القسم الرابع
قصة شعرية أو شعائرية من نوع المدائح، التي عادة ما ينشدها المداحون في المناسبات الطقوسية الاحتفالية كالأعياد خاصة «عيد اللحم» أو الضحية والحج والطهور والأفراح والأسواق والتجمُّعات الشعبية، وأسواق عكاظ الغابرة؛ حيث كان يجري إنشادُها وحكيها والإبداع في التعبير عن مواقفها التراجيدية، بل يمكن القول الميلودرامية.
فسارة وهاجر من أهم القصص الشفهية الشعبية، التي اعتدنا سماعها من أفواه المَدَّاحين ورُواة السير والملاحم والبالادا التي مِنْ أغراضها أن تروي أحداثًا على درجة عالية من الأهمية والخطورة.
وظلت نصوص البالادا مزدهرةً عشرات القرون، على طول بُلداننا العربية، ومنها ملاحم وقصص وبالاد، التي نتعرض لها مثل يوسف وزليخة، وعزيزة ويونس، وأيوب، التي تجري أحداثُها في بادية الشام والصحراء الأدومية، وحبيب بن مالك في الجزيرة العربية، والقميص أو رداء النبي محمد، ثم هذه الملحمة الشعرية الهامة، التي تحكي ملخصًا رمزيًّا لمجرى الصراع العربي والعبري، والتي تتعرض لخصائص الخليل إبراهيم، وابنه إسماعيل أبو العرب العدنانيين شمال الجزيرة العربية أو السعودية اليوم، وكذلك تؤرخ هذه القصة الشعرية للعديد من مناسباتنا وممارساتنا الشعائرية، ومنها المصادَمات والاضطهادات العبرية العربية، وبناء الكعبة، ونبع بئر زمزم، وحجر إبراهيم الأسود، والتضحيات الحيوانية في عيد الضحية.
كيف دفعت سارة رَجُلَها إبراهيم لأن يدخل على هاجر جاريتِها — بعد أن أمسكها الله عن الخلف والذرية — ليخلف منها نسلًا.
وتصف سارة هاجر، بأنها «حرة شريفة، ومهتدية»، بل هي تبدأ في تبيان رغبتها هذه، والكشف عنها في النص، وهي أن يَدخل إبراهيم على هاجر جاريتِها، منذ اللحظة الأولى «يا خليل الله، لَايِمْتَه تظل صابرْ» بمعنى أنها كانت تُواصل إبداء هذه الرغبة دوامًا «بس طاوعني وتزوج بهاجر.»
وعلى سبيل التخمين فقد يكون المعنى الخفي في هذا النص الشفاهي هو: أَنَّ سارة قد أدت الدَّوْرَ الذي تقوم به «الداية» أو القابلة — كما هو معروف — بفتح فخذي العروس عن آخرهما وتمكين العريس من «أخذ الوش»، أو فض بكارة العروسة.
وتحبل هاجر بإسماعيل، وما أن تنقضي مدة أشهر الحمل الخمسة على مضض من جانب سارة، التي تمر متلصصة على خبائها وتتعرفها حتى تشب فيها نيران الغيرة، وتلتهمها التهامًا.
وبالطبع تعلو هامة هذا النص الشعري الغنائي المسرحي بمونولوج سارة الحاد المتصاعد العدواني، وأنا أعني هنا: كلمة مونولوج، بمعنى الحوار والجدل المتبادل مع الذات، حين تقول:
وخوفًا من الانجراف وراء الغوص في التحليلات الأدبية التقليدية، وهو ما يَتنافى مع أغراض التعرُّض لهذا التراث الشفهي كفولكلور، ربما قد يحرفه ويُفقده لأدقِّ خصائصه الأثنوجرافية؛ نعود إلى مجرى محاولة الدخول لهذا النص من مدخله الوظيفي الفعلي.
