اختبار النظام النِّفْطي: الحرب والحظْر والقدْرة الإنتاجية الفائضة
يوم السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، الذي صَادَف يوم عيد الغفران، وهو أكثر أيام العام قُدسية لدَى اليَهُود، كانت دولة إسرائيل كلُّها تبدو وكأنها أَوْصَدتْ أبوابَها. وكما كان معتادًا، فحتى الإسرائيليون العلمانيون كانوا يَرتَادون الكَنِيس في ذلك اليوم أو يَلتَزِمون بيوتَهم وهم صِيَام.
في حوالي الثانية من بعد ظهيرة هذا اليوم، هاجمتْ مصرُ وسوريا إسرائيلَ. يقول بعضُ المراقبين إن هدَفَ مصر وسوريا كان إجبار إسرائيل على التخلِّي من طرفها عن الأراضي التي احتلتْها، فيما يرى مراقبون آخرون أن الهدف كان مَحْوَ «الكيان الصهيوني» تمامًا. وفي واحدة من اللحظات القليلة في تاريخ هذه الدولة الفَتِيَّة التي تُؤخَذ فيها على حين غِرَّة، تكبَّدَتْ إسرائيل خسائر فادِحةً من البَشَر والعَتَاد في اليومين الأوَّلَيْن للحرب.
وبعدَ مُنَاشَدات عاجلة من قادة إسرائيل، أمدَّتِ الولايات المتحدة إسرائيل بجِسْر جوي من العتاد العسكري، وهو ما مكَّن إسرائيل مِن التعافِي من كَبْوَتِها الأُولَى.
واستجابةً لهذا، قادتِ السعودية الدولَ العربية لفَرْض حظرٍ نفطي على الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية.
***
هاجمتْ طائرات ميج ٢١ السورية الطائرات الإسرائيلية، وأرسلتِ السعودية عددًا معتبرًا من الناحية الاستراتيجية من الجُنُود مقدارُه ثلاثةُ آلاف جندي إلى حَوْمة القِتَال، وهو رقم أكبر من أن يُغفَل وأقل من أن يَشِيَ بأن السعودية تُعَدُّ شريكًا أساسيًّا للدول العربية الأخرى في الحرب.
وفي شبه جزيرة سيناء، خلال ظهيرة اليوم الأول للهجوم، باغَتَ المصريون الإسرائيليين، ودمروا الكثير من الدبابات الإسرائيلية بحيث صارتْ غير صالحة للقتال.
في الشَّمال، هاجمتْ سوريا مرتفعات الجولان، معتمدة على قوة من الدبابات مقدارها ألف ومائتا دبابة. كادَ السوريون يستعيدون السيطرة على مرتفعات الجولان، التي احتلَّتْها إسرائيل في حرب عام ١٩٦٧، وكانوا قريبين من غَزْو بعض الأراضي الإسرائيلية قرب بحيرة طبرية. وكانت صواريخ سام ٦ السوفييتية الجديدة التي امتلَكَها السوريون تُدمِّر الطائرات الإسرائيلية في السماء بكل يُسْر.
أدرك الإسرائيليون أنه سيتعيَّن عليهم حَشْد قوَّاتهم بسرعة كبيرة لو أن لهم أنْ يتفادَوا الكارثة، وفي غضون أيام قليلة، وببعض المساعدة، قَلَبوا دفَّة الأمور، فاستعادوا السيطرة على مرتفعات الجولان، وأعادوا احتلال جزء من سيناء قرب قناة السويس كان قد وقع تحت سيطرة المصريين. أيضًا استُعيدت السيطرة على جزء كبير من الأراضي السورية، فيما ظلت القدس دون أذًى طيلة الحرب.
بَيْدَ أنَّ هذا تَجَاوَزَ كونَه صراعًا محليًّا. لقد كانتْ تلك حربًا كانت إسرائيل فيها ممثِّلًا للولايات المتحدة، وكانت الدول العربية ممثِّلة للاتحاد السوفيتي. كانت القوتان العظميان تتواجهان في ساحة معركة صغيرة، وهو ما رَفَع مخاوفَ إمكانية اشتعال الموقف على المستوى العالمي.
