العادي في علاقته بمرضاه.
ولعلَّ كثيرًا من الناس يَستغربون أحيانًا للنتائج الحسنة التي يَصل إليها بعض الأطباء دون البعض الآخر، حتى مع تساوي القدرة الطبية. والسبب في ذلك يرجع غالبًا لنوع العلاقة التي يُنشئها الطبيب مع مريضه، وهذه العلاقة يجب أن تكون علاقة عطف ومحبة واهتمام، ويجب أن يُحسب فيها حساب النزعات النفسية التي تتناول المريض في هذه الفترة من حياته. وليس معنى ذلك أن يدلِّل المريض، بل بالعكس يجب أن يحمل مع الطبيب مسئولية العلاج على قدر طاقته، وبالرفق الذي تحتمله حالته. وإذا صحَّ ذلك بالنسبة للطبيب فهو صحيح أيضًا، وبصفة خاصة بالنسبة للعلاج بالمستشفيات، حيث يجب أن يكون الجو الذي يُحيط المريض جوًّا مشوبًا بالعطف، يبعث الطمأنينة والثقة في نفسه، ويجب أن تكون العلاقة بينه وبين القائمين على علاجه علاقة محبَّة متبادَلة؛ وذلك في مصلحة العلاج الطبي نفسه فوق أنها ضرورية لسلامة نفس المريض.
والواقع أن المريض يُشبه الطفل في كثير من الوجوه، ويجب أن يُعامَل على هذا الأساس، مع الانتباه للفروق التي لا بد من وجودها بينه وبين الطفل؛ أي أنه يجب أن يحصل على مقوِّمات عاطفية من نوع يُشبه ما يحتاج إليه الطفل على أن يحلَّ محلَّها بالتدريج إلقاء المسئولية عليه وإعادته إلى حالة الاستقلال والثِّقة من جديد؛ ولعلَّ في هذه النقطة وحدها ما يبرر استخدام النساء في التمريض على أن يتلقين التدريب السيكولوجي الكافي.
كل ذلك في حالة المرضى من الكبار فما بالك بالمرضى من الأطفال؟ لا شك أن أثر المرض الجثماني في حالة الطفل النفسية دائمًا أثر بالغ. وكثيرًا ما لاحظ الآباء أن قياد الأطفال حتى الرُّضع منهم يُصبح أصعب مراسًا بعد إبلالهم من مرض خصوصًا إذا كان طويلًا. والمرض يُهاجم الذات «الأنا» ويُضعفها فتنتهز النزعات هذه الفرصة لتُعبِّر عن نفسها كما يحدث في الأحلام، وهذا هو السر فيما يبدو على المريض أحيانًا من قلق وتبرُّم وما يبديه من صعوبة القياد.
والأطباء يَشكُون من ضيق بعض المرضى بتناول الدواء واتباع التعليمات والإهمال في التوقِّي من المضاعَفات، ويَعتبرون ذلك أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لبعض المرضى ويظنون أحيانًا ألا حيلة لهم فيه. والواقع أن سلوك المريض يرجع إلى الدوافع الأصلية العميقة، يرجع إلى صورة الطفولة وإلى المعاملة التي لقيها وهو طفل وما كان يجد فيها من يسْر وسهولة، فهو يعكس على الطبيب وعلى علاجه ما كان يعامَل به من الأبوين وهو طفل بدون أن يشعر أنه يفعل ذلك.
ففترة المرض تُعتبر إذن فترة شاذة يحتملها في سهولة ويسر الأشخاص الذين سلم بناء شخصياتهم وخلا من آثار الصراع العنيفة؛ أما أولئك الذين عانوا كثيرًا من الصراع والكبت في طفولتهم، فإنَّ هذه الفترة تُعتبر أزمة نفسية حقيقية بالنسبة إليهم.
ومما يَزيد في صعوبة الموقف أحيانًا أن يجد المريض في ظروف المرض ما يُشبع بعض الرغبات التي يَشعُر بالحرمان منها في العادة. ومثال ذلك الزوجة التي لا يلتفت لها زوجها كثيرًا ولا يرعاها، فإذا مرضت أقبل عليها واهتمَّ بها وبذَل لها من حنانه الشيء الكثير، أو الابن الذي لا يرضى أبواه عن سلوكه في الأحوال العادية فإذا مرض احتمَلا منه هذا السلوك وعاملاه بالحدب والعطف والرعاية. مثل هؤلاء الأشخاص يكون للمرض قيمة حقيقية عندهم فهم يستفيدون من أعراض المرض وظروفه فائدةً شعورية ظاهرة، فإذا كان لهم من ماضي حياتهم ما يجعل للمرض فوق ذلك قيمة لا شعورية أيضًا نتجت حالة من أصعب الحالات؛ لأن الأعراض التي تحقِّق غرضًا شعوريًّا وتحقق في الوقت نفسه غرَضًا لا شعوريًّا تميل إلى أن تَثبُت ويصبح التخلي عنها أمرًا عسيرًا.
وهكذا نرى أن التحليل النفسي ذو قيمة خاصة لعلاج الأمراض النفسانية، وذو قيمة عامة لصِلَته بالناحية الطبية الصرفة، وهو في الناحيتَين يستطيع أن يؤدي أجلَّ الخدمات إذا أُحسن استخدامه.
ويحسُن، بناءً على ذلك، أن تشمل المقررات الطبية دراسة متزنة لمبادئ علم النفس بصفة عامة، والتحليل النفسي بصفة خاصة.
ومن اللازم مراعاة هذه المبادئ في جميع المؤسَّسات التي تشتغل بعلاج الأطفال ووقايتهم، كمستشفيات الولادة والأطفال ومراكز رعاية الطفل إلى غير ذلك، بل إنه من اللازم مراعاتها حتى عند تركيب الأدوية التي يستعملها الأطفال.
ومن الضروري إذن أن يلمَّ كل من يتصل بالأطفال من ناحية التطبيب والتمريض وغيره بمبادئ التحليل النفسي إلمامًا يؤدِّي على الأقل إلى أن يدرك أخطار بعض التصرفات، وأن يدرك في الوقت نفسه متى يَحسُن استشارة الإخصائيين في صدد المشاكل التي تنشأ في محيطه.
(٢) في التربية
هنا نأتي إلى موضوع من أخطر الموضوعات وأبعدها أثرًا في حياة الطفولة وحياة الأجيال المستقبلة، وهو موضوع التربية والتعليم. وإننا لنتساءل ما الذي يفيد المربي من العلم بالتحليل النفسي؟
وقبل أن نستطيع الإجابة على هذا السؤال نجد من اللازم أن نتساءل أولًا عن الأغراض التي ترمي إليها التربية، فنجد أن التربية ترمي إلى تنمية الشخصية تنميةً تتناول مختلف جوانبها من فكرية وخُلقية واجتماعية، والوصول بالفرد إلى أقصى ما تؤهله له مواهبه، وإلى توجيه ميوله واستعداده توجيهًا يجعل منه قوة فعَّالة وعضوًا عاملًا نافعًا في المجتمع الذي يعيش فيه.
(٢-١) تنمية الشخصية
والتربية إذ تُعنى بالشخصية، لا تستطيع أن تُغفل العوامل اللاشعورية التي لها أكبر الأثر في بناء هذه الشخصية، وقد كانت التربية تُعنى إلى وقتٍ قريبٍ بالذات «الأنا» وتتعامل معها مباشرةً وترمي إلى تقويتها بمختلف الوسائل. ونستطيع أن نقول إنه لكي نَصل إلى هذه الغاية لا بد لنا من العلم بالنزعات والقُوى الأخرى التي تعمل في النفس، ومن أهم ما أوصله إلينا التحليل النفسي فكرة نشوء الذات من النزعات، وإن معرفتنا بذلك تُفهمنا كيف أن الذات تُعتبر تطورًا حديثًا نسبيًّا في حياة الطفل، وهي في نشأتها الأولى كالنبت الحديث يحتاج إلى الكثير من العناية والرعاية لكي ينمو النمو السليم، وتتَّضح ضرورة هذه العناية إذا ذكرنا أن الذات تتولى من مبدأ الأمر معارضة النزعات وقمعها وكبتها، فهي محتاجة إلى أن تقوى، وهي تستمد قوتها من المجتمع الذي يجب أن يعتبرها حليفة ويقدِّر صعوبتها، وينظر إليها بعين الرفق والفهم، فيعينها على ما تقوم به، ويدرك أن زلاتها ناشئة عن ضعفها أمام النزعات، فلا يفعل ما قد يؤدي إلى زيادة هذا الضعف. ولا شك أن اعتدال مطالب المجتمع تسهِّل على الذات القيام بهذه المطالب؛ ولذلك كان من الضروري في تربية الأطفال أن نتطلب القدر الضروري من السلوك الخُلقي والاجتماعي في مبدأ الأمر، وأن نَسمح بتحقيق ما لا ضرر في تحقيقه من النزعات.
ولا شك أننا نُسهِّل مهمة الذات «الأنا» إذا لم تقفِ مطالبنا منها عند حدِّ القمع والكبت للنزعات، بل إذا عملنا في الوقت نفسه على تهيئة الفرص المناسبة لإعلاء النزعات، بأن هيَّأنا للطفل مجالي الخبرة والنشاط التي يجد فيها بديلًا من نزعاته البدائية التي لا نسمَح بظهورها.
موقفنا في مبدأ الأمر من الطفل لا يصحُّ أن يكون موقف تعسُّف واشتداد في اقتضاء المطالب، وإنما يجب أن يكون موقف تقدير واعتدال، وفي الوقت نفسه يجب أن نعدَّ له الفُرَص لإبدال نزعاته.
وقد أدركت التربية منذ زمن بعيد أهمية «الذات» أو «الأنا» فعملتْ على تدعيم الثقة بالنفس عند الطفل، ونصحَتْ بالاعتراف بذاتيته وعملت على تدعيمها. والجديد هنا هو أن ندرك تمامًا موقف الذات فيُساعدنا ذلك على حُسن التدعيم. والأهم من هذا هو أن نفهم هفوات الطفل وأخطاءه فهمًا جديدًا؛ فالطفل إذ يخطئ أو يهفو إنما يخطئ أو يهفو بالرغم من «أناه»، أو لأن هذه الأنا كثيرًا ما تجهل موقفنا من هذا العمل ولا تعتبره «خطأً». وعلى ذلك فإن واجبنا في هذه الحالة هو أن نقوِّم هذه الأخطاء بطريقة لا تُضعف الأنا، وإنما يكون التقويم بحيث يبدأ من نقطة الضعف عند الطفل وهي شعوره بأنه لم يكن يجب أن يفعل ما فعل. ولا ننسى أن الأنا تتقاضى ثمنًا هو نجاحها في كسب رضاء المجتمع وعطفه، وهذا الثمن في أيدينا يجب أن نتعامل به ولكن يجب ألا نتغالى في التعامل فلا نُغدق ولا نُقتِّر؛ لأن في الإغداق إضعافًا لمبدأ بذل الجهاد في إرضاء المجتمع، وفي التقتير إضعافًا لمبدأ الأخذ والعطاء.