فسارة هنا تكشف عن شخصيتها العاتية المستبدة، تلك التي تتملك كل السلطة، وهي حين تتراجع قليلًا؛ لتوهمنا ببشريتها، فإنما لمجرد تقنين فعلتها وشعيرتها، ويبدو هذا حين اتهمها إبراهيم مهددًا «ما بتخفيش مولى الموالي»، فعادت سارة وتراجعت قليلًا، وأملت عليه شروطها:
حتى وإن كان القول المقدس هنا، هو إقدام سارة على حرمانه من إرثه، كابن بكري، وبالطبع فإن نصنا العربي الإسلامي لا يولي اهتمامًا يذكر لجوهر الصراع في هذا النص بين الضرتين، العبرية: سارة، والعربية: هاجر، ألا وهو حق الأخ الأكبر في ميراث أبيه إبراهيم، والذي هو الهدف الأول والأخير للعالم القديم.
ومرة أُخرى أكد ملاك الرب سلطة سارة على هاجر ذاتها، في النص اليهودي، حين التقى بها بعد أن «أذلتْها ساراي، فهربتْ من وجهها» وسألها ملاك الرب: «يا هاجر ساراي، من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟»
فبعد أن تمت هاجر أشهُرها والليالي، أو أشهُر حملها، وولدت إسماعيل قامت سارة بواجبها أو اتفاقها؛ أي إنها ولدتْ هاجر، واستقبلت المولود، و«قطعت السُّرة وبعدين قمطته» ثم كحلته وعلى الفور ألقتْ به — ربما عندما تبينت أنه ذكر — في وجه أمه، وكان أن طردتهما هو وأمه.
فإسماعيل — هنا — هو الطفل الذي دارت المنازعات حول مولده، وهو وإن لم يُنتزع من أمه، مارًّا بمرحلة قتل الأم، وهي المرحلة التي يجتازها — عادة — الأطفالُ القدريون؛ إذ إن الأم هنا تمر بنفس الظروفِ من الاضطهاد والتغريب والتعرض للقتل. بين خلا وجبال الوحش يهشم في عضاها، يأكل الجثة ويشرب من دماها، إلا أن كليهما — الأم وطفلها — يمران بمرحلة الطرد والانتزاع من القبيلة.
والقبيلة هنا هي قبيلة سارة، ويؤكد هذا — في نصنا الشفهي — نزول الوحي أو الملاك جبريل، هابطًا من السماء، مبلغًا إبراهيم أن هذا هو أمر الرب «ربك يُقْريك السلام ويقولَّك اركب يا خليلي»، «اركب وسافر على الدرب الطويل.»
وفي هذا يتطابق هذا النص الشفهي مع النص الذي أتتْ به التوراة، حين قال الله لإبراهيم: «في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها.»
ومن هنا يحفظ كلا النصين لسارة توحدها بالإلهة — أو الإلهة — الأنثى الأُم سارة.
فيحفظ هذا النص الشفهي الفولكلوري لهاجر أنها خلال معاناتها، بحثًا في لهب الصحراء المُوحش عن الزاد والماء؛ أنها ألقتْ بإسماعيل على الأرض وسافرت متدارية، كما لو كانت لتفلت بجلدها من براثن العطش قبل الجوع، وفضيحة أو كبيرة تَخَلِّيها عن ضناها إسماعيل أبا العرب.
وعلى هذا فالنص العربي أكثر قسوة وخشونة، من حيث إلقاء الأم هاجر بطفلها إسماعيل بإزاء العطش والإنفاق، وأن تسافر خلسة أو متدارية، إلى أن يجيء المنقذ لإسماعيل «الطفل» من وفد المسافرين، الذين راعهم تَفَجُّرُ الماء له — كطفل قَدَري أو مقدس.
