قوة الصحراء: الخليج والشرق الأوسط
في الأيام التي انعدم فيها المطر تمامًا، ونَفَقَت الحيوانات بسبب قِلَّة الطعام أو الماء، بدأ رجال القبائل يبحثون عن مصادر بديلة للدخل. بعض هؤلاء صاروا مزارعين، أو نسَّاجين، والبعض تبنَّوْا حِرَفًا مختلفة. البعض صاروا تجارًا واصطحبوا قوافل الإبل عبر الصحراء، حاملين بضاعة قد يبيعونها للحجيج، فيما سيطر البعض على الوديان، وكان أولئك أنجحهم؛ إذ إنهم مَن سيطروا على ما خرج من باطن الأرض.
***
لم توحَّد القبائل البدوية التي تؤلِّف مُجتمِعةً اليوم ما يُعرف باسم المملكة السعودية إلا تحت حكم آل سعود عام ١٩٣٢. كان العالَم وقتَها في منتصف حقبة الكساد الكبير، وكان مصدر الدخل الوحيد للمملكة هو الرُّسوم التي كانت تَفرِضها على الحجيج القاصدين المدينتين المقدستين مكة والمدينة. أخذت أعداد الحجيج تتناقص بسبب الكساد العالمي. ثم في عام ١٩٣٣ اكتُشف النِّفْط في الأراضي السعودية.
حصلتْ سوكال بطريق التفاوض على حق امتياز الحَفْر بحثًا عن النِّفْط السعودي وإنتاجه لمدة ستين عامًا. وقد دَعَتْ هذه الشركةُ شركةَ تكساكو للانضمام إلى الصفقة، وهو ما مِن شأنه أن يَصير بداية لما سيُعرف لاحقًا باسم شركة النِّفْط الأمريكية العربية (أرامكو). وبهدف الحصول على مزيد من رأس المال، دُعِيَتْ كلٌّ مِن إكسون وموبيل للانضمام إلى الائتلاف. وهذه هي الكيفية التي تَشكَّل بها النظام النِّفْطي الجديد وقتَها، في رمال صحراء شبه الجزيرة العربية وحجرات مجالس إدارات شركات النِّفْط الأمريكية الكبرى.
النِّفْط مقابل الذهب
كان الملك عبد العزيز بن سعود هو مَن تَفاوَض على امتيازات النِّفْط السعودي مع شركة ستاندرد أويل كومباني أوف كاليفورنيا (سوكال). ولمَّا كان لا يَثِق في النقود الورقية، فقد أصرَّ على أن يُدفَع مُقابِل النِّفْط ذهبًا. ورغم أن الولايات المتحدة كانت قد تخلَّت لتوِّها عن معيار الذهب، فإن الحكومة الفيدرالية قَبِلَتْ بهذا الاستثناء ووافقتْ على أن تَدفَع للملك بالوسيلة التي يختارها. ولسنوات عديدة تالية كانت براميل مليئة بالعملات الذهبية تُشحَن كل عام إلى المملكة العربية السعودية لدفع ثمن النِّفْط.
تعيَّن على السعوديين الانتظار إلى ما بعدَ منتصف القرن العشرين كي يَشعُروا بالأثر الاقتصادي لاكتشاف النِّفْط، لكنه في نهاية المطاف غيَّر وَجْهَ حياتهم تغييرًا تامًّا. إن الثروة النِّفْطية مكَّنَتِ المملكة من أنْ توفِّر تعليمًا ورعاية صحية مجانيين شاملين لكل المواطنين دون جمع أي ضرائب. شُيِّدت المدن، وبُنيت داخلها المدارس والطرقات، وصَاحَبَ هذا التواصل مع الأجانب وانفتاح أعين السعوديين على تجارة العالَم المتقدِّم وثقافته.
