القسم الأول
سِيَر وملاحم الأنساب القبائلية
ما من سيرة أو ملحمة عربية إلا وتُولِي اهتمامَها الرئيسي للبنية القرابية القبائلية التي تؤرخ لأبطالها، بل إن أبسط تعريف للسيرة يتمحور عادة في كونها سيرة أنساب أو عائلة حاكمة أو متسيدة، يُراد لها الحفظ والاتصال.
إنها بمثابة التراجم التاريخية لشخوصها عالية الهامة، من ملوك أو تباعنة وأمراء وشيوخ قبائل، عبر حروبها ومنازعات بلاطها وهجراتها وأنماط زواجها وميراثها وتوارثها.
يتضح سلسال أو نسق القرابة خاصة في سيرنا وملاحمنا، مثل ملحمة حسان اليماني أو الزير سالم، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية.
فالقبيلة حين تتحرك للحرب والمنازلة، تتحرك حافظة بكل دقة لنسيجها القرابي، كفرع من الشعب، الذي هو بالتالي قبيلةٌ سالفة، مثل عدنان سكان شمال الجزيرة، وقحطان سكان اليمن والجنوب، حين تحالفهما وهجرتهما من الجزيرة، بحثًا عن الزرع والضرع، إلى الشام ومصر والشمال الأفريقي في القرن الخامس الهجري، وهو ما أَرَّخَتْ له سيرة الهلالية.
فالقبيلة فرعٌ من الشعب المتحالف — عدنان وقحطان — مثل قبائل ربيعة ومضر وعدنان، ومن القبيلة تنحدر العمارة أو البدنة.
والبدنة كما يعرفها الأستاذ إيفانز برتشاد، وفورشن: وحدة دائمة تظل موجودة على مر الأجيال؛ نتيجة لانضمام أفراد جُدد إليها، أو تركهم لها بالموت أو أي سبب آخر … فالبدنة جماعة ترد انتسابها إلى جد واحد في خط واحد، ومنها يستمد الشخص مركزه السياسي والقانوني.
فيُلاحظ، أن نظام القرابة يهتمُّ بدراسة العلاقات بين الجماعات القرابية كالبدنات وفروعها والعائلات الكبيرة من حيث هي جماعاتٌ، بغَضِّ النظر عن القرابة الفعلية بين الأفراد.
وعلى سبيل المثال، فإن قريشًا وكنانة ما هما إلا بدنتين من مضر، ومن العمارة أو البدنة تجيء البطن، مثل بني عبد مناف من قريش، ومن البطن يجيء الفخذ، ومن الفخذ تجيء القبيلة، مثل بني العباس من هاشم أو الهاشميين.
وإذا ما عدنا إلى الاستشهاد ببعض النماذج القرابية للهلالية؛ نجد أن العصب القبائلي الأم الممثل في صراعَي عدنان وقحطان داخل التحالف ينعكس على المستعميين الذين قد يتحمس العدنانيون منهم لخوارق أبي زيد الهلالي، والقحطانيون منهم لجد الزناتي خليفة وابنته سعدى وابنه العلام.
بل إن السيرة تحفظ لقاتل الزناتي خليفة وهو قحطاني سلف بدوره، لهجرة يمنية سالفة — تابو — أن قاتله لا بد وأن يكون قحطانيًّا مثله.
لذا كان قاتله هو دياب بن غانم وهو القحطاني الذي لقبه الشعب المصري — نظرًا لغدره وعصبيته — ﺑ «الزغبي»، ومنه تواتر مَثَل «هو انت زغبي» كما يقول د. عبد الحميد يونس.
كذلك يتضح في السيرة تقديس الخال عند تلك القبائل العربية القمرية — الهلالية — مثل تقديس الشبان الثلاثة مرعي ويحيى ويونس لخالهم (أبا زيد)، ومثل تعرف كل من سعدى ومي إلى خالتهم — الجدة — شوه، التي قد تكون طوطمًا أو مزارًا سالفًا، مثلها مثل الجازية، التي أتصور أنها كانت بمثابة إلهة قمرية، أو طوطم لمجموع القبائل المهاجرة المتحالفة.
كذلك يتضح مدى تقديس الخال المتواتر إلى اليوم، الشائع بكثرة في الحواديت والشعر الشعبي مثل:
وكذا مَسَبَّة مَن لا خال له.
فمع استمرارية أبنية أو أنساق المجتمع تظل تلك الظواهر والموروثات تُواصِل توالُدها الذاتي، بنفس ما يحدث في الأساطير والملاحِم والحكايات والأمثال، بل النكات والأسماء والأحاجي، أو الخدور والأدعية.
وجميع هذه الأبنية التي كانت المدرسة الأنثروبولوجية بريادة تيلور وتلميذه أندرولانج أول من أشار إليهما، بالنسبة لدراسة الفولكلور.
من هنا يمكن القول بإسهام جيل الفولكلوريين الأنثروبولوجيين بالمساهمة في المنهج البنائي، الذي غرضُه النهائيُّ إلغاءُ الحواجز التقليدية بين مختلف النظم والعلوم، وتكوين منهج يعتمد كل العلوم والدراسات، بل إن للباحث البنائي الحق في التعرف إلى مستويات الحقيقة أو الظاهرة التي لها قيمة إستراتيجية — من وجهة نظره — ويعزلها.
فمهمة الباحث الفولكلوري لا تقف عند مجرد جمع النصوص والكشف عن مصادرها وأصولها، بل إن مهامه تسجيل ما يُحيط بها من ظواهر وأبنية مختلفة من اقتصادية، وقرابية، ومهنية، بالإضافة إلى ما تعكسه هذه الأبنية في مجموعها من شعائر وسلوك، قد تبدو لغير البنائيين غير ذات أهمية، من ذلك مثلًا تربية الأطفال وتنشئتهم وكيفية التعامل مع المرأة، والمراهقين، والشيوخ، والعلاقات الأساسية والمتغيرة بين شخص وآخر.
فمثل هذه النظرة المتكاملة أو البنائية، تصبح أكثر فائدة وأكثر اقترابًا من معرفة الظاهرة أو الحقيقة.
