القسم الثالث
فلا تتوقف حدودُ تأريخ سيرة ذات الهمة عند الحروب والأحداث السياسية، بل هي تسرد تأريخًا شعبيًّا لا يغفل حتى العمران، من ذلك تشييد أو إنشاء مدينة بغداد.
فقال له الخليفة: كيف تبنى المدينة هنا وهذه الأرض ملآنة ماء؟ فقال له الراهب: لا تعرف قطع الماء إلا مني، فقال له: افعل ما تريد، فمضى إلى مكان يعرفه، وسد الماء فانقطع، ونزل المنصور على الدجلة، ثم أمر بعمارة المدينة وأمر بإحضار البنائين من سائر البلاد، وقسم كل طائفة من المعسكر ناحية، وأعطى السواد المال وعملوا فيها بالأجر، ثم جلبوا له الصواري والرخام والأخشاب الجوز الرمي وغيره، وعمرت المدينة فكانت عالية البنيان مليحة الأركان، كأنها مدينة نبي الله سليمان، وشقت إليها بعد ذلك الأنهار والجداول، وعمل ما لا يقدر عليه الأوائل.»
وهكذا تجيء السيرة متسقة مع التاريخ الأركيولوجي، إلا أنها تتجاوز التاريخ — بالقطع — في الاحتفاء بتفاصيلَ أكبر، وأكثر اتساقًا بالتأريخ الشعبي للجماهير؛ ذلك أن الخليفة السفاح وهذا لقبه الصدامي المشير إلى البطش والتجبُّر، ذلك الذي أخطته الخلافة الجديدة، اتساقًا أيضًا مع وسمة الحضارات العراقية السالفة من بابليين وكلدانيين، أشداء وأشدوديين وآشوريين، وهكذا.
فعلى هذا النحو اعتُبر العباسيون خلفاءَ شرعيين منزلين، فرضوا أكثر فأكثر سلطاتٍ دينية، من تلك التي كانت تجاوزتْها الخلافة الأموية السورية، في اتجاه العلمنة المتخلصة إلى حد من البنى الدينية.
وتُولي سيرة ذات الهمة اهتمامًا أكبر لفاجعة البيت البرمكي، وهي تسوق — عبر آلاف الصفحات — أبعادَ ذلك الانقلاب السياسي برغم الحرب المستعرة التي تقودها قبائل ذات الهمة المتحالفة، تواصل ذروتها على أبواب عاصمة الروم البيزنطيين.
فالسيرةُ تتعقب مآثر أفضالهم واحتضانهم لبسطاء الناس الكادحين، من مُهانين ومُضطهَدين، ومدى إحسانهم وعطائهم وتضميدهم لجروح المحرومين على طول تلك الإمبراطورية الاستبدادية المتجبرة، للرشيد الذي توصله أحقادُه إلى حَدِّ توزيع الغنائم من ممتلكات البرامكة على أبنائه من الخلفاء الورثة القادمين.
ويلاحظ أن هذه الفاجعة العباسية الكبرى جرى التخطيط لها داخل ساحات ومخادع القصور، بينما الحرب المستمرة المهددة لتخوم الخلافة، تواصل أكثر فأكثر اندلاعها.
كما يلاحظ أن النكبة وقعتْ والحلفاء الطبيعيين للبرامكة الهمة والأمير عبد الوهاب والبطال، مبعدون بالجبهة لحفاظهم على ثغور الخلافة الإسلامية والحرب.
ذلك أنهم كانوا مشغولين بالتحضير لغزو بلاد؛ اليونان لتحرير أسراهم منها، ومنهم هنا — كما تذكر السيرة — الأميرة علوى زوجة الأمير عبد الوهاب وابنها الأمير إبراهيم.
وكما تذكر السيرة فما أنْ وصلتهم الأخبار ومكاتَبات الخليفة حتى عادوا — ذاتُ الهمة وعبد الوهاب والبطال — من فورهم إلى بغداد «ومعهم أربعون ألف عنان من بني عامر وبني كليب، وعشرون ألفًا من السودان.»
وبالطبع يحتدم الصراع داخل عاصمة الخلافة، بينهم وبين الخليفة وتوابعه، عقبة والفضل بن الربيع، ويقوم البَطَّالُ باختطافهما، للمزيد من تكشف تآمرهما ضد البرامكة المغتالين، إلى أن يعودوا أدراجهم إلى القتال وتحرير أسراهم.
وهكذا تخبرنا السيرة، عبر ضوابطها الروائية، بالأحداث من داخلية سياسية تصل أقصى ذروتها في بغداد، وما توالى من أحداث، لتعود مسرعة مرة أخرى راصدة ومصورة لتفاصيل القتال الضاري ضد الروم البيزنطيين، حتى استشهاد ذات الهمة في ساحات القتال، وتوالي عصر الأبناء أو الآباء من ذرية ابنها الأمير عبد الوهاب، وحكمهم لمداخل أوروبا والأندلس.