ولا يلبَث أن يَدخل في الصفقة عميل جديد، ولكنه عميل صارم لا يَعرف الهوادة، هو الأنا العليا. ولا شك أن من مصلحتنا أن تقف أمام النزعات الجامحة «أنا عليا» جامحة أيضًا لأن ذلك يسهِّل على الأنا أن تحصل على مطالبها من كلتيهما. وكما أن النزعات تَنتهز فرصة كل ضعف يبدو من الذات لتصل إلى الإشباع، فإن الذات العليا تَنتهز نفس هذه الفُرص للوصول إلى الحِرمان المُطلَق. فالمعوَّل إذن على الأنا القوية. ومما يزيد في قوة الأنا الخبرة، فكلما سهَّلنا للطفل أن يقوم بنوعٍ من الخبرة الاجتماعية والخُلقية تحت رقابتنا وإرشادنا ازدادت مهارة «أناه» في تناول العوامل اللاشعورية والتوفيق بينها واختيار المسلك الذي يُعتبر كافيًا من وجهة نظر الجميع.
وعلى ذلك فالصورة السليمة للشخصية هي صورة «الأنا» المتربِّعة على عرش العقل، والتي تدير مملكتها إدارة حازمة حكيمة، فتعامل الجانب الثائر من النفس (النزعات) بما لا يزيد في ثورته وتسهِّل له التنفيس عن هذه الثورة وتتلقى الوحي من الأنا العليا، ولكنها تهوِّن من عسف هذا الوحي وتشذِّب من ضراوته وتُحيله إلى مسلك عمَلي سليم، وهي تكتسب بأعمالها ود العالم الخارجي بأن تتفاهم معه وتُراعي مطالبه، حتى إذا أتى الوقت المناسب أصبحت هي بدورها قوة ذات أثر في هذا العالم الخارجي، فحاولت أن تُصلح من شئونه بما وصلت إليه من حكمة في تجاربها.
ولكي نصل بالشخصية إلى الصورة السليمة يجب أن نُحاذر من تحميلها بآثار الصراع الذي يُنغِّص عليها سلامها. ويجب ألا نغترَّ بالظواهر، فنظن أننا قد وصلنا إلى الإعلاء في حين أننا نكون قد هيأنا الطريق للمتاعب النفسية المستقبلة بأن تخلَّصْنا من مسئولية الحاضر. وليس أضر على مستقبل الفرد من حل مشاكله الحاضرة حلًّا يتناول الأعراض ولا ينفذ إلى «الجوهر» — وهو العوامل الأساسية اللاشعورية — لأن ذلك يكون من قبيل إقفال الجرح الملوث وتعريض الجسم كله للخطر.
وإن أساس تربية الشخصية هو فهم الدوافع الأساسية للسلوك، والصبر والمثابرة في معالجتها، والأخذ بيدها وتهيئة السبُل لإعلائها، بحيث تتكون الشخصية متكاملةً مُتساندة الأجزاء، تنمو نموًّا منتظمًا لا يختلف جانب منه عن سائر الجوانب، وحتى تتكون عند الناشئ المناعة ضد الصدمات والأزمات.
(٢-٢) الإعلاء
والإعلاء غرض من أغراض التربية، وهو الذي تتحوَّل فيه الطاقة الغريزية إلى مسالك لها قيمة فعلية واجتماعية كما عرفنا من قبل. والإعلاء إذن هو نَوع من الإنتاج الفعلي يُعطي الغريزة بديلًا عن الإشباع المُباشر الذي لا سبيل إليه، ويَصرفها في الوقت نفسه عن الإنتاج الوهمي عن طريق اصطناع الأعراض المرَضية كما يَصرفها عن عرقلة الذات في سلوكها وإقامة العقبات في طريق حياتها. وعلى ذلك يجب أن تتوفَّر للطفل حرية العمل والإنتاج في المحيطين المادي والاجتماعي. والحرية هنا حرية إيجابية معناها أن نهيِّئ بيئة الطفل في مراحل نموه المختلفة تهيئة تسمح له ببذل النشاط وتسمح له بالخبرة والتجريب والعمل والإنتاج. ويجب أن تكون هذه البيئة متسعةً ومرنة حتى يتخير من بين عناصرها ما يناسب اتجاه نزعاته الخاصة.
وللإعلاء ثمنٌ تتقاضاه النفس؛ فهو مهمة تحتاج إلى جهد؛ ولذلك يجب أن نترفَّق في توجيه الطفل إليه ولا نتعجَّل الأمور، وأن تُترك الفرصة لكي يُبنى الإعلاء على أساس ثابت حتى تكون له صفة الدوام والاستقرار.
(٢-٣) الخبرة الاجتماعية
والخبرة الاجتماعية التي نقصدها تَقتضي أن يعتاد الطفل على المخالطة والتعامل مع غيره من الأفراد، وكلما كان الجو الذي يحيط به جوًّا مستقرًّا سليمًا كلما مكَّنا له من اجتناء ثمرتها. وبما أن من المهم أن يعلم الطفل بدستور المُجتمعات المختلفة التي «نؤهِّله» لعضويتها، فإن من اللازم أن يفهم طرائق السلوك الاجتماعي عن طريق الخبرة الشخصية، على أن نعينه بالشرح والمثال كلما استعصى عليه أمر. وهكذا يتكون خُلقه تكوينًا متنورًا في مجموعه، فلا يكون عبدًا لأوامر ونواهٍ لا يدرك حكمتها ولا يستطيع أن يفهمها. ولا شك في أن ذلك أمر نسبي، فكثيرًا ما نجد من المتعذِّر أن نستخدم المنطق مع الطفل، وفي هذه الحالة نستطيع أن نستخدم نفوذنا في توجيهه، على أن يكون نفوذًا تُسنده المحبة والحنان والرِّفق، حتى نُسهِّل عليه تقبُّل التوجيه واصطناع السلوك الجديد.
وكلما نما الطفل واتَّسع مجاله الاجتماعي أصبح من اللازم أن تزيد معرفته بالمجتمع عن طريق الخبرة والتعلم.
ولا ننسى أن الطفل يبدأ أنانيًّا، وعلى أساس أنانيته يتكون سلوكه الاجتماعي، وكل خُلق اجتماعي يعود بالنفع إن عاجلًا وإن آجلًا على الفرد. ومن الضروري أن يفهم الفرد ذلك، وأن يدرك بالتدريج الحكمة التي ينطوي عليها المجتمع بالنسبة إليه، ويستلزم ذلك أن يكون المجتمع نفسه منطقيًّا كما سبق أن بيَّنا.
(٢-٤) الخبرة المادية
والخبرة بالعالم المادي كالخبرة بالعالم الاجتماعي، تمر في أطوار متعدِّدة: تبدأ باللعب، وتثنَّى بالدرس، وتنتهي بالعمل في الحياة، وفي كل هذه فُرَص للإعلاء. ولكي تتوفر الظروف للإعلاء يجب أن يتوفَّر في عمل الطفل (سواء في البيت أو في المدرسة أو في غيرها) عامل الاهتمام والشوق. وإذا ذكرنا أن النزعات في أساسها جنسية ترمي إلى اللذة، أمكننا أن ندرك أن خير بديل لهذه النزعات هو ما أثار الشوق والاهتمام عند الطفل. والواقع أنه لا تكاد توجد خبرة مادية خالصة، فكل خبرة مادية لها جانبها الاجتماعي، أو يجب أن يكون لها جانبها الاجتماعي، فيتحقَّق لها شرط الإشباع؛ لأن الفرد يتجه مع الوقت إلى الاندماج مع المجتمع، فيجد فيما يُرضي المجتمع ويخدمه إرضاءً لنفسه وإشباعًا لها.
(٢-٥) التدريب وتكوين العادات
ولعلَّ من المناسب أن نتكلَّم عن تكوين العادات كوسيلة للتربية الخُلقية والاجتماعية؛ وذلك لأن الكثيرين يظنُّون أن أهم طريق إلى التربية هو أخذ الطفل بالتدريب لتكوين العادات الصالحة للعمل والفكر، حتى يجد نفسه مدفوعًا إلى الاستمرار في السلوك الصالح بحكم هذه العادات. وتكوين العادات معناه تثبيت وسائل معينة للسلوك عن طريق التكرار، ولا خلاف في أن ذلك مفيد وضروري في كثير من الحالات، خصوصًا بالنسبة للأمور البسيطة التي لا تحتاج إلى كثير من التصرُّف الشخصي أو التفكير. ولكن التحليل النفسي يُحذِّرنا من المغالاة في الاعتماد على العادات في توجيه السلوك، ويحذرنا خصوصًا من المعنى الذي تأخذه فكرة العادة عند الفرد؛ فالعادة يصحُّ أن تتحول إلى نوع من الإلزام إن لم يكن مرضيًّا فإنه يكون شاذًّا. انظر عادة مثل غسل الأيدي التماسًا للنظافة وكيف تتحوَّل عند بعض الأشخاص إلى إلزام ينغِّص عليهم عيشهم ويحُول دون تمتُّعهم بما لا حرج منه ولا ضرر فيه. وانظر إلى عادة النظام والترتيب التي يُقصد بها إلى تسهيل تأدية العمل وكيف تصل عند بعض الأفراد إلى أن تُصبح هي الغاية حتى ولو أدَّت إلى تعطيل العمل أو وقوفه.
وهناك كثير من الأسئلة التي تبيِّن أن العادة إذا لم تتَّصف بالمرونة وإدراك المرمى كانت عرضًا ثقيلًا يحمِّل النفس أعباءً فوق أعبائها.
(٢-٦) الخُلُق
وما قيل عن العادة يقال عن الخُلق؛ فهناك من الناس من نجد أن الفضيلة عندهم أو التديُّن — إن صحَّ أن تُسمَّيا بهذَين الاسمين — إلزام أقرب إلى العَرَض المرَضي منه إلى المظهر الخُلقي أو الديني، وقد وجد كُتَّاب القصص في أمثال هؤلاء المتزمِّتين مادة خصبة للإنتاج، وتنتهي القصة غالبًا بانهيار هذا البناء الكاذب لأنه بناء لا يَستند إلى أساس صحيح من الإعلاء. ومثل هذا الخُلق يَنبني غالبًا على المعاملة بالعسف والقهر عند الطفولة، فهو لا يواجه الصعاب مواجهةً فعلية، وإنما يَهرب منها ويتحاشاها، فيكون بناؤه شِبْه وهمي أو غير مهيَّأ لملاقاة الصعاب والأعاصير؛ لأنه بُني في غير مواجهتها.
والخُلق الوحيد الذي تستطيع النفس أن تدمجه في كيانها وتجعل منه حقيقة «واقعة» هو الخُلق الاجتماعي، كما أن الفضيلة التي تبقى وتثبُت فضيلة اجتماعية، وكلًّا من هذين له من هذا الأساس ما يُثبِّت أركانه لأننا لا نضطرُّ إلى إغماض العين والهروب من الحقائق، بل بالعكس نجد أننا كلما تقدَّمنا في السن واتَّسع بنا الإدراك أمكَنَنا أن نزيد علمًا وفهمًا بالأُسس التي بُني عليها خُلقنا.
