روسيا: حرب بوتين ضد النخبة
في خريف عام ٢٠٠٤ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن خُطَط تهدف إلى إجراء «إصلاح» جذري للمنظومة السياسية في بلاده، وكان الهدف هو تركيز مقاليد السلطة في يَدِ الكرملين. انتهز بوتين فرصة حدوث أزمة رهائن في بيسلان أقدَم فيها انفصاليون من الشيشان على قتْلِ مئات الأطفال، وزعم أن سيطرته على مقاليد السلطة كان مبعثها الأساسي هو حاجة روسيا إلى الفوز في حربها ضدَّ الإرهاب. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يُسخِّر فيها بوتين قوةَ الدولة الروسية في تنفيذ أغراضه الخاصة.
كان بوتين، الذي اختاره سلفُه بوريس يلتسين بنفسِه كي يخلفه في قيادة روسيا، يخوض حربًا على «النخبة»، والمقصود بها رجال الأعمال الذين ملئوا فراغ السلطة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١ وسيطروا على أصول الدولة. كانت تلك النخبة قد دعمت حكومة يلتسين إلى أن وقعت روسيا في حالة من الفوضى مع انهيار الروبل عام ١٩٩٨.
كان ميخائيل خودوركوفسكي، رئيس مجموعة شركات النِّفْط الروسية يوكوس وصاحب أكبر حصة من أسهمها، أحدَ أفراد تلك النخبة المزعومة، وكان صافي ثروته، وفقًا لمجلة فوربس، يبلغ ١٥ مليار دولار. ونظرًا لأن نوعية الرأسمالية التي يمثلها خودوركوفسكي وكذلك ثروته كانتا تمثلان تهديدًا مباشرًا لسلطة بوتين؛ أُلقِيَ القبض عام ٢٠٠٣ على خودوركوفسكي، بإيعاز من بوتين، وأُلقِيَ في السجن على خلفية جريمتَيِ الاحتيال والتهرُّب الضريبي. بعد ذلك فُتح الباب أمام شركة النِّفْط الحكومية روسنفت للفوز بمناقصة لما تبقَّى من شركة يوكوس. وظل خودوركوفسكي حبيسًا منذ ذلك الوقت.
كان الإصلاح الجذري لمنظومة الملكية الخاصة بالنخبة، تلك المنظومة المعيبة وغير المنصفة، أمرًا حتميًّا، بَيْدَ أنَّ حركة بوتين كانت معيبة وغير منصفة بالمثل وكانت مؤشرًا على الكيفية التي تسيطر بها الحكومة المركزية، أو أتباعها الذين لا يُلقُون للقانون بالًا، على عالم الأعمال بشكل عام، سواء الأعمال الأجنبية أم المحلية.
***
شهد عالم النِّفْط تغيُّرًا جذريًّا منذ الصدمات النِّفْطية الكبرى التي حدثت في سبعينيات القرن العشرين. دخل إلى حَلَبة الصراع جيلٌ جديدٌ من الدول التي يُمكِن تسميتُها «الدول النِّفْطية المعتدية»، وأبرز ثلاثة أمثلة لهذه الدول روسيا وإيران وفنزويلا.
دأبتِ الدول النِّفْطية المعتدية دومًا على استخدام الخطاب العالي الحِدَّة، أو إظهار قوَّتِها على نحو مبالَغٍ فيه، أو إصدار التهديدات، أو توجيه الإنذارات للغرب. لكن بداية من تسعينيات القرن العشرين، ومجددًا في بدايات القرن الحادي والعشرين، مَنَحَتِ الثرواتُ النِّفْطية الجديدة المتدفِّقة إلى خزائن هذه الدول إيَّاها قدرةً أعظم على التصرف بمزيد من الخشونة.