وتُنسب قبائل جرهم إلى العرب البائدة أو العاربة أو المندثرة، وكانوا اثنتي عشر قبيلة — حضارة — منهم: عاد وثمود وعرفات والعماليق وجرهم؛ إنهم هم بذاتهم وفد المسافرين هذا، الذين تَرَبَّى إسماعيلُ وسطهم وكَبِرَ إلى أنْ أصبح أُمَّة، بل وتزوج إسماعيل منهم؛ أي من جرهم، بزوجته الثانية التي راقتْ في عين أبيه إبراهيم، فباركها وطالبَه تيمُّنًا «بصياغة عتبة داره من الفضة النقية»، ومِنْ رحم هذه الزوجة الجرهمية، خلف إسماعيلُ ابنَه «قيدارًا» أبا العرب العدنانيين.
وعندما كبر إسماعيل، تزوج «بصبية» هي زوجته الأولى، التي تنسب لها المصادر العبرية أنها كانت وثنية مصرية؛ حيث يلتقي النص الفولكلوري العربي في إدانتها، وحين يشتد حنينُ إبراهيم لرؤية ابنه إسماعيل، وتتحسس سارة أحزانه، وتسأله «يا خليل الله! مال النواح زايدْ» فيخبرها بشوقه الجارف لرؤية ابنه، تصرح له بالزيارة إلا أنها تستحلفُه وتُعاهده، على أن لا يَنزل عن مطيته لهاجر:
وكان إسماعيل قد تزوج ﺑ «صبية» لم تُحسن معاملة والده في غيابه، وهو القادم له من القدس لبرية فاران أو مكة وقد تكون أنكرتْه، حين سألها:
والنص هنا يكشف عن مستوى الحوار العالي بين إبراهيم وزوجة ابنه، مصورًا شخصيتها كما لو كانت «دَلُّوعة» حين سألها إبراهيم:
فقال لها:
ولما واصلت هي إنكارها للضيف، مدعية سفر إسماعيل «ومعاه صرة أو صرية في مرة، وفي الثانية إنه سافر ومعه جماعة»، فقال لها: «خذي الكلام مني وداعة»، مواريًا بين الزوجة والعَتَبة «قوليلو غَيِّرِ العتبة يا صاحب العطايا.»
كما أن مثل هذه الأشعار الملغزة وردت بكثرة في السيرة العربية أيضًا، الزير سالم أبو ليلى المهلهل، وذلك عقب انتهاء حرب البسوس، وانعزال بطلها الزير سالم، ثم تغريبته عجوزًا مهدمًا إلى صعيد مصر، وتلمسه لإقدام عَبْدَيْه المرافقَين على اغتياله، فكان أن حَمَّلهما وصيته إلى قومه عقب موته، وهي لا تعدو بيتًا من الشعر:
وما أن اغتاله عبداه قائلين «نذيقك ما أذقت العرب»، وعادا إلى قومه بخبر موته فأنشدا وصيته أو بيت شعره المقفل، أو غير المغطى، حتى تعرفتْ قبيلته على أن العبدين قتلا المهلهل أو الزير سالم، بعد أنْ أشارتْ عليهما «اليمامة» بلغز عمها الزير المغتال وأكملت وصيته الشعرية:
فمثل هذه الأشعار الملغزة غير قاصرة على تراثنا، إن لم تكن خصيصة مصاحبة للبالادا وارتحالها، والزيادات الشعرية التي تدفع بنموها، والأمثلة كثيرة، في التُّراثَين العربي والعالمي — على السواء.
فما أن نقلت زوجة إسماعيل مقولة أبيه الشعرية «غير العتبة» دون تفهُّم، لكن إسماعيل فهم مغزى كلام أبيه، وكان أنْ طلقها حين نقلت له الوداعة، وهو ما طلب منها الأب إيداعه للابن، فقال لها إسماعيل: «روحي انتي حرمتي عَلَيَّه.»