فما من شك مثلًا في أن لخرافات الجان والنَّدَّاهات ملامحها المحلية ما بين قرية وما يجاورها على طول بلداننا في مصر، ووهاد وجبال وصحارى بقية البلدان العربية، ونفس الشيء بالنسبة للتعامل مع المرأة والطفل والأب الذكر، أو مثلث العائلة الخالد — كما سماه فيرث.
وعلى هذا فإذا ما اتفقنا على أن الملمح الرئيس لفولكلور وأساطير منطقتنا العربية أو الساميَّة، هو أنه فولكلور قبائلي ووحدتها القبيلية، ويعبر عن ذلك بأنها مجموعة من الناس لها بناءٌ اقتصادي محدد، فنتج عنه بناء ثقافي متكافئ، أو لِنَقُلْ: مُتوازٍ.
وإذا ما عرفنا أن مِن أهم الأساسيات التي تقوم عليها المجتمعات البشرية مبدأُ القرابة أو سلسلةُ روابط الدم أو الزواج؛ أي نسف الروابط الاجتماعية القائمة على الاعتراف بالعلاقات الجينالوجية؛ أي العلاقات الناتجة عن الارتباط الجنسي الشرعي، وإنجاب الأطفال كما يحددها ريموند فيرث الذي يرى بأن النسق القرابي يتحكم — حتى — في الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
إذا ما عرفنا أن القرابة شيء أساسي لكافة المجتمعات البشرية، فما بالنا بالنسبة للقبيلة، التي — وكما قلنا — هي الملمح الأساس لفولكلور وأساطير وتراث منطقتنا بعامة، المحاط إلى اليوم بسياج قوي من الأنيميزم، كما سماه تيلور؟
وبكل تأكيد ممكن، فإن في دراسة بنية أو نسق القرابة والانتساب على مستوى المنطقة العربية أو السامية في مجملها، وعلى أدنى الافتراضات داخل كل مجتمع عربي أو ساميٍّ، أو البدء من منطق الجزئي بهدف المعرفة والاستيضاح للكلي، وبمعنًى أبسط يمكن القول بأن في الإمكان التوقُّفُ طويلًا أمام تقليد أو ظاهرة النعي العلني الذي نشهده في صحف موتانا صبيحة موت المرحوم، وكيف أن الميت ينتمي إلى عائلة كذا، ويتناسب مع عائلة كذا من حيث الأم، وكذا من حيث الأب، وكذا من حيث «ميكانيزم» التزاوُج العائلي من داخلي وخارجي.
في دراسة مثل هذه الظاهرة أو النسق انفتاحٌ على بنية كاملة، لقد وصلت العلوم الأنثروبولوجية والأثنولوجية في دراستها لهذا النسق أو البناء القرابي، سواء على المستوى البدائي أو القبائلي في مجتمعات العالم خارج الغرب، خاصة أوستراليا وأميركا اللاتينية أو داخل المجتمعات الغربية المعاصرة؛ وصلت إلى حد من الدقة الرياضية، فمثل هذا النسق — القرابي — مثل بقية الأبنية الاجتماعية في تسانُدها الوظيفي من الاقتصادية والسياسية، بل إن في دراسة أي نسق أو بنية اجتماعية على حدة خاصة أضلاع هذه الثلاثية التي تتحكم في المجتمع — أي مجتمع — من قرابية واقتصادية وسياسية؛ لن تحقق غايتها إلا في تسانُدها مع بقية الأنساق.
فدراسة أي نسق لا يصح أن تجري بمعزل عن بقية الأنساق والأبنية التي تؤلف البناء الاجتماعي كنسق متكامل هدفُه تحقيق التسانُد الوظيفي والطبقي، وهو ما عرَّفه دوركايم بالتركيبات الموروفولوجية، وعرفه ماركس بالتركيبات السفلَى والتركيبات العليا.
ومن السهل تصوُّر أن التركيبات العائلية — بل لِنَقُلْ القبائلية — تتبدى بوضوح في نص نعي الميت من تشابك أو اتصالات عائلية أو قبيلية، أو بدنته أو فخذته أو بقية الأعضاء العائلية القبائلية، يقود إلى شجرة العائلة — أو نَخْلتها — عند العرب الساميين.
هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر فإن في دراسة البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق، تبصيرُ البنية الطبقية الاقتصادية والسياسية — كما قلنا.
ومن هنا فليس مدخلنا إلى دراسة النسق القرابي على مستوى العالم العربي أو المنطقة السامية بهدف التوصل إلى نتائج عنصرية، أو ذكاء النعرات القبائلية الطوطمية في معظم حالاتها.
وهو ما تتوسع فيه الدراسات العبرية اليهودية، بإيقاع قرن إثر قرن منذ كوزمولوجي (سفر التكوين، إصحاح ٤) بدءًا بآدم أبو البشر «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله» فأبناؤه من بنين وبنات حتى نعمة أو نعيمة في البالاد الشفاهية الشعرية، ثم سلسال نوح وأبنائه وأخصه سام أو شام المطلق على بلاد الشام والساميين بعامة وما توالى من نسله، لحين بنيان مدينة بابل، حين قال بعضهم لبعض: «هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًّا، فكان لهم اللبن محل الحجر، وكان لهم الحجر مكان الطين» لحين تبلبل الألسنة خلال بناء برج بابل.
فيلاحظ هنا، أنه بالنسبة للكوزمولوجي السامي — أو نسق القرابة — تبدأ شجرة العائلة، منذ آدم حتى تارح — الذي يُجمع الكثيرون على أنه طوطم سلف — ونوح، منسقًا ومقربًا بين حضارات النسل السامي، وخارجه مثل عيلام أبو العيلاميين، وكأشور، وآرام، وابنا عامر فالح وأخيه يقطان، الذي هو بذاته قحطان أبو العرب اليمنيين القحطانيين ملوك دول سبأ ومعين وابنه حضرموت.