(٢-٧) المدرسة
وهنا نأتي إلى التعليم بمعناه المحدَّد في المدرسة، فنجد أن الحدث ينتقل إلى مجتمع جديد بالنسبة إليه: مجتمع لا تربطه بأفراده الروابط الوثيقة التي تعوَّد عليها في المجتمع المنزلي.
والمدرسة تُعتبر وسطًا بين المجتمع المنزلي والمجتمع الخارجي، وهي تحتوي من خصائص هذا الأخير على ما لا يحتويه المنزل؛ ففيها مجال واسع لتكوين الروابط، وفيها مجال للخدمة العامة التي لا ترتبط بأفراد معيَّنين، ثم إن فيها انصرافًا إلى العمل والإنتاج. ولعل المدرسة لو تنبَّهت لوظيفتها الاجتماعية وأدَّتْها الأداء الكامل لاستطاعت أن تغرس في نفوس الأطفال التوجيه الاجتماعي السليم لمستقبل حياتهم. ولكي تقوم المدرسة بهذه الوظيفة يجب أن يتوفَّر فيها «جوٌّ» اجتماعي حقيقي، يجب أن تكون مجتمعًا ذا إرادة مستمَدَّة من إرادة أعضائه، عاملة لخيرهم، بها ما للجمعيات الحقيقية من الشخصية ومن التفاعُل الداخلي والخارجي. هنا يصحُّ أن يتدرب الناشئ على التعامل الاجتماعي في صورة مصغَّرة، وبذلك نستطيع أن نبني الأساس الذي يقوم عليه تعامله الاجتماعي فيما بعد.
فالمدرسة تستطيع أن تحلَّ بعض العُقد النفسية التي تتكون عند الطفل وهو في المنزل، فتُهوِّن من ألوان المحبة والكراهية جميعًا، وتحيلها من العنف إلى الاعتدال، تستطيع أن تسهِّل فطامة الطفل من المجتمع المنزلي بأن تهيِّئ له جوًّا سعيدًا فتعده للاستقلال النفسي فيما بعد، تستطيع أن تُساعد على أن تجعل حياة الطفل أكثر واقعية مما كانت، بأن تهيِّئ له الخبرة التي لا يستطيع المنزل بحكم تكوينه أن يهيئها له.
وبعبارة أخرى فالمدرسة تأخذ بيد الطفل الذي لم يعرف إلا المنزل، وتوثِّق علاقاته بالعالم الخارجي شيئًا فشيئًا حتى يطمئن إليه ويَشعر بحاجته إلى الاندماج فيه، ويعرف كيف يُناضل ويُكافح في هذا المجتمع.
والطفل في مرحلة الدراسة الابتدائية يكون عادةً في فترة الكُمون أو الخمود المؤقت بالنسبة لنزعاته الغريزية. فيكون قد بدأ يتخلَّص من مظاهر الثورة العنيفة والأنانية القوية، وأصبح مهذبًا شيئًا ما واجتماعيًّا شيئًا ما، ومعنى ذلك أنه آخذ في إعلاء نزعاته الغريزية، آخذ بمبدأ التعاون الاجتماعي، آخذ في إدراك حقوقه وواجباته في ضوء جديد.
وخروجه من المجتمع المنزلي في هذه الفترة يُضيف إلى أعبائه عبئًا جديدًا هو التكيف لحياته الجديدة، بينما هو في دور يُشبه دور النقاهة من ثورة الانفعالات وعنف الحياة الغريزية الأولى، وككل ناقهٍ نجده شديد التعرض للنكسة والنكوص على عقبَيه إذا صُدم بما يزعزع العوامل التي بدأت في الاستقرار عنده فلا يلبث أن يرتد إلى حالة تشبه حالته الأولى، ولكنها تزيد عليها بأنها ليست طبيعية بالنسبة إليه. والارتداد هنا ليس ماديًّا بل نفسيًّا، ومحصله أن يتخلى الطفل عن كثير مما كسبه في أثناء تطوره وتقدُّمه، ويعود القهقرى إلى صفات طفولته الأولى التي تكون في هذا الدور أشبه بالأعراض المرضية منها بالصفات الطفلية. ولعل أكبر جريمة ترتكبها المدرسة في هذا السبيل أن تَنظر إلى الطفل نظرتها إلى الثائر المتمرِّد الذي يؤخذ بالشدة والقهر التماسًا لسرعة النتائج — وكم تجني الرغبة في سرعة الحصول على النتائج — فتُميت فيه البذرة النامية نحو التقدم الاجتماعي وترجعه القهقرى. في حين أن واجب المدرسة عكس ذلك تمامًا وهو أن تترفق في معاملته ترفقًا يطمئنه لحياته الجديدة ويسهِّل عليه تحمُّل الأعباء المتزايدة التي تُلقيها عليه، فتقوي ذاته وتجعلها أقدر على معالجة نزعاته أمام مشاكل الحياة المتزايدة في صعوبتها، ولن يكون ذلك إلا باحترام الطفل احترامًا مقرونًا بالحزم، وبأن يجد في جو المدرسة من المحبة والعطف ما يُغريه بإعلاء نزعاته وتهذيبها.
ولنذكر أن الطفل في المدرسة قد بدأ أن يكون مجرد «فرد» في مجتمع كبير، فهو ليس مركزًا للالتفات كما كان في المنزل. وهذه النقلة ليست بالسهولة التي نتصوَّرها؛ لأنها تستلزم النزول عن كثير من المزايا والميزات التي تعوَّدها، ولا يُشجعه على هذا التنازل إلا شعوره بعطف جديد وميزة جديدة يَكسبهما من هذا المجتمع الذي يراد منه أن يفنى فيه، وهو لا يحظى منه إلا بقدر يسير من الالتفات.
وفي مرحلة الدراسة الثانوية يجب أن نُعطي الطفل استقلالًا تدريجيًّا من درجة أعلى، وأن نهيئه لتحمُّل مسئوليات أثقل، سواء في محيطه العملي أو الاجتماعي، حتى يتهيأ بعد ذلك لتحمُّل المسئوليات التي ستُلقيها الحياة على كتفَيه قريبًا عندما يشبُّ ويدخل في دور الرجولة.
(٢-٨) التعليم، أو التدريس
وهو نقل المعلومات إلى الطفل بمختلف الطرق. وإننا لنجد في حقائق التحليل النفسي ما يُعرِّفنا أن النزعات البدائية الصرفة قابلة للإعلاء في مختلَف النواحي الفكرية، وأن النفس تَنزع عن طريق الأنا العليا إلى تحويل النزعات البدائية إلى شغف بمختلف العلوم والفنون، وهذا الشغف يعوِّضها عن اللذات الحسية لذَّاتٍ من نوع آخر. على أن الإعلاء لا بد له من ثمن، والثمن هو ما يَلمسه الطفل من رضا المُشرفين عليه ومن عطفهم ومحبتهم وما يجده من النجاح في هذه السبُل الجديدة عليه لإرضاء النزعات.
ولعلَّ خير برهان على ذلك ما نجده في صغار الأطفال أحيانًا من «شغف» بالقيام بعمليات جافة؛ كجمع الأعداد وطرحها وكتابة الكلمات والجُمل.
ولذلك فنحن نخطئ كثيرًا إذ نفرض أن الطفل لا يحب أن يتعلم، ونبني على هذا الفرض أن يَجب أن نرغمه على التعليم.
والواقع أن الطفل يحبُّ أن يتعلم إذا هيأنا له الفرصة لكي يحب ما يتعلمه، بأن ننتقي له الشائق من الموضوعات والطرُق والأساليب، وبأن نجعل علاقتنا — كمعلمين — به مما يُحبِّبه ويوجهه نحو التعليم.
وكم من معلِّم محبوب أثَّر في تلاميذه أكبر الأثر فجعلهم يَشغفون بأقل الأشياء جاذبية وأكثرها جفافًا.
والطفل يجد في كثير من الدروس تعبيرًا عن نزعاته يؤدِّي بها إلى الإعلاء، وخصوصًا تلك الدروس التي تتضمَّن التعبير الحر والتشكيل والإنتاج، كدروس الرسم والأشغال وما إليها، كما أنه يميل إلى القصص وإلى التمثيل لِما يجد في ثناياها من مواقف تلمس مواضع حساسة تستجيب لها نزعاته.
فإذا عرَف المعلم كيف يتخير الموضوعات والطرق والأساليب فإنه لا يحتاج مطلقًا لأن يفرض أن التلاميذ لا يحبُّون التعليم.
(٢-٩) المعلم
قلنا فيما سبق إن العامل الأساسي في إعلاء النزعات هو العلاقة التي تتكوَّن بين الطفل وأبويه، ثم بيَّنا أن هذه العلاقة نفسها تتكرَّر بشكل معدل بالنسبة للمعلم؛ فالمعلم أب في صورة جديدة. وعواطف الطفل نحو الأب كما علمنا عواطف متناقِضة تتضمَّن المحبة القوية والكراهية القوية، والطفل يَميل إلى كبت الكراهية بل وإعلاء عناصرها بتحويلها إلى كراهية الشر والرذيلة والاعتداء. فإذا فطنا إلى أن مركز المدرس بالنسبة للطفل بالغ هذه الدرجة من التعقيد بادئ ذي بدء، أدركنا كيف أن مهمته في الواقع مهمة عسيرة؛ فهو هدف لِما قد يكون مكبوتًا من كراهية الطفل لأبيه. وإذا كان سلوكه مع تلاميذه كسلوك الكثيرين من معلمي الأطفال في بلادنا — سلوك جبروت واعتداء وعسف — فإن هذا يُشجِّع على تحميل شخصه بعوامل الكراهية، ويجعل من الصعب على الأطفال أن يَصلوا إلى الإعلاء والسمو بنزعاتهم. بل وأكثر من ذلك فإنه إذ يُملي على الأطفال طرُق السلوك، ومبادئ الأخلاق، وفكرة الواجب، يَمزج هذه الأفكار في أنفسهم بصورة العسف والقهر، فتُصبح هذه الأفكار والمبادئ نفسها محمَّلة بآثار الصراع والكراهية، فيخلق أطفالًا قد يعملون الواجب ولكنَّهم لا يحبونه، يخلق أشخاصًا قد يكونون طيبي الخُلق ولكنهم غير سعداء بطيب خُلقهم، يعملون الواجب ويتبعون الفضيلة بنفس الرُّوح التي تجعلنا نتجرَّع الدواء المر أو الجرعة المقززة.
المدرس إذن يجب أن يغلِّب جانب الحب في نفس الطفل لكي يُساعده على إعلاء نزعاته، ولكي يسهِّل له في مستقبل حياته الهدوء النفسي والسعادة، فيجعله سعيدًا بأن يعيش، سعيدًا بأن يؤدِّي الواجب.