على مدار السنوات الستة السابقة، دَأَب الاتحاد السوفييتي على إرسال الإمدادات إلى الدول العربية؛ لذا تعهَّد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر بإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه من أجْل تفادِي الهزيمة. وبفضْل هذه الإمدادات، تمكَّن الإسرائيليون من تغيير مَسَارِ الحرب. وحين رأى السوفييت ما آلَتْ إليه الأحداث، تمثَّل ردُّ فعلهم في إرسال قوة بحرية قِوامُها واحد وسبعون مركبةً بحرية، من بينها ست غواصات، إلى البحر المتوسط ووضعوا فِرَقَهم السبعة المحمولة جوًّا في أقصى درجات التأهُّب. كانت الحرب الإقليمية تتصاعد على نحو خطير وشعر السوفييت أنهم وحلفاؤهم العرب كانوا في سبيلهم لخسارة الحرب. ورأى بعض المراقبين أن حربًا عالمية ثالثة باتت حتمية.
وفي الثاني عشر من أكتوبر، بعد ستة أيام فقط من بدء الحرب، كان الإسرائيليون على الجبهة الشمالية يَبعدون ثمانية عشر ميلًا فقط عن دمشق ويُهدِّدون بغَزْو العاصمة السورية. وعلى الجبهة الجنوبية اخترقت قوة إسرائيلية قوامها اثنا عشر ألف جندي إسرائيلي ومائتا دبابة، تحت قيادة الجنرال آرييل شارون (الذي تولَّى رئاسة وزراء إسرائيل مستقبلًا)، قناة السويس (التي تُمثِّل الحدود القائمة وقتها بين مصر وإسرائيل) من طريقَيْن مختلفَيْن، وحاصَرُوا الجيش الثالث المصري واقتربوا حتى مسافة اثني عشر ميلًا من القاهرة. وقد كان هذان العَمَلان العسكريان الإسرائيليان — في مرتفعات الجولان وقناة السويس — بمنزلة نقطة تحوُّل فاصلة في مسار الحرب.
وإذ سَعَتِ الدول العربية من جانبها إلى وسيلة تَرُدُّ بها الضربة لإسرائيل والولايات المتحدة وإلى تغيير مسار الحرب نحو النصر مرة ثانية، شرعتْ في استخدام سلاح جديد: النِّفْط. كانت السعودية ودول الأوبك تتأهَّب للإعلان عن حظر نفطي ضد الغرب. حتى ذلك الوقت، كانت أسعار النِّفْط في مستوًى معقول (وإنْ شَكَا بعضُ الأمريكيين من أن الأسعار «ارتفعتِ ارتفاعًا شديدًا» خلال بدايات عَقْد السبعينيات من دولارين للبرميل إلى ثلاثة دولارات). ما التأثير الذي سيتسبب فيه الحظر الشامل للنِّفْط؟ على حين غِرَّة، أدرك مستهلكو النِّفْط في ذهول مدى ضعف موقفهم.
في الثاني عشر من أكتوبر، أرسل رؤساء كلٍّ من إكسون وتكساكو وموبيل وشيفرون — الشركات الأمريكية الأربع المساهمة في أرامكو — مذكرة إلى الجنرال ألكسندر هيج، رئيس الأركان الأمريكي، محذِّرين من أن أي زيادة في المساعدة الأمريكية لإسرائيل سيكون من شأنها أن تؤثِّر سلبًا على العلاقات مع الدول العربية المعتدلة. وقد حذَّروا من أن العلاقات السلبية مع تلك الدول المعتدلة المزعومة قد تَعنِي أن أسعار النِّفْط سترتفع بشكل حادٍّ.
في السابع عشر من أكتوبر، أعلن الملك فَيْصَل، ملك السعودية، عن الأمر بشكل رسمي. وقد كتب إلى الرئيس نيكسون يُخبِره أن الدول العربية ستَفرِض حظرًا نفطيًّا لو لم تتوقف الولايات المتحدة عن إرسال الإمدادات العسكرية إلى إسرائيل في غضون يومين.
كان ردُّ فِعْل نيكسون سريعًا؛ إذ كان متمسِّكًا بالتزامه نحو إسرائيل، وقال لمستشاريه: دَعُوا العرب يبدءون حظرَهم النِّفْطي! وكي يُبيِّن دعمَه لإسرائيل، أرسل نيكسون الأسطول الأمريكي السادس المكوَّن من تسع وأربعين سفينة، وحاملتي طائرات، إلى البحر المتوسط للحفاظ على حالة الاستعداد القتالي. ومن جانبها، رفعتِ الأوبك — في تأكيد على قرارها — سعرَ برميل النِّفْط إلى ما يزيد قليلًا عن خمسة دولارات للبرميل.
