الصراع١ والكبت٢
سبَق أن ذكرنا أن فرويد توصَّل إلى أن أعراض المرض النفسي على اختلافه ترجع إلى حوادث منسية، هي الأصل في إحداث هذه الأعراض، وهي تتدخَّل في تحديد الصورة التي تحدُث بها، وقد وجد في مبدأ عمله حوادث ترجع إلى ماضٍ غير بعيد، وتتصل اتصالًا مباشرًا بأعراض المرض، وقد عالج فرويد في مبدأ الأمر كثيرًا من الحالات على أساس أن في استعادة ذاكرة المريض لهذه الحوادث «المنسية» أساس الشفاء، ولكنه لاحظ أن كثيرًا من الحالات أصابتْها النكسة بالرغم من التحسُّن المبدئي الذي حصل عليه.
وقد لاحظ أن كثيرين من المرضى في هذه الحالات وغيرها يستعيدون حوادث واقعية أو أوهامًا ترجع إلى طفولتهم، وسرعان ما فطن فرويد إلى الصلة بين هذه وبين ما أصابهم من مرض، وخرج من ذلك بأن من الضروري لكي يصل إلى شفاء المريض شفاءً كاملًا أن يستمر التحليل حتى يبلغ طبقات العقل العميقة التي تكونت في أثناء الطفولة المبكرة، وأن كل محاولة لا تصل إلى هذا العمق لا تنجح إلا نجاحًا وقتيًّا.
فإذا أردنا أن نرسم صورة مفهومة للعقل فعلينا أن نرجع إلى الطفولة الأولى لكي نبدأ مع الطفل، ونرى كيف ينظر إلى العالم، وكيف ينظر إليه العالم، وكيف تَنتج من هاتين النظريتَين المتقابلتَين صورة العقل كما نعرفه.
والطفل إذ يُولد إنما يكون كائنًا حيًّا بسيطًا غاية البساطة من الوجهة النفسية؛ فهو من ناحية الإحساس والإدراك وغيرهما من جوانب المعرفة في بدء السُّلَّم، فمعرفته بالعالم تكاد تكون مقصورة على بعض إحساسات أو إدراكات غامضة.
وإن الصورة النفسية للطفل تكاد تكون في هذا الدور صورة نزوعية خالصة؛ فهو ينزع نزوعًا غامضًا إلى استكمال حالة لا يدركها تمامًا من الاستكفاء، ولكنه يبدأ في إدراك نفسه وإدراك كيانه عن طريق هذا النزوع، ذلك أن الطفل قبل ولادته يعيش في وسط متجانس منسجم يحصل باعتباره كائنًا حيًّا على كل حاجاته من غذاء وهواء بانتظام، عن طريق الدورة الدموية «للأم»، فهو مستكفٍ حكمًا لا شعورًا، وهو في ذلك كالعضو من الجسم ليس له كيان مستقل عن كيان الأم، ولكنه لا يلبث أن يخرج إلى العالم حتى «يجد» أن عليه أن يقوم بنفسه بالوظائف الأساسية فينزع إلى العودة إلى حالة الاستقرار التي كان فيها، فهو ككائن حي «يطلب» أو يحتاج إلى الهواء والغذاء والدفء … إلى غير ذلك من المطالب.
وهو لا يحتاج لأن يتعلَّم أو يتمرن في هذا الصدد؛ لأن النزعات ليست إلا نزعات «غريزية»؛ أي: أن تكوينه بطبيعته يجعله يرمي إليها، فهناك نوع من «الدافع» الداخلي يَلتمس الوصول إلى حالة الاستقرار التي ذكرنا؛ أي إلى نوع من الإشباع، وكلما قرب من هذه الحالة كلما تبلوَرت عنده بالتدريج حالة الارتياح أو «اللذة»، وكلما بَعُد عنها كلما تبلورت عنده بالتدريج حالة عدم الارتياح أو «الألم».
وهو يحصل على المقوِّمات التي تؤدِّي إلى ارتياحه أو عدمه من البيئة؛ ولذلك فلا تلبث البيئة — مع اتساع إدراكه — أن تَنقسم إلى مصادر للذة وأخرى للألم، أو أن يُصبح المصدر الواحد مصدر لذة حينًا وألم حينًا آخر.
ونحن نُسمِّي مجموع هذه الدوافع التي ترمي إلى الوصول إلى الإشباع، نُسمي مجموعها بالنزعات الغريزية أو الدوافع الغريزية، أو الغريزة فقط.
