القسم الأول
وكما ذكرنا فإن السيرة تعني — بعامة: سيرة أنساب، ومن هنا لا تغفل سيرة ذات الهمة التأريخ لتلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة التي من صُلْبها انحدرتْ ذاتُ الهمة وابنها عبد الوهاب.
وكانت الواقعة الرئيسية التي أعلتْ مِن شأن الجد السلف لذات الهمة وهو جندبة، هي إنقاذه لقافلة الخليفة الأُموي عبد الملك بن مروان، وهي في طريقها من فلسطين — أو عبرها — إلى دمشق، مما دفع الخليفة إلى أنْ يبعث في طلبه، لكن في الطريق إليه، تحدثُ واقعةٌ جانبية، حين يصرع هشام بن عبد الملك بن مروان في حب (قتالة الشجعان) زوجة جندبة، إلى أن يتمكن من استلابها أو اختطافها منه.
أما الصحصاح فهلك خلال صراعه مع النمور البرية التي افترستْه في العراء، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره.
وهنا يتوقف راوي السيرة مطولًا عند ذات الهمة التي لم تكن أبدًا تقبل ضيمًا، بل كانت متعاليةً محتشمةً فصيحةً تنطق على الدوام بالشعر والحكمة، وفي عديد من المواقف تتصرف بذكورية أقربَ إلى الفروسية التي تفوقتْ فيها على أعتى الفتيان والأمراء، برغم أنها كانت ما تزال تكدح في كنف أمير يُدعى «الحارس»، كراعية نوق لدى قبائل طيء.
وما إن قويتْ شوكتُها وتعالى عدوانها وصيتُها؛ حتى استقلت عن أبيها وقبيلتها «طيء» وعادت بعبيدها وأموالها إلى حيث قبيلتها الأُم في أرض فلسطين، فنهبتْ أموال وغنائم عمها ظالم، إلى أن واجهتْه الذلهمة أو ذات الهمة، ونازلتْه بالحرب وجهًا لوجه، وهو عمها وأمير قبيلتها.
إلى أن كبر بدوره ابنُ عمها ظالم المسمى بسالم وأحبها على اعتبار أنها داهيةُ بني طيء وليست ابنةَ عمه فاطمة، وحين حاول الزواج منها رفضتْه في وحشية قائلة: «ما خُلقت إلا للنزال لا للرجال، ولا للفراش، وليس يُضاجعني غير سيفي ودرعي وعدة جلادي، ولا يكن خدري إلا صهوة جوادي وكحل غير النقع مرادي.»
بل والملفت أن الأميرة ذات الهمة كانتْ تتعمم بزي الرجال، وتخوض التجمعات مع الناس وتشارك في المعارك السياسية المستعرة في فترة حكم آخر الخلفاء الأُمويين مروان بن محمد، والإرهاص المُقبل بانتقال الخلافة إلى العباسيين.
ثم كيف أشارتْ بطلتُها الذلهمة على قومها بضرورة — بل حتمية — الدخول تحت لواء الدولة الجديدة الوليدة في بغداد.
وهكذا سارتْ ذات الهمة إلى الخليفة المنصور على رأس فرسان قومها، في عشرين ألف فارس، فخَيَّمُوا على مشارف العاصمة تحت راياتهم وبيارقهم، إلى أن استقبلها المنصور هي وعمها ظالم، وأبيها مظلوم، بصحبة أمير كلبي مقرَّب من الخليفة، هو: عبد الله، فكان أنْ خلع عليها المنصور الإمارة وعلى قومها، وهو شديد الإعجاب بشجاعتها وفصاحتها وهامتها المنتصبة الواثقة في حضرته.
حتى إذا ما عرجت بنا السيرة نحو قصص وفابيولات جانبية، منها مدى تعشق ابن عمها الأمير الحارث فيها ورغبته المضنية بالزواج من ابنة عمه، ووصل الأمر إلى مسامع الخليفة فاستدعاها قبل العودة إلى فلسطين ليُقنعها بالزواج من ابن عمها، فأجابتْه في فروسية ملفتة «أنا امرأة لا أحب قرب الرجال، أبغض أخبية النساء وربات الحجال، وقد أحببت ما ترى من القتال والتقلُّد بالسيوف الصقال، والرماح الطوال، فلستُ أُعد من جملة النسوان يا خليفة الرحمن، فسيفي دومًا حجلي والغبار كحلي والحصان أهلي، فماذا أصنع يا أمير المؤمنين بالحارث وبغيره من العالمين؟»
وكان أنْ وثب ابن عمها الحارث من فوره قائلًا: «أشهد على أنْ أتزوج بها على شرط يرضيها؛ ذلك أنها تكون سماءً أراها ولا تكون أرضًا أطأها.»
