التحليل النفسي
- الأول: الطريقة التي اتبعها «فرويد» لعلاج مرضاه، والتي أحلَّها محل التنويم المغناطيسي في الوصول إلى الحوادث المدفونة في أعماق النفس، وقد استخدم «فرويد» هذه التسمية لكي يؤكِّد ناحية «التحليل» من جانب المعالج؛ فهو يبحث ما يقوله المريض و«يُحلِّله» لكي يصل إلى ما يعتبره أساسًا للأعراض العصبية.
- والثاني: مجموع النظريات التي وصل إليها فرويد فيما يتعلَّق بتكوين نفس الإنسان، والتي كان الوصول إليها نتيجةً لاتباع الطريقة السالفة، فما كشفه فرويد من العلل النفسية أثناء عملية التحليل لمختلف المرضى جعله أساسًا لبناء «علم» التحليل النفسي الذي يختلف عن علم النفس التقليدي.
(١) طريقة التحليل النفسي
والمريض لا يصل إلى الحالة المطلوبة من السلاسة والانطلاق إلا بعد جهد جهيد؛ إذ يجد كثيرًا من المقاومة التي يشعر هو بها ويدركها المحلِّل؛ إذ تحول نفسه بينه وبين الانطلاق المطلوب في الأفكار، وكثيرًا ما يُنبِّهه المحلل إلى أنه يعاني هذه المقاومة، ويشجعه على الإفضاء والتغلب على العقبات النفسية التي تحُول دونه، ويظل به يتخطيان معًا هذه العقبات حتى يصلا بعد وقت طويل إلى العناصر الانفعالية القديمة التي تفسِّر الأعراض الحديثة في حياة المريض، وميزة التحليل النفسي على التنويم المغناطيسي أن المريض يتتبع بنفسه كل ما يقوله، بعكس الحال في التنويم المغناطيسي، فيكون من اليسير عليه نسبيًّا أن يدرك المعنى الذي يَكمن وراء الأعراض، وأن يفهمها في ضوء جديد هو ضوء الحوادث الماضية من حياته، فيواجهها مواجهة مبنية على التنور والفهم والمعرفة. كل ذلك والمعالج يأخذ بيده حتى يصل إلى الهدوء والاستقرار اللذَين يُميِّزان الحياة العقلية السليمة.
وتستغرق عملية التحليل عادةً شهورًا عديدة قبل أن يصل المعالج إلى الأسُس البدائية للأعراض الحالية، والجلسات الأولى من التعليل تُستنفَد عادةً في إحكام الاتصال بين المريض والطبيب، وفي تمرُّن المريض على شيء من التحرُّر من العوامل التقليدية في تعبيره، وبالرغم من أن المريض يتحدَّث طوال هذه الجلسات عن أعراضِه وعن نفسه، فإن ما يقوله يكون عادةً قليل الجدوى؛ لأنه لا يخرج عن محاولاتٍ في أغلبها «شعورية» لسرد حوادث أو ذكريات يُخيَّل إليه أنها ذات علاقة بحالته. وكثيرًا ما يأتي المريض وعنده تشخيص «كامل» يَعرضه على الطبيب، وعلى هذا الأخير أن يصرفه شيئًا فشيئًا عن التمسُّك بتشخيصه ويُقنعه أن من واجبه أن يُقلع عن الإيمان بنظريته، وأن يبدأ من جديد وهو خالي الذهن. ويمرُّ وقت طويل قبل أن يبدأ المريض في الإفضاء بما هو ذو قيمة في تشخيص حالته، ويصحب ذلك عادةً مظاهر من المقاومة لا تُخطئها عين المجرِّب، فمِن نَوبات ضيق تنتاب المريض فيُغادر حجرة التحليل مُندفِعًا إلى الخارج، إلى ثوراتٍ على الطبيب، إلى فترات يكاد ذهنه يخلو فيها من كل فكرة، ويكاد لسانه لا ينطق بكلمة، إلى غير ذلك من علامات قد تكون أقل درجة، كالتنهُّد والاضطراب واحمرار الوجه وتهدج الصوت، وهذه كلها علامات لا تخطئ، تدلُّ على وجود مقاومة فعَّالة تحُول بين المريض وبين «الإفضاء»، دلالةً على أن التحليل قد وصل إلى مناطق الحرج في النفس، ولمَس المواضع الحساسة.