ولكن هذه صورة جانب واحد من المدرس، أما الجانب الآخر فهو جانب الموجه الحازم، الذي يرشد التلميذ ويوجهه إلى ما فيه إعلاء النزعات، وما فيه الإنتاج والخُلق، وإلى السلوك الاجتماعي الصحيح.
والمعلم يمثِّل المجتمع الواسع بالنسبة للطفل، وعلاقته به قمينةٌ بأن تُكيِّف علاقاته المستقبلة بالرءوس المختلفة في هذا المجتمع، وعليه أن يكون حريصًا على أن يمثل المجتمع تمثيلًا يجعل الطفل مقبلًا على المجتمع، عاملًا فيه، مطمئنًّا إليه.
(٣) في رعاية الطفولة
يشتغل الكثيرون في الوقت الحاضر بمعالجة المشاكل الاجتماعية للأطفال عن طريق الرعاية والعلاج.
ولا شك أن كل مشكلة اجتماعية لها جانبها النفسي الذي يكون جزءًا لا يتجزأ منها.
فالطفل السارق، أو المتشرِّد، أو المجرم، أو يتيم الأبوين، عبارة عن مشكل نفسي قبل كل شيء آخر. والمسئول عن وصوله إلى هذا الحال هو بيئته الاجتماعية التي حرمتْه من عوامل النمو السليم وهيأت له الفرص للنشوز والانحراف.
ولذلك فالفحص الاجتماعي يجب أن يكون له مرماه السيكولوچي، وكذلك يجب أن يكون للعلاج في النهاية هذا المرمى حتى يمكن الاعتماد على نتائجه.
ويرمي العلاج في الغالب إلى إعادة بناء المحيط الاجتماعي للطفل بناءً سليمًا، يجد فيه ضروراته النفسية. ويكون ذلك عادةً بتغيير المعاملة التي يلقاها الطفل في محيطه تغييرًا أساسيًّا يتفق مع مطالبه النفسية.
ومن الغريب أن الطفل سرعان ما يستجيب إلى هذا التغيير في المعاملة، وسرعان ما نكسب من ذاته حليفًا لنا يقف في طريق نزعاته الشاذة ويؤدي إلى إصلاح حاله لدرجة كبيرة. بل إن المقاومة التي نلقاها عند الأبوين أكثر بكثير من تلك التي نلقاها عند الطفل في عملية إعادة التكييف.
والأساس الذي تقوم عليه الخدمة الاجتماعية يختلف عن الأساس الذي يقوم عليه العلاج النفساني بعض الاختلاف.
فنقطة التوكيد في الخدمة الاجتماعية هي على بيئة الطفل، وإن كانت لا تُهمل الطفل نفسه بطبيعة الحال، ولا شك أن هذا أفعل في حالة الطفل منه في حالة البالغ الذي يجب أن يَصل العلاج إلى تقويمه هو بالذات، بصرف النظر عن بيئته، أي إلى تكْييفه تكييفًا يجعله قادرًا على مواجهة المشاكل التي تلقيها البيئة في طريقه أيًّا كانت.
ولكن ذلك لا يَمنع من أن المبادئ التي نتعلمها من التحليل النفسي تنير لنا السبيل، سواء رمَينا إلى تكييف محيط الطفل أم إلى علاجه ذاتيًّا.
ولا شك أن لمشاكل الأطفال مغزاها الاجتماعي الواسع؛ إذ نرى أثر العوامل الاجتماعية الكُبرى في الحالات الفردية للشذوذ والمروق.
(٤) في التضامن الاجتماعي
لا شك أن المجتمع ظاهرة إنسانية نفسية، وأنه لمما يساعدنا على فهمه وتقدير المشاكل التي تقوم فيه أن ندرك هذه الحقيقة إدراكًا واضحًا.
فالإنسان هو الوحدة المتكررة التي يتكون منها المجتمع. والعلاقات بين الأفراد بعضهم وبعض، وبين كلٍّ منهم والمجموع، هذه العلاقات تتفاعل تفاعلًا أوليًّا وثانويًّا … إلخ، وتتكوَّن من نتائج هذه التفاعلات العلائق والنظم والأسس والتقاليد الاجتماعية على اختلافها.
وعلى ذلك فدراسة الإنسان نفسه وما فيها من قوى ودوافع ونزعات، وما ينشأ بينه وبين غيره من علاقات، هذه الدراسة ضرورية لفهم القوى التي تؤثِّر في المجتمع.
ويجب أن تقوم دراسة أي سيكولوجية اجتماعية على مركز الفرد في الجماعة.
فلننظر إذن في الوحدة الاجتماعية، وهي الفرد، فماذا نجد؟
نجد أن الفرد ينشأ ولا حول له ولا قوة، تعتمد حياته اعتمادًا كليًّا على ما يبذله له الغير — الأم — من حماية ورعاية.
والطفل في مبدأ حياته أناني، وأنانيته كاملة لا تعرف الاعتدال، ورغباته ملحَّة تطلب الإشباع المطلق. وعلى ذلك تُصبح الأم مصدر الإشباع وفي الوقت نفسه موضوعًا للحب. وتمتد أنانية الطفل فتشمل الأم، أو بعبارة أخرى يحدث اندماج بين شخصيته وشخصية الأم، وتصبح لرغبات الأم صدًى في نفس الطفل لا تلبث أن تصل إلى مكان الصدارة من نفسه وتحاول انتزاعه من رغباته وشهواته. وعلى ذلك يأخذ الطفل نفْسه قليلًا قليلًا بتلبية مطالبها حتى ولو كانت ضد رغباته. وتنشأ تجاه الأم عاطفة مركَّبة تحمل في ثناياها حقوقًا كما تحمل واجبات، وتُبذَل الواجبات كما لو كانت في مقابل الحقوق.
ويَظهر الأب على مسرح حياة الطفل فيَدخل هو أيضًا في الصفقة. والأب في العادة يُكره ويُخاف لأنه يأخذ جانبًا من الْتفات الأم ومحبتها، ويَحبسها عن الطفل أحيانًا ويخلو بها خلوات مريبة لا يرى الطفل لها مبرِّرًا ولا يستطيع أن يَحتملها في أول الأمر.
ولكن هذه الكراهية لا تدوم؛ لأن الأم تجد الحماية في كنف الأب، وتبذل له المحبة والطاعة، فلا يلبث الابن أن يتَّخذ هذه الوجهة نفسها، فكأنه في شغفه بإرضاء الأم يُشاركها محبتها لأبيه، فيبذل له الحب، ويشعر في كنفه بالأمن، ويشاركه فيما يخلقه وجوده وقوته ورجولته من شعور بالطمأنينة والسلامة. وأما ما عدا هذه من العواطف فتُكبت، فإذا سمحت الظروف تناولها الإعلاء.
وهكذا تتطوَّر علاقة الطفل بأبويه، ويتكوَّن تجاههما شعور مركزي معقَّد ولكنه يتضمَّن دائمًا وجهَي الحقوق والواجبات، أما الحقوق فهو يتقاضاها ويطالب بها من مبدأ الأمر، وأما الواجبات فهو يُحسن فهمها وأداءها كلما تقدَّم به العمر، ولكن يظل الأمر أبدًا أمر حقوق وواجبات، وإن كان الطفل لا يَربط هذه بتلك ربطًا واضحًا في شعوره. والأساس الذي تُبنى عليه هذه «السياسة»، سياسة «الأخذ والعطاء»، يقوم على نوع من «التعاقد»، تقوم به وتنفذه «الأنا»، أطرافه «الهي» و«المجتمع» و«الأنا العليا». فكأن «الأنا» ترسم الحدود التي تتلاقى عندها النزعات الغريزية ومَطالب المجتمع في شِبْه تعاقُد أو مُعاهدة يسهل «التعامل» على أساسها.
ويتسع محيط الطفل فيدخل في «المعاهدة» إخوة وأخوات وخدم وأقارب وأصدقاء، ويكون لكل فرد من هؤلاء قيمته الوجدانية الخاصة عند الطفل، التي تختلف باختلاف ظروف الخبرة التي تجمع بينه وبين الطفل، وباختلاف ترتيب وروده في مجال هذه الخبرة.
وهكذا يجد الطفل نفسه في مجتمع يَلتمس فيه تحقيق الرغبات، ويبذل له الواجبات، ولكن الرغبات نفسها، والواجبات نفسها، تتغيَّر بتغير الزمن درجة ونوعًا. فكلما نما الطفل ارتقت مطالبه، وتنازل عن التَّافه منها أو قام به لنفسه، وارتقَتْ واجباته وزادت قيمتها الحيوية للمجتمع.
وهكذا نرى أن «ولاء» الطفل لنفسه يترتَّب عليه «ولاؤه» لأمه، ثم لأبيه، ثم لمحيطه العائلي الصغير. وبعبارةٍ أخرى أن أنانية الطفل أصبحت تتَّسع فتشمل أفرادًا غير نفسه، ارتبط معهم برباط الواجب والمصلحة.
وهذا الولاء نفسه هو الذي يَنتقِل بصورته أو بما يقرب منها فيما بعد إلى ميادين نشاطه المختلفة في المدرسة، وفي المهنة، وفي الزواج، وفي ميدانٍ أعم من هذا وهو المجتمع الأكبر الذي يعيش فيه مع مواطنيه.
وتَصطبغ علاقته بالجماعة دائمًا بصبغة تُشتَقُّ من تلك التي اكتسبتْها في أول حياته مع بعض التعديل الضروري، فيبقى أثر هذه العوامل المبكِّرة في سلوكه واضحًا كل الوضوح.
والمجتمع مكوَّن من أفراد عديدين كل منهم قد حمل معه آثار «ولائه» لأسرته وعَكَسَها على المجتمع.
- الأول: أن التربية الاجتماعية الأولى هي المدار فيما يكون عليه المجتمع من تضامن وتماسُك في مستقبل الأيام؛ وعلى ذلك فمهمة إصلاح المجتمع تقع على عواتق الأبوين، ثم على عواتق المدرِّسين ومَن يليهم ممن يحتكون بالناس احتكاكًا اجتماعيًّا، وعليهم مسئولية نشوء هذا الولاء ونموه ورقيِّه.
- الثاني: أن المجتمع نفسه مسئول عن السلوك الاجتماعي لأفراده، فهو لا يَحصل على أقصى ما يستطيع من الفرد، إلا إذا بذَل للفرد أقصى ما يستطيعه من رعاية وحماية. فيجب أن يشعر الفرد أنه محلُّ عناية المجتمع، وأن كل جهد يبذله إنما تعود عليه منفعته بطريق مباشر أو غير مباشر.
وبعبارة أخرى فإن فكرة اتِّساع أنانية الفرد حتى تشمَل المجتمع كله مبنية على تحقُّق شروط هذه الأنانية التي تَعمل الآن في مستوًى رفيع، وهذا التحقُّق لا يتحتم أن يبقى في المستوى المادي، بل تدخُل فيه بالتدريج نواحٍ فكرية ومعنوية ربما زادت قيمتها عند بعض الأشخاص على النواحي المادية.