عَبْر السواد الأعظم من عَقْد الستينيات، كان سعر برميل نفط أرامكو يبلغ ١٫٨٠ دولار أمريكي. وفي السابع عشر من أكتوبر ١٩٧٣، أعلنتِ السعودية عن خفضٍ مقدارُه ١٠ بالمائة لإنتاجها من النِّفْط وحظرًا شاملًا على شحنات النِّفْط المرسلة إلى الولايات المتحدة وهولندا (كانت روتردام المرفأ الرئيسي المستقبِل لنفط الشرق الأوسط). قبل هذا الوقت، كانت السعودية تختار دومًا ضخَّ كميات إضافية من النِّفْط في الأسواق بهَدَف الحفاظ على انخفاض أسعار النِّفْط وتجنُّب الإضرار بالاقتصاد العالمي. كانت السعودية تَعلَم أن خفضًا مقداره ١٠ بالمائة في إنتاج النِّفْط من شأنه أن يرفع أسعار النِّفْط ارتفاعًا كبيرًا.
في ضوء عدم رضوخ الولايات المتحدة للدول العربية المطالِبة بوقْف الدعم الأمريكي لإسرائيل، بدا من الحَتْمي أن تستمرَّ الدول العربية في خفض الإنتاج النِّفْطي لأمَدٍ غير محدود. بلغ الخفض التالي أكثر من ٢٠ بالمائة، وبحلول العشرين من أكتوبر كانت كل شحنات النِّفْط المتوجِّهة إلى الدول التي تُقدِّم المساعدة والدعم لإسرائيل قد حُظرت تمامًا.
جاء الحظر النِّفْطي في وقت عسير للغاية بالنسبة إلى الولايات المتحدة تحديدًا. فقد نَفِدَتْ قدرتُها النِّفْطية الفائضة منذ وقت قريب، ولم يحدث من قبلُ قط أنْ وَاجَهَتْ حظرًا نفطيًّا كاملًا. لم يكن الأمريكيون معتادين على العَيْش دون سياراتهم أو وسائل راحتهم.
ذكر المراقبون المتابعون للأحداث ذات الصلة بعالم النِّفْط أن الحظر النِّفْطي العربي مثَّل أول استعراض عضلات سياسي جدِّيٍّ تُمارِسه الدول المنتجة للنِّفْط. ومع بدء الدول النِّفْطية في تأميم منشآتها النِّفْطية، ومع تعاظُم طموح منظمة الأوبك، مثَّلتِ الضغوط السياسية مصدر ضغط على السعودية، ومِن ثَمَّ باتتْ هناك حاجة من جانبها للإقدام على فعل اضطراري متشدِّد أُحاديِّ الجانب.
بعد مرور ثلاثة أسابيع من الحرب المستَعِرة، باتتْ مصر وسوريا في موضع صَعْب، وكان السوفييت يَحثُّون الأممَ المتحدة على الترتيب لوقف إطلاق النار. وقد بعث جيم أكينز، السفير الأمريكي لدى السعودية، رسالة إلى أرامكو عبَّر فيها عن تخمينه بأن الحظر النِّفْطي لن يُرفَع ما لم يُحَلَّ الصراع السياسي بين الدول العربية وإسرائيل بصورة تكون مُرضِية للدول العربية.
انتهتِ الحرب في الثاني والعشرين من أكتوبر بتفوُّق إسرائيلي واضِح. فلم تَستَعِدْ إسرائيل فقط كلَّ الأراضي التي حَصَلَتْ عليها مصر وسوريا في بداية الحرب، وإنما أيضًا — بفضْل توغُّلها في الأراضي المصرية والسورية — هدَّدتْ كلًّا من مصر وسوريا بالمزيد من الهجوم على القاهرة ودمشق، ما لم تُوافِقِ الدولتان على وَقْف سريع لإطلاق النار. ومع ذلك، في الاتفاق الذي رتَّبتْه الأمم المتحدة لوقْف إطلاق النار، حَصَلَتْ مصر على ما تُريد؛ إذ تعهَّدتْ إسرائيل بالانسحاب من كل الأراضي التي اغتَنَمتْها خلال حرب عام ١٩٦٧.
واصلتْ مصر وسوريا خَوْضَ حروب استنزاف محدودة على امتداد الجبهتين مع إسرائيل، إلى أن رتَّبَ هنري كيسنجر مَا أُطلِق عليه «اتفاقيات الفصْل بين القوات» بين مصر وإسرائيل في يناير من عام ١٩٧٤ وبين سوريا وإسرائيل في يونيو الذي يَلِيه.