وقحطان طبعًا ما يزال يتردد إلى اليوم، وإليه ينسب عديد من القبائل العربية سواء في اليمن والجنوب العربي، أو في بقية أقطار عالمنا العربي المعاصر.
بل لقد ظل نسقُ القرابة متواصلًا داخل التراث العربي متواترًا، ويصر على تدعيمه وإحيائه كثيرٌ من القبائل العربية الحاكمة، خاصة في الكويت والسعودية واليمن والجنوب العربي.
ومرة ثانية من مدخل تنشيط دراسات نسق القرابة وعلى مستوى بلداننا العربية بهدف استيضاح البنيان الطبقي والقبلي، لا بهدف التأصيل العنصري المفضي بالضرورة إلى الفاشية؛ ستوقفنا مثل هذه الدراسات على واقع بنياننا السكاني.
فليكن الهدف هنا هو الدخول إلى أحد ميادين العصر الكبيرة، وهو ميدان الاتصال.
ولعل الملمح الأساسي لتقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي، كان زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي، ويرجع هذا التقدُّم إلى عبقرية لويس مورجان في كتابه الرائدِ في هذا الميدان عن «أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية» عام ١٨٧١، وساهمت هذه الدراسة في وضع أُسس الدراسات الأنثروبولوجية والقرابية، إلى أن اكتملتْ هذه الدراسات في علوم الاتصال، ثم ما تلا ذلك من جهود العلماء الاجتماعيين في هذا المجال البكر، مثل لوفي عام ١٩٤٨، ومردوك عام ١٩٤٩، وسبوشر عام ١٩٥٠، ودراسة العالمين الكبيرين راد كليف براون، وفورد، وجميعُها بالطبع تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدراسات الميدانية؛ أي التوسع في جَمْع المعلومات والبيانات، وهو ما نُطالب به، بالنسبة لقيام مثل هذه البحوث في مصر والعالم العربي، على أن تجيء مثل هذه الدراسات مستهديةً ومرتكزةً على الجهود الضخمة التي بُذلت منذ مطلع هذا القرن، والتي يرى ليفي شتراوس أنها لم تُثمر كما يجب رغم غزارة مواردها وبياناتها الأنثوجرافية المتصلة باختيارات الزواج، وأنماطه من داخلي وخارجي ومن أبوي وأمومي، بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل وبقية النظم والمعتقدات الطقسية والدينية واللغوية، بل ويُمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد، أو نظرية الألعاب التي كان كروبير أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام ١٩٤٢ فساعد في إيضاح النسق القرابي.
ومن المفيد الإشادةُ بالدور الذي أصبحتْ تلعبه بعض الدراسات الميدانية، في التبصير بأهمية جمع ودراسة لعب الأطفال في بعض بُلدان العالم العربي، مثل العراق والكويت.
وقد يكون للدور الكبير الذي لعبه راد كليف براون بشكل خاص بالنسبة للدراسات البنائية في عمومها، وبالنسبة للنسق القرابي خاصة، أهميةٌ جديرةٌ بالتوقف عندها؛ ففي دراسته الميدانية ومنهجه في التصنيف بالنسبة لنظم القرابة في أستراليا، أو في اكتشافه للقوانين المتحكمة في نظام القرابة عند قبائل كاييرا، والتي — كما يقول شتراوس: «ستبقى إلى الأبد واحدًا من أعظم النتائج في الدراسات الاجتماعية البنائية ١٩٣٠-١٩٣١.» كما تعتبر مقدمته الرائعة لكتاب «أنساق القرابة والزواج في أفريقيا» خطوة متقدمة نحو إخضاع نظم القرابة في العالم الغربي، لنظرية عامة في التأويل على مستوًى عالمي. كذلك دراساته المتفرقة على مصطلحات القرابة وسلوك الأقرباء: السلوك المصاحب لأطوار العمر الثلاثة من ولادة وموت وزواج. كيف تتصرف الأم والأعمام والخالات خلال زواج ابنة أو طلاقها، أو موتها أو حملها … إلخ.
السلوك المصاحب لعادات الاقتتال والثأر، أو المصاحب لتصرفات الأسرة أو العشيرة في حالات مولد الإناث والذكور.
ففي أهمية دراسة السلوك داخل النسق القرابي — كما يقول «لوي» — ما يشير ويكشف عن جوهر النسج الاجتماعي، مثل ملاحظة ظواهر التزاوُج الخارجي الأكسو-سامي، وارتباطه من جانب آخر بظواهر وسمات محددة، مثل تأثير مكان الإقامة أو الحقل الميداني موضوع الدراسات سواء قرية أو مدينة، أو كانت بيئته بدوية أو زراعية على البنوة، وعلى عادات المُباح والمحظور من التزاوُج والعلاقات الجنسية.
ولقد اعتبر شتراوس أَنَّ مِن أغراض نظم القرابة وقواعد الزواج التي يسودها تناسُق وظيفتها في اتجاه حفظ بناء الجماعة عن طريق الربط بين علاقات الدم وعلاقات المُصاهرة، بل ومِن أهدافها إخراجُ النساء من العائلات التي ينتمين إليها بروابط الدم، وإعادة توزيعهن على جماعات أُخرى.
ففي رأيه أن النساء — في أحسن حالاتهن — هن وسائط اتصال، وعلى ذلك فمن الزواج إلى اللغة يمر المرء من سرعة اتصالية منخفضة إلى سرعة اتصالية مرتفعة.
كذلك استطاع براون أن يصل في دراساته إلى وضع مصطلحات أو قوانين لها عموميتها، ولها ميكانيزماتها المحددة، سواء بالنسبة للزواج والاحتفالات وسلوك أبناء العمومة في المجتمع الذكوري وأبناء الخالات في مجتمع أُمُومي، وكذا أوضاع الحموات وأقارب الزوجة، والعكس.
