الباب التاسع
طبيعة العقل
والآن فلنُحاول أن نرسم صورة للعقل كما يراه أصحاب التحليل النفسي.
العقل ينقسم إلى جانب شعوري وجانب لا شعوري، أو كما نُسمِّيهما باختصار الشعور
واللاشعور.
والجانب الشعوري هو الجانب الذي نَشعُر به، هو ذاتنا التي نتكلَّم عنها عندما يقول
أحدنا
«أنا» أريد وأنا أعمل وأنا أفكر، أو هو ما يسمَّى اصطلاحًا بالأنا.
١ وأما الجانب اللاشعوري فهو يشمل مبدئيًّا النزعات الغريزية التي هي في محاولة
دائمة للتعبير والوصول إلى الشعور كما ذكرنا؛ فالعقل إذن ينقسم إلى الذات وإلى النزعات
الغريزية، والأولى شعورية في مجموعها والثانية لا شعورية، وقد قلنا أن الذات أو «الأنا»
شعورية في مجموعها ولم نقل أنها شعورية إطلاقًا؛ لأنها في الواقع تحتوي على جزء لا شعوري،
هو الجزء الذي يقوم بالكبت، فالكبت عملية لا شعورية يقوم بها الجانب اللاشعوري من «الأنا»
وهو الرقيب.
والصورة الأولية للعقل هي صورة النزعات الغريزية التي يتكوَّن مجموعها من الطاقة
الغريزية
الأصلية، والتي يطلق على مجموعها اسم «الهي»،
٢ وتنشأ «الأنا» من «الهِيَ» عن طريق الاصطدام بين هذه الأخيرة وبين العالم
الخارجي، ثم تعمل «الأنا» على كبتِ ما تبقَّى من «الهي» فيُصبح لا شعوريًّا، وهذا هو
منشأ
«اللاشعور»، وتُصبح «الأنا» هي وحدها المتصلة بالعالم الخارجي كما يبدو عن طريق الحواس
والإدراك؛ وعلى ذلك فإنها تَصير الواسطة التي يكيِّف بها الإنسان نزعاته طبقًا لهذا
الاتصال.
والمبدأ الذي يسود «الهي» هو مبدأ اللذة،
٣ فهي ترمي إلى الإشباع واللذة، وبما أنه لا اتصال بينها وبين العالم الخارجي أو
المجتمع، فإن جريها وراء اللذة مطلق لا يقيده قيد ما. أما الذات فتحاول أن تحِلَّ محلَّ
هذا
المبدأ، مبدأ «الواقعية»؛
٤ أي مبدأ الاعتراف بالعالم الخارجي «الواقعي» ومراعاته، وقصر تحقيق اللذة على ما
لا يتعارَض مع هذا العالم.
فإدراك الواقع في العالم الخارجي هو الذي يميِّز الأنا، بينما الرغبة وطلب اللذة وحدها
هي
التي تحرِّك الهي.
ويُمكن أن يقال: إن الذات تمثِّل ما نُسميه عادةً العقل أو الحكمة، بينما النزعات
تمثِّل
ما نسمِّيه الشهوة، غير أن «الأنا» ليست لها قوة دافعة ذاتية، وإنما تستمدُّ قوتها من
«الهي»، وهي في الوقت نفسه تحاول توجيهها كما يوجه الراكب فرسه، فيُمسك بأعنَّته ويُوجِّهه،
ويستخدم قوته ويكبح جماحه إذا ثار، ولكن هناك فرقًا بين الحالتين، فالراكب يستخدم قوته
الذاتية في توجيه الفرس، أما «الأنا» فتشتق قوتها من «الهي»، كما أن نزوات الفرس شيء
خارجي
بالنسبة للفارس لا يحسُّ إلا بآثارها، أما نزعات «الهي» فهي تبدو «للأنا» كأنها نزعاتها
الخاصة، وبذلك يكون الإنسان كما لو كانت «أناه» تكبَح جماح شهواتها الخاصة، ولكن الشهوات
في
الواقع مشتقة من «الهي».
٥
و«الأنا» تخشى على نفسها كما يخشى الراكب نزوات «الهي»؛ لأن هذه النزوات قد تُعرِّضها
لأخطار لا حصر لها تأتي من المجتمع الذي يقف لها بالمرصاد.