بنهاية شهر أكتوبر عام ١٩٧٣ كانت السعودية ومنظمة الأوبك تواصلان خوض «حرب النِّفْط» الخاصة بهما. وفي ديسمبر، أعلنت الأوبك عن سعر جديد لبرميل النِّفْط: ١١٫٦٥ دولارًا. عمَّتْ حالة من الهَلَع في محطَّات الوقود في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. كان السائقون يذهبون من محطة وقود إلى التي تَلِيها باحثين عن توفير مقداره سنتات قليلة في سعر الوقود. وقد سعت الحكومات لفرض تخفيضات في استهلاك الوقود، وطُلب من السائقين ألَّا يستخدموا سياراتهم على الإطلاق يومًا واحدًا أسبوعيًّا. انتظرتِ الحكومات أن تنفَرِج الأزمة، لكنْ زادَ إحباطُها حين رأتْ أن الارتفاعات في أسعار النِّفْط لم تكن ارتفاعات مؤقَّتة وحسب.
لم يكن هناك حلٌّ قريب متَوَقَّع. قبلَ الحظْر، كانت الولايات المتحدة تستورد ١٫٢ مليون برميل من النِّفْط يوميًّا، وبحلول فبراير ١٩٧٤ انخفض الرقم بشدة إلى ثمانية عشر ألف برميل. كان الأمريكيون فَزِعِين ويائسين، وقد ألْقَوْا باللائمة على العرب، أو على الإسرائيليين، أو على كلَيْهما لتسبُّبهم في هذا الموقف العصيب. لماذا كان عليهم أن يُضحُّوا من أجْل أشخاص موجودين على مسافة آلاف الأميال، أشخاص أوْشَكوا على التسبُّب في كارثة نووية، أشخاص يَبْدُون عاجزين عن حلِّ صراعهم السياسي الشامل؟ كان من المتعارَف عليه دائمًا أنه في حالة ارتفاع أسعار النِّفْط ارتفاعًا حادًّا، سيحدث نوع من الانهيار الاقتصادي، وفي بعض جوانب الاقتصاد الأمريكي كان هذا ما حدث بالفعل.
رغم ما شهده شتاء عام ١٩٧٤ من نقص في النِّفْط وطقس شديد السوء في الولايات المتحدة، كانت أرباح الربع الثالث لإكسون أعلى بنسبة ٨٠ بالمائة مما كانت عليه في العام السابق، وكانت أرباح شركة جَلف أعلى بنسبة ٩١ بالمائة. بلغت أرباح إكسون بنهاية عام ١٩٧٣ نحو ٢٫٤ مليار دولار، ولم يَسبِق أن حقَّقتْ شركة — أو أي صناعة في الواقع — مثل هذه الأرباح المرتفعة من قبلُ قط.
في مارس عام ١٩٧٤ رُفع الحظر أخيرًا، لكن صدمة الأمريكيين — النابعة من إدراكهم للواقع الجديد، ورؤيتهم مقدار الهيمنة التي يُمكِن لحكومات أجنبية وشركات متعددة الجنسيات أن تُمارِسها على الولايات المتحدة — ظلَّتْ باقية لبعض الوقت. كان الواقع الجديد هو أن أسعار النِّفْط ليس من المرجح أن تنخفض إلى مستوياتها فيما قبل الحظر. كان وقتًا مهينًا لكثير من الأمريكيين، الذين لم يستطيعوا أن يُصدِّقوا أن هؤلاء الأشخاص، الذين ينظرون إليهم نظرة متدنِّية بوصفهم قاطني الصحراء غير المتنوِّرين وغير الرَّاقِين، يملكون مثل هذه السيطرة عليهم.
بَدَتْ منظمة الأوبك عاجزة عن فرْض الحصص المخصصة لأعضائها. فخلال عامي ١٩٧٩ و١٩٨٠، حين ارتفعت أسعار النِّفْط في ردِّ فعلٍ للثورة الإيرانية وحرب العراق وإيران، حذَّر وزير النِّفْط السعودي؛ الشيخ أحمد بن زكي اليماني، بقية الدول الأعضاء بالأوبك من أن فرض أسعار عالية للنِّفْط لن يُؤدِّي إلى زيادة أرباحها، وإنما سيكون له أثَرٌ عكسي؛ إذ سيخفض الطلب العالمي على النِّفْط ومِن ثَمَّ «يُقلِّل» أرباحَها. رَفَضَتْ بقية الدول الأعضاء بالأوبك الاستماع. ومن وقت لآخَر، وَضَعَت الأوبك حصص إنتاج منخفضة، لكن الدول غير الملتزمة تحدَّتِ السعودية وأنتجتْ ما يزيد عن حصتها، وبهذا حُيِّدت مناورة الأوبك.