ويتفق براون مع مالينوفسكي في أن الروابط البيولوجية وروابط الدم، هي في ذات الوقت، الأصل والأُنموذج لكل نمط من أنماط القرابة، وإن كان لم يرفع نظرية القرابة إلى مستوى نظرية الاتصال — كما فعل شتراوس — إلا أنه يتفق مع ماكلينان ومالينوفسكي في أن «تنظيم العائلة الذي يسود فيه حتى الذكر في كل مكان، قد تم بفعل قوة أساسية هي حق الملكية.»
وبالنسبة إلى البناءات الطبقية، وصكوك الملكية، ونُظم التوريث وعلاقتها بالبناء القرابي والمصاهرة؛ فإن الأمر يصبح أكثر وضوحًا، فكما يقول وارنر، فإنه «من المستحيل — في بعض الحالات — أن ينتمي أي فرد تلقائيًّا لطبقة معينة»، ووصل الأمر ﺑ «لويد وارنر» إلى حد أنه افترض أن الأهالي يدركون ويفطنون إلى العلاقات البعيدة جدًّا بالنسبة لنظام القرابة، داخل أنموذج أو طراز «مورنجن» الذي انتهى به إلى علاقات رياضية — أو قوانين — أثارت الكثير من الجدل، كنظام محقق لحاجات ومطالب الزواج والنظام الطبقي، على اعتبار أن أولهما في خدمة الثاني.
•••
وكما هو واضح يتبدى مدى تأثير المجتمع الأمومي داخل تراثنا العربي والسامي بعامة، والعبري — من حيث الدلالة اللغوية الأثنولوجية — نظرًا لأن التعريف السائد لليهودي إلى اليوم داخل إسرائيل المعاصرة، هو مَن جاء من رحم أُمٍّ يهودية.
وتنقصني معلوماتٌ عن نظام التوريث والميراث الإسرائيلي، ذلك أن خط التوريث شديدُ الارتباط بسيادة مجتمع نوعي ما، سواء كان أبويًّا أو أموميًّا، كذلك يرتبط التقويم بهذه السيادة، ومن المعروف أن الارتباط بالتقويم القمري عند العرب واليهود الساميين، ما يزال إلى اليوم تقويما قمريا مثل السنة أو التقويم الهجري القمري، المرتبط بالقمر ورؤية الهلال عند كلا المجتمعين: البدويين – الساميين.
وفي حالة التوريث يمكنُ الرجوعُ إلى فكرة الفصل بين الأُبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية، كما حققها إلى حد الحسم مالينوفسكي خلال دراسته الميدانية على بعض قبائل أستراليا وسكان جزر الثروبرياند في غينيا الجديدة — قبل أن تحقق انقلابها الثقافي الحضاري الأخير — حيث إن الرجل لا علاقة له بإنجاب الأطفال، ولا يعتبر أبًا بل مجرد زوج للأم، وكل دوره هو أن «يحمل الطفل بين ذراعيه» ويرعاه ويحميه، ومن هنا لا يرث الابن أباه، بل إن وريث الأب هنا يشترط أن يكون ابن أخته، فالتوريث يتم عن طريق سلالة الأم، وبذلك يرث الرجل خاله وليس أباه، كما أنه يورِّث أولاد أخته وليس أولاده.
ويمكن القول بالنسبة لعالمنا العربي إن كلا التوريث والانتساب للجدود يسير في خطين، صحيحٌ أن السلطة للرجال في هذا المجتمع الذكوري، إلا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أنه من حيث الميراث والتوريث يسير في خطين.
وكان ﻟ «ريموند فيرث» سَبْقُ التوصل والتبصير بهذه الطريقة الثالثة التي لا هي بالأبوية الذكورية، ولا هي بالأمومية الأنثوية، وإنما هي تجمع بين النظامين، وعرفها فيرث بالقرابة المزدوجة؛ أي التي يمكن تتبُّعها في أُناس آخرين عن طريق كل من الأب والأم، كما يمكن تتبع ملامحها عبر مختلف الطرق والأبنية أو المداخل، من لغوية، واقتصادية أو قرابية تتصل بالميراث والتوريث، بالإضافة إلى رواسب نظام التابو والطوطمية.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه من الصعب علينا — كمجتمعات عربية أبوية — تصوُّرُنا لإمكان استمرار مجتمعات أخرى كثيرة.
مشاكل التراكمات الملحمية لسِيَرِنا العربية
هناك سمةٌ أو ظاهرةٌ تختص بها الأعمال والإبداعات الشعبية الجمعية الكبرى من سير أنساب قبائلية وملاحم إنشادية، أوقعت الكثير من الدارسين في مزالقَ أبعدَ عن العِلْمية.
هذه السمة أو الظاهرة ذات الصفة العامة في التراث العالمي؛ هي ما اتفق على تسميتها بالتراكُم الملحمي والسيري، من أحداث لاحقة تتعلق بنمط في الجسد الأصلي للسيرة أو الملحمة، ما تضيفها وتضفيها العصور المتوالية، سواء من حيث الانحراف بمجرى الأحداث أو البطولات. ومن أمثلتها الصراع العدناني القحطاني في السيرة الهلالية، بحسب نية القرابية للمجتمعات العربية التي تُروى فيها، أو من حيث الانحراف وتغيير البنية القرابية التي عادة ما كان يضطلع بها نَسَّابو القبيلة وشعراؤها، وبمعنًى آخر: التدخل في مسيرة النسب ذاته بالتغيير والتبديل والإضافة؛ بهدف إضفاء التمجيد على أسر أو أبطال محليين تالين أو معاصرين.
كما أن التراكم الملحمي، لا يقتصر عادة على النصوص الشفهية المتواترة بالحكي أو الإنشاد الشعري والروائي، بل هو يصل ويَطال النص أو المخطوطة المدونة ذاتها، وحتى فيما بعد المعرفة بالطباعة وانتشارها منذ القرن السابع عشر في بلادنا؛ فقد تعرضت تركتنا الفولكلورية العربية بعامة للكثير من إضافات النساخ والطباعة.
من ذلك التدخل الواضح للنساخ اليهود في مجرى أحداث بعض السير والملاحم العربية، أبرزها هنا «الزير سالم» التي تجري أحداثها المركزية في فلسطين العربية منذ أقدم العصور.