ويتَّضح ذلك إذا عرفنا أن المجتمع لا يَقبل تحقيق شهوات الإنسان على إطلاقها، وأنه
قد
حصَّن نفسه ضد إطلاقها بالقوانين والتقاليد والعادات والعُرف والذوق … إلى آخر هذه
المفهومات، وأن النزعات ترمي إلى ما هو ضدَّ هذه القيود، والأنا تخشى انتقام المجتمع
فتَكبت
من نزعات الهي ما يتعارض معه، ولا تسمح إلا بما تَشعر أن المجتمع مستعدٌّ للسماح به.
ولكن
هذا ليس كل شيء في تقسيم العقل؛ لأنَّ هناك جانبًا آخر منه على أعظم درجة من الأهمية،
هذا
الجانب هو جانب لا شعوري أيضًا يسمَّى «الأنا العليا» أو «الضمير اللاشعوري»،
٦ فاحتكاك الأنا بالبيئة أو عالم الحقيقة والواقع يؤدِّي إلى أن ينفرد منه
بالتدريج جزء يُعتبر في الواقع ثورةً على الذات؛ إذ إن الذات باحتكاكها بالعالم الخارجي
أو
الحياة الواقعية تكتسب وجهة نظر عملية، وتترفَّق أحيانًا في معاملة النزعات والرغبات
المكبوتة، فهي كالحكومة الضعيفة كثيرًا ما يكون ضعفها سببًا في ظهور حزب متطرِّف لا يرضى
إلا باتخاذ الوسائل القاسية لمعالجة ما يظهر من المخالفات، كذلك حالة العقل، فإنَّ جانبًا
من «الأنا» يَنفرد ويُصبح لا شعوريًّا، وهذا الجانب يَنتزع من الحياة الواقعية قوانينها
وتقاليدها، ويُحوِّلها إلى مُثُل عليا يطالب «الأنا» بتحقيقها، وهو يطبِّق هذه القوانين
والتقاليد تطبيقًا هو في منتهى الصرامة والقسوة، ولا يعرف التساهل، فيطلب العقوبة على
مجرد
النية، كما يطلبها على العمل، وهو دائم الضغط على «الأنا» مطالبًا إياها بأن تكون صارمةً
في
معاملة «الهي».
ويُفهم مما سبق أن «الأنا» العليا لا تعمل بنفسها، وإنما تعمل عن طريق «الأنا»، وتتكون
«الأنا العليا» من الأنا عن طريق الأثر الذي تتركه علاقة الأبوين بالطفل في «أناه»، «والأنا
العليا» تُمثِّل أهم ما وصل إليه الفرد والنوع الإنساني من ناحية الحضارة والخُلق، وهي
تحلُّ محل الأبوين في توجيه «الأنا» توجيهًا دائمًا، فهي بديل داخلي من الأبوين يمتاز
عنهما
بأنه دائم، وبأنه لا يعرف التساهل، ويعمل دائمًا ضد النزعات، ولا يرضى عادةً عن أي تساهل
تبديه «الأنا» نحو هذه النزعات.
وعند نشوء «الأنا العليا» يصبح واجب «الأنا» مزدوجًا؛ فهي لا تقتصر في سماحها أو عدم
سماحها للنزعات بالتعبير على مراعاة العالم الخارجي، بل يصير عليها أن تراعي معارضة «الأنا
العليا» كذلك؛ وعلى ذلك تتضاعف القيود على النزعات، قيود مُشتقة من العالم الخارجي وأخرى
أشد وأعنف مشتقة من «الأنا العليا».