حتى إذا ما قصد بيت إسماعيل ونادى قائلًا «يا هاجر» فخرجتْ له الزوجة الثانية، ورحبتْ بمقدمه، ودعتْه إلى الترجل عن مطيته والنزول عندهم، ويبدو أنها كانت راقتْ في عينيه، فداعبها، ونسبها إلى هاجر قائلًا لها «ما فيش أجازة يا بنت هاجر؟» فأحضرت له «اللبن الحليب ويا المزازة» وظلت أمامه وهو على مطيته يأكل من يدها «شايلة الطعام وعلى أيدها المويه» وكان أن رضي عنها إبراهيم، وأبلغ ابنه رضاه عن طريقها؛ قائلًا:
ولقد استوقفني في هذا النص العلاقة التي ربط بها إبراهيم مرتين متتاليتين بين الزوجة والعتبة، ففي المرة الأولى طلب الأب الشيخ من ابنه التخلي عن زوجته وتغييرها «غير العتبة يا صاحب العطايا»، فكان أنْ فهم إسماعيلُ وطلق زوجته الأولى، التي يقال إنها كانت مصرية اختارتْها له أُمه المصرية هاجر.
ومع احتفاء إبراهيم بالزوجة الثانية، عاد مرة أخرى فوحد بينها وبين العتبة «صيغ عتبة الدار من الفضة النقية.»
فتوحد الزوجة بالعتبة يشير إلى السعد والرزق، وتصاحب الشعائر المولود الجديد وتخطِّيه للعتبة.
ويرى «تيلور» أن الأدعية والهمهمات المصاحبة للعتبات ومداخل البيوت «مثل يا ساترْ» «ويا أهل البيتْ» أنها بقايا صلوات قديمة.
ومرة أخرى عاد إبراهيم، فنسب إسماعيل إلى أمه هاجر «صيغ عتبة الدار يابن هاجر.»
حتى إذا ما جاء إسماعيل، وحكت له عما تم بينها وبين أبيه — ربما دون أن تتعرف أنه حماها والد إسماعيل — فقال لها إسماعيل «زدتي غلاوة يا صبية، يا ضَيّ عيني، ما فِكِيشْ تفريطْ، حتى تدفنيني.»
•••
وبالنسبة لإسماعيل أبي العرب؛ تُجمع معظم المصادر الميثولوجية على اعتبار إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وبِكره، هو أبو الأقوام العربية الشمالية في الجزيرة العربية الذين عُرفوا بالعرب العدنانيين أو المعديين أو القيسيين.
وتَنسب التوراةُ لإسماعيل أنه أولُ إنسان، جَرَتْ له عادةُ الطهارة من البشر؛ وذلك حين عاهد الله إبراهيم «يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم»، «فأخذ إبراهيمُ إسماعيلَ ابنه وجمع ولدان بيته، وجميع المبتاعين بفضته كل ذكر من أهل بيت إبراهيم، وختن لحم غرلتهم في ذلك اليوم عينه، كما كلمه الله.»
وكما هو معروف فإن عادات الختان وأخذ الوش، ما هي في مداها البعيد إلا مترادفات شعيرة التضحية ﺑ «الأول» أو «البدء» أو «فاتح الرحم» أو «البكري» أو «أولى الثمار» و«أول قطفة» … إلخ.
وكل هذا في النهاية يرجح كفة أن الضحية الأولى؛ كانت إسماعيل.
والغريب أن دائرة المعارف اليهودية تؤكد ما جاءتْ به النصوص الشفهية للسيرة الشعرية «سارة وهاجر» من أن إسماعيل تزوج زوجتين، وكانت زوجتُه الأُولى مصرية اختارتْها له هاجر أمه، وأنه أنجب منها أربعة أطفال ذكور وبنتًا، لكنه تخلَّى عنها وطلقها حين لم تُحسن معاملة أبيه إبراهيم، ويقال إن إسماعيل أنجب ١٢ أميرًا وتزوجت ابنته «عيسو»، أو «العيص» بنَ إسحاق شقيقه الذي أنجبته سارة، بعد أن كبرتْ وشاختْ، ويُنسب لإسماعيل سكان الحجاز «العدنانيون» أو المعديون وعرب اليمن ويُسَمَّون القحطانيين. ويُقال إنه كان أمهرَ من ضرب بالنبل، كما يعده العرب أولَ صانعٍ للسهام والرماح، وأعظمَ صيادي البرية وابنه قيدار أبو العرب.
وهناك اعتقاد بوجود علاقة بين «أيل» إله جبيل وبينه، وهو الذي تحفظ له الأساطير أنه ذبح ابنا وابنة بيديه، كما قد يتوحَّد كل من إبراهيم — اللي ربه البرية — وإسماعيل، في استجلابه المياه لهما، ثم «الخضر الذي سمي خضرًا؛ لأنه ما من مكان يحل به إلا ويعتريه الاخضرار»، كما يمكن إضافة موسى لهم؛ نظرًا لاستجابة مياه البحر له، حين ضربها بعصاه فانشقت، يقول الثعالبي: «إن الأرض برمتها، كانت تأتمر بأمر موسى وتطيعه»، وكذلك أوزوريس وتموز وديونسيوس.
فتفجر المياه من الأرض، حين ضربها إسماعيل بكعبه، فنبعت بئر زمزم «وسارت في كل وادي» يقابله في بعض المصادر المدونة، مثل «اليعقوبي» الذي يقول: إن «هاجر بعد أن صعدت الصفا، رأتْ بقربه طائرًا أسودَ يفحص الأرض برجله» وبعدها تفجرت بئر زمزم.
وهذا الطائر الأسود رمزٌ أو رسولٌ شائع جدًّا في الفولكلور العربي.
وبما أن إسماعيل هو الابن البكر — كما هو مقطوع به في كل المصادر — لذا فمِن المرجَّح أنْ يكون هو الأضحية، لا إسحاق — كما ترى المصادر اليهودية الخلقية.
وحتى لا تُغرقنا هذه المناظرة عن أَيِّهما الأضحية، إسحاق أم إسماعيل؟ وهو ما لا يتصل بموضوعنا؛ نعود إلى موضوع استبدال الأضحية البشرية، بالفداء الذي هو «الكبش» الذي به افتُدي إسماعيلُ أبو العرب — في كل المصادر التي جاءتْ بقصة إبراهيم الخليل، وإقدامه على ذبح ابنه ترضية للرب، ثم نزول الفداء ممثلًا في الكبش أو الخروف، ذلك الحدث الهائل الذي عُرف منذ يوم حدوثه الأول بالعيد الكبير، أو عيد الضحية أو عيد اللحم.
وتمشيًا مع ذلك الصراع المحتدم بين الإلهتين الضرتين؛ أي سارة وغريمتها هاجر، خاصة عقب إنجاب الجارية المضطهَدة — أو المهانة — هاجر لإسماعيل، والتغريب أو الانفصال، الذي أفضى بإسماعيل وقبيلته لأنْ يُصبح أمة، لها هجرتُها ولها — بالتالي — أسطورة أرض ميعاد مصاحبة، على عادة ما هو متبع بالنسبة للأقوام السامية، بلا استثناء في ملازمة أسطورة أرض الميعاد أو الحمى؛ لتواجدها وتوحدها العقائدي والطوطمي — خاصة عقب الكوارث المفضية إلى الهجرات القبائلية — مثلما حدث عقب وصول فُلك نوح، إلى أرض ميعادِه، وإعادة تملك الأرض، وعقب خراب بابل وبرجها الكبير، وتبلبل الألسُن وانقسامها إلى ٧٢ لسانًا، والهجرات.
وكذا عقب خراب سد مأرب باليمن، وهجرات قبائل حمير وهمدان، وهي الهجرات التي أعادتْ تشكيلَ البنيان السكاني لشمال الجزيرة العربية وفلسطين وما بين النهرين، وكذا الأساطير المُصاحبة للقبائل العبرية، والتغريب في مصر، ثم فلسطين، لحين الاستحواذ عليها بالحرب والعدوان.
خلاصة القول: أنه ما من شعب أو رهط أو قبيلة لم يحفظ لها تراثُها وتاريخها أسطورة أرض ميعاد، تحدد لها أرضها ووطنها عبر بحثها عن الزرع والضرع مثل تلك المصاحبة لأرض ميعاد إسماعيل أو المهاجرين.
لكن مشكلة المشاكل هي في ضَياع وافتقاد هذا التراث، على مَرِّ عصور الاضمحلال الطويلة الثقيلة القاسية.
ويقال إن «تشكك اليهود في يهودية هاجر قد تزايد عقب اختيارها زوجةً مصريةً لابنها إسماعيل.»
كما تُضيف هذه المصادر أنه «ما تزال بالأردن — وأطراف الجزيرة العربية عامة — قبيلة تسمى الهاجريين».
فالنص العربي الفولكلوري الشفاهي «سارة وهاجر» يحفظ لإسماعيل دور المنقذ لأبيه وبيته، وهو ما لا يرد له أثرٌ سواء في نصوص العبرية، أو الإسلامية الدينية والتقليدية.
بل إن إسماعيل يرد هامشيًّا في القرآن مع مجموعة من «الرسل» أو الأولياء المجهلين وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ سورة ص الآية ٤٨.
هاجر الجارية الأم المضطهدة
وكما هي العادة تكون الغلبةُ في النهاية للجارية أو الزوجة المعذبة، وهو نفس ما حدث مع راشيل، التي سُميت القبائلُ اليهودية باسمها.
وتكاد تجمع المصادر المختلفة على أن هاجر أميرة أو جارية مصريةٌ أهداها فرعونُ مصر لإبراهيم، مع جُملة ما أهداه من هدايا، عقب حكايته المعروفة مع سارة، حين دخل إبراهيمُ مصر، ووشي بحسن سارة امرأته إلى فرعون، فسأل الفرعون إبراهيم عنها، فقال: هي أختي من أبي لا من أمي، ولم يكذب قوله، فاختارها فرعون إلى نفسه مختليًا، حتى تحقق أنها زوجة إبراهيم، فرَدَّها إليه مع هدايا كثيرة، من جملتها هاجر المصرية جارية سارة.
وكذلك فالمصادرُ تُجمع على ما حدث بين الضرتين، أو الزوجة المتجبرة سارة، وغريمتها المضطهدة هاجر.
سارة الإلهة الأم للقبائل العبرية
وترد سارة في كلا المأثورات الأسطورية والفولكلورية مثل بالاد: سارة وهاجر على أنها الزوجة العقور للخليل إبراهيم، وابنة عمه وأخته في الرضاعة.
كذلك ترد سارة في الحكايات والبالاد الشعرية الطقوسية كإلهة حاقدة متجبرة، بإزاء جاريتها وضرتها المضطهدة هاجر.
وكان للعشتروت معبدٌ يسمى «بيت غابة لبنان أو معبد» إلهة الجبل، كما ذكر معبدها في قصة موسى باسم «بيت ابنة فرعون».
وقد يكون هو نفسه ما دعاه هرودوت باسم «معبد أفروديت الجميلة»؛ نظرًا لأن كلًّا من هاتين الإلهتين تُعرف بأنها إلهة بحرية، وهو نفسه ما ينسب للإلهة الأُم لقبيلة إبراهيم سارة، التي ومنذ أن أصبحت إلهة متفائلة خصبة، حين وعدت من ملاك الرب بأن من نسلها سيخرج «كالرمل الذي على شاطئ البحر»؛ أصبحتْ هي أيضًا إلهة البحر، مثل أفروديت وعشتروت.