فالتراكُم الملحمي أو السيري اصطلاحٌ متفق عليه، يشير إلى ما يعلق بجسم الأعمال الملحمية والسير من أحداث مستجدة ودخيلة، سواء على المستوى المكاني الجغرافي، أو الزماني التاريخي.
وإذا ما أخذنا مثالًا من واقعنا وتراثنا الملحمي؛ نجد أن الأنماط المستقلة لأي منها — مثل بني هلال، أو الملك سيف بن ذي يزن، أو عنترة، أو الزير سالم — تَكتسب أحداثًا وإضافات وتراكُمات جانبية جديدة، يضفيها كل مجتمع وكيان من بلداننا العربية، سواء أجاءتْ هذه الإضافات تبعًا للمأثورات أو الخرافات المحلية، أو تلك التي قد يستحدثها الرواة ومُنْشِدو السير والملاحم.
وتناثرت مئات المأثورات حول هجرات وفتوحات وتجوال أبطال السير، مثل الزير سالم، والملك سيف، والجازية وأبطال الهلالية خلال فتوحاتهم للمغرب العربي، مرورًا بكُفُوره ونُجُوعه ومضاريه.
كذلك فقدْ يمتد التراكم السيري والملحمي عبر الزمان والتوالي التاريخي، بحيث يمكن للعصور المتعاقبة أن تضيف أحداثًا وموتيفات ومأثورات جديدة، تُضاف تباعًا لبنية السيرة أو الملحمة العينية المحددة.
فقد نجد سيرةً أو ملحمة شديدة القدم في أصولها الطوطمية أو الحجرية، بينما تداخلها مؤثرات تركية عثمانية ومملوكية، بل وشديدة الحداثة أو حتى معاصرة.
ومثل هذه الإضافات والاستزادات قد يضطلع بها المجتمع الجمعي أو الكيان، وكذا الرواة، أو النساخ في حالة النصوص المدونة للإمام علي بن أبي طالب والملك الهضام، أو الزير سالم، أو الأميرة ذات الهمة، وحمزة البهلوان.
وعادة ما يكثر مثلُ هذا التراكم الملحمي في لحظات وامضة، حين يسقط مثلًا أحد الأبطال مجندلًا في دمه، يعاني سكرات الموت من أثر الطعان، فيعن له أن ينشد متحسرًا ومتفجرًا بحكمة يجللها دم الاغتيال والموات.
من ذلك لحظة اغتيال الأخ بدران المغتصب لعرش أخيه الطيب فاضل.
أو حين تمكن الفارس الهلالي الأمير القحطاني «دياب بن غانم» مِن قتل أمير تونس وفارسها: الزناتي خليفة.
وكذا حين أقدم دياب بدوره على اغتيال ابن زيد الهلالي حين باغته وطعنه غيلة من الخلف، وانكب يندبه ويرثيه.
ومن هذه المرثية المطولة يتضح مدى التراكُم الملحمي وإضافات العصور عبر العصور، بالإضافة طبعًا للتراكُم المأثوري الأسطوري، كما يتضح من مرثية التبع الغازي المغتال، عن كيف أن الخليفة أبا بكر الصديق مات بلسع الحية، وعمر بالطراد، وعليًّا حين أرداه بالسيف ابن ملجم.
بل وفي ثنايا الأنساب الملحمية هذه «الزير سالم» قد نصل في بعض النصوص والطبعات إلى سمات تركية، بل وخديوية لمطلع قرننا الأخير، برغم أن العمر التخميني للزير سالم قد يرجع بنا إلى أكثر من أربعين قرنًا.
الماء والعطش في السيرة والملحمة
كان للماء وموارده وأنهاره وآباره الدور البارز في مجمل سيرنا وملاحمنا العربية، فكما ذكرنا فإن حجر زاوية مثل هذه السير والملاحم والقصص الشعرية، هو على الدوام التاريخ الشعبي المتصدي الدافع ضد الأخطار الخارجية، وكذا الهزات أو التحولات الكبرى الداخلية، التي ترقى هاماتها وترتفع إلى حدِّ أن تُصبح حدثًا أو موضوعًا لسيرة أنساب أو ملحمة.
ونظرًا لدور الماء والحروب الطاحنة في اتجاه تملُّكه، كهدف من أهداف العالم القديم بل والحديث؛ لذا أصبح الماء وموتيفاته ملمحًا محددًا لسيرنا، فعادة ما يلعب الماء وموتيفاته الدور الجوهري الأول في مجمل أساطير وفولكلور بلداننا العربية، بلا استثناء وبخاصة تركتنا من السير والملاحم والقصص الشعري سواء حين يكثر ويفيض في أماكن دالات أو دالتات الأنهار في مصر والعراق، ومنه تتولد الطوفانات، من بابلية جاءت بها النصوص المبكرة لملحمة جلجاميش، وكذا طوفانات الآلهة الغاضبة، رع، وسخمت، أو طوفان نوح، وسواء حين يشح الماء ويجذب في الكيانات البدوية الصحراوية.
فالماء كان — على الدوام — هو هدف الإغارة والهجرة والحروب في ملاحم وسير حسان اليماني الملك سيف وبحثه عن كتاب أو منابع النيل، السيرة الهلالية، وهجرتها الكبرى من الجزيرة العربية، هربًا من الجدب والعطش بحثًا عن الزرع والضرع، في سهول الشام وفلسطين وتونس الخضراء حتى مداخل أوروبا الجنوبية بعامة.
فالماء مهبط عرش جميع الآلهة السامية، خاصة أيل أو كبير الآلهة كرونس القاسم المشترك الأعظم لكل آلهة الشعوب السامية؛ حيث كان عرشه على الماء، وصنوه المتوحد به إبراهيم الخليل، نبعت لهما المياه وبعثت، وجرت لهما حيث تواجدا.