وكان ليو هذا قائدًا ممتازًا ومنظمًا عظيمًا، وقد عمد الروم إلى سد مضيق البوسفور عبر الرأس الذهبي بسلاسل حديدية منعتْ سفن الجيش العربي من عبوره والوصول إلى مرفأ العاصمة، وبسبب شدة البرد في تلك الأصقاع وهجمات البلغار المضادة على العرب، اضطر العرب للتراجع عن عاصمة الروم والكفِّ عن مهاجمتها مما رفع من مقام ليو، ذلك الجندي السوري المنبت المعمور، واعتباره منقذ أوروبا من الاحتلال العربي.
وهو ما حفظتْ السيرة اسمه بدقة «ليو-ليون»، ويلعب في هذا الحيز من السيرة أهم الأدوار المضادة للتحالف العربي بقيادة الأميرة ذات الهمة وقبيلتها التغلبية الفلسطينية.
والملفت أن هذه السيرة تستطرد في كيفية الاستعداد الأقصى للحرب من جانب ذلك الإمبراطور ليون أو ليو وابنه، في تجهيز الحرب وبناء الأسوار والقلاع، وتجهيز الجيوش وعقد المعاهدات والتحالفات السياسية في القسطنطينية، ومالطة ومداخل أوروبا — أو الغرب بعامة.
وتعود السيرة ملقيةً الأضواء على الجانب الآخر؛ أي مخاوف الخليفة المنصور من الحشود الحربية البيزنطية، وبحثه عن المُنقذ بعد اغتياله لقائده الفاتح، ومثبِّت أركان الخلافة أبو مسلم الخراساني على مذبح عرشه.
ولا تغفل السيرة أدقَّ تفاصيلِ المعارك العربية بقيادة ذات الهمة ضد الروم البيزنطيين على النحو التالي:
قال الراوي: «هذا وإن بني كليب حملتْ على الروم؛ مِن شوقهم إلى الجهاد، وأجادوا الطعن بالسيوف الحِداد، وقد صدموا الروم بالخيل الجِياد، فتلقتْهم البطارقة كالرعد القاصف، وحملت الملعونة باغة وهي صائحة زاعقة فالتقاها عطاف بن الحارث، فتجاولا وتصادما ولم تكن إلا ساعة من النهار حتى حملت عليه الملعونة باغة وضربتْه بالسيف على هامته نزل السيف إلى نصف قامته فوقع إلى الأرض قتيلًا.»
فالملفتُ أن السيرة عبر سردها لأحداث القتال المحتدم على الجبهة الخارجية؛ تعود من فورها غائصةً وكاشفة عن أبعاد الصراعات الداخلية من قبائلية وسياسية، انتهتْ في تلك الحقبة باعتلاء الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد للخلافة الإسلامية.
ويبدو أن ذاتَ الهمة وقبيلتها استبشروا بالخليفة الجديد، هارون الرشيد أو هارون العلوي، الذي حارب طويلًا تحت رايات ذات الهمة — كما هو ثابتٌ تاريخيًّا — وذلك فيما قبل عام ٨٧٢ ميلادية، حين قاد جيشًا لأبيه الخليفة المهدي عبر آسيا الصغرى إلى أن وصل تخوم البسفور، وشارك في الكثير من الفتوحات التي شملتْ بحر إيجة حتى تخوم القسطنطينية — ذاتها — وأسوارها.
إلا أن السيرة لا تغفل عبر سردها غير المنحاز إلى حد كبير ضد الوزراء العباسيين الرجعيين والخونة إلى حد مكاتبة أولئك الوزراء للإمبراطور الروماني، وإنْ بالغت السيرة كثيرًا في أنهم كانوا مرتدين أو مسيحيين، من ذلك كبيرُ القضاة العباسيين واسمه «عقبة» وأولادُه الكثيرين، والذي تصفُه بأنه كان من «عبدة الصليب والأوثان»؛ ونظرًا لأنه كان مقرَّبًا من الخليفة الراحل المهدي؛ فإنه كان يمتلك كنيسةً ويعلِّق الصلبان من طوف أولاده الكثيرين، ويبدو أنَّ عقبة ذلك كان على دِرَاية عالية بعلوم عصره؛ ذلك أنه راسل الإمبراطور الروماني ذاكرًا «إنني رجل حفظت الأخبار وعرفت الأنشاد وقرأت الكتب اليونانية والصحف العبرانية.»
ونفس الدور السالب ذاتُهُ تعرضتْ له السيرةُ فيما يختص بالوزير الأول المقرب «الفضل بن الربيع» الذي كان له اليدُ الطولى لدى الرشيد داخل البلاط العباسي.
وعلى هذا استغل الفضلُ بن الربيع تلك اليد السلطوية الطُّولى في الفتك بالجناح الأكثر استبصارًا بالأخطار المحدقة بالدولة الوليدة، وهم البرامكةُ … الحلفاء الطبيعيين لذات الهمة وابنها عبد الوهاب والكيان الفلسطيني — البحري — بعامة.
وكانت ذات الهمة نهبًا لذاك التمزُّق والمؤامرات التي كانت تُحاك ضد البطال وابنها الأمير عبد الوهاب من جانب عقبة والفضل داخل البلاط العباسي.
وجاءت الحملة الخطيرة التالية ضد القسطنطينية عام ٧٨٢ ميلادية التي قادها هارون الرشيد بنفسه.
