الغريزة الجنسية١
إنَّ التوالد من الخصائص الأساسية للكائنات الحية على اختلاف مراتبها، وهو الوسيلة التي تصل بها الحياة إلى الاستمرار، وتصل بها الأنواع إلى البقاء. ولو درسنا أحوال الكائنات المختلفة لوجدنا أن سائر الوظائف تبدو «ثانوية» بالنسبة لهذه الوظيفة. وحياة الفرد نفسها تتكيف تكيُّفًا يسمح للنوع بالاستمرار. وكثيرًا ما تنتهي حياة الفرد بانتهاء أدائه لهذه الوظيفة كما يحدث في حالة الذكور في كثير من الحشرات. فكأنَّ الطبيعة تضحِّي بالفرد حيث يستفيد النوع من هذه التضحية؛ فالذكور في خلايا النَّحْل تُعتبر طفيلية على الخلية بمجرد أدائها لوظيفة تلقيح الملكة، فتُطرد بعيدًا وتُمنع من دخول الخلية، كما أنَّ الذكَر في «فرس النبي» يُصبح طعامًا للأنثى بمجرد انتهائه من تلقيحها.
فإذا وصلنا إلى مرتبة الطيور والثدييات نجد أن الإناث تحمل صغارها في داخلها، أو تَحتضِن بيضها لمدد متفاوتة تطول أو تقصر، ولا تستطيع الأنثى أن تلدَ في حياتها أكثر من عدد معيَّن من الصغار، تُحدِّده مدة الحمل وطول حياة الفرد وفترة الخصوبة في عمر كل أنثى، فإذا أضفنا إلى ذلك طول مدة الحضانة التي يَقتضيها نموُّ كل وليد أصبح للذَّكَر أهمية دائمة تختلف عن أهميته الوقتية في عالم الحشرات، فضلًا عن أن قيام الذكر بوظيفة جديدة في أغلب الأحوال، هي وظيفة «الحماية» أو المساعدة في جلب الطعام للصِّغار، جعل الحياة الاجتماعية عند هذه الحيوانات تتكيَّف تكيُّفًا جديدًا، ويبدو فيها في كثير من الأحيان تلازُمٌ مؤقت أو دائم بين الذكر والأنثى يُمكن أن نعتبره أساسًا لتكوين «العائلة».
ونجد العائلة عند الإنسان تتَّخذ بالنسبة لظروفه الخاصة صورة تختلف عن صورتها عند سائر الحيوان.
والعائلة في الإنسان عامة توجد في جميع المستويات ومختلَف الحضارات، والصورة الغالبة هي الصورة المألوفة لنا والشذوذ فيها نادر.
والعائلة السائدة مكوَّنة من ذكر وأنثى وأبنائهما، والعائلة عند الإنسان وحدة اجتماعية «جنسية»، وهي تؤدي هاتين الوظيفتين معًا، عن طريق الاتصال الخارجي والداخلي، والعائلة هي المؤسَّسة التي يحدث عن طريقها استمرار النوع، فلا غرابة إذا كانت مختلَف الجماعات قد عملت على حفظ كيانها بمختلف الأساليب.
ولو نظرنا إلى الغريزة الجنسية عند الإنسان لوجدنا أنها في مركز يَلفت النظر حقًّا.
فهي لا تمارَس كما تمارس عند الحيوانات، أو كما تمارَس أغلب أنواع النشاط الأخرى عند الإنسان — أو بتعبير آخر «غرائزه» الأخرى — بل إنها تخضع لألوان من الخفاء والتخبئة؛ فأعضاء التناسل نفسها تخفى عن الأعين، وتُعتبر سوءات وعورات، وشعور الناس نحوها في الأغلب شعور بالعار والاشمئزاز، لا تُذكر أسماؤها إلا همسًا وفي خفاء. أما التناسل نفسه فقد وضع القانون والتقليد والعرف له نظمًا تجعل ممارسته أمرًا لا يتأتى إلا طبقًا لشروط خاصة، وفي ظروف خاصَّة، فإذا خرَج الفرد على هذه النُّظُم فإما أن يناله القانون وإما أن يَنبذه المجتمع.
ولو بحثْنا القوانين والتقاليد في مختلَف البيئات من بدائية ومتحضِّرة، فإننا نجد أنه تَبرز فيها ناحيتان؛ الأولى: حماية المجتمع من شرور الدافع الجنسي. والثانية: حمايته من أخطار الاعتداء. ولم يكن وضع هذه القوانين والتقاليد عبثًا، بل إنَّ وجودها ليبرهن على أن المجتمع ينظر إلى هاتين النزعتين «الجنسية والاعتدائية» على أنهما نزعتان قويتان جدًّا، يحتاج الأمر للتخلُّص من أخطارهما إلى جهد جهيد. فأما النزعة الأخيرة فقد حرَّمها بوجه عام وإن كان قد أبقاها كحقٍّ من حقوق «الحاكم»، ولكنه لم يستطع تحريم الأولى فنظَّمها وسنَّ القوانين والشرائع التي تحدِّد المحظور والمباح فيها.
غير أن هذا الاصطدام نفسه كثيرًا ما يضع الفرد أو المجتمع في موضع لا يُحتمل؛ ذلك أن قبول الغريزة للضغط وتمشيها مع المقتضيات الاجتماعية، له حدود لا يمكن تجاوزها إلا على حساب الكيان العقلي للفرد أو للمجتمع؛ ولذلك تظهر على بعض الأفراد آثار الاضطراب العصبي نتيجة لفشلهم في حل هذه المشكلة، كما تبدو مثل هذه الآثار على مجتمعات بأَسرِها، فتؤدِّي إلى الثورات والحروب وغيرها من مظاهر «الاضطراب العقلي الجمعي».
ومما يَزيد في تعقيد المشكلة أن الغريزة تبدأ في الظهور قبل أن يستوفيَ الفرد نصيبه من الذكاء ومن تفهُّم النظم الاجتماعية، فظهور الغريزة الجنسية في الطفولة بكامل قوتها يجعلها تَصطدم بالمجتمع الخارجي اصطدامًا مباشرًا، ولا تكون ظروف هذا الاصطدام تحت رقابة متنوِّرة من العقل، ولذلك فإنها تؤدي غالبًا إلى نتائج متطرفة من الإشباع أو القمع، ويؤدي ذلك إلى حلِّ العُقدة في الظاهر، ولكنه يضع أساس الاضطراب العصبي المستقبل للفرد.
فقد وجَد أن الأعراض الراهنة للمرض إما جنسية صريحة أو مُضمَرة، ولكنه إذ تتبَّعها إلى الطفولة وجد أنها تَكشِف عن نوع من الجنسية عند الأطفال لا يُمكن أن يخطئه المدقِّق المحايد في نظرته.
فللغريزة صورها «الطفلية»، وهذه الصور نفسها تلاقي من القمع والمقاومة ما تلاقيه نظيرتها عند الكبار بل أكثر، ونتيجة القمع في حالة الأطفال أَوكَد؛ ولذا كان أثره أعمق وأحدَّ.
فإذا رجعنا إلى التكوين العائلي الذي ينشأ فيه الطفل نجد أن التيارات التي تتجاذبه متعددة مختلفة الاتجاه، بل متناقضة؛ ففي محيطها تجد غرائزه الإشباع والقمع متجاورين متلازمين، وفيها يجد الاقتراب والابتعاد، المحبة والكراهية، الألفة والغيرة، والأسرة هي التي تنقل إليه التقاليد والعرف الاجتماعيين. وفي هذه الفترة من حياته يمر في ظروف لن يكون لها نظير في حياته المستقبلة؛ فهو يصطدم لأول مرة بالحدود والموانع والأوامر والنواهي، كل ذلك وهو خالي الذهن مما وراءها من حكمة، لا تتملكه إلا رغباته وشهواته، فلا تلبَث هذه أن تصطدم بتلك، ولا يلبث أن يشعر بحرارة الاصطدام، فيثور ويغضب ويُدافع ويهاجم، ولكنه لا يلبث أن يدرك أنه يحارب في معركة لم تتكافأ فيها القوى، فينتهي به الأمر إلى التسليم، وهو إذ يسلِّم إنما يسلم هذه الرغبات والشهوات نفسها، فتَختفي وتُخلي الطريق لغيرها مما يتناسب مع المجتمع.
وعهد الطفولة الأولى زاخر بالحوادث النفسية. والجديد الذي أضافته مدرسة التحليل النفسي إلى معلوماتنا هو أن هذه الحوادث تُعتبر جنسية؛ وذلك هو الذي دعا إلى قمعها واستبعادها من الشعور، ونسيانها نسيانًا تامًّا، بل إن النسيان لا يقتصر على الحوادث نفسها، بل على كل ما يُحتمل أن يذكِّر الإنسان بها؛ ولذا كانت هذه الفترة من حياتنا فترة تكاد تكون منسية نسيانًا تامًّا لا يُبرِّره مجرد مضي الزمن؛ لأننا نذكر من الحوادث ما مرت عليه عشرات السنين، ولكن الطفل ذا الثماني السنوات لا يكاد يذكر من ماضيه الذي مر عليه سنتان شيئًا. في الطفولة الأولى إذن توضع أُسس اللاشعور؛ لأنه في الطفولة الأولى يظهر نوع من الجنسية الثائرة المُندفعة.
وهكذا نرى كيف جمعت مدرسة التحليل النفسي بين اللاشعور والجنسية وحياة الطفولة.