ويُستخلص مما فات أن تاريخ حياة الأفراد في طفولتهم له أكبر الأثر في تكييف حياة المجتمع فيما بعد، وأن طابع التربية والحياة العائلية في أي أمة من الأمم له أكبر الأثر في الطابع الاجتماعي لهذه الأمة.
وإذا أردنا أن ندرك هذا الأثر فلنَنظر في أثر بعض البيئات المنزلية في التكييف الاجتماعي للطفل، فهذه البيئات — وربما كانت منها بيئتنا المصرية — يغلب عليها التناقُض في معاملة الطفل.
- الأول: أن الطفل يجد المهرَب في أنانيته الخاصة، ومعنى ذلك أنه «ينكص» على عقبيه ويعود إلى الأنانية الضيقة التي هي الأصل في النزعات، وتَنقلِب رغبته في الأخذ والعطاء والتعامل العادل أنانيةً وجريًا وراء المصلحة حيث يجدها، فهو يُرضي أباه مرة ويرضي أمه مرة، ويَلتمس المصلحة في مختلف وجوهها.
- والثاني: أن الطفل يُنافق، وطبيعي أن يضطر الباحث وراء مصلحته إلى النفاق لإرضاء نزوات الوالدين التي لم يجد السبيل إلى إرضائها بغير ذلك. والنفاق هو الضريبة التي يدفعها الضعيف المحتاج إلى القوي المحتاج إليه.
ويدخل الناشئ معترك الحياة وهو مزوَّد بهذين السلاحين: الأنانية والنفاق؛ فهو في كل جماعة وفي كل نادٍ يستعملهما لأنه يجد فيهما السلامة حيث تفشل المحبة والتفاهم، ويصبح السلاحان نفسهما عُدته تجاه العائلة الكبيرة وهي المجتمع؛ فهو إذ يَصطبغ ولاؤه لأبويه بهذه الصبغة، يَنقل الصورة إلى ولائه للمجتمع.
وهكذا نرى أن الرُّوح الاجتماعية والعاطفة الوطنية هي انعكاسٌ لعاطفة الصغير نحو أبويه.
ونرى كيف تتكيَّف صورتهما في المنزل في السنين الأولى من حياة الطفل.
- الأول: أن الوطنية تُغرَس في البيت بين الأم والأب، وأن نشأة الطفل
المبكِّرة لها أكبر الأثر في توجيهه في هذه الناحية، فحيث يكون دستور
المعاملة في البيت مُتناقضًا مضطربًا لا يكاد الطفل يصل فيه إلى قاعدة
حتى يجد ما يَنقضُها أو إلى طمأنينة حتى يجد ما يُهدِّدها، يَهرب إلى
الأنانية والنفاق فيتخذهما ديدنًا في مواجهة كل جماعة يلحَق بها في
حياته.
فلنبدأ بغرس الرُّوح الاجتماعية والوطنية في بيوتنا (وفي مدارسنا)، وليس ذلك بأن نلقن الأطفال حب الوطن، بل بأن نُعاملهم معاملةً عادلة، ونُشعرهم بالطمأنينة، ونُفهمهم بأعمالنا أن الإحسان جزاؤه العطف والمحبة. وليكن لنا دستور ثابت ما أمكن، يجد الطفل في كنَفه الأمن والطمأنينة، فنُعدُّه بذلك للمجتمع الأكبر، ونُوجِّهه نحو الصالح له وللمجتمع.
- والثاني: أن الفرد إذ يعمل واجبه للمُجتمع، ينتظر من المجتمع أن يؤدي واجبه نحوه، ولن تجد الإخلاص من ناحية الفرد إلا إذا وجد الالتفات والعطف والمعونة من ناحية المجموع.
فالفرد المهضوم الحق الذي لا يجد الأمن والطمأنينة المادية أو المعنوية في كنف المجموع، لا يستطيع عادةً أن يكون اجتماعيًّا أو وطنيًّا، لا يستطيع أن يؤدي الواجب إذا كان لا يصل إلى الحق.
فالمجتمع يجب أن يتسانَد ويتعاوَن، بحيث يُحسُّ كل فرد بأنه محل الْتفات المجتمع، كما يُحسُّ الطفل أنه محلُّ الْتفات أبويه، فإذا مرض وجد من المجتمع عنايةً به وبأولاده إذا مات، وإذا افتقر أو ضعف أو أصيب بعاهة قدَّم المجتمع له ما يُخفِّف عنه.
إذا شعر الفرد بهذا أعطى من قوته وحياته للمجتمع ولم يَبخل عليه بما يستطيع من جهد أو مال أو حياة.
إذا أخلص المجتمع للفرد أخلص الفرد للمجتمع، فكلُّ مجتمع يستحق هذا الاسم يجب أن يقوم على قاعدة أن الواحد للكل والكل للواحد.
ولعل مختلَف الدول قد فطنت إلى ذلك في خلال هذه الحرب مما نجد أثره فيما ظهر من التشريعات المختلفة التي تَرمي إلى التأمين الاجتماعي.
ولا شك أن التربية المبنية على القهر تخلق أعداء للمجتمع؛ لأن قهر الأطفال كما قلنا يَخلق الكراهية لآبائهم، ولكن هذه الكراهية تُكبَت وتحلُّ محلها المحبة للأب، وتبقى الكراهية مكبوتةً تَنتظر أول بديل للأب فتُلقي بنفسها عليه، والبديل هنا هو المجتمع أو النظام أو القانون … إلخ. فقسوة الأب أو المدرِّس قد تصل بالطفل إلى الطاعة المؤقتة، ولكنها قد تنقلب فتصيِّر الناشئ ناقمًا على المجتمع متمردًا عليه.
وكما أن تربية الأفراد مسئولة عن انتشار الروح الاجتماعية بين الشعوب، فكذلك تربية الشعوب مسئولة عن انتشار رُوح الإخاء الإنساني العام. ولا شكَّ أن الحروب والعداوات بين الناس هي مظاهر لنَزعتهم الاعتدائية المتأصِّلة فيهم، ولكن هذه النزعة مُمكنة الإعلاء، ولعلَّ العالم ينجح في توجيهها للكفاح ضد الفقر والمرض والجهل … بدلًا من تدمير الناس بعضهم للبعض.
(٥) في الفن
إن الفن في مختلف صوره ما هو إلا نوع من التعبير عن الطبقات العميقة في العقل بما تحويه من رغبات ونزعات مختلفة قد أصابها الكبت والحرمان، فلم تجد مجالًا للإشباع في الحياة اليومية، فتحوَّلت في حياة الفنان إلى شِعر أو نثر أو رسوم أو رقص أو موسيقى.
والفن يمتاز بقيمة الوجدانية الفائقة، وهذه القيمة مشتقة من ارتباطه بالوجدانيات العميقة للفنان ونبوعه منها، ثم إن تأثيرها في المستمتع بها إنما يترتب على لمسها لتلك الانفعالات المكبوتة عند الإنسان بوجهٍ عام. وأي نظرية تحاول أن تفسر الفن تفسيرًا مبنيًّا على الشعور وحده تَفشل في تبيان عمق الأثر الذي يَرتبط به. فالفنان يتكلم عن الإلهام الذي يَهبط عليه، والشاعر يتحدَّث عن الشيطان الذي يتكلم باسمه، وكلاهما تعبير عن عجز الفنان والشاعر عن تفسير إنتاجهما تفسيرًا يرجع إلى الشعور، بل هو إشارة واضحة إلى أن الإنتاج إنما يَرجع إلى عوامل خارج «الأنا» أي إلى عوامل لا شعورية.
والجانب اللاشعوري من عقل الفنان أو الشاعر إنما يشتقُّ القوة الدافعة التي يستخدمها في تعبيره من العوامل النفسية اللاشعورية، وهي الصراع والكبْت، فيميل الانفعال الناشئ عنها إلى طريق آخر يُعبِّر عن نزعاته المكبوتة، وعن رغباته التي لا تجد سبيلًا إلى التحقيق، وعما لاقى في حياته من الحرمان، يُعبِّر عن كل ذلك بطريقته الفذة التي يتوفَّر فيها نوع من الانسجام والإمتاع والسمو.
وما يصحب كلًّا من الإبداع والاستمتاع الفني من انفعالٍ عميق، إنما ينبع من معين الغريزة نفسها. والفنان إنما يعلي مستوى التعبير عن الغريزة، بتجريد هذا التعبير من العناصر الجنسية والحسية المباشرة، وبنائه على التناسُق والتنغيم والانسجام الجمالي، الذي يَلتقي مع الغريزة في مستوى يعلو على مستواها البدائي، الذي يرمي إلى الإشباع الحسي فيصل إلى نوعٍ آخر من الإشباع المعنوي.
وينتج عن ذلك نوعٌ آخر من الارتياح والاطمئنان المهذَّب، وربما كان ذلك ناتجًا من تمكُّن الإنسان من التعبير عن نزعاته الغريزية في هذا المستوى المجرَّد، ورؤية رموزها في الخارج في صورة أو حركة أو شعر، في هيئة مكتملة جميلة قد تخلصت مما هو عالق بها من تكالب ومن تصارع ومن كبْت وحرمان.
فكأن الغريزة ترى نفسها لأول وهلة في مرآة تعمل عمل المصفاة والمرآة في وقت واحد، فتُخلِّص الغرائز مما هو عالق بها من آثار الألم والحِرمان، وتظهرها في صورة جميلة. حتى المأساة في الفن لا تُشبه المأساة في حياتنا العادية إذ تَنتهي دائمًا بنوعٍ من الراحة والطمأنينة لأنها تُظهر آلام الإنسان في ضوء جديد.
والواقع أن القدرة على التعبير الخيالي عند الطفل، هي أساس القدرة على التعبير الفني عند الفنان. فأحَبُّ الأشياء إلى الطفل هي أن يلعب، وكل طفل عندما يلعب إنما يعمل عمل الفنان المبدع، فهو يُبدع عالمًا خاصًّا به يعيد فيه ترتيب الأشياء والأوضاع، ويُغيِّر العلاقات بما يجعل هذا العالم أكثر إرضاءً لنزعاته من عالمه الواقعي. والطفل يهتم كل الاهتمام بلَعبه وهو عنده جدٌّ أعظم الجد. حقيقة، إنه يعلم أن جو اللعب ليس هو بعينه جو الحياة الواقعية، ولكنه يَنسجم مع جو اللعب انسجامًا يجعله ينسى نفسه. ويتلو هذه النزعة إلى اللعب عند الطفل، نزعة إلى الخيال؛ فهو إذ يكبر قليلًا يجد أنه لا يستطيع أن يحصل على كل ما يريد من اللعب فيبدأ في إطلاق العنان لخياله، والخيال نوع من اللعب بالأفكار، فيبني في داخل عقله عالمًا خاصًّا يشكله كيف شاء ويجد فيه رغباته مجابة وآماله محققة. وتبقى هذه النزعة للخيال أو «أحلام اليقظة» بعد تجاوز مرحلة الطفولة، ولكنها تتطور مع تجارب حياته، فكل تجربة جديدة تطبع خيال الفرد بطابعها الخاص. فالحادثة من حوادث الخيال إنما تتعلق بأزمنة ثلاث وتحوم بين هذه الأزمنة. فهناك التجربة المباشرة التي تُنشِّط الخيال؛ أي إن هناك المثير الحاضر للخيال، الذي يكون في العادة حادثًا له القدرة على إثارة رغبة عميقة. ومن هذا الحاضر ينحدر الخيال إلى ماضٍ بعيد، حيث يلتقي في طفولة الفرد بحادثة أخرى قد تحقَّقت فيها الرغبة المثارة في الحاضر، ثم يعود الخيال كرَّة أخرى فيخلق لنفسه حالة تمثِّل تحقيق الرغبة في المستقبَل. وهكذا نرى أن الماضي والحاضر والمستقبل، كلٌّ قد سلك مع غيره في مسلك الرغبة التي تنظمها جميعًا.
