منهج البحث في التحليل النفسي
إنَّ مناهج البحث في التحليل النفسي تُعتبر وسطًا بين الطريقة التأملية القديمة وبين الطريقة التجريبية الحديثة.
وقد وجد علم النفس في هذه الأداة الجديدة، وهي التجريب، ما يزيد حقائقه دقَّةً ويرفع من شأنه بين العلوم الأخرى؛ ولذلك فقد زادت أهمية التجريب في علم النفس، وتنوَّعت وسائله، وأصبح يعتمد على القياس والإحصاء.
أما التحليل النفسي فقد نهَج لنفسه منهجًا وسطًا، لا هو بالتأمل ولا هو بالتجريب.
والوسيلة الأولى التي اتبعها أصحاب التحليل في بحثهم هي استقصاء الحوادث الماضية عند المريض في أثناء التنويم المغناطيسي، ولكنَّهم سرعان ما هجروا التنويم — وحسنًا فعلوا — لِما هو مُصطبغ به في أذهان الناس من صبغة هي أقرب إلى أعمال السحَرة والمُشعوِذين، ولما يحيط به من غموض ورهبة، ولجئوا إلى التحليل النفسي. والتحليل النفسي في واقع الأمر نوع من التأمُّل الصريح العميق يدور حول أخصِّ ما يمسُّ حياة الشخص من الشئون. وهو يحتاج إلى أن يرسل الشخص نفسه إرسالًا مطلقًا — وهذا الإرسال المطلق يحتاج إلى الكثير من الوقت والتدريب — فيذكر لطبيبه كل ما يجول بخاطره، وتستمرُّ عملية «الإفضاء» هذه مدة طويلة.
ووظيفة المحلِّل النفسي أن يضع إصبعه على تلك العناصر من تجارب المريض التي يتوقَّع أنها تُكوِّن أُسس اضطرابه النفسي. وكلما تبيَّن عنصرًا منها طلب إلى المريض أن يَزيد في كلامه عن هذا العنصر بالذات، وسرعان ما يَنكشف له ما لم يكن ينتظر، وهكذا حتى يصل في النهاية إلى أن يكشف العناصر الفعالة في حالة المريض.
فإذا كشَف هذه للمريض بدوره، وعرَّفه الجانب الخفيَّ من قصة حياته، وألقى النور عليه، تحسَّنت حال المريض واستطاع أن يواجه الحياة بنفسٍ أكثر هدوءًا واطمئنانًا.
هذه هي قصة كل تحليل نفسي، وهي نفسها قصة التحليل النفسي «كعلم»، فمجال البحث هو مجال العلاج النفسي، وما يُكشف من الحقائق إنما يُكشف أثناء استخدامه للعلاج، وليس على المحلل رقيب، وليس هناك ضمان مباشر لصحة استنتاجاته غير النتائج التي يحصل عليها.
وقد أخرج فرويد نظرية التحليل النفسي كما أخرج دارون نظرية التطور نتيجةً لملاحظات عديدة شاملة؛ بحيث صعُب على معارضيه تفنيدها بالجملة؛ لأنَّ الشواهد والأدلة بالغة من الكثرة مبلغًا يجعل هذه المحاولة فوق الطاقة.
وقد وجد فرويد، كما وجد دارون، الكثير مما يؤيد نظريته في ميادين جديدة لم تكن ضمن الدائرة التي عمل فيها أول مرة.
وقد لا يرتاح الناس إلى نظرية فرويد كما لم يرتاحوا إلى نظرية دارون، ولعلَّ الإنسان لا يمكن أن يرضى عمَّن يُطلعه على حقيقة أصله البعيد أو القريب، وخصوصًا إذا كان هذا الأصل مما لا يفاخَر به. ولكنهم يجدون في كلا النظريتَين حيوية فائقة، وقدرة على الاتساع والامتداد، وعلى تناول الكثير من الظواهر المُستحدَثة وتفسيرها على نفس الأساس العام. فكما أن دارون وجد من علم الحفريات، وعلم التشريح، وعلم الأجنة، ومن النبات والحيوان ما يؤيد النظرة التطورية، فقد وجد فرويد في الأحلام وفلتات اللسان، وفي سلوك الأطفال والمتوحِّشين، وفي سيكولوجية الفن والجمال، وفي سيكولوجية الجماعات وغيرها ما استطاع تفسيره بدون أن يُدخل تعديلًا على نظريته الأساسية مما زاد هذه النظرية تأييدًا وثبوتًا.
فنظرية فرويد إذن مثل نظرية دارون، التي قيل عنها مرارًا إنها مما لا يُمكن إثباته أو نفيه بنفس البساطة التي تُثبت أو تنفي بها تقريرًا علميًّا محدودًا، وما ذلك إلا لأن كلًّا منهما تشمل تفسيرًا واسع المدى لمجموعة شاسعة من المظاهر المستمَدَّة من ميادين متعددة، ولكن الحقائق والمشاهدات تشير إليها إشارة لا نستطيع تجاهلها.
وكما أن نظرية دارون قد جمعت شتات علوم الحياة تحت مبدأ واحد، فكذلك نظرية فرويد قد جمعت شتات المباحث المتعلقة بالنفس البشرية تحت نظرية واحدة.