وهذا المنبع هو الذي نستمدُّ منه الطاقة التي تجعلنا قادرين على حب أبوينا في الصغر كما أننا نستمدُّ منه الحب الجنسي الصحيح بعد البلوغ. فكأنَّ المقدرة على كل أنواع المحبة والصداقة والحنان … إلخ، واحدة ترجع إلى أصل واحد، ويصحُّ أن تتحول من حالة إلى حالة أخرى، وبعبارة أعم: فإن نزعة الإنسان إلى الرغبة أو إلى الإقبال في مختلَف أشكالهما، وإلى العزوف والإدبار في جميع صورهما، سواء في الناحية الحسية أو المعنوية، إنما تُستمد من طاقة غريزية واحدة قابلة للتحول في أهدافها وفي وسائلها. فالإنسان يَرمي إلى اللذة في مختلف أدوار حياته؛ يرمي إلى اللذة وهو طفل رضيع، ويرمي إلى اللذة بعد أن يُكمل نموَّه وفي عهد الكهولة والشيخوخة، ولكن اللذة تَختلف، فمنها الحسيُّ ومنها المعنويُّ. وكل لذة يصل إليها الإنسان تُعتبر في نظر فرويد إشباعًا للدافع الغريزي الأساسي، وكل ألم يلحق به ينصبُّ على هذا الدافع، واللذة الجنسية بمعناها المعروف إحدى هذه اللذات التي يَرمي إليها الفرد، وهي في نظر مُعظم علماء النفس من أهمها، ولكنها في نظر فرويد جماع ما يرمي إليه الفرد، فالحياة عنده تبدأ بمجموعة من الرغبات الحسية التي تَرمي إلى الإشباع الحسي، وهذه الرغبات راجعة إلى دافع أساسي هو الدافع الغريزي، وكلما تقدَّم الإنسان في العمر كلما طرأ التحول على هذا الدافع، فاتجه جزء من قوته أو «طاقته» إلى نواحٍ فكرية أو معنوية أو خُلقية أو غيرها، ولكن يتبقَّى منه دائمًا جانب يرمي إلى اللذة الحسية ويتطوَّر هدفه في داخل حدودها حتى يصل في النهاية عند سنِّ البلوغ إلى الهدف التناسلي الحقيقي.
فكأنَّ حياة الإنسان ترمي أولًا وقبل كل شيء إلى حفظ النوع، فطاقته الغريزية موجهة إلى هذا الهدف أولًا، ولكن هذه الطاقة قابلة للتحوُّل الجزئي إلى أهداف أخرى مادية أو معنوية إذا وَجدت الظروف التي تسمَح بهذا التحول وهي موجودة دائمًا. وعلى ذلك فمن الطبيعي أن يسمِّي فرويد هذه الطاقة التي يستخدمها الإنسان في كلِّ نواحي نشاطه العقلي بالغريزة الجنسية؛ لأنَّ التناسل هو هدفها الأخير بعد مرورها في أطوارها المختلفة. فكأن نشاط الإنسان باعتباره كائنًا حيًّا موجه أساسًا إلى التناسل الذي هو السبيل إلى حفظ نوعه، وكل نشاط آخر هو إما تمهيد لهذه الغاية أو اشتقاق منها.
(١) الطفل والأم
ومركز الأم في عالم الطفل مركز فريد؛ لأنَّ عالمَه يكاد يقتصر في مبدأ الأمر عليها، فهي مصدر الإشباع والراحة والطمأنينة حين يجدها الطفل، وهي في الوقت نفسه مصدر الحرمان والقلق والحيرة حين يجد الطفل نفسه محرومًا أو قَلِقًا أو حيران.
ولذلك تكون عواطف الطفل نحو أمه «مجزَّأة» من وقت مبكِّر جدًّا، وهي تبقى على هذا التجزُّؤ بعض الوقت، ولكن لا تلبث أن تصبح عاطفة الطفل نحو الأم عاطفةَ حبٍّ جارفٍ قويٍّ، حبٍّ أناني شديد الأنانية، لا يعترف «بشريك» ما، سواء كان الشريك كبيرًا مثل «الأب» أو صغيرًا كأحد الإخوة، هو حب يَرمي إلى الاستئثار الكامل، ويناله الغضب واليأس والحزن إذا لم يصل إليه. هو إذن حب يرمي إلى التملُّك، ويغار ويعادي المنافس، وبعبارة أخرى تتجلى فيه كل صفات الحب الناضج الجارف في أقوى صوره، ومن يراقب الأطفال ويرى حرارة العاطفة وشدتها عندهم يجد أن أي صورة للعشق فيما يلي من العمر لا يُمكن أن تداني هذه الصورة عند الطفل الرضيع.
و«فرويد» يربط بين عشق البالغ وعشق الرضيع، ويُرجعهما إلى أصل نفسي واحد، وإلى نزعة مُفرَدة، هي النزعة الجنسية. ولعلَّه لو أطلق عليها اسم نزعة حب الأم لجعَلها أكثر قبولًا لدى الكثيرين من مُعارِضيه.
وتتطوَّر هذه النزعة الجنسية تطوُّرًا سنذكره فيما بعد خلال السنوات الخمس أو الست الأولى من حياة الطفل، وتتَّسع لتشمل أفرادًا آخرين، ولكنَّ طبيعتها تبقى هي هي من حيث الإلحاح والرغبة في الوصول إلى الإشباع.