عام ١٩٧٠، وبينما كانت في طريقها لأن تُصبح مستورِدًا صافيًا للنِّفْط، شاهدت الولايات المتحدة مستويات إنتاج النِّفْط الخاصة بها وهي تهبط، حدث ذلك ببُطْء في البداية، بمعدل نصف مليون برميل بين عامي ١٩٧٠ و١٩٧١، ثم إلى ٩٫٦ ملايين برميل عام ١٩٩٠ و٨٫٣ ملايين برميل عام ٢٠٠٦.
لماذا لم تستخدم الولايات المتحدة قدْرتها الفائضة خلال فترة الحظر النِّفْطي؟
لو كانت القدرة الإنتاجية النِّفْطية الفائضة للولايات المتحدة قد استُخدمت خلال فترة الحظر النِّفْطي العربي، لكان من شأن مشكلة العرض والطلب على النِّفْط أن تكون أقلَّ حِدَّة بقدْر كبير، لكن بحلول عام ١٩٧٠ كانت القدرة الإنتاجية الفائضة قد تقلَّصتْ إلى مليون برميل يوميًّا. ورغم استمرار تدفق النِّفْط، فإن هذا النقص كان خافيًا عن أنظار مراقبي النِّفْط، لكن في عام ١٩٧٠، ورغم وصول إنتاج النِّفْط الأمريكي إلى رقم غير مسبوق يبلغ ٩٫٣ ملايين برميل يوميًّا، كانت صيانة احتياطيات القدرة الإنتاجية الفائضة محلَّ إهمال.
خلال عَقْد الستينيات وبدايات السبعينيات، كانت الولايات المتحدة تملك طاقةَ إنتاجيةِ نفطٍ فائضة كبيرة، كان من المُفتَرَض أنْ تكون متاحة من أجْل زيادة أو تقليل إنتاج النِّفْط من أجْل تخفيف أسعاره. وبين عامَيْ ١٩٥٧ و١٩٦٣ كانت الولايات المتحدة تنتج نحو ٤ ملايين برميل «فائض» من النِّفْط يوميًّا كان بالإمكان ضخُّها في السوق لو حدث ما يسوء؛ مثل الهطول الشديد للمطر أو انفجار خط أنابيب أو انقطاع التيار الكهربائي عن مصفاة تكرير بصورة مفاجئة. وحتى من دون استخدامها، كانت معرفة أن هذه القدرة الإنتاجية الفائضة متاحة تعمل على تهدئة السوق. وفي الواقع، أسهمت القدرة الإنتاجية النِّفْطية الفائضة للولايات المتحدة في سير الأحوال بسلاسة على مستوى العالم ما بين عامي ١٩٦٠ و١٩٧٢.
بدأت الولايات المتحدة تُصدِر تحذيرات تُفِيد بأن قدرتها الإنتاجية النِّفْطية الفائضة كانت آخذة في الانخفاض، لكن في نوفمبر ١٩٦٨ فاجأَتْ وزارة الخارجية الأمريكية الحكومات الأوروبية في جلسة لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في باريس بأنْ أَخْبَرَتْهم أنَّ الإنتاج النِّفْطي الأمريكي قد انخفض إلى نقطة يستحيل معها الاحتفاظ بأي طاقة إنتاجية نفطية فائضة على الإطلاق؛ أي إن الاستراتيجية الأمريكية التي تقضي بالحفاظ على طاقة إنتاجية فائضة لم يَعُدِ الإنتاج الفعلي يدعمها. وقد أثبتت الدول العربية أن منظمة الأوبك وحدها تملك الآن القدرة على التحكم في أسعار النِّفْط؛ ولم تَعُد هناك دولة تعتمد على النِّفْط قدْر اعتماد الولايات المتحدة عليه.