قال بعض المراقبين إنه بالنسبة إلى شعب كان منذ وقت قريب للغاية شعبًا بدويًّا يعيش في الصحراء، فإن هذا التقدُّم ربما كان «أكبر مما يجب وأسرع وتيرة مما يجب.» في ردِّ فعلٍ دفاعي زاد بعض السعوديين من تمسُّكهم بتعاليم الدين الإسلامي كوسيلة للحفاظ على ثقافتهم المألوفة لديهم. إلا أن العائلة المالكة، رغم تمسُّكها بالتقاليد الدينية، انبهرتْ بسُبُل العيش الغربية. وقد شُوهد بعض أفراد العائلة المالكة في دُور مزادات كبيرة وهم يشترون الأعمال الفنية، وشوهدوا كذلك في متاجر هاري وينستون وكارتيرز وهم يشترون المجوهرات، وفي لندن ومونت كارلو وهم يشترون الفنادق. إن جميع الأراضي والعقارات «غير المُطالَب بها» في المملكة تُعَدُّ تابعةً للمَلِك، الذي لا يُعَدُّ وحسب حاكم المملكة، وإنما مَالِك معظم أراضيها كذلك. كان لهذه السياسة فائدة عظيمة للمَلِك؛ لأنه في هذه الدولة التي كانت دولة بدوية من قبلُ، كانت مساحات شاسعة من الأراضي «غير مملوكة» لأحد. وكانت النتيجة هي أن العائلة المالكة تمكَّنتْ من تخصيص ما بين ٣٠ و٤٠ بالمائة من الأرباح النِّفْطية بالمملكة لأفرادها.
لطالما كانت مسألة توزيع الأرباح النِّفْطية مصدر خلاف دائم بين شركات النِّفْط الدولية الكبرى وبين الحكومات المُضِيفة. وعلى مدار السنوات الأولى من عُمْر الرابطة النِّفْطية السعودية الأمريكية، بدا السعوديون قانعين بامتلاك الشركات الأمريكية دفَّة الأمور. لكن في عام ١٩٥٠، بدأ الملك عبد العزيز بن سعود — إذ شعر أن السعوديين لا يحصلون على حقِّهم من الأرباح النِّفْطية الموزَّعة — الضغط على أرامكو من أجْل تقسيم الأرباح النِّفْطية على نحو متساوٍ، وهدَّد بتأميم المنشآت النِّفْطية الموجودة في بلاده. وحين انقشع غبار المعركة كان السعوديون قد تخلَّوْا عن مطالبهم بالتأميم، لكنهم مُنِحوا حصةً قدرُها ٥٠ بالمائة من الأرباح النِّفْطية.
ومع ذلك، سريعًا ما حلَّ وقت لم تَعُدْ فيه نسبة اﻟ ٥٠ بالمائة من الأرباح تُرضِي السعوديين. وفي عام ١٩٦٨، ألْقَى وزير النِّفْط السعودي الشيخ أحمد بن زكي اليماني خطابًا في الجامعة الأمريكية في بيروت حدَّد فيه ملامح الخُطَّة التوسُّعية الهادفة لزيادة سيطرة السعودية على مواردها النِّفْطية. تحدث اليماني عن «المشاركة» في الصناعة، على نقيض الحديث عن التأميم. لكن لم يَنْخَدِع أحد بحديثه هذا؛ إذ كانت نواياه واضحة، فقد أراد أن يجعل الحكومة السعودية هي صاحبة السيطرة على إنتاج النِّفْط السعودي.
وفي غضون خمس سنوات تخلَّى السعوديون عن مفهوم «المشاركة» وباشروا برنامجًا للتأميم كانوا يأملون من ورائه أن يُعزِّزوا موقفَهم. وفي عام ١٩٧٣، استحوذتِ المملكة على ٢٥ بالمائة من شركة أرامكو، زادت إلى ٦٠ بالمائة في العام التالي. وبحلول عام ١٩٨٠ سيطر السعوديون بالكامل على أرامكو وغيَّروا اسمَها إلى شركة النِّفْط السعودية العربية (أرامكو السعودية). أرادت الشركة أن تهدئ مخاوف السعوديين من أن الطرف الأمريكي كان يتصرَّف باستبداد، وبدافع من إبداء الاحترام للعادات المحلية، روَّج الدليلُ الدعائي للشركة بوصفِها منتدًى يُثبِت قدْرة الأفراد ذات الثقافات المختلفة على العمل معًا.
عزم السعوديون على تبنِّي هذا النهْج. وعن طريق البدء في عملية تأميم شركة أرامكو، كان السعوديون يُرسون سابقة. فحتى ذلك الوقت، لم يحدث قط أن شكَّكتْ دولة نفطية من دول العالم الثالث في سلطة شركات النِّفْط الغربية الكبيرة. ولم تفكِّر دولة قط بجدية في أن تسعى إلى تقليص النفوذ المالي للقوى العظمى؛ لأنها كانت الوحيدة التي تملك التكنولوجيا والمعرفة النِّفْطية المتقدمة المطلوبة لعملية إنتاج النِّفْط.
الأوبك
تأسَّست منظمة الدول المصدِّرة للبترول (الأوبك) في مؤتمر عُقِد في بغداد، العراق، في سبتمبر ١٩٦٠ بخمس دول مؤسِّسة هي: العراق، وإيران، والكويت، والسعودية، وفنزويلا.
لاحقًا انضمَّ لهذه الدول المؤسِّسة تسعُ دول أخرى هي: قَطَر ١٩٦١، وإندونيسيا ١٩٦٢، وليبيا (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية) ١٩٦٢، والإمارات العربية المتحدة ١٩٦٧، والجزائر ١٩٦٩، ونيجيريا ١٩٧١، والإكوادور ١٩٧٣، والجابون ١٩٧٥، وأنجولا ٢٠٠٧. عَلَّقت الإكوادور عضويتَها في الفترة من ديسمبر ١٩٩٢ إلى أكتوبر ٢٠٠٧، وتَركتِ الجابون منظمة الأوبك عام ١٩٩٤. كان مقرُّ الأوبك الأول في جنيف بسويسرا، قبل أن يُنقَل إلى فيينا بالنمسا في سبتمبر ١٩٦٥.
شجَّع هذا الانتصار السعوديين على الإيمان بأن قوة النِّفْط، إذا ما استُخدمت بحرص وفي مواضعها، يمكن أن يكون لها تأثير عظيم على الحياة السياسية والاقتصادية لبلدهم. وبعدها بعَقْد، تبنَّى السعوديون نهجًا نفعيًّا، وخرجوا خارج حدود دولتهم وأسَّسوا منظمة الأوبك، وهي منظمةٌ الهدفُ منها تقوية نفوذ دول العالم الثالث المنتِجة للنِّفْط بدرجة أكبر. وعند تدشينها، كانت الأوبك تمتلك ثُلُثَي الإنتاج العالمي اليومي من النِّفْط والبالغ ٤٥ مليون برميل.
بحلول عام ١٩٧٠، وصل إنتاج النِّفْط السعودي إلى ٣ ملايين برميل يوميًّا. ورغم سيطرة الأخوات السبع على المجتمع النِّفْطي منذ ثلاثينيات القرن العشرين، فإنه بحلول أوائل السبعينيات صارت السعودية المنتِج الأكبر للنِّفْط على مستوى العالم، ودانتْ لها الهيمنة. لقد بات السعوديون وقتها يملكون طاقة إنتاجية إضافية كافية للاحتفاظ باحتياطيات من النِّفْط تُمكِّنهم من زيادة الإمداد النِّفْطي أو تقليله من أجْل التحكُّم في الأسعار. كانوا بحاجة إلى الإبقاء على الأسعار عند نقطة حَرِجة؛ إذ يجب أن تكون أعلى ما يُمكن للسوق أن تتحمَّله، لكنها في الوقت ذاته يجب ألَّا تكون من الارتفاع بحيث تدفع مستهلكي النِّفْط إلى البحث عن مصادر للطاقة البديلة. سادتِ الطمأنينة المجتمع النِّفْطي؛ لأن مَن في موقع السلطة كانوا يريدون الحال كذلك. ومع ذلك، كانت الهيمنة النِّفْطية الأمريكية آخذةً في التلاشي. وفي نوفمبر ١٩٧٠ صارت الولايات المتحدة مستورِدًا صافيًا للنِّفْط. كان هذا جرس الإنذار الأول لذلك البلد، لكن لم ينْتَبِه إليه أحد.
العرب الآن يَملِكون مفاتيح أزمة الطاقة والأزمة المالية. وهم يَعلَمون كيف يستخدمون كلَيْهما كسلاح سياسي. وفي ضوء هذا، بات العرب في موضع يُمكِّنهم من حلِّ خلافِهم مع إسرائيل بمفردهم، كيف؟ فقط من خلال تقليل الإمداد النِّفْطي، وليس الحظر أو المنع التام، فقط تجميد الإنتاج عند المستويات الحالية.
صار هذا التفاخُر حقيقةً واقعة خلال الأسابيع التالية؛ إذ بدأتِ الدول العربية المنتِجة للنِّفْط؛ إظهارًا منها لعدم رضاها عن مساعدة الغرب لإسرائيل، حظرًا نفطيًّا. هيمنتْ شخصية بعينها على الأحداث؛ وزير النِّفْط السعودي المُثِير للجدل ذو الشخصية الجذَّابة أحمد بن زكي اليماني.
إن سنوات خدمة اليماني الطويلة في منصِبِه وزيرًا للنِّفْط منحتْه نفوذًا سياسيًّا معتبرًا. كان مفاوضًا ورجلَ أعمال وسياسيًّا داهية، وكانت شخصيته هي أهم أدواته فيما يَخصُّ مجال العلاقات العامة. كان يتحدَّث الإنجليزية بطلاقة، وله لِحْيَة قصيرةٌ صغيرة مشذَّبة بعناية، وكان يبدو أنيقًا وهو يرتدي سترته الإنجليزية المفصَّلة له خِصِّيصَى ورابطة العنق ماركة هيرميس تمامًا مثلما كان يبدو وهو يرتدي عباءته العربية الفضفاضة وكوفيته. كان ضَيْفًا مفضَّلًا على برنامج «لاري كينج لايف» وساهم في تحسين صورة العرب في أعيُن الغرب. كان اليماني أيضًا هو الشخصية الرئيسية التي وقفتْ خلف الحظر النِّفْطي وما تَبِعَه من ارتفاعات في أسعار النِّفْط على مدار الأعوام التالية.
(١) دول الشرق الأوسط الأخرى
بحلول سبعينيات القرن العشرين، كانت غالبية دول الخليج الفارسي (العربي) والشرق الأوسط قد خرجتْ من قبضة الغرب واشتَرَتْ أو استحوذت على حصص أغلبية في الشركات التابعة التي كانت تنتج النِّفْط الخاص بهذه الدول. وبحلول أوائل التسعينيات خضع الكثير من الشركات التابعة للتأميم بالكامل.
وفي العراق، سيطر البريطانيون والإيطاليون على الساحة حتى عام ١٩٦١، حين قامت حكومة الثورة بقيادة عبد الكريم قاسم بتأميم ٩٩٫٥ بالمائة من مناطق الامتيازات النِّفْطية العراقية. ظلت حقول إنتاج النِّفْط تحت سيطرة الغرب حتى عام ١٩٧١، حين أمَّمتِ الحكومة العراقية النسبة المتبقية، وهي الحركة التي أدَّتْ إلى زيادات كبيرة في العوائد لحزب البعث تحت زعامة صدَّام حسين.
بحلول عام ١٩١١، كانت شركة النِّفْط الأنجلو-فارسية تُنتِج النِّفْط في إيران، واكتَشفتْ سوكال النِّفْط بكميات قابلة للتداوُل التجاري في البحرين عام ١٩٣٢. عام ١٩٥٣ كانت الكويت أكبر مُنتِج للنِّفْط في منطقة الخليج، ولحقتْ قَطَر بالرَّكْب باكتشاف كميات قابلة للتداول التجاري من النِّفْط في منتصف الخمسينيات، تبعتْها أبو ظبي عام ١٩٦٢، ثم دُبَي وعُمان في أواخر الستينيات.
(٢) مستقبل النِّفْط العربي
تجاهلتِ الولايات المتحدة جرسَ الإنذار الأول حين تحوَّلتْ من مصدِّر صافٍ للنِّفْط إلى مستورِد صافٍ له. والآن جاءَها جرسُ الإنذار الثاني؛ الحظر النِّفْطي العربي، وقد استمرَّتْ في تجاهُلِه أيضًا. واستمرَّ الاستهلاك الأمريكي من النِّفْط في الازدياد في ثمانينيات القرن العشرين.
لم يَعُدِ السعوديون ذلك الشعب البدوي الذي يَعِيش في الصحراء، كما لم يَعُودوا يَقبَلون فقط الذهب بوصفِه «النقود الحقيقية» الوحيدة. لقد تفهَّموا الحقيقة التي يبدو أن الولايات المتحدة وبقية دول العالم لم تتفهَّمْها بعدُ؛ أنه في يومٍ ما سينتهي النِّفْط من الوجود. وفي حصافة، نوَّع السعوديون أصولَهم واستغلُّوا أنصِبَةً ضخمةً من عوائد النِّفْط في شراء الفنادق والمتاجر الكبرى وبنايات المكاتب في كلٍّ من نيويورك ولندن وباريس وهونج كونج. لقد أظهَروا أنهم يتمتَّعون ببصيرة لم يتمتَّع بها الغرب.