تاريخ النِّفْط والحُلْم الأمريكي
بنهاية العَقْد الخامس من القرن التاسع عشر، شارَفَتْ حيتان العنبر على الانقراض بفعل الصيد الجائر، وارتفعتْ تكلفة زيت الحوت المستخدم كوقود للمصابيح ارتفاعًا كبيرًا. ونما الطلب على موادَّ آمنة للإضاءة وتشحيم الماكينات في عصر الثورة الصناعية.
في الوقت عينه، في صناعة أخرى هي صناعة تعدين المِلْح، واجهتْ شركات الحفر في أوهايو ونيويورك وويست فيرجينيا وكنتاكي وبنسلفانيا مشكلةً عويصة؛ إذ كان أحد النواتج الجانبية لعملية الحفر (النِّفْط) يلوِّث آبارَهم، وفي بعض الحالات تعيَّن هَجْر الآبار من فرْط التلوث. بدأ صمويل إم كير، الذي كان والدُه يَملِك آبار ملح ومِن ثَمَّ كان على معرفة بالنِّفْط، يبحث عن استخدام لذلك المنتَج، وبدأ في تقطير النِّفْط إلى وقود للمصابيح. وبالفعل أصبح «النِّفْط الكربوني»، كما أطلق عليه، ناجحًا للغاية لدرجة أنه بَنَى معمل تكرير ذا مِصفاة سعتها خمسة جالونات.
بحلول عام ١٨٥٨ كانت كميات كبيرة من النِّفْط الكربوني تُباع في مدينة نيويورك، بحيث أَخَذ سريعًا يحلُّ محلَّ غيرِه من أنواع وقود المصابيح الأخرى الخطيرة والباهظة الثمن. أيضًا صار النِّفْط المستخرَج من شمال غربيِّ بنسلفانيا مادة التشحيم المفضَّلة لصناعة النسيج، ودفع الطلب على النِّفْط السعرَ من خمسة وسبعين سنتًا إلى دولارين للجالون.
في السابع والعشرين من أغسطس ١٨٥٩، قُرْبَ تيتوسفيل بولاية بنسلفانيا، وَجَد إدوين إل دريك النِّفْط في أول بئر ناجحة تجاريًّا حُفِرت عمدًا للبحث عن النِّفْط. لم تكن التكنولوجيا التي استخدمها دريك جديدة، لكن الجديد كان المفهوم الذي يقضي بأنه بالإمكان ضخُّ النِّفْط من الأرض مثلما يُضَخ الماء؛ وبذا انطلقت صناعة النِّفْط الحديثة في الولايات المتحدة.
***
في أيامه الأولى، كان النِّفْط يُستخدَم بالأساس في التشحيم أو كوَقود للمصابيح حين كان يتمُّ تقطيرُه إلى كيروسين. كانت المنازل تُدفَّأ بواسطة حَطَب المدافئ، وكان وقود وسائل النقل إما الحطب وإما الرياح.
كان عمق بئر دريك يبلغ تسعة وستين قدمًا فقط، وكانت تنتج فقط خمسة وسبعين برميلًا من النِّفْط يوميًّا، لكن بعدها بمائة وخمسين عامًا نَمَتْ صناعة النِّفْط وصارتِ الصناعة الأكثر أهمية، وأكثر صناعة تتصل بقضايا جيوسياسية خلافية وشديدة التنافسية في وقتنا الحالي؛ وذلك بطرق لم تخطر ببال أحد على مدار الأعوام اﻟ ١١٤ الأولى من عمرها.
تاريخيًّا، كان البشر يحصلون على الضوء من أحد أنواع الوقود، فيما كانت الحرارة والطاقة تأتيان من نوع آخر. قبل القرن التاسع عشر، كنا نحصل على الضوء من المشاعل، والشموع المصنوعة من الشحم الحيواني ومن المصابيح التي تَحرِق الزيت المأخوذ من الشحم الحيواني. وقد مَثَّل زيت الحيتان؛ نظرًا لأنه يُصدِر قدْرًا أقلَّ من الرائحة والدخان عند احتراقه، تقدمًا كبيرًا، بَيْدَ أنَّه كان باهظ الثمن. وحين ظَهَر مصباحُ الكيروسين النظيف في الأسواق عام ١٨٥٧ كان تأثيرُه على صناعة صيد الحيتان فوريًّا.