في مارس ١٩٧٤، وبعد رفع الحظر النِّفْطي، بدأ العالم يبحث عن إجراءات بديلة، بل ويبحث عن طاقة بديلة. وفي غضون وقت قصير تدفَّق من بحر الشمال قدر من النِّفْط يفوق القدر الآتي من دول الأوبك. ظلت أسعار النِّفْط على استقرارها بين عامَيْ ١٩٧٤ و١٩٧٨؛ إذ تَرَاوَح سعر البرميل بين ١٢ و١٣ دولارًا، وهو ما أغْرَى البعض بالاستكانة والرضا بالوضع القائم. لكن في ذلك الوقت، بات عدد متزايد من الأشخاص يخشَوْن من وقوع أمر مشابِه مجدَّدًا، ويَرَوْن أن الدول المستهلكة للنِّفْط بحاجة إلى أن تكون لديها خُطَّة احتياطية.
في ديسمبر ١٩٧٥ تأسَّس احتياطي النِّفْط الاستراتيجي الأمريكي رسميًّا بموجب قانون سياسة وحفظ الطاقة، بحيث يحتفظ بما يصل إلى مليار برميل من النِّفْط. لم يكن هذا مقدارًا كبيرًا — بالتأكيد لا يقارن بالاحتياطيات السابقة — لكنه كان مجرَّد بداية وإجراء نوعيٍّ للحماية من تزايد أسعار النِّفْط. وفي وقت لاحق، خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حين انخفضتْ أسعار النِّفْط، قلَّلتِ الدول الأعضاء في منظمة الأوبك من قدْرتها الإنتاجية النِّفْطية الفائضة.
وفي عام ١٩٩٩، كان يَجرِي الاحتفاظ ﺑ ٤٫٥٧٢ مليارات برميل من النِّفْط الخام في مخازن، تحتفظ منها الولايات المتحدة ﺑ ٥٧٢ مليون برميل، لكن يبدو أن هذه الاستراتيجية باتت تَفقِد فعاليتَها.
(١) احتياطي النِّفْط الاستراتيجي: هل عَفَّاه الدهرُ؟
في منتصف شهر نوفمبر عام ٢٠٠١ وضع الرئيس جورج دبليو بوش هدفًا لوزارة الطاقة يتمثل في الوصول باحتياطي النِّفْط الاستراتيجي إلى قدرته القصوى — وتبلغ ٧٠٠ مليون برميل — من أجْل «تعظيم الحماية طويلة الأمَدِ ضدَّ أي خَلَل مستقبلي في المعروض النِّفْطي.»
حقَّق احتياطي النِّفْط الاستراتيجي هدفَه المنشود في السابع عشر من أغسطس ٢٠٠٥، قبل أسبوعين فقط من وقوع إعصار كاترينا. وبعد ذلك بأسبوعين، تمكَّن بوش من أنْ يخوِّل لاحتياطيِّ النِّفْط الاستراتيجي إقراض النِّفْط لمصافي التكرير التي تأثَّرتْ أعمالُها بالإعصار. علاوة على ذلك، أعلن الرئيس عن بيع ٣٠ مليون برميل إضافي من أجْل الحفاظ على المعروض من النِّفْط وتهدئة السوق.
في مايو ٢٠٠٨ أعلنتِ الولايات المتحدة أنها ستتوقف عن شراء النِّفْط بغرض الاحتفاظ به في الاحتياطي الاستراتيجي النِّفْطي، وأمَّلَتْ أن يكون لهذا الإعلان أثَرٌ طَفِيف على أسعار النِّفْط، بَيْدَ أنَّ الأسعار استمرَّت في الارتفاع.
هل صارتِ القدرة الإنتاجية النِّفْطية الفائضة ضربًا من الماضي؟ يذهب بعض المحللين إلى أن تلك القدرة التي كان لها تأثير ملطف في منتصف الثمانينيات لن يكون بالإمكان تكرارها. كانت السعودية تحاول تحقيق قدرة إنتاجية نفطية فائضة مقدارها من مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل، بَيْدَ أنَّ النمو الكبير في الطلب سيجعل من الصعب عليها الاحتفاظ بهذه القدرة الفائضة.
(٢) زيادة الطلب وتغيُّر السوق
في الواقع، غيَّرتِ الزيادة في الطلب على النِّفْط من وجْه السوق تمامًا في عَقْد التسعينيات. وفي الفترة بين عامَيْ ١٩٩٠ و٢٠٠٤ زاد الطلب العالمي على النِّفْط بنحو ١٦ مليون برميل يوميًّا، لكن الزيادة في الإنتاج من جانب الدول غير المنتمية لمنظمة الأوبك لم تتجاوز ٦ ملايين برميل يوميًّا، أغلبها جاءت من الشركات الروسية.
كان المصدر الوحيد للوفاء بالفارق بين الزيادة في الطلب العالمي وإنتاج الدول غير المنتمية لمنظمة الأوبك هو دول الأوبك، التي رغم تلهُّفها على المساعدة كانت تفتقر إلى القدرة الإنتاجية الفائضة. إلا أن الدول الأعضاء بمنظمة الأوبك فعلت كلَّ ما في وسعها من حيث الإنتاج وتمكَّنتْ من توفير ١٠ ملايين برميل إضافية يوميًّا طيلة الفترة بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٠٤. ومع ذلك، أحدث الطلب المتزايد انخفاضًا تدريجيًّا في القدرة الإنتاجية النِّفْطية الفائضة. ورغم أن هذه القدرة كانت في عام ١٩٨٥ تبلغ نحو ١٠ ملايين برميل يوميًّا، فإنها انخفضت عام ٢٠٠٤ إلى أقل من مليوني برميل يوميًّا (أي ما نسبته ٢ بالمائة من الطلب العالمي على النِّفْط).
أحد أسباب الصدمات التي شعر بها منتجو النِّفْط الغربيون في عامي ١٩٧٣ و١٩٧٩ نبع من ندرة المعلومات المتاحة عن أسعار النِّفْط وعن صناعة النِّفْط ككلٍّ. لم تكن صناعة التنبُّؤ بأسعار النِّفْط قد تطوَّرتْ وقتَها. ورغم أن معهد النِّفْط الأمريكي كان يَنشُر دوريةً أسبوعية بعنوان «أويل آند جاز جورنال» تتضمن بيانات عن النِّفْط، فإنه لم يكن أحدٌ يقرَؤُها إلا الضالعون في صناعة النِّفْط.
مثَّل الحظر النِّفْطي العربي إشارةً على حدوث التغيير. أولًا: بعث الحظر النِّفْطي إبَّان وقوعه برسالة إلى القوى الغربية مفادُها ما يلي: رغم أن القتال العربي الإسرائيلي كان محصورًا في منطقة الشرق الأوسط، فإن القوى الغربية التي تُسانِد إسرائيل لا يَزَال بالإمكان معاقبتُها. ثانيًا: أوضح الحظر للقوى الغربية أن مقاليد السيطرة على نفط العالم قد انتقلت من «الأخوات السبع» إلى دول منظمة الأوبك.
لو كان السعوديون يبحثون عن دليل يُثبِت افتراضَهم القائل بأن النقص في المعروض النِّفْطي من شأنه أن يؤدِّي إلى ارتفاع أسعار النِّفْط وإلى كوارث اقتصادية حول العالم، فلهم أن يَجِدوا السَّلْوَى في معرفتهم أن هذا الافتراض قد ثبتت صحته بقدرٍ ما؛ إذ لم يُعانِ العالم أي مآزق اقتصادية دائمة، ولم تضرب الفوضى أركان الاقتصادات المختلفة، لكن مستهلكي النِّفْط الأمريكيين تأثروا سلبًا بالحظر، كما تأثَّر أيضًا الاقتصاد الأمريكي.
لعقود، سَخِرَ المحلِّلون النِّفْطيون من فكرة أن أي دولة أو مجموعة من الدول يُمكِنها أن تستخدم النِّفْط سلاحًا. لكن السعودية أثبتت خطأ نظرتهم هذه، ومع هذا فقد كان السعوديون أنفسُهم على خطأ؛ إذ إنهم ظنوا دائمًا أنه لو عانتِ اقتصادات قومية متعددة من مآزق جرَّاء ارتفاع أسعار النِّفْط، فإن هذا من شأنه أن يجعل المعاناة تُصيبهم بشكل كارثي هم أيضًا. إلا أنه عند ارتفاع أسعار النِّفْط في العَقْد الأول من القرن الحادي والعشرين، حقَّق السعوديون ثراءً تجاوَزَ أشدَّ أحلامِهم جموحًا.
الاحتياطيات الاستراتيجية: مَن يَملِكها وكم يَبلُغ مقدارُها؟
عام ٢٠٠٨ كان يتم الاحتفاظ بنحو ٤٫١ مليارات برميل من النِّفْط في احتياطيات استراتيجية متعددة، منها ١٫٤ مليار برميل تحت سيطرة الحكومات، والبقية تحتفظ بها شركات خاصة.
