إيران: الغطرسة بوصفها استراتيجية نفطية
وفي الرابع من نوفمبر ١٩٧٩، تمَّ الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران، واحتُجِز الموظفون السبعون العاملون بها رهائن. وبذا بدأتْ أزمة الرهائن، التي ستستمر لمدة ٤٤٤ يومًا.
***
تسببت حالتا عدم الاستقرار وعدم اليقين المحيطتان بالثورة الإيرانية في خفْض إنتاجها النِّفْطي للعالم؛ ومِن ثَمَّ ارتفاع أسعار النِّفْط إلى أعلى مستوياتها في الفترة التالية على الحرب العالمية الثانية. فبحلول نوفمبر ١٩٨٠ كان إنتاج إيران والعراق معًا من النِّفْط يوميًّا يبلغ مليون برميل فقط؛ أيْ أقل مما كان عليه عام ١٩٧٩ ﺑ ٦٫٥ ملايين برميل. لكن ما أزعج إيران أكثر من فقدان العوائد النِّفْطية كان ذلك الوضْع المهدَّد بالخطر الذي صارت عليه. فقد هاجم صدَّام حسين إيران في سبتمبر ١٩٨٠، مُشعِلًا حَرْبًا دامت لثماني سنوات.
أدَّتِ الضربة المزدوجة المتمثِّلة في الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية إلى ارتفاع أسعار النِّفْط لأكثر من الضعف من ١٤ دولارًا للبرميل عام ١٩٧٨ إلى ٣٥ دولارًا للبرميل عام ١٩٨١. حتى عام ٢٠٠٦ كانت إيران تُنتِج ١٫٦ مليون برميل من النِّفْط يوميًّا؛ أي ٥ بالمائة من الإنتاج العالمي. ورغم أنها كانت ثانيَ أكبر منتِج في منظمة الأوبك بعد السعودية، حتى بعد ذلك التاريخ بعام؛ أي عام ٢٠٠٧، لم يبلغ إنتاج النِّفْط الإيراني سوى ثُلُثَيْ ما كان عليه تحت حكم الشاه؛ أيْ أقل بنحو ١٫٥ مليون برميل من ذروته قبيل الحرب العراقية الإيرانية.
خلال عَقْد الخمسينيات، وفي إطار علاقتها الودودة مع الشاه، ساعدتِ الولايات المتحدة إيران في إطلاق برنامجها النووي الأصلي كجزء من برنامج «تسخير الذَّرَّة من أجْل السلام». استمرت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية في دعم البرنامج حتى نشوب الثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، حين أُطيح بالشاه وساءت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران.
جذور تأميم النِّفْط الإيراني
تأسست شركة النِّفْط الأنجلو-فارسية عام ١٩٠٨ في أعقاب اكتشاف حقل نفطي كبير في مدينة مسجد سليمان في إيران. تغيَّر اسم الشركة إلى شركة النِّفْط الأنجلو-إيرانية عام ١٩٣٥ وفي النهاية صارت شركة بريتيش بتروليم عام ١٩٥٤، وهي أحد جذور شركة بي بي اليوم.
في نوفمبر ١٩٥٠ أمَّم حاكم إيران محمد مصدق شركة النِّفْط الأنجلو-إيرانية. وفي ١٩ أغسطس ١٩٥٣ أُطيح بحكومته عن طريق انقلاب مدعوم من جانب الولايات المتحدة، وحلَّ محلَّه شاه إيران محمد رضا بهلوي.
من دون مساعدة التكنولوجيا الغربية، أوقفت الحكومة الإيرانية العمل بالبرنامج مؤقتًا.
كانت هناك أطراف أخرى خلاف القوى السياسية العالمية معنية بالدرجة عينها بالصراع المحتمل بين إيران والغرب، وتمثلت هذه الأطراف في المتاجرين ببورصة الأسهم الإيرانية ومَن يستخدمون النظام المصرفي الإيراني. غادرت نحو ٢٠٠ مليار دولار إيران متجهة إلى دُبَي والإمارات العربية المتحدة. وفي عام ٢٠٠٦، رغم الأرباح النِّفْطية العالية التي حقَّقتْها البلاد، خسرت البورصةُ الإيرانية، التي عانت بالفعل من انخفاضٍ تَجَاوَز العشرة بالمائة عام ٢٠٠٥، نسبةً أخرى مقدارها ٧٫٥ بالمائة.
لكن البورصة، المعروفة باسم «بورصة كيش»، كانت قد بدأتِ العمل بالفِعْل في فبراير ٢٠٠٨، وهناك بورصات مشابِهة بدأتِ العمل في دُبَي وقَطَر. إلى الآن، تتعامل هذه البورصات فقط في منتجات المشتقات البترولية الخاصة بالصناعات البلاستيكية والدوائية، لكن وزير النِّفْط الإيراني غلام حسين نوذَري أشار إلى أن المرحلة الثانية، وهي التعامل المباشر في النِّفْط الخام، ستبدأ بعد أن يتأكَّد سَيْرُ العمليات الحالية بسلاسة.
إلى الآن، لم تُبْدِ دول الخليج استعدادًا كبيرًا لتحدِّي الولايات المتحدة وتقييم تجارة النِّفْط باليورو. وفي الوقت الحالي على الأقل هي تُتاجِر إما بالدولار الأمريكي وإما بعملاتها المحلية، لكنها على الأرجح ستُتاجِر باليورو في غضون عَقْد من الزمان في كلٍّ من إيران وقَطَر ودُبَي.
سيكون هدف إيران من وراء بورصتها النِّفْطية الجديدة ليس فقط تمكين طهران من استخدام آلية لتجارة النِّفْط الدولية قائمة على التقييم باليورو من أجْل عملياتها التجارية النِّفْطية، وإنما أيضًا محاولة تأسيس آلية التسعير الخاصة بها لتجارة النِّفْط («مؤشر» نفطي). منذ ربيع عام ٢٠٠٣، ورغم إصرار إيران على أن تكون المدفوعات باليورو مقابل صادراتها الأوروبية وتلك الموجهة لاتحاد المقاصة الآسيوي/الآسيوي، فإن تسعير النِّفْط من أجْل التجارة كان لا يزال يتمُّ بالدولار. ستكون الفكرة أن يُعرَض على المشترين الدوليين للنِّفْط خيار إما شراء البرميل مقابل ٥٠ دولارًا في بورصة نايمكس أو آي بي إي، وإما شراؤه مقابل ٣٧ جنيهًا استرلينيًّا أو ٤٠ يورو مثلًا في البورصة الإيرانية. لاقتِ الفكرة ترحيبًا بوصفها كَسْرًا واضحًا لهيمنة الدولار الأمريكي في أسواق النِّفْط الدولية.
تلقَّتْ بورصة النِّفْط الإيرانية بالفِعْل دعمًا من كلٍّ من فنزويلا والصين والهند (الدولتان الأخيرتان دَعمتا على نحوٍ ملحوظ طموحاتِ إيران النووية). ورغم خوف بعض المحللين في الغرب، فإن آخرين تشككوا في أن تُلحق البورصة الجديدة ضررًا كبيرًا بالاقتصاد الأمريكي. فعلى أي حال، يبلغ نصيب إيران من سوق النِّفْط الدولية ٥ بالمائة وحسب.
لا أزعم أن النِّفْط هو القوة المحرِّكة الوحيدة خلفَ تصميم إدارة بوش على تدمير القدرات العسكرية الإيرانية. لا شك أن هناك العديدَ من متخصصي الأمن القومي في واشنطن القلقين بشأن البرنامج النووي الإيراني، تمامًا مثلما كان هناك العديد من المتخصصين القلقين بشأن القدرات العسكرية العراقية.
ومع هذا، بعد أن تذوقتْ إيران إحساس أن تكون قوة نووية، استأنفتِ العمل على مشروعها النووي بأسرع ما يُمكِنها. ومن المتَوَقَّع أن تكون منشأتُها النووية الأولى، بوشهر ١، جاهزة للعمل بالكامل بحلول عام ٢٠٠٩.
لكن لم يَقِف العالَم مكتوفَ الأيدي؛ فما إنْ صار مجلس الأمن واعيًا بحقيقة التهديد المتجدد وإلحاحه حتى طالب إيران بوقْف كلِّ الأنشطة المرتبطة بتخصيب اليورانيوم ومعالجته بحلول الحادي والثلاثين من يوليو ٢٠٠٨. وإذ لم تَفِ إيران بالموعد المحدَّد فرض مجلس الأمن عقوبات عليها، ومنعها من استيراد أو تصدير الموادِّ والمعدَّات النووية الحسَّاسة، وأعلن أنه سيُجمِّد الأصول المالية لأي شخص أو جماعة تدعم البرنامج النووي. ومن المفترض أن تتحقَّق الوكالة الدولية للطاقة الذرية من توقُّف تلك الأنشطة.
في مواجهة التهديد بتلك العقوبات، آمن المسئولون الإيرانيون أنه لا يوجد خيار أمامَهم سوى منْعِ إنتاجهم النِّفْطي بوصفه سبيلًا للانتقام، رغم وَعْيِهم بخطورة مثل هذا الأمر. وفي مارس ٢٠٠٦ نقلت وكالة الأنباء الإسلامية الرسمية عن وزير الداخلية الإيراني مصطفى بور محمدي قوله: «إذا عمدوا إلى تسييس قضيتنا النووية، فسنستخدم أي وسائل.» من البديهي أنه لن يكون من قبيل الحكمة أن تستخدم إيران النِّفْط سلاحًا سياسيًّا. وقد وصف عنوان وَرَدَ بصحيفة واشنطن بوست منع النِّفْط بأنه «السلاح الذي قد لا ترغب إيران في استخدامه»، لكن العديد من المراقبين لم يتشكَّكوا في استعداد إيران اتِّخاذ موقف نفطي متشدِّد.
كان لدى الغرب سبب جيد للقلق بشأن البرنامج النووي الإيراني. ففي مايو ٢٠٠٦، رفض الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عرضًا أوروبيًّا يتمُّ بمقتضاه تقديم حوافز اقتصادية نظير التخلِّي عن تخصيب اليورانيوم. وقد وجَّه نجاد للحكومة الفرنسية سؤالًا بلاغيًّا في خطاب ألْقاه أمام الآلاف في وسط إيران يقول فيه: «أتظنون أنكم تتعاملون مع طفل في الرابعة من عمره، يمكنكم أن تمنحوه بعض الجوز والشوكولاتة وتأخذوا منه الذهب؟!»
كان الغرب مرتبطًا بنمَط حياة قائم على النِّفْط، نمط لم يكن سيتخلَّى عنه بسهولة، وزادت حِدَّة التوتر، سواء على مستوى السياسة العالمية أم في أسواق الاتجار في النِّفْط. كان النِّفْط يمثل ٨٥ بالمائة من الصادرات الإيرانية، وكانت عوائد تلك الصادرات تشكِّل ما يَصِل إلى ٦٥ بالمائة من الدخل الحكومي. ترى أيُّ الطرفين سيتراجع أولًا؟
حققت إيران نجاحًا منقوصًا في دورها الجديد كدولة نفطية معتدية. فقد أضعف الأداء المتواضع لبرنامج إيران النِّفْطي طموحات الحكومة هناك للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، لكن بدا تهديدُ العملة الذي تطرحه إيران قويًّا بنفس مقدار التهديد النووي. وقد نجح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في أن يجعل من نفسه ومن دولته العدوَّ الأبرز للغرب.
بدا من الصعب أن نتخيَّل كيف أمْكَنَ لإيران أن تطوِّر برنامجًا نوويًّا بهذه السرعة، لو لم تكن قادرة على إدارة برنامج نفطي بتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. وعلى كل حال، لم يكن على الولايات المتحدة أن تخاف إيرانَ كلَّ هذا الخوف.
في زيارة أجراها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لأبو ظبي في الثالث عشر من يناير ٢٠٠٨، اتَّهم بوش الإيرانيين بتهديد أمْن العالم. ومَضَى في حديثه متهمًا إيران بتمويل جماعات إرهابية متطرِّفة، وتقويض الاستقرار في لندن، وإرسال السلاح إلى نظام طالبان المتشدِّد، وتحدي الأمم المتحدة عن طريق التكتيم الشديد على برنامجها النووي.