ومرجع هذا الانتصار بالطبع هو حنكةُ الرشيد وتفهُّمُه لجذور الانقسامية، من عصبية قبلية شوفينية، تمثلتْ أول ما تمثلتْ في ذلك الصراع والاقتتال الانقسامي الضاري بعيد الجذور، بين القبيلتين المهيمنتين في كلا الحرب والسلم، وهُم: بنو كليب الفلسطينيين وأميرتهم ذات الهمة، ومنازعيهم بنو سليم القيسيين، عرب شمال الجزيرة العربية وعمورية، بل وفلسطين ذاتها.
وهو الصراعُ أو ذلك التنافسُ القبليُّ بين القبائل الفلسطينية المتحالفة تحت رايات ذات الهمة، ومنازعيهم العرب الشماليين، وهو ما بدأتْ به السيرةُ أحداثها؛ حيث إن الأمويين كانوا قد سبقوا وقَدَّموا مع مطلع الخلافة الأموية بني سليم على منافسيهم التغلبيين — تحالف ذات الهمة وابنها عبد الوهاب — بل وحتى عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين في بغداد قدم الخليفة المنصور بني سليم على منافسيهم، وظل هذا هو الحال إلى أن أخذ التغلبيون مكانهم، منذ الجد السلف لذات الهمة الصحصاح.
حتى إذا ما تغير الحال وانتقلت الخلافة إلى العباسيين، عقب أُفول دمشق الأموية، وخاطبهم الخليفةُ المنصور عن طريق رُسُله، رده الأمير ظالمٌ — عم ذات الهمة — قائلًا: «ما الذي كان بيننا وبين المنصور حتى إنه عزلنا عن الملك، وأينما كان أبونا محبًّا لبني أُمية وقد هل الجميع وصاروا في القبور؟ فارجعْ إلى صاحبك — يقصد الخليفةَ المنصور — وقُلْ له: عرب البر لا يدخلون تحت طاعتك، ومن جاء إلينا كانت سيوفنا إليه أقرب من كلامه.»
واستنادًا إلى الطبري ودائرة المعارف الإسلامية؛ فإن التحالف القبائلي المعروف ببني سليم، وهم — كما ذكرنا — من العرب القيسيين أو العدنانيين أو المَعْديين؛ كانوا يقيمون بشمال الجزيرة العربية «مكة والحجاز» وإليهم كان يَنتسب عمرو بن عبد الله أمير مالطة، كما أن السيرة تنسب العدو الأكبر لعبد الوهاب وأمه ذات الهمة، وهو القاضي عقبة إلى قبائل بني سليم المنافسة.
ومن هنا حاول الرشيد جاهدًا إزالةَ الرواسب القبلية بين سليم وكليب، خاصة صبيحة الحملة التي قادها بنفسه لغزو القسطنطينية.
وأما الشيخ عقبة يجب عليكم أن تُكرموه؛ لأجل علمه، وما هو فيه من العلم وحُسْن الشِّيَم والفضل والأدب والعمل، وإن كان تكلم البطال بكلام أو نطق بحرف واحد وقال مقال الحاسد، قطعتُ رأسه وأخمدتُ أنفاسه، فتأهبوا الآن إلى بلاد الروم؛ حتى يؤدوا الجزية وهم صاغرون.»
لذا انتقل الصراع من فوره متوازيًا إلى ساحات الحروب والمعارك المستعرة، الدائرة بنفس ما يحدث على أيامنا، فاندفعتْ كُلُّ قبيلة تَكيد للأخرى داخل أروقة البلاط العباسي وحريمه، مع ما صاحب ذلك من أسر الأمير عبد الوهاب ذات غزوة سبيت فيها أميرة أو ملكة رائعة الحسن اسمها «الميرونة»، وحينما طالبه الرشيد بردها إليه في بغداد — وكان عبد الوهاب قد استحلها ودخل عليها، بل هو سيخلف منها ابنه «سيف الموحدين» الذي سيلعب دوره كجيل تالٍ بأسره بعد عبد الوهاب، على عادة السِّيَر الشعبية في تأريخها للأُسر الحاكمة، كما هو الحال بالنسبة لسيرتنا، وبالنسبة لسيرة «بيست آتريوس» التي هي الإلياذة الهومرية وحروبها الطروادية التي دامتْ عشرة أعوام متصلة.
وهكذا قدم هارون الرشيد من جديد منافسيهم الحجازيين من بني سليم، وعرب شمال الجزيرة العربية على التغلبيين، من أسرة ذات الهمة.
وكما ذكرنا فإن إبعاد عبد الوهاب وذات الهمة من جانب الخليفة وبلاطه، كان يعني ضرب وقمع الجناح أو التجمُّع الأكثر انفتاحًا وثورية، وهو ما اكتمل في ذلك العصر العباسي في نكبة البرامكة، التي تُشير — في جلاء — إلى ضرب وإضعاف ذلك التحالُف البرمكيُّ أو العجمي الفلسطيني، وبالرجوع للسيرة يتضح هذا: