«الحتمية» في التعليل السيكولوجي
قام التحليل النفسي كما قلنا على مبدأ التعليل لكل علَّة، ومعنى هذا أن كل الحوادث النفسية للإنسان مرتبطة ارتباط العلَّة بالمعلول، وأن كل حادث من مبدأ حياة الطفل ذو أثر في سائر حياته، ويَرجع التحليل النفسي بهذا المبدأ إلى الساعات الأولى من حياة الطفل، بل إنَّ حادث الولادة نفسه يُعتبر من هذه الحوادث، ومعنى ذلك أن التحليل يَعتبر أن حياة الجنين داخل الرحم جزء من حياته النفسية، ولكل من هذه الأدوار في حياة الفرد أثره المُحتَّم في شخصيته، ولو تتبَّعْنا نظرية التحليل النفسي لوجدنا أن أهمية هذه «الحوادث» النفسية تزداد كلما اقتربنا من بدء الحياة؛ فحوادث الطفولة والميلاد والحياة داخل الرحم أهمُّ في تشكيل الشخصية من حوادث المُراهَقة أو الشباب أو الكهولة.
- الأولى: أن كل ما يمرُّ بالإنسان من حوادث لا بد أن تَترك أثرًا في إحدى طبقات العقل
الثلاث: الشعور، وتحت الشعور، واللاشعور، أو في أكثر من طبقة. ويُمكننا أن ننظر إلى كل
حادث
نفسي باعتبار أن مركزه في إحدى الطبقات الثلاث، ولكنه يمتد إلى سائر الطبقات فيُحدث أثره
فيها.
التعليل النفسي هنا يقوم على الترابط أيضًا؛ فحيث ترتبط حادثة نفسية معينة بأخرى فإن تكرُّر حدوث إحديهما يؤدِّي إلى إثارة زميلتها.
غير أنَّ التحليل النفسي يَختلف عن ترابط الترابطيِّين في أنه لا يجعل الترابُط بالضرورة بين عناصر في نفس المستوى، بل هو في الغالب بين عناصر لا شعورية وأخرى شعورية، ومن هنا كانت قوة اللاشعور وقدرته على التعبير الفعلي عن طريق ارتباط مكوناته بالشعور، ثم إنَّ التحليل النفسي لم يقتصر كالترابطية على أن يكون مذهبًا تحليليًّا،٤ بل زاد على ذلك أن كان مذهبًا تركيبيًّا،٥ فوصل إلى صورة متكاملة للسلوك الإنساني بدل أن يقتصر على التحليل.وحتمية التحليل تختلف عن حتمية الترابط في أنها مَرِنة، فهي تسمح بأكثر من احتمال واحد من احتمالات السلوك طبقًا لنوع التحول الذي حدث في الطاقة العقلية كنتيجة للحيلة٦ اللاشعورية السائدة، وأقرب المذاهب الحديثة إلى الترابطية هو مذهب السلوكيِّين،٧ بل إنه عند البعض مجرد امتداد لفكرة الترابطية في صورة أخرى، وقد قيل عن التحليل النفسي مثل ذلك القول، غير أن نوع التعليل في التحليل النفسي مبني على قدر من الشمول والمرونة لا نجده في النظريات السيكولوجية الأخرى.وتُبرز هذه النتيجة أهمية «التاريخ الفردي» في التحليل النفسي، وبما أن الحوادث التي تمرُّ بالفرد لا عداد لها، فقد عمد علماء التحليل النفسي إلى بيان الأسس التي تُشتَقُّ منها «الأهمية» النسبية لهذه الحوادث، فحوادث الطفولة أهمُّ مما عَداها، وحوادث الأسرة أهم مما عداها، وهكذا، ولو أنه في الواقع ليس هناك تفضيل قاطع، بل إن الحَكَم هو ملابسات كل حادثة بالذات.
وكما أن «تاريخ» الفرد أصبحت له هذه الأهمية الفائقة، وخصوصًا تاريخه المنسي، فقد امتدت الأهمية إلى تاريخ الجنس كله؛ ذلك أنَّ بعض المعترضين على التحليل النفسي ذكروا أن «عقدة أوديب»٨ لا يُعقل أن تنشأ عند ولد نشأ يتيم الأب، أو لقيط رُبي في ملجأ، وكان ردُّ فرويد على ذلك أن عقدة أوديب وأمثالها من الأسس العميقة للحياة النفسية، إنما تُشتق من تاريخ الجنس كله لا من تاريخ الفرد فقط، ولو أن فرويد لم يتوسع في هذه النظرة توسُّع تلميذه «يونج» الذي فرض وجود ما سمَّاه «اللاشعور الجمعي» وجعله أساسًا دائمًا من أُسس التفسير النفسي بجانب اللاشعور الفردي.وهكذا برزت أهمية فترة الطفولة عند الإنسان كأساس للتعليل النفسي بعد ذلك، وأصبح علينا أن نبحث عن جذور الاضطراب العصبي «العصاب» والجنون «الذهان»٩ في فترة الطفولة، وكذلك أصبح علينا أن نبحث في هذه الفترة عن الأصول التي تُشتق منها كل من الشخصية الشاذَّة والعادية.والواقع أن فترة الطفولة لم تَكتسب قطُّ تلك الأهمية الفائقة التي اكتسبتها نتيجة لكشوف التحليل النفسي؛ فقد أصبح من المسلَّم به أن السنوات الخمس أو الست الأولى في حياة الطفل هي الفترة التي ترجع إليها الصورة النهائية للشخصية أكثر من أي فترة أخرى.
- وأما النتيجة «الثانية»: التي تترتَّب على الأخذ بمبدأ الحتمية، فهي أن كل ما يأتيه
الإنسان من تصرُّف إنما هو مقرَّر من قبل، ومشروط بما سبق أن مر به من تجارب في طفولته
وفي
سائر مراحل حياته، وبمعنًى آخر، فإن في التحليل النفسي نوعًا من «القدرية»، فالفرد ليس
حرًّا كل الحرية في تصرفاته، والفرد في ذلك مثل الجنس، فكلٌّ منهما مقيَّد بقيود ماضيه،
ومعنى هذا أن الفرد ليس مقيدًا بقيود ماضيه الخاص فقط، بل ماضي الجنس البشري كله، وبالضرورة
فإنَّ الجنس مقيد بقيود ماضي أفراده، ولعلَّ هذا الرأي يتفق مع ما نراه كل يوم من فشل
المصلحين في مختلف عصور التاريخ في خلق صورة إنسانية «منطقية» أو «مفيدة»، وما نراه من
فشل
الأفراد في تكييف أنفسهم في صورة جديدة.
ولعلَّ هذه النظرة إذا تابعناها قادتنا إلى التشاؤم المطلق، والواقع أن هناك مبررًا لكثير من التشاؤم، ولكن هناك من الناحية الأخرى مكانًا لقدر من التفاؤل؛ فقدرية التحليل النفسي قدرية علمية، وليست قدرية مثالية، وهي كقدرية العلم الطبيعي؛ إذ يصف لنا الحالة التي تكون عليها قطعة الحديد إذا رُفعت درجة حرارتها إلى درجة معينة، فهي قدرية تَستجمِع مصيرها من الظروف التي مرَّت بها، ومن المواقف التي تجدُّ عليها، وكما أن في مقدورنا إذا توصلنا إلى علة التمدُّد أو الانصهار لقطعة الحديد وإلى التحكُّم في هذه العلة إلى أن نغيِّر من الحالة التي تُصبح فيها، كما نغيِّر من ضغط الغاز بتغيير حجمه وبالعكس، فكذلك في مقدورنا وقد عرفنا القوى الأساسية التي تعمل في نفس الإنسان، في مقدورنا أن نرى الطريق إلى تخليصه من «مساوئه»، وإلى الاتجاه به في الطريق القويم، غير أن هذا «الطريق القويم» هو لسوء الحظ عقدة العُقَد؛ لأن التحليل النفسي لا يستطيع أن يختاره لنا، وإنما قد يستطيع أن يدلَّنا على السبب في اختيار شخص بذاته «لطريق قويم» بذاته.
والتحليل النفسي يُعالج الأفراد، والعلاج معناه في الواقع إعادة النسيج النفسي إلى صورة سوية بعد أن كان مملوءًا بالعُقد، أو بعبارة أخرى هو نوع من التدخُّل في تاريخ الشخص، فنحن إذ نُخضعه لموقف التحليل إنما نُعيده إلى حالة الطفولة الأولى، ونبدأ في أن نحلَّ العُقد التي تكونت في ذلك العهد السحيق، وبهذا المعنى فنحن نغيِّر «تاريخه»، وبذلك نؤثر في مصيره.
وكما أن التحليل النفسي يعالج الأفراد فهو أيضًا قادر على علاج الجماعات لو أتيح له ذلك، ولعلَّ اليوم يأتي حين يدلُّنا على العلل الأساسية في المجتمعات، تلك العلل التي تؤدي إلى انقسام المجتمع الواحد على نفسه وعلى نظيره، وتضع القوى الاجتماعية المختلفة بالنسبة لبعضها في موضع التطاحُن والتناحر الذي هو أساس الشقاء الذي يعانيه الجنس البشري.
والشبه عجيب بين المجتمع المنقسم والشخص «المنقسم» الذي تتناحَر قواه الداخلية فيضيع ما عنده من طاقة أو جهد في هذا العراك الداخلي الذي لا يحقِّق غايةً للكائن الحي بدلَ أن تتَّجه نحو العالم الخارجي ليُحقِّق له غايةً واقعية.
ويُمكن أن نلمس في المجتمعات صورًا تُشبه تلك الصور العصابية والذهانية التي نلمَسها في الأفراد، ولعلَّ هذا هو المفتاح الذي قد يفتح لنا في المستقبل الباب إلى الشفاء النفسي الجماعي كما فتح لنا الباب إلى الشفاء النفسي الفردي.