مؤخرًا، بدأت دول أخرى من غير دول الوكالة الدولية للطاقة في بناء احتياطياتها النِّفْطية الاستراتيجية، وتملك الصين أكبر هذه الاحتياطيات الجديدة.
بالنظر إلى الماضي، ليس المفاجئ هو أن الدول العربية استَخدَمَتِ النِّفْط سلاحًا سياسيًّا، وإنما هو أنها انتظرتْ كلَّ هذه الفترة كي تَستَخدِمه. فشأنها شأن العديد من الدول الأخرى المنتجة للنِّفْط، كانت السعودية عاجزةً عن التحرُّك بفعل سطوة وهيبة الأخوات السبع، ولولا ذلك ربما كانت نفَّذتِ الحظر في وقت سابق على هذا.
زادت الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ الموقف تعقيدًا فيما يتعلق بالنِّفْط. فخلال شهرَيْ يونيو ونوفمبر ١٩٧٩ أَنتَجَت إيران ٢٫٥ مليون برميل فقط من النِّفْط يوميًّا. وفي مرحلة ما، توقَّف إنتاجُها النِّفْطي بالكامل. لكن لو كان أحدٌ بحاجة إلى دليل يؤكِّد أن النِّفْط والعنف كانا في طريقهما لأن يَصيرا مزيجًا قاتلًا، فقد قدَّم غزوُ صدَّام حسين للكويت عام ١٩٩٠ مثلَ هذا الدليل. فللمرة الأولى تَعتَرِف دولة بأنها ستُقدِم على غَزْوِ أخرى بهدف الاستيلاء على مخزونها النِّفْطي. وحين غزا جيش صدَّام الكويت من أجْل الاستيلاء على حقولها النِّفْطية الغنيَّة، لم يظن سوى القليلين أنه سيتوقف عند هذا الحدِّ. فقد بَدَتِ السعودية — بجيشها المفتقِر إلى الخِبْرة — الهدفَ البديهيَّ التاليَ، وبدا أيضًا أن الاستيلاء عليها سيكون أمرًا يسيرًا.
باتتِ السعودية، وغيرُها من دول الخليج، مُدرِكة أنها بحاجة إلى تحالُف رسمي من نوعٍ ما مع الولايات المتحدة؛ لِئَلَّا تُقدِم دولةٌ أو حتى أحدُ الأقاليم على محاولة الاستيلاء على احتياطياتها النِّفْطية الضخمة.
واصل مورس حديثه قائلًا: «غيَّرتْ حرب الخليج هذا بطُرُق جوهرية، خاصة بالنسبة إلى الكويت والسعودية وغيرهما من دول الخليج الصغيرة. فبعد عام ١٩٩٠، باتتِ الحاجة لربط الدفاع القومي وبقاء هذه الدول بضمان أمني من جانب الولايات المتحدة أوضح وأكثر قبولًا من الناحية السياسية من جانب تلك الدول.»
من الإشارات الدالة على أن الكويت تريد أن تتمتع بعلاقة أمنية أقوى مع الولايات المتحدة أنها رحَّبتْ بالاستثمار الأجنبي. لم تكنِ الكويت بحاجة لرأس المال الأمريكي، لكنْ لَوْ أن الشركات الأمريكية استثمرت في الكويت، فعندئذٍ ستَشعُر الحكومة الأمريكية أنها مُلزَمة بحماية هذا البلد. كان هذا هو المنطق الكامن خلف القرار.
حرصت السعودية، المتلهِّفة بالمِثْل على تقوية صداقتها بالولايات المتحدة، على أن تعتبرها الولايات المتحدة مصدرًا أساسيًّا موثوقًا به للنِّفْط. ولأن الولايات المتحدة بَدَتْ وكأنها تَعتَبِر منطقةَ الشرق الأوسط «منطقةَ عدم استقرار»، وكانت تَبحَث عن النِّفْط في بحر الشمال وغرب أفريقيا، خطت أرامكو خطوة جديدة فخفَّضت أسعار النِّفْط في سوق ساحل الخليج الأمريكي. في ذلك الوقت لم يكن السعوديون يبالون بالحفاظ على أسعار النِّفْط المرتفعة، وإنما يريدون العودة إلى مكانتهم المبجَّلة السابقة بوصفِهم المُورِّد النِّفْطي الأول للولايات المتحدة، وسبب هذا هو أنَّهم بَدَءُوا يُدرِكون أن نَجْمَهم آخِذٌ في الأفول.