- (١)
إن علماء التحليل النفسي يُكوِّنون فيما بينهم شِبْه «فرقة» أو «طريقة» يأخذ فيها واحد عن واحد، ولا يَعترفون لأحد خارج محيطهم بأنه قادر على أن يضيف أو يُنقص من نظريتهم، فهم وحدهم القادرون على ذلك. والمبدأ الذي يَبنون عليه ذلك هو أن الشخص الذي لم يُحلَّل تحليلًا نفسيًّا يكون عرضةً للخطأ فيما يتعلق بمباحث التحليل النفسي؛ لأنَّ ما تخفيه نفسه من «العُقد» قد يوجه ملاحظاته واستنتاجه وِجهة بعيدة عن الصواب؛ وذلك يستلزم بطبيعة الحال أن علماء التحليل النفسي لا يُخطئون؛ لأنَّ الخطأ في مذهبهم ليس مجرد هفوة تأتي نتيجة الصُّدفة بل هو أمر «تعمُّدي» من جانب اللاشعور.
وذلك هو السبب في أن النقد بينهم قليل، والتعديل في آرائهم يسير، ومعنى ذلك أيضًا أن طريقة البحث غير ميسورة إلا لنفرٍ قليل اتخذوا هذه الصبغة «الطائفية»، فحلَّلوا لأنفسهم ما حرَّموه على غيرهم.
- (٢)
وعلاوةً على ذلك فإن بحوثَهم تُجرى في عياداتهم بين جدران أربعة، ومآل الصواب والخطأ فيها إلى ما يُصوِّره المعالج؛ وعلى ذلك فمن العسير «مراقبة» البحث أو «تقنينه».
- (٣)
ثم إنَّ الحقائق التي تُكتشَف عن طريق بحث حالات الشواذ من المصابين بالاضطراب العصبي أو العقلي لا يصحُّ في نظر الكثيرين تعميمُها على العاديين من الناس، فربما كان هناك فرق أساسي بين الشخص العادي والشاذ.
- (٤)
وهناك نقد آخر يُعتبر أخطر من هذه جميعًا، وهو أن المسألة يدخل فيها الكثير من الإيحاء، فهناك إيحاء من المعلِّم الأول «فرويد» إلى تلاميذه، ومن تلميذ إلى تلميذ، وقد ثبَّت هذا الإيحاء المتسلسل اشتراط التحليل الذي سبق ذكرُه في المشتغلين بالتحليل، ثم إن هناك إيحاء من المعالج لمَرضاه، وهذا الإيحاء ذو شطرَين؛ الأول منهما عام؛ لأنَّ من يذهب للعلاج عند مُحلِّل نفساني يَعلَم من مبدأ الأمر طرفًا من نظريته، وبذلك فهو يتأثَّر في اتجاه هذه النظرية، فإذا أتى للمُحلِّل بدأ الإيحاء الخاص يعمل طردًا وعكسًا بينهما، وبذلك قد تكون النتائج مجرَّد سراب خادع لا حقيقة له.
وعلاوة على ذلك، فإنَّ معظم أصحاب التحليل النفسي لم تسبق له دراسة علم النفس العام؛ وعلى ذلك فإن تفاهُمهم مع سائر علماء النفس كان متعذرًا، خصوصًا وقد اتخذ معظمهم موقفًا من التعالي والكبرياء فسَّرَه الكثيرون على أنه مداراة لضعف الحُجة وعدم الوثوق من النفس.
وقد يجد المُدافع عن التحليل النفسي ما يقوله ردًّا على معظم هذه الاعتراضات، ولكن الردود الجدلية ليست بذات قيمة كبيرة في هذه الحالة.
وواقع الأمر هو أن التحليل النفسي قد وضع في أيدينا نظرية كاملة للنفس الإنسانية في مختلَف حالاتها، وأن الباحث قد أصبح — وفي يده سلاح هذه النظرية — يستطيع أن يفسر بواسطتها جميع أنواع السلوك، من أساطير الأقدمين، إلى حياة عظماء التاريخ، إلى ملاهي الأطفال وقصص الأدباء وحياة البدائيِّين، ثم هو يجمع بين العادي من الناس وذلك الذي يعاني اضطرابًا نفسيًّا بسيطًا، وبين المصاب بالمرض العقلي، في نظرية واحدة.
أما ما يُنسب إلى علماء التحليل النفسي من أنهم يكوِّنون «فرقة» فهو صحيح إلى درجة ما، ولو أنَّ حدَّة هذه الظاهرة بدأت تقلُّ منذ أخذ طلاب الجامعات يدرسون التحليل النفسي إلى جانب مذاهب علم النفس الأخرى.
وقد حاول الكثيرون أن يُجروا ما يصحُّ أن يُسمَّى تجارب تؤيد نتائجها التحليل النفسي، ونجح البعض في تأييد بعض نظرياته، ولكن الطريق طويل جدًّا، ولا شك في أنه لن يكون من السهل الوصول إلى نهايته.
والخلاصة أن منهج البحث في التحليل النفسي ليس منهجًا تجريبيًّا؛ وعلى ذلك فحقائقُه ليست في تلك المرتبة من اليقين التي تبلغها حقائق علم النفس التجريبي، ولكنَّه أيضًا ليس منهجًا تأمليًّا بالمعنى القديم، وهو يَعتمد في قوته على قدرته على التفسير الواسع المدى لمختلف ميادين النشاط الإنساني.