(٦) في «الصحة العقلية»
تبحث الصحة العقلية في وسائل الوقاية من الانحراف العقلي بأنواعه المختلفة في أدوار النمو المختلفة؛ أي إنها تستقصي العِلَل النفسية، وتتعرف أسبابها، وتُحاول أن تتقي هذه العلل عن طريق اتقاء مُسبِّباتها. وعلى ذلك فعلم الصحة العقلية علم إنشائي، ينبني على معرفة كاملة بالنفس في حالتي الصحة والمرض، وعلى معرفة بالعوامل والمؤثرات الظاهرة والمختفية التي تعمل في هذه النفس وتسبِّب لها أنواعًا من الانحراف بعضها مؤقت وبعضها دائم، ثم تعلِّمنا الصحة العقلية كيف نتقيها جميعًا.
وقد أفاد التحليل النفسي فائدةً عُظمى في أنه أظهر لنا أثر العوامل التي ترجع إلى الطفولة الأولى، تلك العوامل التي قد لا تدخل في حساب الشخص أو حساب المحيطين به، وبيَّن لنا أن هذه العوامل منها ما قد يظهر له أثر واضح، ومنها ما يَختفي ولا يظهر له أثر واضح مباشر، بل يبقى حتى يثار فيما يلي من العمر فيؤدي إلى الانحراف النفسي. وبيَّن أيضًا بكل وضوح أن أهم مراحل النمو هي مرحلة الطفولة الأولى، وأن أهم العوامل المؤثرة في كيان النفس هي العوامل التي تؤثر في هذه المرحلة، فإذا مرَّت هذه المرحلة من مراحل العمر في يسر وسلام كان بناء الشخصية سليمًا متينًا يَحتمل كثيرًا من الصدمات التي قد تصيبه بعد ذلك؛ وإنما تؤثر هذه الصدمات تأثيرًا سيئًا إذا استطاعت أن تجد من أحداث الطفولة الأولى ما يتلاءم معها ويردد صداها، فيثور على النفس، ويؤدِّي إلى حدوث الانحراف أو الانهيار فيها. فكأن المهم هو البناء الداخلي للنفس أولًا، فإذا كان في هذا البناء نقطة ضعف أمكن للأحداث الخارجية أن تنال منها، وإذا استخدمنا لغة الحرب الحديثة فإنه لا بد أن يكون في داخل النفس «طابور خامس» يَنتهز فرص الهجوم الخارجي ليعمل في هدم كيان النفس الداخلي.
أصبحت فترة الطفولة الأولى إذن أهم الفترات التي تُعنى بها الصحة العقلية، وأصبحت معاملة الطفل في هذه الفترة أساسًا لصحته وسلامة عقله.
(٦-١) موقف الأنا
ويُمكن وصف جميع أنواع الانحراف والاضطراب النفسي على أنها متاعب «الذات» أو «الأنا»، متاعب تُسبِّبها لها النزعات التي لا تستطيع الذات أن تُرضيها؛ لأن المجتمع لا يرضى عنها ويُحارب «الأنا» ويعاقبها إذا رضخت لشهوة النزعات فيها. ويضاف إلى ذلك — كما علمنا من قبل — مطالب «الأنا العليا» من الأنا، وهي مطالب تؤيد موقف الأنا من النزعات وتقوِّيها على كبحها. ولكنها قد تبلغ من التطرف مبلغًا يجعلها هي بدورها من المشكلات التي تواجه الأنا. فلو زادت مطالب الأنا العليا وتعدَّدت وتطرَّفت لأصبحت عبئًا جديدًا على الأنا، وتكون النتيجة أن تَضعُف الأنا تحت ضغط الأنا العليا، وتطمَع هذه الأخيرة، بل ويطمع المجتمع، فيؤدِّي إلى ضغط جديد وإلى ضعف جديد، وهكذا.
- الأولى: إلحاح النزعات وطاقتها المكبوتة التي تبحث عن التنفيس والإشباع.
- والثانية: المجتمع ومطالبه وما يَرمي إليه من مُقاوَمة بعض النزعات. ولكل مجتمع ظروفه الخاصة، وقد يكون المجتمع المحيط بالفرد قاسيًا بدرجة تجعل من الصعب على الأنا أن تجيب مطالبه فيما يتعلَّق بالنزعات فتكثر المخالفات وتتعدَّد.
- والثالثة: الأنا العليا التي تقف بالمرصاد للنزعات، وتُوحي للذات بمعارضتها وتُعاقبها وتؤنبها إذا قصَّرت أو إذا جارت النزعات ولو مجاراةً جزئية.
فإذا ضَعفت الأنا أصبح الكيان النفسي كله مهددًا بالانهيار لأنها الجانب الوحيد من العقل الذي يتَّصل بكل الجوانب الأخرى، والذي يُلقَى عليه عبء التوفيق والتنسيق، والذي يستطيع بما له من اتصالٍ بعالم الواقع أن يجعل إشباع النزعات يتجه اتجاهًا واقعيًّا منتجًا، ويستطيع في بعض الأحيان أن يصل إلى تعديل وجهة نظر المجتمَع فيَسمح بشيءٍ من الرفق في مُعالَجة النزعات.
والأنا القوية هي التي تُمسك الزمام في يدها، وتستطيع أن تصرِّف الأمور تصريفًا حكيمًا، وأن تتفادى الأزمات، وأن توجِّه التيارات توجيهًا يحوِّلها من الضرر إلى النفع.
فإذا قدَّرنا الأعباء الملقاة عليها حق قدرها، استطعنا أن ندرك حاجتها إلى التقوية.
والواقع أن المهمة الأولى للعلاج النفسي هي تقوية الأنا وإعادة المَقدرة والثقة إليها حتى تستطيع أن تواجه أعباءها مرةً أخرى. ويحتِّم التحليل النفسي الوصول إلى هذه النتيجة، ويُنكر كل محاوَلة تقف عند تقصِّي الأسباب الخارجية للمرض.
فالصحة العقلية إذن مبنية على قوة الأنا أولًا وقبل كل شيء؛ وعلى ذلك يجب أن تُبنى تنشئة الطفل على هذا المبدأ.
والأنا كما علمنا تنشأ من النزعات نتيجةً للمقاوَمة التي تجدها هذه من العالم الخارجي، فهي تنشأ كوسيط بين العالم الخارجي وبين النزعات، وعلى العالم الخارجي؛ أي على الأبوين والمربين أن يَبُذلا جهدهما في تقوية هذا الوسيط وتدعيم مركزه.
(٦-٢) موقفنا من النزعات
وتقوية الأنا عملية تدريجية تَنتج عن عاملين: العامل الأول المقاوَمة التي تلاقيها النزعات، والعامل الثاني الإشباع الجزئي الذي تحصل عليه كما سبَق أن بيَّنا. وتتوقف متانة بنائها على السياسة التي تُتبع بإزاء النزعات من مبدأ الأمر. وهنا نتساءل هل من مصلحة الصحة العقلية للفرد أن نُجيب نزعاته ونشبعها، أو نكبتها ونقف دونها؟ الواقع أن الجواب حاضر فيما سبق أن ذكرناه، وهو أن الكبت ضروري لكي نُعطي النزعات فرصة لأن تبحث عن طرق الإعلاء، ثم هو أمر لا بدَّ واقع ولا سبيل إلى تفاديه على أي حال، وإنما المهم أن نبذل ثمنًا في مقابل الكبت، فتكون معاملتنا للطفل من مبدأ حياته معاملة يمتزج فيها الرفق بالحزم.
هذا هو موقفنا من النزعات، وهو الموقف الذي يؤدِّي إلى نشوء الذات نشأة سليمة وإلى تقويتها وتدعيمها.
(٦-٣) الأنا العليا
فإذا بدأت نشأة الأنا العليا فإن نَوع المعاملة التي يلقاها الطفل قد يؤدي إلى استبدادها استبدادًا شاذًّا يؤدي إلى عكس الصورة الأولى، فينمو الطفل ونفسه تميل إلى حرمانه وشقائه، ويعيش عبدًا لتبكيت الضمير والشعور بالخطيئة. وعندما يخطئ فإنه لا يواجه أخطاءه (أو أخطاء غيره) مواجهة واقعية، بل يواجهها مواجهة قاسية عمياء في قسوتها نتيجة لنفوذ الأنا العليا.
ويُصبح الشخص في هذه الحالة ميالًا لا لمجرد إصلاح الأخطاء، بل لنَوع من العقاب الذاتي والتشفِّي الذي يستمر مدى الحياة.
ويُصبح ميزان الخطأ والصواب عنده ميزانًا مختلًّا، يُبالغ في ناحية ويهوِّن في الأخرى. ومن الأسباب التي تؤدي إلى ذلك أن يُكثر الأبوان من تأنيب الطفل وعقابه، وأن يضخِّما من أخطائه وأن يُهوِّنا من حسناته، وأن يَحرماه من محبتهما وعطفهما كلما ارتكب الهين من الأمور. وهنا نجد مرة أخرى أن المعاملة التي يَمتزج فيها الرفق والحزم هي خير وقاية من هذا التطرُّف.
(٦-٤) إعلاء النزعات
- الأول: أن تُشبَع الرغبات في هذه الفترة إشباعًا يُجاوز المنتظَر ويَزيد من إثارة الرغبة في هذه الفترة، فيعمل الاستمتاع الفائق الذي حصل عليه الطفل في هذا الدور من حياته على تعلُّقه بهذه الفترة وميله للرجوع إليها فيما يلي من حياته، وهذا هو سرُّ الصعوبات التي يجدها الطفل المدلَّل في سائر حياته.
- والثاني: أن تُكبَت النزعات كبتًا شديدًا ويعامَل الطفل بالقهر والشدة، فتبقى هذه الفترة من حياته مقرونةً بالحرمان الشديد الذي يجعله يحنُّ إلى العودة إليها لكي يحصل على ما حُرِم منه.
وعلى ذلك فيجب أن يحصل الطفل في كل طور من أطوار حياته النفسية على شيء من الإشباع ويُوجَّه نحوه شيء من الكبح، ومن هذا المزيج تتأتَّى النتيجة المطلوبة. وهنا أيضًا نجد أن طريقنا الذهبي إلى حُسن تنشئة الطفل هو مزيج من الرِّفق والحزم في معاملته.
(٦-٥) الفطام النفسي
ومعنى ذلك أن نتعلم احتمال نزعات الطفولة والنظر إليها باعتبارها مراحل تنتهي بانتهاء وظيفتها. وعلى ذلك فعلينا أن نُساعد الطفل نفسه على احتمالها ثم التخلُّص منها عندما يحين الوقت لذلك. وموقفنا في ذلك كموقفنا من جهة غذاء الطفل: فنحن نسمح له بالرضاعة ما دام مهيئًا لها، فإذا آنَ الأوان أصبح من واجبنا أن نُساعده على الفطام. والفطام النفسي معناه الانتقال السليم من مرحلة إلى المرحلة التالية، وهو يَرتبط بنفس المتاعب التي يرتبط بها الفطام الغذائي، ويحتاج لنفس النوع من المعاملة الرفيقة الحازمة.
(٦-٦) الخبرة الاجتماعية
وإذا علَّمنا التحليل النفسي شيئًا فهو أن نقدِّر صعوبة مركز الأنا بالنسبة للنزعات أولًا، ثم للأنا العليا. فإذا أدخلنا في حسابنا هذا التقدير استطعنا أن نهوِّن على الطفل هذه الصعوبة، وأن نأخذ بيده لكي يَخرج من الأزمات المتعدِّدة المتلاحقة بنجاح، يكون هو أساس نجاحه فيما بعد.
والذات كما قلنا تنشأ كنتيجة للعلاقة التي تتكون بين الطفل والمحيطين به، لكي تكون قوة داخلية تمثِّل وجهة نظر المجتمع في داخل النفس؛ فهي تُمثل نوعًا من الحلف بين متضادَّين هما النزعات والمجتمع، وهي تحاول أن تعمل طبقًا لرغبات المجتمع، ولا شك أنه مما يُسهِّل عليها ذلك أن تكون متفهِّمةً لهذا المجتمع وعارفة بما يُتيحه من الفرص لإشباع بعض الرغبات؛ لذلك فإن علينا أن نتيح للطفل فُرَصًا للخبرة الاجتماعية تجعله قادرًا على فهم مطالب المجتمع بلا إفراط ولا تفريط، مقدِّرًا للأهمِّ فالمُهم منها، قادرًا على أن يجد في مقابل التكاليف التي يفرضها عليه المجتمع ما يعوِّضه ويجعله قادرًا على تحمُّلها.
(٦-٧) دستور المعاملة
والصحة العقلية مهمة بالنسبة للطفل وبالنسبة للراشد، فما يَصدق على معاملة الطفل يصدق على التلميذ والعامل والمرءوس والمريض، بل والسجين. كل أولئك أشخاص يتعرَّضون لِما يتعرَّض له الطفل من ضعف الأنا أمام القوى اللاشعورية. والأنا في حاجة إلى التدعيم وهذا التدعيم يأتي ممَّن هم في مركز الإشراف والرئاسة والتوجيه. فالمُعلم ورئيس العمل، والطبيب، والمشرف على السجين، وبعبارة أخرى فالمجتمع في مختلف أشخاص المُشرفين منه، كل أولئك يجب أن يكون دستورهم في معاملة مَن هم دونهم: الرِّفق والحزم.
(٦-٨) العلم بالدَّوافع النفسية
والمقصود بالرِّفق والحزم أن نعامل النفوس معاملةً مبنيةً على المعرفة بنزعاتها الظاهرة والخفية. ولا شكَّ أن العلم بمبادئ التحليل النفسي يجعلنا أكثر احتمالًا لأخطاء الغير، وذلك في مصلحتنا ومصلحة هذا الغير؛ فأنت إذ تتحمَّل أخطاء الغير إنما تترك أمامه السبيل مفتوحًا لإصلاحها؛ إذ إن الخطأ كثيرًا ما يَثبت نتيجة لمعالجتها بالهجمات القاسية وبالعنف. ولهذه الحالة كثير من الأمثلة في حياتنا العامة والخاصة.
وكما أن العلم بالتحليل النفسي يَجعلنا أَقدر على احتمال الآخرين فإنه يجعلنا أقدر على احتمال أعباء الحياة على اختلاف أنواعها؛ أي إنه يمهِّد لصحة عقلية سليمة. وليس ذلك غريبًا لأن أنواع المخاوف والقلق وأنواع الهواجس والأوهام إنما تأتي من جهل الإنسان بالركن المظلم في نفسه، فإذا ألقى الضوء على هذا الركن كان في مقدوره أن يحصل على الطمأنينة، والشعور بالطمأنينة شرط لازم للسلامة العقلية.
ولا شك أن الصحة العقلية للجماهير تتوفَّر إذا زاد شعور الناس بالطمأنينة على اختلاف أنواعها.
(٦-٩) الجو العام المحيط بالطفل
ولا شك أن العامل الأول في السلامة العقلية هو الجو العام الذي يُحيط بالطفل، وهذا الجو ليس ثابتًا، بل هو دائم الاتِّساع؛ فهو يبدأ بالأسرة، ثم يتَّسع فيشمل الأقارب والمعارف والأصدقاء، ويَزيد اتساعه فيشمل المتعاملين مع الأسرة على اختلاف أنواعهم من باعة أو مُشترين أو ممثِّلين للحكم والنظام، ثم ما يلبث أن يشمل المدرسة أو المصنع أو المزرعة أو غير ذلك من المجالات التي يتحرَّك فيها الطفل، ويتسع مع اتساع مدارك الطفل وتشعُّب نشاطه، فيشمل جزءًا من العالم الذي لا يراه بعينه ولكنه يُحسُّ بأثره فيما يسمعه في دروسه وفي قراءته، ويتسع حتى يشمل المدينة ثم الدولة التي يتبعها، وقد يشمل الجنس أو المجموعة اللغوية أو الدينية، وقد يتَّسع فيشمل العالم بأجمعه بما فيه من أجناسٍ وألوان، وقد يتَّسع فيشمل ماضي البشرية بأجمعه.
والجو الأساسي للطفل هو جوُّ المنزل بطبيعة الحال، ولكنه لا يلبث أن يتخذه مركزًا «للمراقبة» يستطيع منه أن يكتشف الجو الخارجي، فإذا اطمأن إليه خرَج يستكشف، فإذا اطمأنَّ إلى هذا اتسع مجاله، وإلا فإنه يعود إلى «قوقعته» الأولى ولا يجرؤ على العودة للاستكشاف إلا بصعوبة كبيرة. ولكي ينشأ الطفل نشأة سليمة يجب أن يجد إشباع حاجاته النفسية وإعلاءها في هذه الميادين المختلفة؛ وذلك لأن المهمَّة الأساسية التي تُلقَى عليه هي القدرة على «التكيُّف» للمجتمع الذي يحيط به بمختلف حلقاته. والتكيف عملية عسيرة كما علمنا، وكلما سهَّل عليه المجتمع العائلي المحدود أن يُحسن تكيفه في داخله، كلما كان تكيُّفه للمجتمعات التالية أسهل وأيسر.
وقد تمرُّ بالفرد أزمات عارضة، ولكنَّ الجو السليم يجعل احتمال هذه الأزمات أمرًا ممكنًا، خصوصًا إذا كان القائمون على تربيته من الحكمة بالدرجة التي تجعلهم يستطيعون مساعدته على تحمُّل أزمات الطفولة الأولى، كأزمات الفطام والتسنين وغياب المراضع والمربيات وأزمات المرض وغيرها، مما يُعتبر بالنسبة للطفل كأشد الأزمات وأكثرها هولًا بالنسبة للراشد.
(٦-١٠) الحلقة المفرغة في الصحة العقلية
ومن أكبر العقبات في سبيل تنشئة جيلٍ صحيح العقل، أن الجيل الذي يُشرف عليه هو نفسه محمَّل بنتائج الكبت والصراع التي لاقاها في طفولته. فالوالدون، وخصوصًا الأمهات، لا يُعاملون أطفالهم معاملةً مبنية على الحكم الصحيح على الأمور، معاملة واقعية ترمي إلى الوصول إلى النتائج، بل يجدون في غالب الأحيان أن زمام المُعاملة يُفلت من أيديهم: فيشتدون مع أطفالهم حيث لا حاجة للشدة، أو يلينون حيث لا يجب اللين، يجدون أنهم يَنتقِمون إذ يُعاقِبون، ويغلب عليهم الغيظ من الأطفال والنِّقمة عليهم بدل اتساع الصدر والرفق، لا يحتملون من أطفالهم ما يَحتملون من أطفال غيرهم، وقد يُخرجهم عن حدودهم مجرد لعب الطفل أو ضحكه أو قيامه بما لا يضرُّ أو يُفسد من ألوان النشاط. هؤلاء آباء وأمهات قد حُمِّلت حياتهم بنتائج الصراع، فهم يُحَمِّلونها بدورهم لأطفالهم إذا أتيحت لهم هذه الفرصة الفريدة. وإن الأم التي تعامل طفلها بهذه الكيفية إنما تعود عودة مؤقتة إلى طفولتها هي، وتعامل الأطفال بقسوة العقل الطفلي وعنفه وقلة احتماله، وبما يحمله من الغيظ والغيرة والرغبة في التدمير والتخريب، وتكون النتيجة أن ينشأ الأطفال بدورهم وهم محمَّلون بنتائج الصراع التي تظهر في معاملاتهم للناس ثم لأطفالهم إذا قُدر لهم أن يكونوا آباءً.
فإذا لم يكن للعلم بالتحليل النفسي إلا أن يَلفت نظر الآباء إلى أن كثيرًا من سلوكهم مع الأطفال لا يرجع إلى الرَّوية والحكمة، بقدر ما يرجع إلى ما لاقَوه هم في صغرهم من أنواع المعاملة الشاذة، فإنه يكون قد أدى خدمةً جليلة للصحة العقلية للأجيال الناشئة.
(٦-١١) أعداء أحبائهم
وهناك كثيرون من الأشخاص تحسُن علاقاتهم مع الغرباء ومع المعارف السطحيِّين، ولكنك لا تكاد تدخل دائرة الاتصال الوثيق معهم حتى تجد حالهم قد انقلبَت من الحسن إلى السوء، فتجد الواحد منهم لا يقرب صديقًا إلا وأبعده، ولا يأنس لرفيق إلا ونال منه، وتجده في بيته وبين أولاده شخصًا قاسيًا عنيفًا، فكأنَّ علاقاته كلما اشتدَّت وقويت كلما ظهرت فيها آثار الصراع. وهذه حالة واضحة لأنها تُرينا كيف أن عوامل الكبت تنصبُّ على العلاقات العائلية وأشباهها. وأمثال هؤلاء يكونون رؤساء خطرين وأصدقاء خطرين وآباء خطرين؛ لأنَّ القرب منهم يكون بمثابة اقتراب السفينة من دوَّامة قوية دوَّارة. وربما كان في أخبار الأقدمين عن الملوك ما يؤيد هذا الرأي، فكثيرًا ما نصح الحكماء بالابتعاد عن الدائرة الضيِّقة لهم؛ أي الابتعاد عن صداقتهم وإحكام الصلة بهم؛ لأنه في هذه الدائرة يتجلى تنكيلهم وجبروتهم. وأمثال هؤلاء هم أشخاص لاقوا في صغرهم من العنَت من الأقربين ومَن إليهم ما جعلهم يربطون بين هذا العنت وبين توثق العلائق، فكلما زادت علاقاتهم بالناس قوةً وتوثقًا كلما شعروا أنهم مُرغَمون على معاملتهم معاملة شاذة قاسية.