والذي يحصل عادةً أن تستمرَّ المقاومة وقتًا يطول أو يقصر، ثم لا يلبَث المريض أن يجد عنده رغبة شديدة ملحَّة في الإفضاء لا يستطيع مُقاومتها، فيحاول الاتصال بطبيبه في التوِّ مهما كان الوقت غير مُناسب فإن لم ينجَح أصابه الضيق ولبثَ على أحر من الجمر في انتظار ساعة المقابلة.
وتَنتاب المريض في أثناء التحليل حالات تَلفت النظر فهو يتراوَح بين التعلُّق الشديد بالمُحلِّل وبين النفور الشديد منه.
والطبيب يعمل من جانبه على إفهام المريض موقفه الجديد، وعلى تدعيم ذاتيته المستقلَّة، فإذا وصل إلى هذا فقد بدأ يسير نحو حياة نفسية هادئة مستقرة.
ويشمل التحليل النفسي، تحليل الأحلام التي يراها المريض في منامه، وخصوصًا تلك التي يراها أثناء فترات العلاج أو التي يتكرَّر ورودُها.
(٢) نظرية التحليل النفسي
هذا عن التحليل النفسي كطريقة، أما نظرية التحليل النفسي فهي مشتقَّة من الصورة التي كوَّنها فرويد وغيره من الباحثين عن النفس كنتيجة لاستخدام هذه الطريقة، وتقوم هذه الصورة على عدة مبادئ سيَرِدُ تفصيلها في الأبواب التالية، ونُجملها في هذا الباب.
فما نسميه «فلتات اللسان»، وما يظهر على الشخص من فزع لرؤية حشرة أو حيوان صغير، وما يَميل إليه أو يكرهه من الألوان أو الأشكال، ونوع الأشخاص الذين ينجذب إليهم أو ينفر منهم، والمواقف التي يرتاح إليها أو يضجر منها … كل هذه يَكُون سلوك الشخص فيها محتَّمًا لا يستطيع أن يحيد عنه؛ فهو محدود من قبل بماضي حياته، وبما مر عليه من حوادث سابقة؛ أي أن تاريخه القديم يحدِّد الصورة التي تَحدث بها استجاباته للمواقف الجديدة.
فإذا تتبَّعنا سلسلة الحوادث المرتبطة بهذه الكيفية فإنها ترجع بنا إلى عهد الطفولة؛ حيث نجد العِلَل الأساسية لاتجاهات السلوك الجديد.
وهذه هي النظرة التي تتَّسق مع استخدام طريقة التحليل النفسي؛ لأنه لولا هذا الارتباط «المادي» بين محتويات العقل القديمة والحديثة لمَا أمكن الوصول إلى العِلَل الأساسية في حالات المرضى بأنواع الاضطراب العصبي.
- الأول: مبدأ الديناميكية أو الفاعلية النفسية؛ فنظرة التحليل النفسي للنفس
نظرة «ديناميكية» وليست بنظرة «استاتيكية»، وبعبارة أخرى، فإنَّ النفس
تشمل «قوى» محركة فعَّالة لا مجرد صور ساكنة، والكُمُون في التحليل
النفسي ليس معناه الخمود؛ فهذه القوى دائمة الضغط والتفاعل، وليس هناك
ظاهرة نفسية إلا وهي نتيجة تغلُّب إحداها على الأخرى، والمغلوبة لا
تُخلي الميدان إلا وهي تبدأ في التمهيد للوصول إلى غايتها بطريقة
ما.
فالصورة العامة للنفس صورة حركة وتدافُع دائمَين لا سكون فيها إطلاقًا، وما قد يظهر من السكون إنما هو صورة سطحية خدَّاعة، يُقصد بها التعمية.
فالنسيان مثلًا ليس مجرَّد سقوط بعض العناصر من «الذاكرة»، وإنما هو محاولة إيجابية من العقل لاستبعاد هذه العناصر وإبقائها «تحت الحفظ» لأسباب تتعلَّق بالسلام والانسجام النفسي العام.
وفلتات اللسان التي نَقولها ونندم عليها ليست مجرَّد كلمات صدرت «عفوًا»، وإنما هي قد دُفِعت دفعًا إلى نُطقنا بواسطة القوى اللاشعورية لنؤدِّيَ غرضًا ترمي إليه هذه القوى.