(١) السعر المرتفع لزيت «الحيتان» وذروة نظرية زيت «الحيتان»
يشكو الأمريكيون في الوقت الحالي من الأسعار المرتفعة للنِّفْط مع بلوغ برميل النِّفْط ١٤٥ دولارًا في صيف عام ٢٠٠٨ واستقراره حول ٨٠ دولارًا في أوائل عام ٢٠١٠. لكن حتى مع هذا السعر، لا يزال الوقود أرخص كثيرًا مما كان عليه في أوائل القرن التاسع عشر. في تلك الأيام السابقة على استخدام النِّفْط كان زيت الحيتان المستخدم في المصابيح سعره ١٥٠٠ دولار للبرميل (بسعر الدولار اليوم). ما كان أكثر مدعاة للقلق من السعر المرتفع هو أن بعض الخبراء في تلك الفترة كانوا يتَوَقَّعون نَفَادَ الزيت تمامًا؛ إذ لن يعود هناك أي حيتان قريبًا.
(٢) وقود الصناعة الأمريكية
منذ بدء الثورة الصناعية وحتى أواخر القرن التاسع عشر كان الفحم هو الوقودَ المختار للتدفئة والطاقة من جانب الولايات المتحدة وأوروبا وبعض القطاعات الصناعية في شرق آسيا. كان الفحم رخيصًا، ومتاحًا، ويمكن حَرْقُه في أفران المصانع والمنازل والقطارات والسفن. لكن النِّفْط أخذ يحلُّ تدريجيًّا محلَّ الفحم، ولم يكن هذا يحدث بفعل المصادفة.
كان جون دي روكفلر يؤمن بأن المستقبل للنِّفْط. وقد استثمر في تكنولوجيا النِّفْط من أجْل عمليات استخراجٍ وتكريرٍ أكثر كفاءة، وآمَن أنَّ مَن يستطيع السيطرة على سلسلة التوريد الكاملة للنِّفْط سيكون قادرًا على أن يُملِيَ الأسعار ويحقِّق أرباحًا كبيرة. كان روكفلر محقًّا، لكن رؤيته لم تكن غير فعَّالة؛ إذ كان في موضع يمكِّنه من التأثير على القرارات التي أرْسَتِ الأساس للدَّوْر الضخم الذي سيلعبه النِّفْط في بناء الاقتصاد.
فلكي يتطور النِّفْط كصناعة، كان من الحَتْمي أن تُوجد بِنْية نقْل تحتية من أجْل نقل النِّفْط. وتلك البنية كانت السكك الحديدية. كانت أولى السيارات تعمل بمحركات بخارية تقوم على حرق الحطب، ثم محركات تعمل بالفحم، لكن بعد عام ١٩٠٠ بدأ النِّفْط يُستخدَم للمرة الأولى كوقود سيارات. ومنذ ذلك الوقت لم تَعُدِ الطرق تنقل النِّفْط فقط وإنما تحرقه كذلك.
كانت السكك الحديدية مكوِّنًا مهمًّا في خُطَّة التصنيع الأمريكي الكبرى، وكالمتَوَقَّع منه اهتمَّ روكفلر كثيرًا بصناعة السكك الحديدية أيضًا. احتاجت السكك الحديدية الصلب لبناء عربات السكك الحديدية والقضبان. وفي عام ١٨٩٣ ساعد روكفلر في تطوير حقل ميسابي لخام الحديد في مينيسوتا. وبحلول عام ١٨٩٦ تملَّكت شركة «كونسوليديتيد آيرون ماينز» التابعة لروكفلر أسطولًا كبيرًا لنقل الحديد الخام وسيطرت فعليًّا على عمليات الشحن في البحيرات العظمى. بات روكفلر الآن يملك القدرة على السيطرة على صناعة الصلب. لكن في بعض الأحيان يكون التعاون أكثر فعالية من التنافُس؛ لذا في عام ١٨٩٦ تحالَف روكفلر مع ملك الصلب، أندرو كارنيجي. وقد وافق روكفلر على ألَّا يدخل صناعة الصلب، ووافق كارنيجي على ألَّا يكون له علاقة بصناعة النقل.