إبراهيم حين نبعت له «بئر سبع» بفلسطين، وبِكْره إسماعيل الذي من الأرض نبعت له المياه؛ حيث منفاه بالوادي غير ذي زرع، بمكة أو برية حاران؛ حيث نبعت له بدوره بئر زمزم بعد أن كَوَتْ ألسنةُ العطش أمه هاجر، بحثًا عن الماء في جدب الصحراء، فكان أن ضرب إسماعيل برجله، «انبعث زمزم وفاضت في الوديان القاحلة.»
وعليه: فنحن إزاء آلهة «رزق» على عادة ما هو متبع حتى في التسميات، لدى فقراء الشرق الأدنى القديم؛ حيث تحظى الصحراء والجدب بالنصيب الأوفر لهم.
ولعل صراع الماء وموارده، هو جوهر الحمى والحماية عبر قحط الصحاري والبوادي، إنه البديل السالف لصراع البترول والطاقة اليوم.
لذا ينسب لشيخي القبائل — للسالفين — إبراهيم وبِكْره إسماعيل، مقدرة إنباع الماء لهما من الأرض القاحلة، إسماعيل في مكة، وإبراهيم في بئر السبع الفلسطينية.
فلقد كانت الكعبة تسمى، قبل تفجُّر بئر زمزم، «الأخشف» أو «الغبغب» وواضح أنها أسماء آلهة ماء ورزق، في ذات المكان «البانتيون» أو مجمع الآلهة — القبائلية — العربية، الذي ينسب إلى شاعر وملك كاهن خرافي يدعى «عبيد بن شريه الجرهمي» استقدام وتنصيب أصنام مكة التي قيل إنها بلغت ٣٦٠ صنمًا وإلهًا قبائليًّا بعدد أيام السنة القمرية، أو الهجرية الإسلامية فيما بعد واليوم.
فلقد عبد الساميون بعامة، آلهة الرزق والمن هذه، منذ أقدم العصور والتي تواترت إلى حد المقولات المبطلة والمعوقة لكل محاولات في اتجاه التغيرات الاجتماعية مثل يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
فكان العرب الجاهليون يعبدون الدهر والقدر والماني، وجمعها منايا أو منوات.
وعلى هذا كانوا «أرضيين» — غير زراعيين — لم تلحقهم أفكارُ ومترادفاتُ البعثِ، والعودة بعد الموت، والحياة الآخرة، على عكس ما كانته أساطير الشعوب الزراعية في دالات الأنهار ووديانها: الرافدين، والنيل، والأردن، وفلسطين.
فيترتب على تأليه وتقديس موارد المياه والظواهر الطبيعية والبيئية المحيطة، وما يستتبعه هذا من صراع النور؛ أي الخير، مع الظلام؛ أي الشر، وهو المنهج التطوُّري الذي اكتمل بعد الدارونية والذي أكده — بالنسبة للأنثروبولوجيا — تيلور ومعاصره أندرولانج، وفريزر، خاصة تفسير تيلور وما سبقه إلى اكتشاف مدى سيطرة العادة داخل هذه المجتمعات الغيبية، بما يحقق توارثها لأدق دقائق حياتهم وطفولتها الأولى، حين أراد تفسير ظواهر الطبيعة القاسية من حولهم، خاصة هنا في شرقنا الأوسط الحديث أو شرقنا الأدنى القديم، فلعل الاختلافات البيئية والظواهرية والجوية هي المخصب الرئيسي لهذا التراث الذي اكتملت فيه الأديان الثلاث الرئيسية في عالمنا: اليهودية والمسيحية والإسلام.
فجغرافية المنطقة كما يشير د. جمال حمدان، تَجمع ما بين دالات الأنهار في دلتا مصر والعراق؛ أي المجتمع الزراعي، الذي قدم تفسيره الأزلي السائد إلى اليوم عن الموت والقيامة ممثلًا في أساطيره عن الآلهة الزراعية الممزقة التي اكتملتْ في المسيحية.
والمجتمع الصحراوي المُجدب القِبَلي، مجتمع الإغارة على موارد الماء واعتبار الحرب نوعًا من الصيد.
إلى حد أن تاريخ المنطقة، قديمه ومتوسطه ومعاصره، لا يعدو أن يكون تاريخ حرب وإغارة وتنكيل ممتد، خاصة في بؤرة هذه المنطقة الشام وفلسطين، ومنها ميناء إيلات، فهي على طول تاريخها مجال نزاع دائم للمئات من القبائل والحضارات والأجناس المتطاحنة.
ويُلاحظ أن اقتصاد غرب البحر المتوسط بعامة عبارة عن بنيان مقسم الأجزاء لأقاليم — أو مدن دول — يصل فيه الجبل حتى البحر الذي يصنع كثيرًا من الأجزاء المنفصلة المعزولة التي توجد فيها سهولٌ صغيرة غارقة في الجبل، فالماء — بالضرورة — كان هدف الإغارة والحروب الأولى، طالما أن الأرض قد تتحول إلى مستنقع إن لم توضع وسائل تصريف المياه، أو إلى صحراء إن لم تُرْوَ بالماء، وعلى هذا فأساسُ حياة الفرد والقبيلة في الشام وفلسطين هو البستان، وليس الحقل.
وكما يقول الجغرافي الفرنسي فرناند موريت، فهي بلاد تُجْبِرُ فيها تضاريسُ الأرض سكانَها على العمل والصبر والدأب، كما أنها بلادٌ يعتبر البحر فيها الطريقَ الأسهل للتجارة، والترحال؛ فجغرافية الأرض مقسمة إلى دويلات متناحرة، نتيجة لحدودها الطبيعية من سهول وجبال وصحارٍ؛ أي مناطق جفاف، وفيضانات ماء ورياح، ومساحات شاسعة خَرِبة، كل هذا فرض نظامَ القبيلة والعشيرة وما يتبعهما من إغارة وإبادة، وفقدان للأمن، وهو ما تبدى واضحًا في أساطير وفولكلور هذه المنطقة المغرقة في القِبَلية العصبية، التي عرفت شارةَ الصليب المعقوف قبل أن تعرفه ألمانيا النازية الفاشية، بأكثر من ٣٠ قرنًا من الزمان.
وعلى هذا فسير وملاحم منطقتنا هي في المحل الأول سير وملاحم قبائلية، وحماها أو موطنها، الذي كان يحده نباح الكلب.
وبالطبع يُمكن القولُ بأن الجسد الفلولكلوري لِمختلف فولكلور العالم هو — في أدنى أشكاله — قبائليٌّ، أو هو ما يزال إلى اليوم يحتفظ بملمح القبيلة، بمعنى أن القبيلة هي أدنى أشكال أي مجتمع بشري، ومن تجمع عدة قبائل واصلت اتحادها، تحت أقوى شعاراتها أو شعائرها، أو طواطمها أو آلهتها إلى أن تصل في مجموعة القبائل — المتحدة أو المتحالفة — إلى درجة الأمة أو الحضارة.
ووصل البعض من أصحاب النظريات الطقسية أو الشمسية — مثل روبرت غريفز ورفائيل باتاي — إلى حد الدفاع عن أن انقلابًا تقويميًّا عامًّا قد صاحب معظم قبائل العالم القديم من خلال تحوُّلها من عبادة القمر — أو الإلهة الأنثى القمرية — والسير بتقويمه القمري أو الهجري إلى عبادة الشمس — أو الإله الأب الذكر — والأخذ بتقويمها الميلادي فيما بعد واعتبار السنة ٣٦٥ يومًا، وهو ما صاحب أيضًا المعرفة بالزراعة والانتقال إلى طورها.
وذهب البعض الآخر من أصحاب النظرية الأنثروبولوجية في تفسير الأساطير إلى مدًى أكثر عمومية تحت تأثير التطوُّر النوعي الدارويني، والاستفادة من المادة التاريخية، على اعتبار أن معتقَدات وأفكار الناس في تطوُّرها التاريخي تجيء — مجبرة أو حتمية — لتطور بيئتها ووسائل إنتاجها وعلاقاتها الاجتماعية؛ أي إن تغير البناء التحتي — الاقتصادي والاجتماعي — يستوجب بالضرورة تغيير أفكار ومعتقدات، وأساطير وعادات، وممارسات وأخلاقيات، ونظم قرابة وتزاوُج، وشعائر، وقوًى غيبية؛ أي كل ما استحكم في حياتهم من بنيات اجتماعية.
وعلى هذا فمجتمعاتُ العالم القديم، في مراحل التكوُّن القبلي أو العشائري قد عاشت في مختلف البيئات والمناخات الجغرافية — من مجتمعات زراعية ورَعْيٍ وجبل وبحر — والمقصود بالعالم القديم هنا هو مجموعة الحضارات والقبائل العربية أو السامية القديمة، وهو ما تتضافر في الكشف عنه اليوم مجموعةٌ مترابطةٌ من العلوم، أهمها طبعًا عِلْمَي الأنثوجرافيا والتاريخ.
وعن هذا الطريق يمكنُ تعريفُ الحضارات التي شهدها شرقُنا الأوسط، وتحديد معالم وخصائص كُلٍّ منها؛ ذلك أن الحضارة — كما يعرفها عالم ما قبل التاريخ جوردون تشايلد — تقومُ على ما يستخلصه الإنسانُ من غذائه ومجتمعه الإنساني وكافة مناحي السلوك الإنساني؛ من لغة ودينٍ وفلسفة وأخلاق وقانون، بالإضافة إلى أدوات الإنتاج التي يستخدمها. فعن طريق التكيُّف مع البيئة أو قوى الإنتاج أو مصادر الثروة الطبيعية تتحدد الحضارة، ومِن هنا وبالضرورة تدين سماتها ومعالمها للبيئة وطبيعة المكان.
وكما سبق أنْ أوضحنا فإن الاختلافات البيئية — وبالتالي المناخية — تظهر بوضوح على طول هذا التراث وهذه البقعة من العالم منذ فجر التاريخ، من صراع بين الحضارة الزراعية في دالات الأنهار، وبين البداوة ومجتمعات الرعي والصيد والإغارة.
ويتركز هذا الصراع — بأجلى معانيه — في الأسطورة الأم التي حددت أجناس شعوب وقبائل المنطقة السامية، حين قَدَّمَ ابنَي — حام وسام — بعد الطوفان قربانَهما إلى الرب، وكان أحدهما وهو حام صاحب زرع، والثاني وهو سام صاحب رعي، فتقبل الله قربان صاحب الرعي، ولم يتقبل قربان صاحب الزرع، فكان أنْ حقد الفلاح «قابيل» على شقيقه «هابيل» وأقدم على اغتياله.
وهي تضمينيةٌ أو فكرةٌ أسطوريةٌ تتوالى بكثرةٍ شديدة جدًّا في هذا التراث الطوطمي القبائلي.
ولعل أقدم أشكالها (٣ آلاف سنة ق.م) جاء بها النص السومري لملحمة جلجاميش، في صراعَي جلجاميش «الفلاح المتحضر» وأنكيدو «الراعي الوحش» الذي تربى مع حيوانات الغابة وشعرُ رأسه كشعر امرأة.
كما وردت بنصها في صراعَي ابني إسحاق: يعقوب — الذي سُمِّي إسرائيل — وشقيقه توأمه عيسو أو العيص العربي السوري الأردني، وموطنه الأول أرض أدوم أو الصحراء الأدومية، التي اشتقت منها تسمية آدم أبو البشر، بالأردن وسوريا.
كما أنها تتوالى متوارثة إلى ما لا نهاية في ضواحي عرب الجزيرة العربية بقسميها الشمالي الرعوي العدناني أو الإسماعيلي، والجنوبي الزراعي — فيما قبل تخريب سدود اليمن — وهي ثلاثون سدًّا أهمها سد مأرب.
كما تطل برأسها على طول التاريخ القديم السابق للإسلام، وحتى فيما بعد مجيء الإسلام، مثل صراعَي قبائل الأوس والخزرج، من فلاحين ورعاة.
بل إن هذا الصراع حول الزراعة والبداوة يتبدى بشكل خاص في صراع ابنَي إبراهيم: إسماعيل وإسحاق، والعيص وشقيقه يعقوب.
وفي كل هذا يلعب الماءُ ومواردُهُ دورًا رئيسيًّا في تُراثنا، ومنه أيضًا فكرة ماء الحياة في الفولكلور وهو السائل السحري الذي يَرُدُّ ويَبعث الموتى إلى الحياة، ويتبدَّى في عديد من الحكايات، فقد يبعث البطل لإحضار روح الحياة من بئر، أو بستان أو بحيرة أو نهر بعيدٍ جدًّا، وقد يختلط الموتيف بموتيف آخر سحري هو ينبوع الشباب، وهو موجود بكثرة في كل فولكلور العالم «خاصة العربي» وربما كانت الأسطورة الأم هي الأسطورة البابلية التي تحكي عن أن عشتروت أَنزلت إلى العالم السفلي ابنها تموز وأعادت إليه الحياة عن طريق ماء الحياة.
كما ترد مثل هذه الأفكار والتضمينات في معظم سِيَرِنا وملاحمنا — كما سيتضح عَبْر دراستنا الماثلة.
رواة ومنشدو هذه السير والملاحم
كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمتْ في الكشف عن الكثير من تُراث البشرية، التاريخي أو الحفري الأركيولوجي، وما من مكتشف أثري — مثلًا — لم يستهد ويستفد من مخزون الحكايات الشعبية والحواديت وفابيولات الكنوز — المقابر — المدفونة، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. فلاندرز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كان يجمعها، ويستمع إليها من فَلَّاحي الفيوم والدلتا قادتْه إلى اكتشاف كنوزه من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي يُنظر إليها اليوم بكل تقدير.
والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ آمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشَفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال كلوديوس ريش، وسير هنري لايارد، اللذَين استفادا من ألف ليلة وليلة والنصوص الشفهية لفلاحي العراق في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، ونمرود، وبقية رحاب العراق.
فللذاكرة الشعبية الجماعية، أو الذاكرة الفولكلورية قدراتها وإعجازُها الذي لمسته وأنا أواصل جمع شفاهيات منطقة بني سويف وبعض قرى المنيا والجيزة، جعلتْني في النهاية أعتقد إلى حد كبير في الذاكرة الشعبية كعملية جدلية عقلية، تتكامل فيها عقول أجيال طولًا وعرضًا أو زمانًا ومكانًا، وتكاد لا تفقد شيئًا أو تفتقده من مخزونها الجمعي.
ومن هذا المدخل يُمكن القول بأنْ لا شيء مفتقَد، بل إن المفتقد — تاريخيًّا أو أركيولوجيًّا — يمكن استجلاؤه والتحقُّق منه عن طريق الذاكرة الشعبية، عن طريق دأب البحث في جمع المواد الفولكلورية أو متنوعات وعينات وعبارات ألا يتم أو النمط الواحد أو العنصر، مهما كان موضوع البحث جانبيًّا أو ضئيلًا.
وإذا كان من الصعب علينا اليوم تقبل حقيقة أن بلداننا العربية مصابة بأعلى معدلات للأمية على رقعة العالم أجمع؛ فلنا أن نتصور ما كانته أيام الجاهلية الأولى والثانية (٣ آلاف عام ق.م) ومن هنا كان الانتشار الشديد لعادة أو شعيرة الحفظ والتحفيظ والاعتماد على الذاكرة، الذي لم يتوقف تواتره إلى اليوم في مناهجنا الكتابية المتوارثة، ولا يقتصر الأمر على حفظ وتحفيظ النصوص الإليزمية أو الدينية — رغم انتشار الترانزستور — بل الشعر وبقية الشعائر من قديم وحديث، فولكلوري وتقليدي، فحتى الأحاجي والفوازير والحذور لها مكانها ومخزونها داخل الذاكرة الشعبية، سواء في شفاهياتنا العربية أو السامية، وبالطبع كذلك عند مختلف الشعوب.
ويبرز طوطم — الحمامة — الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدًّا، فتسمية راحيل أو راشيل — أم النبي يوسف — هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل.
وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى حمام.
كما قد لا ننسى حمامة الأيك، كطوطم وشعار إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه.
وكما يقول الأستاذ تومبون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا السامية الشرقية الفولكلورية، يمكن أن يُطْلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية، ورواة سِيَر ومداحين وشعراء جوالين — تروبادوز — ما يزالون إلى اليوم يملئون حياتنا وتزدحم بهم أسواقنا وموالدنا، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يُخالط التاريخ في الأساطير، والعكس صحيح.
ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري، مثل افتراض العثور على مجموعات الحكايات المصرية التي تُرجمت من البرديات التي عُثر عليها في مصر د. فلاندرز بيتري، وغيره من الحفريين، وأعيد نشرها بالفرنسية عدة مرات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية» وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر أيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات: جودوين، شاباس، إيبروس.
كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية، خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر.
كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في العصر المتأخر، بدءًا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابُهًا أو تماثُلًا بطبع كل مصر في أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية، ذلك أن التغيُّر من فترة أو عصر زمنيٍّ لآخر، يبدو جليًّا فيها.»
أخيرًا أذكر مقولة للناقد الأدبي الإنجليزي «مارتن أيزلن» يذكر فيها أن المسلسلات الدرامية التليفزيونية — على أيامنا — حين تصل إلى أقصى درجات انتشارها الجماهيري، فإنها في هذه الحالة تُصبح كبديل معاصر، للملاحم والسير الشعبية والبالادة الشعرية الموسيقية التي كان ينشدها رواة ومَدَّاحُو ومُغَنُّو العالم القديم، من محترفين وهواة.
وعلى هذا النحو كان الانتشار اللامتناهي للسير والملاحم الشعبية عبر ساحات الأسواق والموالد ومشارب الشاي وأسواق عكاظ — القبلية — القديمة؛ حيث كان يجري إنشادُها وحكيها، والإبداع في إيصال مواقفها التراجيدية — بل يمكن القول المليودرامية — الغارقة في بحار الدم والدموع والتجهر البربري الوحشي.