خلال سنوات الحرب الباردة بين عامَيْ ١٩٤٥ و١٩٩١، أراد الاتحاد السوفييتي أن يُنتِج أكبر قدْر ممكن من النِّفْط والغاز، وبوصفه بلدًا ديكتاتوريًّا، فقد أصرَّ على أن تشتري دول معيَّنة في أوروبا الشرقية ووسط آسيا سِلَعَه. كان مُلزَمًا بإمداد الجمهوريات السوفييتية النائية بالنِّفْط، لكنه لم يكن مهتمًّا بالمساومة حول السعر.
عام ١٩١٧ كانت روسيا تفي ﺑ ١٥ بالمائة من الطلب العالمي على النِّفْط، لكنها لم تحقِّق ثروات حقيقية من ورائه حتى تسعينيات القرن العشرين. ومنذ ذلك الوقت، منحتْها سيطرتها الحديدية على بعضٍ من أكبر مستودعات العالم النفطية، المُكتَشَفة وغير المستغَلَّة، منحتها القوةَ كي تَصير دولة نفطية معتدية. وفي عام ٢٠٠٦ صارت روسيا ثاني أكبر مصدِّر للنِّفْط بعد المملكة العربية السعودية.
في بدايات حكم بوتين، كان الاقتصاد الروسي يمرُّ بأزمة عُمْلَة، وهو إرثٌ خلَّفتْه حقبة يلتسين. كانت الحكومة مَدِينة بمئات المليارات من الدولارات، وكان النظام المصرفي يُعاني من نقص السيولة، وعانى مستثمرو الأسهُم من خسائر فادحة، وغادر عدد كبير من الشركات الأجنبية روسيا وعادت لأوطانها. لم تكن الخدمة العامة تعمل بكل طاقتها؛ لأن الحكومة لم تكن تحصل على عائدات ضريبية كافية. كان ما يَصِل إلى نصف الاقتصاد الروسي تقريبًا قائمًا على السوق السوداء.
ومع هذا، وبفضل أسعار النِّفْط المتزايدة، تمكَّن بوتين من دفع الديون، وزيادة احتياطي العملة، وزيادة الضرائب المحصَّلة. وفي عام ٢٠٠١ فرض بوتين ضريبة دَخْل موحَّدة مقدارها ١٣ بالمائة. ورغم أن بوتين كان قد نجح في إخراج بلده من الهُوَّة الاقتصادية، فقد كان بحاجة للاستمرار في المسار الذي رسمه إلى التكنولوجيا الغربية من أجْل استخراج النِّفْط على نحو أكثر كفاءة من الناحية الاقتصادية. ولوهْلة، بدا وكأنه يمكن بناء علاقات من شأنها أن تُفِيد كلًّا من الغرب وروسيا الجديدة. وخلال الأشهُر الستة الأولى من عام ٢٠٠٠، بدأ المستثمرون الأجانب يَلْقَوْن ترحيبًا.
من البداية، بدا بوتين مهتمًّا بالعلاقات مع الغرب فقط حين كان يَرَى أنها مُفيدة له. في أوائل عام ٢٠٠٢، بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في صناعة النِّفْط الروسية ٤٫٥ مليارات دولار، وأغلب هذا المال ذهب إلى مشروعات مكلِّفة عالية الخُطُورة في المحيط الهادي وإلى بناء خط أنابيب يربط حقول النِّفْط في بحر قزوين بموانئ البحر الأسود. كانت العلاقات الروسية الغربية تُظهِر بالفعل بعضَ علامات التوتر، لكنَّ شهْرَ العسل انتهى بشكل رسمي في أكتوبر ٢٠٠٣، حين بدأ الروس في إلقاء القبض على مسئولي يوكوس التنفيذيين.