بحلول أوائل القرن العشرين، صار هناك بديل للنقل بالسكك الحديدية مع البدء في إنتاج السيارات إنتاجًا تجاريًّا ضخمًا. وسريعًا صارت سوق السيارات الاقتصادية تنمو ومعها نَمَتِ الحاجة إلى المزيد من البنية التحتية. وجد المهندسون أن الأسفلت المبنيَّ على النِّفْط يمكن أن يُستخدَم في بناء الطرق التي تستخدمها السيارات الحديثة التي تُدار بواسطة النِّفْط المكرَّر.
صار الأمريكيون الآن يَملِكون البنية التحتية — من قضبان وطرقات — اللازمة لدعم السكك الحديدية، والسيارات التي من شأنها أن تجعل النقل مختلفًا تمامًا عن ذي قبل. لقد وُضع أساس التوسع الصناعي والاقتصادي الذي ميَّز نموَّ الولايات المتحدة المُبهِر في القرن العشرين.
من بين كل دول العالم، كانت الولايات المتحدة الدولة التي حقَّقت الاستفادة القصوى من النِّفْط. لم يكن الأمريكيون هم وحدَهم مَن يستهلكونه ولا كانوا الوحيدين الذين صاروا معتمدين عليه بدرجة كبيرة، بَيْدَ أنَّ الولايات المتحدة كانت أول دولة، والدولة الوحيدة التي تَبنِي اقتصادًا كاملًا حول النِّفْط. وقد أدركتِ الدول النامية أن السيطرة على النِّفْط تمنَحها نقطة قوة، ومزية تنافسية، وسلاحًا سياسيًّا.
أسس جون دي روكفلر شركة ستاندرد أويل عام ١٨٧٠ لكن بحلول عام ١٩١١ صارت ستاندرد أويل تسيطر على نسبة كبيرة للغاية من صناعة النِّفْط لدرجة أن الحكومة الأمريكية أصدرت تشريعًا لمكافحة الاحتكار، مُجبِرة إيَّاه على تفتيت ستاندرد أويل إلى أربع وثلاثين شركة خاصة جديدة. ومن هذه الشركات، بزغت مجموعة من شركات النِّفْط البريطانية والأمريكية ذات الاعتبار صارت تُعرَف مجتمعة باسم «الأخوات السبع» (انظر ما ورد في الفصل الأول عن الأخوات السبع).
نظرًا لأن الدول المنتِجة للنِّفْط لم يكن لدَيْها الكثير من الرغبة في استخراج النِّفْط بأنفسِها من أراضيها — أو القدرة على ذلك — فقد كانت ممتنَّة للأخوات السبع لاضطلاعها بهذه المُهِمَّة. ومن جانبها، كانت الأخوات السبع في موضع يُمكِّنها من استغلال ضَعْف هذه الدول أو سذاجتها، وتمكَّنت من صياغة اتفاقات غير منصِفة تصُبُّ في صالحها وحدَها. وبجرأة متزايدة، أمْلَتِ الأخوات السبع شروطها.
تحكمتِ الأخوات السبع في سلسلة القيمة النِّفْطية كلها — من حقول النِّفْط وصهاريج التخزين وخطوط الأنابيب ومحطات الوقود — بحيث لم يجرُؤ منتجو النِّفْط ولا مستهلِكوه على أن يُخِلُّوا بالنظام القائم. وبفضْل امتلاكِها قدرةً إنتاجية فائضة، كانت الأخوات السبع قادرة على زيادة أو تقليل المعروض من النِّفْط؛ وبذا أوقفتْ مفعول القواعد الطبيعية الخاصة بالعرض والطلب وتحكَّمت في الأسعار.