ومن الغريب أنَّ التنازُل عن الرغبات تحت ضغط العوامل الخارجية يكون دائمًا مقترنًا
بالألم والشعور بالحرمان، أما التنازُل عنها تحت ضغط الأنا العليا فيكون له أثر آخر،
فالألم
الناتج عنه يَقترن به شعور باللذة والانتصار
٧ شعور بالفخر الذي يقترن بإتيان العظيم من الأعمال. وليس ذلك غريبًا لأنَّ
«الأنا» هي بديل الأبوين، وكما نشعر بالسرور والفخر إذا
تغلَّبنا على نزعاتنا لإرضاء الأبوَين، فنحن نشعُر بنفس الشعور إذا فعلنا ذلك إرضاءً
للأنا
العليا، فالأنا ترمي في الطفولة إلى الحصول على محبة الأبوَين، وتشعُر باللذة لذلك بصرف
النظر عما قد يكون هناك من الألم الناتج عن قمْع النزعات، وهي كذلك تشعُر برضاء الأنا
العليا شعورًا مصحوبًا بالراحة والرضاء، أما إذا أغضبتْها فإنها تشعر بغضبها شعورًا يُترجَم
إلى ما نسميه «تأنيب الضمير»، وعندما تتغلَّب «الأنا» على «الهي» تنتظر أن تنال جزاءها
من
«الأنا» العليا فتفوز بنصيب أوفى من المحبة، وهذا هو الذي يُشعر «الأنا» بالفخر.
وكثيرًا ما نُسب إلى التحليل النفسي أنه قد أغفل القيم العليا الخُلقية والروحية،
والصحيح
أن التحليل النفسي قد نسب عملية الكبت إلى النزعات الخُلقية «للأنا»، ثمَّ إنه قد بيَّن
أهمية الأثر الخُلقي للأبوين في نشوء وازع خُلقي دائم في نفس الإنسان وهو «الأنا»
العليا.
وينسب فرويد نشوء هذه الصفات في «الأنا» العليا إلى صلتها بتطور الإنسان في مختلَف
العصور، فتتجمع فيها مؤثرات الحضارة والرقيِّ على مر العصور، وهذا هو ما يجعل لها القدرة
على أن تحيل النزعات إلى أسمى وأعلى ما في الإنسان.
ولهذا قال فرويد: «إن الإنسان أحطُّ بكثير من الوجهة الأخلاقية مما يتصور (بالنسبة
لنزعاته الغريزية)، وهو في الوقت نفسه أرقى بكثير مما يتصور (بالنسبة لذاته العليا
ومبادئها).»
وهكذا نرى أن العقل يحوي هذه الجوانب الثلاثة: الهي، والأنا، والأنا العليا. أما الهي
والأنا العليا فلا شعورية، وأما الأنا فأغلبها شعوري. وعلى الأنا أن تسلك طريقها بين
مطالب
البيئة أو الحياة الواقعية وبين مطالب «الهي»، فإذا عالجت الأمر علاجًا وسطًا فهي معرَّضة
لمحاسبة الثالث وهو «الأنا العليا».
والحياة العقلية السليمة هي التي تسير في توازُن حكيم بين هذه المطالب والقوى المتعارضة،
أما إذا تغلَّبَت إحدى هذه القوى بشكل واضح على الأخرى، فإن سلوك الشخص يُصبح متطرفًا
في
إرضاء هذه أو تلك، أو متأرجحًا بين هذه وتلك، أو قلقًا أشد القلق خوفًا من تغلُّب هذه
أو
تلك عليه.
والقلق
٨ وما يَصحبه من خوف وغيره من مظاهر الصراع النفسي، والاضطراب النفسي أو «العصاب»
٩ هو مظهَر للفشل في إيجاد التوازن بين هذه القوى؛ فالشخص المصاب بالاضطراب شخص
قد فشَلت ذاته في إيجاد هذا التوازُن فأصبحت حياته كَدِرة تَعِسة، وأصبح قلقًا غير مرتاح
إلى حالته، ولكنه متيقِّظ لها أشد التيقُّظ، يحاول أن يوجِد التوازن الذي فقده بمختلف
الوسائل.
وقد يبلغ اختلال التوازن درجةً خطيرة، فيفلت القياد كليةً من الأنا، ويُصبح الشخص
غير
عالِم بما في حالته من شذوذ، وهذا ما يُسمى بالجنون أو الاضطراب العقلي أو «الذُّهان».
١٠ والفرق الأساسي بين الاضطراب النفسي أو العصاب والاضطراب العقلي أو الجنون، هو
أن الشخص في الأول عارفٌ بحالته وساعٍ في إصلاحها بنفسه أو عن طريق العلاج، وقادر على
الحكم
على تصرُّفاته ومعرفة الخطأ والصواب فيها، أما في الثاني فهو لا يرى في نفسه شذوذًا؛
إذ
يفقد القدرة على نقد تصرُّفاته والحكم عليها.