اللاشعور
لكي نُدرك ما هو اللاشعور يجب أن نعرف ما هو الشعور، فأنا أشعر بالحر أو بالبرد أو بثقل الملابس على جسمي أو بصوت يُناديني، أو أشعر بالألم أو بالجوع أو بالراحة أو بالسرور … إلخ، ومعنى ذلك أن حالة خاصة قد قامت بالنفس أسميناها الشعور بالحر أو بالبرد أو الألم أو الجوع. غير أنَّ الشعور ذاته من خواص النفس، بصرف النظر عما تشعُر به؛ فالنفس لا تستطيع إلا أن تَشعُر، وهي تشعر في كل لحظة من لحظات الحياة، حتى إنَّ أحدهم قد شبَّه الشعور بتيار الماء الذي لا ينقطع، يتغير ماؤه من لحظة لأخرى، وقد تتغير سرعته أو اتساعه أو عمقه، ولكنه مع ذلك مستمر، والإنسان يشعر حتى أثناء نومه بدليل أن النداء أو الطَّرْق يوقظه، وغاية ما في الأمر أن هذا الشعور ضئيل، حتى ليحتاج إلى المنبِّه القوي لكي يصل إلى التأثير الواضح.
وقد اهتم علم النفس اهتمامًا عظيمًا بدراسة الشعور، بل إنه اقتصر عليه إلى عهد قريب، ولعل هذا لا يتَّضح لنا بأكثر من أن نذكر أن علم النفس كان يعرَّف بأنه «علم دراسة الشعور»؛ لأن كل ما تحويه النفس يَحويه الشعور، فكل ما ندرك أو نتذكَّر إنما نشعر به، نشعر بأننا نفكر أو بأننا نحب أو بأننا نكره … فماذا بقي من النفس بعد الشعور؟ لا شيء. إذن فالشعور هو الخاصة الأساسية من خواصِّ النفس، وهو خاصة ملازمة لها طول الوقت، فلو درسنا أحوال الشعور ومظاهرَه فقد درسنا النفس؛ فكل وظيفة تقوم بالشعور إنما تقوم بالنفس، وبالعكس كل ما يقوم بالنفس يقوم أيضًا بالشعور.
وقد عكف علم النفس على دراسة الشعور مدة طويلة، وفسَّر جميع الظواهر النفسية على أساس الشعور حتى أواخر القرن الماضي حينما بدأ الباحثون في الطب النفسي يواجهون مظاهرَ وحالات توحي بأن في النفس طبقات عميقة لا يصل الشعور إلى عمقها، وإنما هي خارج أعمق أعماقه، وكانت ظاهرة التنويم المغناطيسي من أولى الظواهر التي لفتت النظر إلى ذلك، وتبعتْه ظواهر أخرى؛ كالأحلام، وفلتات اللسان، وأعراض الاضطراب والجنون وغيرها.
فكما أن ماء النهر لا يَظهر في المجرى فقط، فكذلك محتويات النفس لا تظهر كلها في تيار الشعور، وكما أن ماء النهر إذ يتسرَّب إلى الباطن فإنه يظهر في مواضع بعيدة عنه على شكل عيون أو آبار أو نافورات … إلخ، مما لا يبدو له صلة مباشرة بالنهر، فكذلك تظهر المحتويات النفسية «الغائرة» في الأحلام وفلتات اللسان وظواهر العصاب والجنون … إلخ، وكما كان من العسير تحديد العلاقة بين ماء الآبار والينابيع وبين ماء النهر قبل دراسة ظاهرة التسرُّب، وعمل «المجسات» المختلفة في مواضع عديدة، كذلك كان من غير الممكن ربط هذه الظواهر النفسية الشاذة بالتيار النفسي العام قبل دراسة العوامل التي تُكوِّن هذه الطبقة «التحتية» العميقة من النفس، وهي اللاشعور.
ولو سمحْنا لأنفسنا أن نستطرد قليلًا في هذا التشبيه لوجدنا أننا نقَع فيه على أكثر من مقابلة. فمِن المعروف أن مدى تسرُّب الماء إلى الباطن في منطقة ما من النهر، يؤثِّر على كمية الماء، على اتساعه وعُمقه، وعلى سرعته، وبعبارة أخرى فإن الجزء الظاهر من تيار الماء تتوقف خواصه وصفاته على الجزء المتسرِّب فضلًا عن أن لهذا الجزء المتسرِّب آثارًا كبيرة في القشرة الأرضية، فمن مواد يُذيبها، إلى صخور يُفتِّتها، إلى نافورات يُفجِّرها … إلخ، وكذلك نجد أن ما يَنحدِر من الشعور إلى أعماق النفس ويُصبح لا شعوريًّا يؤثر في سلوك الإنسان الظاهر أثرًا كبيرًا.
وقد جعل التحليل النفسي من «اللاشعور» أساسًا لتفسير الظواهر النفسية، وقد يتبادر إلى الذهن أن اللاشعور مكوَّن من كل ما هو «منسي» من عقل الإنسان، والواقع غير ذلك؛ فهنالك نوعان من النسيان: الأول نسيان سطحي ينصبُّ على أشياء يُمكن استعادتها بسهولة؛ كالآبار التي تُحفر بجوار مجرى النهر مباشرةً فنَحصُل على الماء منها بلا كبير عناء. وهناك نسيان عميق لا نَصِل إلى عمقه إلا باستخدام وسائل خاصة، وببذْلِ مجهود شاق.
ولكن ليس هذا كل شيء؛ إذ إنَّ هنالك، علاوة على الطبقتين السالفتين من طبقات العقل، طبقة «اللاشعور»، وهي طبقة عميقة غاية العُمق، خفية عن الشخص غاية الخفاء، وهي زاخرة بالمُحتويات العقلية من أفكار ورغبات وجميعها تتَدافع وتُلحُّ لكي تبرز إلى الشعور، ولكنها لا تستطيع ذلك إلا إذا دخل عليها تغيير أساسي، كما أنَّ صاحبها لا يستطيع أن يَذكرها ويُبرزها إلى شعوره بأي مجهود عادي يبذله، وهي بالرغم من هذا كله ذاتُ أثر كبير جدًّا في توجيه سلوكه وتكييف شخصيته، فهذه الرغبات المَخفية تستطيع من مكمنها أن تؤثر في تصرفاته آثارًا ربما لا تستطيعها رغباته الواضحة التي يشعر بها ويعرفها. أما كيف تكوَّنت هذه الطبقة العميقة من العقل، وكيف خفيَت على صاحبها، وكيف تؤثِّر في سلوكه وشخصيته كلَّ هذا الأثر، فهو ما سنتكلم عنه فيما يلي من الفصول.
وأخيرًا فإن اللاشعور لا يُدرك الفواصل الزمنية، ويرى أن الماضي والحاضر شيء واحد، ولعلَّ خير مثال لذلك ما يحدث في الأحلام من استعادة الماضي كما لو كان حاضرًا.
واللاشعور هو المخبأ الذي نُلقي فيه بكل ما يزعجنا ويروعنا من رغبات وأفكار، ونقفل الباب دون هذه الرغبات والأفكار ونُحكم الإقفال، ثم نقيم العوائق والسدود الإضافية حتى نأمن تسرُّبها إلى ذاكرتنا، فتُصبح نسيًا منسيًّا. ولكن هذه الرغبات والأفكار هي رغباتنا نحن وأفكارنا نحن، هي إذًا وثيقة الصلة بحياتنا النفسية، ولا بد أننا نمر في حياتنا اليومية مرارًا بما يُشبهها، وهذه الحوادث المشابهة تجد صدًى عميقًا في نفوسنا، وفوق ذلك فإن هذه الرغبات والأفكار لا تقع في مخبئها قانعة، وإنما تتصايح وتُلحُّ وتثور، وتُحاول أن تصل من مجاهل النسيان إلى نور الذاكرة. ولكن أصواتها لا تصل إلينا في الغالب، وإذا وصلت فإننا نتجاهَلُها ونتعامى عنها، فنسمعها كما لو كانت آتية من الخارج أو نراها كما لو كانت غريبة عنا، ونتمادى في هذا التجاهل والتعامي ما وسعنا التمادي.
وقبل أن نختم هذا الباب يجب أن نُنبِّه القارئ إلى أن هذا التقسيم الطوبوغرافي للعقل إلى شعور وتحت شعور ولا شعور ليس إلا تقسيمًا وظيفيًّا، يُشبه تقسيمه إلى تذكُّر وتفكير وانفعال في حياتنا الشعورية، فكما أن التذكر خاصة من خصائص العقل فكذلك النسيان، وكما أن التذكُّر له شروطه وأنواعه فكذلك النسيان، وكما أننا نفسِّر التذكُّر على أساس قابلية العقل للتأثُّر واختزانه لهذه الآثار فيه، فكذلك نفسر النسيان العادي على أساس قابلية العقل لاستبعاد الآثار المختزنة واسترجاعها تحت شروط خاصة، فكذلك نفسِّر النسيان التام «بالتحديد الذي أوردناه» على أساس قابلية جديدة للعقل لنوع من الاختزان البعيد الغور بُعدًا يجعل هذا المخزون بعيدًا عن متناول الشعور، بل يُقيم العقبات في سبيل ظهوره، ومع ذلك فالدلائل تدلُّ على أنه موجود لم يُعدم بتاتًا.
هذه هي النظرة العلمية للاشعور؛ فهو كالشعور مجرد وسط يقوم بصفات ووظائف «نفسية» معيَّنة.