صارت الأخوات السبع دُوَلًا داخل الدُّوَل، فامتلَكَتْ أساطيل من ناقلات النِّفْط أكبر من القوات البحرية، وكانت قادرة على أن تؤثِّر تأثيرًا عظيمًا على السياسة الخارجية لكل الدول العربية، علاوة على السيطرة على نصف حجم التجارة العالمية. لم تكن الحكومات الوطنية قادرة على فعْل الكثير، فعَلَى أي حال كانت هذه الحكومات قد وقَّعتْ عقودَ امتياز مع شركات النِّفْط، وأرستِ الشركات معايير الصناعة لكل شيء بداية من كيفية التسعير وصولًا إلى تحديد أي حقول النِّفْط ينبغي حَفْرُها وأيها لا، وكذلك تحديد قيمة كل صفقة نفطية.
أعطتِ الحكومةُ الأمريكية دفعة للأخوات السبع؛ وذلك بتبنِّيها اقتصادًا يعتمد على النِّفْط دون منافس، وكانت جاهزةً على نحو مثالي لجَنْي الفوائد العظيمة للنِّفْط.
كانت الولايات المتحدة تمتلك مواردَ طبيعيةً كافية — معدنية وزراعية — مكَّنتْها من تجنُّب الاعتماد على جهات خارجية. وكانت الحكومة الأمريكية تستطيع تمريرَ قرارات تشريعية دون أن تَخشَى نشوبَ ثورات أو وقوعَ انقلاب عسكري، ولم يكن الزعماءُ الأمريكيون يُعانون من الفساد والجَشَع بالدرجة نفسِها التي أصابتِ العديدَ من زعماء الدول النامية، وكان يُمكِن الوثوقُ بهم لتوزيع عوائد النِّفْط دون أن يستقطعوا منها مبالغَ ضخمة للاستخدام الشخصي. لكنْ من دون النِّفْط لم تكن الفضيلة والطموح وحدَهما لِيَقْدِرَا على بناء الاقتصاد الأمريكي القوي.
(٣) الانتقال إلى الضواحي يزيد الاعتماد على النِّفْط
مع عودة الجنود الأمريكيين من الحرب العالمية الثانية وزواجهم وتأسيسهم أُسَرًا خاصة بهم، كانت هناك حركة ضخمة نحو الضواحي، وأراد الناس المزيد والمزيد من مميزات الطبقة الوسطى على غرار امتلاك غسالات كهربائية وأجهزة تلفاز ومكيفات هواء، وسيارات. بدأتِ الأُسَرُ شراء سيارة واحدة، لكنْ عادةً كانت تَجِد أنها بحاجة إلى سيارة ثانية؛ ونتيجة لهذا، تضاعف استهلاك النِّفْط ثلاث مرات بين عامَيْ ١٩٤٨ و١٩٧٢ من ٥٫٨ ملايين برميل إلى ١٦٫٤ مليون برميل يوميًّا.
كان الأمريكيون في «حقبة ذهبية» من النمو والتنمية الاقتصاديَّيْن، لكنهم كانوا يسلكون سبيلًا خطيرًا دون أن يُدركوا ذلك، مع استهلاك الولايات المتحدة للمزيد والمزيد من النِّفْط الذي تُنتِجه. وفي عام ١٩٧٠، حدث ما كان على الولايات المتحدة أن تتحسَّب له؛ إذ صارت الولايات المتحدة في هذا العام مستورِدًا صافيًا للنِّفْط.