والأم تمثِّل البيئة التي يُولد فيها الطفل؛ فهي التي تُعطي وهي التي تحرم، وهي تُعدُّ الطفل لبيئة اجتماعية لها نظُمٌ وقوانين خاصة، وتطلب منه أن يخضع لها من أول يوم في حياته. تفرض عليه أو تطلب منه مستوى من السلوك لا يستطيع أن يفهمه، وتطلُب منه أحيانًا أن يماشي أحوالًا اجتماعية سلخ المجتمع نفسه من حياته آلاف السنين لكي يستطيع أن يتعوَّد عليها.
وليس عند الطفل سبب أو شِبْه سبب يمنعه من أن يأكل متى شاء، ويصيح متى شاء، ويُفرغ أمعاءه مما فيها حيث شاء وفي أي وقت أراد، أو أن يمصَّ إصبعَه، أو ينام أو يستيقظ، أو يدمر هذا أو ذاك من الأشياء التي تقع تحت يده، ومع ذلك فهو خاضع لنظام خاص، ومُرغَم على اتباع هذا النظام ضد إرادته، وعلى خلاف رغبته، وبلا سبب يَستطيع أن يفهمه.
وهذا أول صراع ينشأ بين الطفل وبيئته، ويجاهد الطفل ويجالد في التغلُّب على إملاء البيئة فلا يستطيع، ويجد أن ذلك الذي يُملي عليه شخص محبوب هو الأم التي يحبُّها ويرغب في إرضائها، فينتج من ذلك موقف غريب يواجهه الطفل؛ وهو الرغبة في إرضاء الأم، والرغبة في إرضاء النزعات الداخلية.
وهكذا ينتقل ميدان الصراع، فلا يبقى صراعًا بين الطفل والبيئة الخارجية بل يُصبح صراعًا بين رغبتين مُتنازعتَين في داخل نفسه.
وتتضارَب الرغبتان في نفس الطفل كلما جدَّ موقفٌ يدعو إلى ذلك، ولكن العقل لا يحتمل الصراع الظاهر طويلًا، فإن الصراع معناه انقسام العقل على نفسه، معناه نشوب نوع من «الحرب الأهلية» داخل النفس، وفي ذلك الخطر كل الخطر على كيان الشخص؛ ولذلك فلا يَلبث الصراع أن ينتهي بحلٍّ، وتكون نتيجة الحل أن تتغلَّب إحدى النزعتَين المتضادتين على الأخرى، فتختفي المغلوبة من الميدان وتُخليه لغريمتها، ولكن هل الرغبة التي اختفَت من الميدان قد انتهت وتلاشت كليةً من الوجود؟ كلا فإنها إذ تَختفي إنما تكمُن فقط، فهي تبعُد من الشعور وتَنحدر إلى اللاشعور، فتصبح منسية، ولكنها تبقى مستعدة للظهور وانتهاز الفرص لتصل إلى نوع من التحقيق أو التعبير، وهكذا ينتهي الأمر كما تَنتهي كل حرب أهلية بانتصار الفريق القويِّ وهزيمة الفريق الضعيف، فتظهر الأمة بصورة واحدة، ويَختفي الفريق المغلوب من الحياة الظاهرة للأمة، ولكنه يَعمد إلى شتى الوسائل ليُحارب خصمه ويُسبِّب له المضايقات، فيعمل في الظلام على تدبير المؤامرات وانتهاز الفرص للإيقاع بغريمه.
وعلى ذلك فالصِّراع بين نزعتين ينتهي دائمًا بكبت إحدى النزعتين، والمكبوت ينمحي من الذاكرة ولا يُصبِح جزءًا من شعور الشخص.
والنزعات اللاشعورية المَكبوتة التي تظلُّ كامنة أو مختفية في اللاشعور، تتحيَّن الفرص المناسبة للتعبير عن نفسها تعبيرًا يكون عادةً ملتويًا أو غير مباشر، فتبدو متخفية أو مقنَّعة في صور أخرى بدل أن تبدو صريحة سافرة، وسنرى سبب ذلك فيما يلي.
ولكن كما في حالة هذه الصحف والمطبوعات تُحاول الرغبات والنزعات المعارضة أن تَحتال على الرقيب فتظهر مُتخفيةً في صور رمزية، بدل أن تظهر بصورها الحقيقية، وكثيرًا ما تخفى على الرقيب وتنال بُغيتها من التعبير عن نفسها.
كما أنها قد تصل إلى التعبير إذا أصاب الرقيب ضعفٌ أو وهن أو كان في غفلة، كما في حالة النوم — فالأحلام تعبيرٌ رمزي عن النزعات المكبوتة — أو التنويم المغناطيسي، أو تحت التخدير، أو المسكر، أو التعب الشديد، أو التحليل النفسي، وتظهر أيضًا في فلتات اللسان وما إليها.