(٦-١٢) الخلاصة
وأخيرًا لعلَّ في الحكمة القديمة التي نطَق بها سقراط «اعرف نفسك» خير مبدأ من مبادئ الصحة العقلية؛ فذلك الذي يَعرف نفسه — وما أعسر معرفة النفس — هو الذي يستطيع أن يستمتع بحياة سعيدة سَلِسة مُنسجِمة؛ قد يتعرَّض للنوائب والنَّوازل، ولكنها لا تنال من سلامة النفس إلا بقدر ما تترك السحابة العابرة من أثرٍ في صفاء الجو.
اعرف نفسك
إن الغرض الذي يجب أن نَرمي إليه من اختبارنا لأنفسنا هو أن نَعرفها على حقيقتها. ولعلَّ ما نصَح به الفيلسوف الإغريقي لم تُتح له فرصة التحقُّق أكثر مما أتيحت له في الوقت الحاضر، والفضل في ذلك للكشوف الحديثة في علم النفس. فمعظم الناس يظنُّون أنهم يعرفون أنفسهم، وهم في الواقع إنما كانوا يعرفون أنفسهم كما يُريدونها أن تكون لا كما هي في الحقيقة. فإذا أدركنا أن ما نريده لأنفسنا هو شيء لا نَملكه، فإنه لا يدهشنا أن نعلم أن ما نظنه في أنفسنا هو عكس الحقيقة أو عكس ما يراه الناس فينا.
وليس في حياة أي شخص لحظة أجلُّ ولا أعظم من اللحظة التي يتكشَّف فيها على حقيقة نفسه؛ وقد يأتي ذلك أحيانًا كنتيجة لمقارنة الإنسان نفسه بمثل أعلى كما يحدث في الدِّين، ويأتي كنتيجة التحليل. وغرض التحليل النفسي هو أنه يَكشف عن الشخص كله إذ يكشف عن نفسه، وإن ما يظهر للشخص عن نفسه ليدهشه هو قبل كل إنسان، بل إنه قد يَصدمه صدمًا لغرابته وقلة توقُّعه.
تقبَّل نفسك
من أصعب الأمور في الحياة أن نتقبَّل أنفسنا ونرضى بها بعد أن عرفناها. وهناك فرق كبير جدًّا بين مجرد احتمال الإنسان لنفسه وبين تقبُّلها بالرضى، فعندما نحتمل شيئًا ما فمعنى هذا أننا لا نتقبله. فنحن نَحتمل من أنفسنا نزوات، ونَحتمل من أنفسنا الغرور أو الطمع أو ورود الأفكار الشريرة عليها، ولكنَّنا إذ نفعل ذلك إنما نعتبر أننا «نحتمل» ذلك من أنفسنا، إنما نعترف بأننا لا نتقبله. والواجب أن نتقبل أنفسنا كما هي، وبهذه الوسيلة نستطيع أن نكتسب نزعاتها الغريزية إلى جانبنا ونُوجهها الوجهة الصالحة، وخير طريقة لترويض الوَحْش أن نجعل منه صديقًا. فالرجل الذي يشعر بأن سلوكه يَصطبغ بالطراوة والرفق حتى لَيَكاد يُعتبر «مؤنثًا» لا يُفيده تجاهل هذه الصفة فيه، بل يفيده الاعتراف بها وتوجيهها الوجهة التي تجعلها مثمرة. والرجل المغرور لا يفيده أن يكظم غروره ويحوله إلى شعور بالمذلة والضَّعة، وإنما يفيده أن يعترف بما يتصف به نفسه وأن يوجهه الوجهة الصالحة المُنتِجة. والرجل الذي يشعر في نفسه بالنزعة الشهوانية تملأ أفكاره، يجب أن يعترف بها ويتقبَّلها، ويُحاول أن يكشف السبل التي يوجه فيها ما كمَن في نفسه من طاقة.
وربما يظن البعض أننا إذا تقبَّلنا أنفسنا كما هي فإنما ندمِّر كل أساس للخُلق؛ والواقع أن هذا فهم خاطئ لأن التقدم الخُلقي لا يمكن تحقيقه إلا على أساس مواجهة الواقع.
والصعوبة التي نجدها في الاعتراف بأنفسنا وتقبُّلها كما هي في الواقع، هي أن ذلك إنما يَغمز الصورة الوهمية المضخَّمة التي نرسمها لأنفسنا عن أنفسنا. والتحليل يُزيح أمثال هذه الصورة الوهمية، وكثيرًا ما يكشف لنا أننا أشخاص عاديون بدرجة غير عادية، فإذا تقبَّلنا ذلك فلا يكون فيه راحة وطمأنينة لأنفسنا فقط، وإنما يكون دافعًا عظيمًا للتقدم الخُلقي.
كن كما أنت
من الطبيعي أن نهتم بما يظنُّه الناس فينا، ولكن غير الطبيعي هو أن يصل بنا ذلك الاهتمام إلى تحقيق الصورة التي يَفرضها علينا الغير؛ لأن ذلك معناه أننا نقوم بدور تمثيلي، وأننا نُحاول الخروج عن أنفسنا، وأننا نَفقد شخصيتنا.
ولكلٍّ منا أكثر من شخصية، ومن أهم هذه الشخصيات الشخصية التي نظهر بها للناس؛ أي شخصيتنا كما تظهر للآخرين.
وهذه الشخصية «المظهرية» هي القناع الذي نَصطفيه والذي نريد من الآخرين أن يروه. وكثيرًا ما تكون هذه الشخصية بعيدةً عن شخصيتنا الحقيقية، بل ومُناقضة لحقيقتنا النفسية كل المناقضة. وبينما تُعبِّر الأولى عن سلوكنا الخارجي، تعبِّر الثانية عن أنفسنا الحقيقية، وكثيرًا ما نجد أنفسنا نفعل ما نستريح إليه لمجرد أننا نظن أنه يناسب الآخرين.
وهذه الرغبة في أن نصطنع ما ليس فينا ونتعمَّل، تجعلنا نُحاول أن نُلبس أنفسنا لبوس الغير، ولا نلبث أن نخال أننا قد أصبحنا وهم سواء.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها ما يأتي من حياة المشاهير، ومنها ما نجده في حياة العاديِّين من الناس.
فنابليون كان يفخَر بأنه موسيقي أكثر مما يفخر بأنه محارب، والقيصر ولهلم كان يظن نفسه مثَّالًا، وهكذا نجد الحلاق فنانًا، والإسكافي جرَّاحًا، والعطار مدير متجر، وغير ذلك مما يستطيع أن يُدركه كلُّ مَن حادث أمثال هؤلاء الناس أو قرأ اللافتات التي يكتبونها على محالِّهم.
وهذه التخيلات لا تكون ضارة ما دمنا نُدرك أنها تخيلات، ولكنها تصبح ضارة إذا اندمج الشخص في دوره اندماجًا جعله ينسى شخصيته الأصلية ويفنى في الشخصية الخيالية التي خلقها.
وقد قيل — على سبيل السخرية — إن اللغة قد اختُرعت لتغطي على الفكر، وربما صح ذلك أيضًا عن السلوك، فكثيرًا ما يكون سلوك الإنسان لا معبِّرًا عن شخصيته وإنما وسيلة لإخفاء هذه الشخصية، فالإنسان بسلوكه يَلبس قناعًا يخفي حقيقة شخصيته. ولعلَّ من الظريف أن نجد هذا المعنى متحقِّقًا فيما يسمى بالملابس الرسمية التي تُضفي على لابسها أهمية كثيرًا ما تكون بعيدة كل البُعد عن حقيقة نفسه.
كما أن الواعظ يَصطنع صوتًا يُكسبه قوة التأثير، والقاضي يظهر بوقار يجعل له في القلوب هيبة ورهبة، بينما يَظهر البائع بمظهر اللياقة والاستعداد للخِدمة … كل هذه إنما يُقصد بها أن تُغطي نواحي الضعف في النفس وتحلَّ محلها قوة ظاهرية.
ولكن الواقع أنه بمجرد أن يَفقد الإنسان شخصيته الأصلية ويَصطنع الشخصية الخارجية، فإنه يفقد قوته الداخلية الحقيقية ويُصبح أضعف مما هو؛ لأنه يُريد أن يظهر أقوى مما هو.
ولا داعي للقول أنه من النُّبل أن يظهر الإنسان كما هو، ومِن الضعة أن يظهر بما ليس فيه.
ولكن ظهور الإنسان كما هو ليس بالأمر السهل.
وخير للإنسان ألف مرة أن يترك الدموع تسيل على خدَّيه في موقف مؤثِّر من أن يدَّعي أنه يُنظِّف أنفه، وخير له أن يعترف بأنه خرَج لكي يَستمتع بالزحام في يوم مهرجان بدلًا من أن يقول: «خرجت لأشاهد الناس وأدرسهم.» وخير للكناس أن يكون كناسًا من أن يكون موظَّفًا بمصلحة التنظيم، وللمدرِّس أن يكون مدرسًا من أن يكون أستاذًا.
ومن الغريب أن العالم يَحترم أولئك الذين يكونون أُمَناء وصُرحاء ولكنه لا يُظهر الرغبة في أن يَتبعهم، ومع ذلك ليس هناك راحة ولا سلام أكثر من أن يشعر الإنسان أنه يظهر على طبيعته ولا يَتكلَّف.
وإننا إذ نرفض أن نظهر على حقيقتنا ونُحاول أن نُظهر بغيرها إنما نفشل في الغايتين، ونفقد شخصيتنا بدون أن نكسب شيئًا آخر. إن اكتشاف حقيقة أنفسنا والاعتراف بالدوافع التي تدفعنا يجعل في إمكاننا أن نبني خُلقنا بناءً سليمًا يُكسبنا ذاتية حقيقية لأننا نبنيها بأنفسنا من المواد التي وُضعت تحت تصرُّفنا، وبهذه الطريقة نستطيع أن «نتقدَّم» على أساسٍ ثابت فنصل بأنفسنا إلى أقصى ما هو مهيَّأ لها.
«اعرف نفسك، تقبَّل نفسك بالرضا، كن كما أنت.»
ولعلي أضيف إلى ما قاله الدكتور هادفيلد قاعدةً لا تقلُّ عن السالفة أهمية للصحتين العقلية الشخصية والعامة؛ وهي: اعرف غيرك، تقبَّل غيرك بالرضا، واترك الناس يَظهرون كما هم.