وهذا هو جانب توحُّد سارة مع أفروديت، أما فيما يتصل بهلينا زوجة منيلاوس التي اختطفها باريس أو الإسكندر — كما يسميه هرودوت — ثاني أبناء «برياموس» ملك طروادة، وكان ذلك الحادث سببًا لاشتعال نار الحروب الطروادية المتصلة، التي جاءتْ بها الإلياذة الهومرية، وهي الحروبُ التي استمرتْ عشرةَ أعوام من ١١٩٢–١١٨٣ق.م.
والربط بين سارة وهيلانه يبدو في أن كلًّا منهما عُدَّتْ زوجة مخطوفة أو منتزَعة من قبيلتها أو زوجها؛ سارة من زوجها إبراهيم وهيلينا من زوجها منيلاوس.
الملاك الرسول جبرائيل وبراقه
تتبدى ملامحُ الملاك جبريل في الفولكلور العربي بعامة، وسيره وملامحه خاصة، ومنها سارة وهاجر من حيث التصوُّر التشكيلي والتخيُّلي لكبير ملائكة العرش، وبراقه الطائر.
ولعلها أروعُ صور الخيال الشعبي الفولكلوري الإسلامي تعبيرًا عن الملاك الرسول «جبرائيل» والبراق الذي يمتطيه ليهبط به من السماء، أو أنه يعود به ثانية إلى داره الأولى، حين يُنهي مهمته في إبلاغ وَحْيٍ أو رسالة.
كما تجدر ملاحظة تضافُر الإيقاعات الموسيقية، وتجميع أقصى طاقات صوتية لمَدَّاحِي ومغنِّي نص — سارة وهاجر — حين يرد في النص الوصف الشعريُّ للملاك جبرائيل في الوجدان الشعبي الجمعي العربي، بل الإسلامي كملاك رسول، فائق القوة والجمال والتجبُّر:
فيلاحَظ مدى جماليات هذه الوحدات الميثولوجية العربية الإسلامية، الأخَّاذة الباهرة للملاك الرسول جبريل، وبراقه أو مطيته، التي يدعوها النص ﺑ «الأصيلة»، ولعلها بذاتها «فرسة النبي» وما تزال هذه الوحدات محفوظةً داخل التشكيل الإسلامي، سواء في وحدات الرسوم الحائطية، أو وحدات وموتيفات رسوم الكتب والوشم والنسجيات والرسوم الزخرفية الإسلامية بعامة.
وهكذا رَكِبَ ثلاثي العائلة — الخالد — إبراهيم وهاجر وبِكره إسماعيل «البراق جبرائيل»، إلى أن أنزلهم حيث موطنهم المقدر، أو أرض ميعادهم، التي يحفظ لها النص تسمية «أرض جعفر» بدلًا من التسمية التوراتية «أرض فاران» أو برية فاران، وهي مكة الحالية.
وفي المرة الثانية، يَظهر جبريلُ متبديًا مبلغًا إبراهيم باللحاق والانضمام لإسماعيل وقبيلته، الذي كبر بدوره فأصبح بطرقًا أو شيخ قبيلة تستجيب له المياه، وتنبع لضَرْبَةِ قدمه أينما حَلَّتْ، وتأتيه الرؤى التي يتمنى فيها وعبرها رؤية أبيه، فيستجيب له الوحي بدوره:
وعن جبريل قال رسول الله ﷺ: «إن لله ملكًا هو جبريل، لو قيل له التقم السماوات والأرضين بكفة واحدة لفعل.»
أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حَمَلة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عنقه مسيرة سبعمائة عام وقالوا: إنه من شدة قوته رفع مدائنَ قوم لوط وكُنَّ سبعًا بمن فيها من الأُمم، وكانوا قريبًا من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات، وما لتلك المدن من الأراضي والمعتملات والعمارات، وغير ذلك، رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنانَ السماء، حتى سمعت الملائكةُ نباحَ الكلاب وصياح ديكتهم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى.