الإنسان ونفسه
قديمًا قال فيلسوف الإغريق سقراط: «اعرف نفسك» وجعل من هاتين الكلمتين جُماع الحكمة، ولعلَّه فطن في ذلك الزمن السحيق إلى ما يقيمه الإنسان من عقبات في سبيل معرفته لنفسه، فنظر إلى هذه المعرفة كأنها الغاية القصوى التي يصل إليها الحكيم. وهذه الفكرة ولو أن سقراط هو الذي وضعها في هذه الصيغة الأنيقة المُحكمة، إلا أنها لم تخفَ على غيره من الناس؛ فإن المُشاهِد لأحوال الناس الملاحظ لسلوكهم، الدارس لأخلاقهم وأقوالهم، خصوصًا ما جرى منها مجرى الأمثال، لواجدٌ صدى هذه الحكمة يتردَّد دائمًا في أفواههم، وإنه لَيتردَّد في أفواه العوام كما يتردَّد في أقوال الحكماء، ويجد صداه في قصص التاريخ كما تجده في مآسي التمثيل والرواية. وفي حياة الإنسان في مختلف أدوارها مِصداقٌ لهذه الحكمة؛ فالطفل ليس طفلًا إلا في نظر الكبار، والحاكم الطاغية ليس طاغية إلا في نظر المَحكومين، والبخيل عند نفسه حكيم مُقتصِد، والمُسرف عند نفسه كريم مفضال، والراهب رجل قد زهد مباهج الدنيا وعزف عن شهواتها.
ولن يجادلك أحد في أنه كثيرًا ما يُخفي ذات نفسه عن الآخرين، بل عن أقرب الأقربين إليه، ويعتبر ذلك أمرًا طبيعيًّا لا غرابة فيه، ولكن الذي يُنكره هو أنه يُخفي ذات نفسه عن نفسه. هو أنه كما يخشى مواجهة الناس بما في خِفْيَتِها؛ فهو يحاول جاهدًا أن يصور نفسه لنفسه في صورةٍ ترضاها، ويفسر أعماله وتصرفاته في ضوء لا يَقذي العين، ومنهم من يجاهد طول حياته في إقناع نفسه بالصورة التي يُريد أن يراها فيها، ويبذل في ذلك كثيرًا من الجهد، حتى يرى نفسه لا كما هي، بل كما يريدها أن تكون. وهو ينكرها إذ تتبدى في صورتها الحقيقية، فيَنسِب ما توسوس به إلى الشيطان أو إلى مسٍّ من الجنِّ، أو يتجاهله تجاهلًا تامًّا فلا يكاد يعترف بوجوده.
وتَظهر هذه النزعة في كثير من تصرُّفاتنا العادية، وتتناول أكثر ما تتناول مواضع الضعف الحقيقية من النفس؛ إذ نغطيها ونموِّهها ونَحُول بينها وبين الظهور، ونخفيها عن الأنظار وعن كل عين فاحصة، ونبالغ في التغطية والإخفاء والتمويه حتى نخدع أنفسنا عنها، وسرعان ما نصدِّق ما موَّهنا به على الغير، فتخفى هذه العيوب ومواطن الضعف عنا أنفسنا، وكلٌّ منا يُشبه في كثير من الأحيان ذلك المغفَّل الذي قيل إنَّ الأطفال كانوا يعبثون به ويَجرون وراءه في الطريق صائحين مُهلِّلين، فأراد يومًا أن يتخلص منهم، فاستدار لهم وقال: إنكم تخسرون كثيرًا إذ تتبعونني، أمَا تدرون أن فلانًا قد أولم وليمة ودعا الصبية وغيرهم إليها ينالون ما يشاءون من المرق واللحم «والفتِّ»؟ وصدَّق الصبية واستداروا مسرعين نحو بيت الوليمة المزعومة. وما أن رآهم يجرون بجمعهم وقد صدَّقوا قوله، حتى بُهت وقال لنفسه: لعلي صادقٌ فيما رويت لهم، ولعل هناك وليمة، وجرى وراءهم لينال نصيبه في هذه الوليمة التي ابتكرها خياله … كذلك نحن في حياتنا النفسية إذا بدأنا في تغطية عيوبنا عن أعين الناس، فقد بدأنا في تغطيتها عن أنفسنا، وكلما ظننا أننا نجحنا في التمويه، كلما صدَّقنا أنفسنا مع المصدقين، ورأينا أنفسنا في صورة غير الصورة. ولو أمعنا في التحليل لوجدنا أننا في واقع الأمر إنما نرمي في النهاية إلى التمويه على أنفسنا، وأننا نلتمس السبيل إلى ذلك عن طريق التمويه على الناس. انظر إلى المرأة التي تلتمس الجمال بالمساحيق تُلوِّن بها وجهها وتَخرج بها على الناس، فإذا خُيِّل إليها أنهم يُعجَبون بها بدأت تُعجب بنفسها، وهي عن هذا الطريق تصل إلى الهدوء والطمأنينة، فكأنها تريد أن تقنع نفسها بأن فيها جمالًا، وهي تصل إلى ذلك عن طريق إقناع نفسها بأن الناس يرونها جميلة، فهي إذن كذلك، ونحن نقنع أنفسنا بالكمال عن طريق إقناعها بأن الناس يروننا كاملين.
وهذه الظاهرة تتناول النفس والمادة من حياة الإنسان، فنحن نغطِّي أجسامنا بالثياب ونخفي «سوءاتنا» المادية، ونتخلص من خَبَث الجسم، ونخفيه عن الأنظار، ولا نطيق التحديق فيه، ونتحدَّث عن هذا وذاك حديثًا مضمرًا غير صريح، ولكنه مع إضماره يفصح عن تملصنا من مواجهة الحقائق الجسمية والفسيولوجية، فنسمِّي هذه ضرورة، ونُسمِّي تلك عورة، ونلتمس الأعاذير إذ نتحدَّث عن هذه أو تلك، ثم إننا نلبس للحالات لبوسًا يخفي مظهرنا الضئيل أحيانًا، والقبيح أحيانًا أخرى، ويُضفي على أشخاصنا «هيبة» «ووقارًا» «وحكمة». انظر إلى البدائي الذي يخطط جسمه بخطوط زخرفية تُكسبه مظهرًا مخيفًا، أو يضع على ظهره جلد الأسد، وعلى رأسه قرنَي الثور، أو يُغطِّي وجهه بقناع مفزع، كل ذلك «ليظهر» بالمظهر الذي يؤثر في غيره فيُكسبه الاحترام أو الرهبة، ولا يلبث ما يبدو على الآخرين من احترامه أو رهبته أن يَنعكِس في نفسه، فيرى فيها ما لم يكن يراه من قوة وجبروت ومنَعة، ولعله كان جبانًا رعديدًا مُنكمِشًا قبل ذلك. وليس هذا الأمر قاصرًا على البدائيِّين، بل إنَّ مَن نُسميهم بالمتمدينين يلجئون إلى أمثال تلك المَظاهر تمامًا؛ فللجندي لباسه الخاص الذي يُميِّزه ويُكسب جسمه رشاقة وقوة وجبروتًا، وللكاهن لباسه الذي يرهب النفوس ويوحي إليها فكرة القداسة والاحترام، وللقاضي أو الحاكم بزته التي توحي بالحكمة أو العدل أو الرهبة، ولكلٍّ من هذه تأثير عكسي، كما قلنا، لا يلبث أن يخدع الشخص عن حقيقة نفسه ويُوهمه بأن ما يُظهره للناس إنما هو الحقيقة.
وفي الميدان النفسي الصرف نجد أن الإنسان يُحاول جاهدًا أن يخفي عن الناس مظاهر «الحيوانية» أو «الأنانية المطلقة» التي كثيرًا ما يشعر بها. وليس هناك شخص لم يمرَّ في حياته بتجارب أو حوادث يود أن ينساها أو يتناساها، فهو يُخفيها عن نفسه؛ لأنها تنغِّص عليه حياته؛ إذ تُظهر له حيوانيته وأنانيته وضعفه سافرةً، فإذا تعذَّر عليه أن ينساها فإنه يُبرِّرها ويُحاول أن يُضفي عليها ثوبًا يخفي حقيقتها ويغيِّر من صورتها.
قد يَكفي كل ذلك لأن نُدرك المعنى الذي تنطوي عليه حكمة سقراط، ولكننا لن ندرك عمق هذا المعنى إلا إذا علمنا أن الإنسان إنما يَخفى عليه من نفسه أكثر مما يعلم، وأن ما يُدركه من أحوالها ونزعاتها لا يكاد يُقاس إلى ما لا يُدركه، وأن هناك قوة فعَّالة تحُول بينه وبين معرفة النفس على حقيقتها مهما حاول جاهدًا في ذلك.
وإن محاولة الإنسان أن يُدرك حقيقة نفسه بالتأمل العادي لا تُجدي؛ لأن العقبات التي تقيمها هذه القوى الفعالة تقف سدًّا بينه وبين الجانب المَجهول من نفسه.
ويخطر ببالنا أن نسأل أنفسنا: ما الذي يدعو إلى كل هذه المقاومة والمشادَّة؟ ولماذا تَمتنع النفس على صاحبها هذا الامتناع؟ والإجابة على هذا السؤال تُدخلنا في صميم نظريات التحليل النفسي؛ فالجانب المجهول من النفس جانب موجود فعلًا، كما أنَّ باطن الأرض موجود حتى وإن لم نكن نراه.
لماذا إذن نجهل هذا الجانب؟ ولماذا تحُول العوائق بيننا وبين معرفته، فإذا كُشف لنا أنكرناه ورأيناه غريبًا عنا، وأقمنا العقبات في سبيل التعرُّف عليه؟
فإذا سلَّمنا بهذه النظرة سهُل علينا أن ندرك طبيعة الجانب الذي نخفيه حتى عن أنفسنا، لا بد أنه جانب قد بلَغ من خطورة شأنه أننا لا نحتمل حتى معرفته، لا نحتمل مواجهة العالم إذا كنا نعرف أنفسنا كما هي. وإننا كثيرًا ما نجد صعوبة في مواجهة الناس إذا أتينا — حتى في الخفاء — ذنبًا كبيرًا، فنفوسُنا إذن تحتوي جانبًا قد أمعن في الخفاء؛ لأنه قد أمعن في مضادة الأخلاق والعرف السائدَين في المجتمع.
وهنا نرى كيف تتلاقى الفكرتان الأساسيتان في التحليل النفسي؛ فكرة اللاشعور، وفكرة الغريزة الجنسية، فإذا كانت النزعة الجنسية المُطلَقة بغير قيود ولا حدود هي التي تسود حياتنا النفسية، فتجعل من كل طفل وكل شاب وكل رجل إباحيًّا إلى أقصى الحدود، لا يقف دون إباحيته عُرْف أو تقليد أو قانون، ولا تميِّز إباحيته بين الغريب والقريب مهما كانت درجة قرابته، بل تنصبُّ أكثر ما تنصبُّ على القريب بحكم قُربه، إذا كانت هذه النزعة موجودة فعلًا، استطعْنا أن نفهم لماذا يُنكرها الإنسان من نفسه إنكارًا حاسمًا بأن يَستبعدها استبعادًا تامًّا، فيَجهلها، ولا يكتفي بتجاهلها؛ لأنَّ مجرَّد التجاهل إنما يكون لصغائر الأمور وتوافه المخالفات، وهذه ولا شك كبرى الكبائر، فلا عجب أن تتخلَّص النفس منها بهذا الإجراء الحاسم، وأن تقيم دونها الصعاب والعقبات، وتحشد المقاوَمات، حتى لا يدرك الشخص مداها فيجد نفسه وقد فقد اتزانه النفسي والاجتماعي. وهكذا نرى أن فكرتي اللاشعور والجنسية فكرتان متلازمتان لا غنى لإحدَيهما عن الأخرى، وهما كما قلنا الفكرتان الأساسيتان في التحليل النفسي.
وقد حاول الكثيرون من المشتغلين بعلم النفس أن يَكتفوا بالأخذ بفكرة اللاشعور، على أن ينبذوا الجنسية بالصورة التي أوردها بها فرويد، ولكنَّ هذه المحاولة تبدو عقيمة في ضوء ما ذكرناه؛ لأن اللاشعور يصبح عديم القيمة في هذه الحالة، يُصبح «تركيبًا» لم تدعُ إليه الحاجة إذا استخدمنا لغة علماء الحياة، ولا نعرف في وظائف الجسم أو العقل ما ينشأ بغير حاجة ملحَّة دافعة إليه.
ولعلَّ في محاولة المحاولين أن ينبذوا الجنسية من نظريات فرويد ما يؤيد ما ذهب إليه من أن الإنسان في محاولة دائمة لاستبعاد هذه النزعة من شعوره وأفكاره إذا بدت له بالرغم منه، وقد قلنا: إن هناك قوة فعَّالة تحُول دون ظهور النزعة المَخفية بصورتها الحقيقية.