أذكى الانتقال المتزايد للأفراد من المدن الداخلية إلى الضواحي مَوْجة جديدة من الطلب على النِّفْط؛ وذلك بأن جَعَلَ مِن السيارة ضرورةً لا غِنَى عنها. فبينما بدأت الولايات المتحدة الإنتاج الشامل للسيارات في بدايات القرن العشرين، سهَّلتْ أسعارُ النِّفْط المنخفضةُ الزيادةَ في أعداد السيارات، فارتفع عدد السيارات في الولايات المتحدة من ٤٥ مليون سيارة عام ١٩٤٩ إلى ١١٩ مليون سيارة عام ١٩٧٢. وبين عامي ١٩٤٥ و١٩٥٤ انتقل ٩ ملايين شخص إلى الضواحي. وبين عامي ١٩٥٠ و١٩٧٦ كان عدد سكان الضواحي يبلغ ٨٥ مليون نسمة. وبحلول عام ١٩٧٦ كان عدد الأمريكيين الذين يعيشون في الضواحي يزيد عن عدد أولئك الذين يعيشون في المدن المركزية أو المناطق الريفية.
(٤) تأميم النِّفْط
تعيَّن الانتظار حتى عام ١٩٦٠ كي تَظهَر أولى علامات الصحوة القومية وأقواها؛ إذ كان هذا هو العام الذي تأسَّست فيه منظمة الأوبك. راقبت شركات النِّفْط المحلية التطورات بحذر خلال عَقْد الستينيات، وحين بدأ التأميم، أواخِرَ الستينيات وأوائل السبعينيات، كان الأمر لا يزال مفاجئًا في نظر البعض.
أمَّمت فنزويلا صناعة النِّفْط بها عام ١٩٦٨، وبدأ الزعيم الليبي معمر القذافي عملية تأميم للمنشآت النِّفْطية عام ١٩٧٠. ومع ذلك، ظن العديدون أن التأميم الفنزويلي كان حدثًا منفصلًا وأن ما فعله القذافي كان مغامرة جريئة لا أكثر، وأن هذين الحدثين لا يُمثِّلان توجُّهًا قائمًا. ولأن هاتين الدولتين المنتجتين للنِّفْط أمَّمتا منشآتهما النِّفْطية بوصفهما دولتين منفردتين، فقد افتقدتْ أفعالُهما هالة الفعل الجماعي.
لكن بعد ذلك، وفي الرابع والعشرين من فبراير ١٩٧١، أمَّمت الجزائر ٥١ بالمائة من امتيازات النِّفْط الفرنسية. وفي الأول من يونيو ١٩٧٢ أمَّمت العراق امتياز شركة البترول العراقية، الذي كانت تملكه كلٌّ مِن بريتيش بتروليم ورويال دَتش شِل وكومباني فران وكومباني فرانسيز دي بترول وموبيل وستاندرد أويل أوف نيوجيرسي. لم يكن هناك أي ردِّ فعل انتقامي، وصارت عمليات التأميم المبكرة هذه أساس شركات النِّفْط القومية التي صار لها تأثير عالمي قوي على غرار شركة أرامكو السعودية وبتروبراز الفنزويلية.
حتى عَقْد الثمانينيات كان أهم اللاعبين النِّفْطيين موجودين في الشرق الأوسط وفي نصف الكرة الأرضية الشمالي، لكن كان هذا آخذًا في التغيُّر. لقد بدأ مركز جاذبية عالم إنتاج النِّفْط يتحرك نحو نصف الكرة الجنوبي، إلى العالم النامي، إلى دول غارقة في الصراعات ويَصِل فيها الفساد إلى أعلى المستويات السياسية، وهو موقف من شأنه أن يُبقِي الإنتاج النِّفْطي العالمي عُرضةً لعدم الاستقرار والتقلُّب والأسعار المرتفعة. وللمرة الأولى تغيَّر المشهد من «هادئ، تتخلَّله فترات عرضية من التوتر» إلى «متوتر، تتخلله فترات عرضية من الهدوء.»
بعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة قد دخلت في اتفاق ضمني مع المملكة العربية السعودية فيما يخص أسعار النِّفْط. كان من الجليِّ أن الولايات المتحدة ستصبح يومًا ما مستوردًا صافيًا للنِّفْط، وألزم السعوديون أنفسَهم بهذا الإمداد النِّفْطي الكفء، الرخيص، غير المنقطع؛ إذ «وافقت» الولايات المتحدة على شراء النِّفْط السعودي وعلى أن تَحمِيَ كلًّا من النِّفْط والسعوديين أنفسِهم. كان ذلك الاتفاق الضمني يحمل فوائدَ واضحة للدولتين. لم يَصدُر عن الدولتين أيُّ تصريح مشترك بشأنه، بل في الواقع كانت الدولتان حَذِرتين للغاية، بل والْتَزَمتَا السريَّةَ، إحداهما حيالَ الأخرى. لكن مع ذلك كان التفاهم المشترك موجودًا، وإنْ كان ضمنيًّا، وكان قويًّا بما يكفي لِبَثِّ حالةٍ من الطمأنينة الزائدة في الولايات المتحدة.
عام ١٩٧٤ تسبَّب الحظر النِّفْطي العربي وما تلاه من ارتفاع في أسعار النِّفْط في هزة عنيفة للأمريكيين. كانوا يظنون أن هناك «تفاهُمًا» ما من الدول العربية. بَيْدَ أنَّ فترة التحرُّر من الوهم هذه كانت وجيزة بالنسبة إلى الأمريكيين؛ فرغم انخفاض الاستهلاك الأمريكي للنِّفْط حتى ١٦ مليون برميل يوميًّا بحلول عام ١٩٧٥، فإنه عاود الارتفاع مجدَّدًا حتى عام ١٩٧٩، حين تسببت الثورة الإيرانية في تراجُع آخَرَ استمرَّ حتى أوائل الثمانينيات.
الاطمئنان الزائد إلى القدْرة الإنتاجية النِّفْطية الفائضة
لا شيء يوضح ذلك الاطمئنان الزائد عن الحدِّ الذي شَعَرَتْ به الحكومة حيالَ النِّفْط أكثر من ذلك الموقف الذي حدث إبَّان زيارة شاه إيران إلى الولايات المتحدة عام ١٩٦٩ لحضور جنازة الرئيس دوايت دي أيزنهاور. فبعد انتهاء مراسم الجنازة، زار الشاه الرئيس ريتشارد إم نيكسون الذي كان قد اعتَلَى سُدَّةَ الحُكْم لتوِّه. وفي اجتماعهما، اقترح الشاه على نيكسون أن يتدبَّر فكرة إنشاء احتياطي نفطي استراتيجي، وعرض عليه أن تَمُدَّ إيران الولايات المتحدة بالنِّفْط الإيراني الخام لمدة عشر سنوات — بحجم مليار برميل — مقابل سعرٍ ثابت مقدارُه دولار واحد للبرميل.
لو حدث أنْ أتَى أيُّ زعيم قومي إلى البيت الأبيض في أوائل القرن الحادي والعشرين وقدَّم عرضًا كهذا، لم يكن أي رئيس أمريكي ليتردَّد أكثر لدقيقة واحدة قبل أن يَقبَله. لكنْ في عام ١٩٦٩ أخذ نيكسون يتباحَث الأمرَ مع مستشاريه لمدة ستة أشهر، وفي النهاية قرَّر أن الفكرة ليستْ لها أي مميزات. إنَّ رفْضَ هذا العرض إنما يُشير إلى أنه كان من غير المُتخيَّل وقتَها التفكيرُ في أن النِّفْط سيُصبح باهظَ الثمن أو صعبَ الحصول عليه في المستقبل.
عام ٢٠٠٥ وصلتِ الواردات النِّفْطية الأمريكية إلى ١٢٫٢ مليون برميل يوميًّا، وكانت أهم الدول المصدِّرة للولايات المتحدة هي كندا والمكسيك والسعودية وفنزويلا ونيجيريا. ونظرًا لعدم الاستقرار الذي يَشوبُ بعض هذه الدول، فإن الولايات المتحدة كانت بهذا تُقدِم على مخاطرة كبيرة. وقد انخفضت الواردات النِّفْطية الأمريكية إلى ٩٫٦ ملايين برميل في نوفمبر ٢٠٠٩.