من الواضح أن مستثمري النِّفْط الغربيين كانوا مرتبكين بشأن المسار الذي كان بوتين يَسلُكه. كانوا يُريدون الاستثمار في مجال النِّفْط، لكنهم شعروا بعدم الاستقرار في بيئة يُسجَن فيها مسئولو الشركات التنفيذيون. علاوة على ذلك، كانوا قد أُبعِدوا عن الاستثمار في الشرق الأوسط، فإما أن يكون لديهم فرصة لدخول حقول النِّفْط في أمريكا الشمالية وشمال غرب أوروبا، وإما أن حقول النِّفْط كانت في سبيلها للنفاد وكان إنتاجها في انخفاض.
عام ٢٠٠٤، عجَّل بوتين عملية الحصول على الموافقات وأنشأ مناطق صناعية معفاة من الضرائب، وعرض على المستثمرين الدخول في مشروعات مشتركة مع شركات مملوكة للدولة. حملت تلك المشروعات المشتركة وعودًا بأرباح مغرية، لكن الكرملين، وليس القطاع الخاص، صار صانع القرار الأساسي في عملية إنتاج النِّفْط، وتسبب التدخل الحكومي في فتور حماس مستثمري النِّفْط الغربيين. وأعلنت إكسون موبيل، وكذلك شركة النِّفْط الفرنسية توتال، خفْضَ مشاركتهما في أسواق النِّفْط الروسية. وبين عامَيْ ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ زاد مقدار رأس المال الهارب من ٢٫٩ مليار دولار إلى ١٢ مليار دولار؛ أيْ بواقع ٩ مليارات دولار.
اضطر الروس، نظرًا لعدم رغبتهم في الاعتماد على تكنولوجيا النِّفْط والمعرفة الغربية التي كانوا يحصلون عليها من قبل، إلى الاعتماد بالأساس على أنفسهم. وبحلول عام ٢٠٠٥ بات قطاع النِّفْط والغاز الروسي مسئولًا عن ٢٠ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، وكان يولِّد أكثر من ٦٠ بالمائة من عوائد التصدير، ويمثِّل ٣٠ بالمائة من كل الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد. ودون شك، ونتيجة تدفُّق عوائد النِّفْط، عاود الاقتصاد الروسي الوقوف على قدميه.
بحلول عام ٢٠٠٧، كان بوتين قد اشترى قدْرة إنتاجية تصل إلى ١٠ ملايين برميل يوميًّا. كانت روسيا تتحكَّم بالفعل في الطريق إلى إنتاج دول وسط آسيا المتزايد، وهو موقف صار واضحًا حين أعلنت شركة لوك أويل أنها ستزيد الإنتاج من كازاخستان بنسبة ٤٠ بالمائة بحلول عام ٢٠١٠.
كانت لوك أويل هي الشركة المهيمنة في قطاع النِّفْط الروسي بنسبة قدرها ١٩ بالمائة من إنتاج النِّفْط الروسي ونسبة قدرها ١٨ بالمائة من احتياطي النِّفْط الروسي. من منظور عالمي، كانت الشركة تملك ١٫٣ بالمائة من احتياطي النِّفْط العالمي وتسيطر على ٢٫٣ بالمائة من إنتاج النِّفْط العالمي. عام ٢٠٠٦ تمتَّعتْ لوك أويل بأكبر حجم للتداول بين الشركات الأجنبية في بورصة لندن. إن النموذج الروسي — المتمثِّل في سيطرة الدولة على شركات النِّفْط الخاضعة أسهُمُها للتداول في البورصات — تسبَّب في تشويه الرأسمالية وفق هوى بوتين.
شركات النِّفْط الروسية المملوكة للدولة٩
• غازبروم.
• روسنفت.
• سلافنفت.
• ترانسنفت.
• لوك أويل.
• أوناكو.
• سيبنفت.
• راسنفت.
مثَّل كنز النِّفْط الروسي إغراءً لا يُقاوَم في نظر شركات النِّفْط الدولية. وبمزيج من العناد والتفاؤل، عادت الشركات التي كانت قد غادرت روسيا منذ سنوات قليلة خلت بكل قوة في عام ٢٠٠٧، فافتتحت متاجر بيع بالتجزئة، وبَنَتْ مصانع لتجميع السيارات ووَفَّرَتْ مساكن للطبقة الوسطى الجديدة المتنامية. شهدت عمليات الطرح الأوَّلي للأسهم الروسية إقبالًا كبيرًا، ليس فقط في بورصة موسكو، وإنما في بورصات فرانكفورت ولندن ونيويورك أيضًا.
(١) مشروع روسيا المشترك مع شركة بي بي
عام ٢٠٠٣، دخلت شركة النِّفْط البريطانية، بي بي، في مشروع مشترك مع شريك روسي، وكانت حصة كلٍّ منهما في المشروع خمسين بالمائة. كان اسم المشروع تي إن كيه-بي بي، وكان يرأسه من جانب بي بي التنفيذي روبرت دادلي. كان الهدف الروسي هو جلب تكنولوجيا بي بي من أجْل تعزيز الإنتاج في بعض حقول النِّفْط القديمة واستكشاف مناطق جديدة. كانت روسيا تأمل أنه في العام التالي، عام ٢٠٠٤، ستكون بي بي قادرة على رفع الإنتاج في حقول النِّفْط القديمة من مليون برميل يوميًّا إلى ١٫٤ مليون برميل. كانت بي بي تتطلَّع إلى جَنْيِ ثمار عملها؛ من حيث الاستكشاف الجديد واحتياطيه المضمون في حوض نفط سيبيريا بروسيا.
لكن الحكومة الروسية لم تسمح بالأمر بهذه السرعة. وفي يوليو ٢٠٠٨ ألْغَتِ الحكومة الروسية تأشيرة العمل الخاصة بدادلي. قال بيتر سَذرلاند، رئيس بي بي، إن الشركة كانت تُقاوِم محاولات الشريك الروسي السيطرة على حصتها، ذلك الشريك المدعوم على ما يبدو من طرف السلطات الروسية، وهي حيلة قومية أخرى تتمثل في إبعاد شركات النِّفْط الغربية عن المناطق الغنية بالطاقة.
كانت بي بي تضخُّ نحو ٢٥ بالمائة من إنتاجها العالمي في روسيا. وتنبَّأ العديد من محللي الصناعة بأن شركة تسيطر عليها الحكومة الروسية، مثل غازبروم أو روسنفت، ستسيطر في نهاية المطاف على المشروع المشترك، بحيث تَصير بي بي مجرد شريك ذي حصة أقلية، هذا لو كانت محظوظة من الأساس.
الغزو الروسي لجورجيا: النِّفْط محور للصراع
في أغسطس ٢٠٠٨، غَزَتْ روسيا جورجيا. السبب المُعلَن للصراع هو أن روسيا كانت بحاجة للحفاظ على السلام بين دولة جورجيا المستقلَّة وانفصاليي أوسيتيا الجنوبية المنشقِّين. لكنْ بطبيعة الحال كان النِّفْط محورَ هذا الصراع. أرادتْ روسيا السيطرة على منطقة قزوين الغنية بالنِّفْط. لم تكن جورجيا تملك مصادر طاقة خاصة بها، لكن كانتْ تمرُّ في أراضيها خطوط أنابيب — بَنَتْها شركات النِّفْط الدولية الكبرى — تنقل النِّفْط والغاز من منطقة قزوين إلى الأسواق الغربية.
كانت الولايات المتحدة تدعم ممر طاقة يمتد من الشرق إلى الغرب عبر أذربيجان وجورجيا إلى تركيا، وهو ما خفَّف قبضةَ روسيا المُحكَمة على الإمدادات الآتية من إحدى المناطق النِّفْطية المتبقية القليلة غير المستغَلَّة على مستوى العالم.
استعرضت روسيا عضلاتها مرة ثانية. ولم يفعل حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو أي دولة غربية منفردة أي شيء للحيلولة دون ذلك.