فهذه الصورة الحرَكية هي صورة العقل في التحليل النفسي، ولعل هذه الحركة الدائمة في العقل، تُقابل الحركة الدائمة في الجسم، كما تظهر في فعل القلب والغُدد والخلايا المختلفة … إلخ.
- والثاني: مبدأ التوازن، فلا تنشأ في النفس قوة أو نزعة إلا وتنشأ معها بالضرورة قوة أو نزعة مضادة، ويكون سلوك الإنسان ناتجًا عن مُحصِّلة النزعتَين، ولعلَّ هذا من أهم المبادئ التي أخرجها لنا التحليل النفسي، ولكي نُدرك هذا المبدأ نأخذ مثالًا يمرُّ بنا جميعًا في حياتنا اليومية؛ فالشخص المتعلِّق بعائلته، الشديد المحبة لأبويه وزوجته وأولاده شخصٌ قد حمَّل نفسه في ذات الوقت أعباءً ومسئوليات نفسية جسيمة، تجعَل منه بدون أن يشعر عدوًّا لأولئك الذين يُحبُّهم؛ ففي هذه المحبة تكاليف تقضي عليه أن يَحرم نفسه من كثير من ملذاته وأغراضه، وينكر ما ترغب فيه مما تسمَح به ظروفه، فضلًا عما يصيبه بالضرورة من هموم وأحزان لِما يصيبهم، فهل ترضى نفسه بهذا الحال أم تثور دونه؟ الواقع أن الإنسان قد يَحتمل ذلك بكل نفس طيبة في الظاهر، ولكنه في الباطن البعيد عن متناول شعوره ثائرٌ على هذه القيود التي قيَّد بها نفسه، وهذه الثورة كثيرًا ما تظهَر في صور متعدِّدة، ومعنى ذلك أن الإنسان حيث يُحبُّ بشعوره فإنه يكره من أعماق اللاشعور؛ لأن محبة الغير كما يَفهمها الشعور تتنافى مع الأنانية المطلقة، وهي مبدأ اللاشعور، وهذه النزعة للتناقُض أو الثنائية٤ عامةٌ في سلوك الإنسان. ومما يَلفت النظر أن الشبه في هذه الحالة كبير أيضًا بين العقل كما يُصوِّره التحليل النفسي وبين الجسم كما يُصوِّره علم وظائف الأعضاء، فالعمليات الحيوية للجسم يحكمها دائمًا مبدآن متضادان يعمل كلٌّ منهما في اتجاه، فعضلات القلب تُغذِّيها أعصاب فاعلة وأخرى معطِّلة، وعمل القلب نتيجة أو محصلة للأثر الناتج عنهما، وكذلك نجد في إفرازات الغدد أمثلة كثيرة للتضادِّ أو التقابل الذي يسمَح بكثير من المرونة في الاستجابة للمواقف المُتفاوتة.
- والثالث: مبدأ التحوُّل؛ فالطاقة النفسية الديناميكية طاقة قابلة للتحول من مجرًى إلى آخر، وفرويد يُطلق على مجموع الدوافع اسم «الطاقة الغريزية»،٥ ويعتبر أن هذه الطاقة تتحوَّل من اتجاه إلى آخر في حياة الإنسان، وهذه القدرة على التحول هي أساس التطور في الحياة النفسية؛ فهي التي تجعل من الممكن أن يمر الطفل من دور «الإشباع الذاتي»؛٦ حيث تلتمس أعضاؤه وحواسه لذَّات هذه الأعضاء والحواس، إلى دور «النرجسية»؛٧ حيث تتركَّز اللذة في ذات الشخص فيُصبح موضع الحبِّ والإعجاب من نفسه إلى دور «المحبة الخارجية»٨ وهكذا، ثم إن هذه القدرة على التحول هي التي تسمح بإبدال الأشخاص أو الأشياء محل بعضهم أو بعضها البعض في توجيه المحبة أو الكراهية، وبذلك فإنها تسمح بحدوث «الإعلاء»؛٩ وهو توجيه الطاقة الغريزية نحو الغايات الاجتماعية من خُلقية وثقافية، وبعبارة أخرى، فإنَّ هذه القابلية للتحوُّل هي أساس الرقيِّ الإنساني، وإن كانت في الوقت نفسه أساس المَتاعب النفسية التي تحلُّ بالأفراد والجماعات؛ لأن تحوُّل الطاقة هو أيضًا أساس ظهور الأعراض المرَضية.