الأخلاقيات والنِّفْط
لسنا مجرَّد شركة للنِّفْط …
… هذا يعني أن نكون رُوَّاد العالَم في إنتاج أنظف وقود احتراق حفري، وغاز طبيعي …
… ويعني أن نكون أول شركة تستحدث أنواع وقود احتراق أنظف للعديد من أكثر المدن تلوثًا على مستوى العالم …
… ويعني أن نكون أكبر منتِج للطاقة الشمسية في العالم.
وفق بعض التقديرات، تكلَّفت الحملة الإعلانية لشركة بي بي نحو ٢٥٠ مليون دولار. ويبدو أن الرسالة التي تَبعَث بها هذه الحملة هي أن بي بي ليست شركة للنِّفْط على الإطلاق وإنما شركة للطاقة البديلة.
كانت محاولة بي بي إعادة صياغة علامتها التجارية بوصفها «ليست مجرد شركة للنِّفْط» محاولة جريئة. لكن محاولة إقناع الجمهور أن بي بي ليست شركة نفط كان أمرًا عسيرًا، خاصة — مثلما اقترح ديزنهول — «حين تكون نسبة ٩٩ بالمائة من أعمال الحفر التي تقوم بها الشركة موجهة للوقود الحفري. يُدرك الناس ذلك. وهذا، أكثر من أيِّ شيء آخَر، أقنع دعاة حماية البيئة أن شركات النِّفْط تسعى عامدة إلى غَسْل أمخاخ الجمهور.»
***
بالنسبة إلى غالبية شركات النِّفْط الغربية، فإن إحدى العقبات، في سبيل العثور على حقول نفط جديدة وحفرها، تمثَّلت في قضية المعايير الأخلاقية المزدوجة. فشركات النِّفْط الغربية، وخاصة تلك الموجودة في الولايات المتحدة، تُواجِه ضغطًا جماهيريًّا وقانونيًّا ضخمًا كي تَهتمَّ، ليس فقط بالبيئة، وإنما كذلك بمسألة الرِّشْوة والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وحوكمة الشركات، سواء في الولايات المتحدة أو في أيٍّ من الدول الغربية الأخرى، أو حتى في دول العالم الثالث. أما الشركات الأخرى، خاصة الشركات الروسية أو الصينية أو تلك الموجودة في أجزاء من أمريكا الجنوبية، فليست مقيدة على الدوام بمثل هذه الأعراف.
إن حادثة التسرُّب النِّفْطي للناقلة إكسون فالديز التابعة لشركة إكسون، تدور حول الضرر البيئي، والعلاقات العامة، والمسئولية. كان يُنتظَر من إكسون أنْ تُنظِّف وتصلح ما تسبَّبت في تدميره، وأن تعوِّض الضحايا. يمكن لشركة إكسون أو الضحايا الاختلاف حول مدى عدالة المقابل المادي الذي كان على الشركة أن تدفعه، لكن لم يشكَّ أحد في مسئولية إكسون عن الحادث، وأنها يجب أن تدفع مقدارًا معتبَرًا من المال كتعويض. إن احتياج البَشَر للطاقة لطالما تضمَّن الإقدامَ على مخاطرات من أنواع ودرجات مختلفة. وقد بدا أن السبيل الأفضل هو محاولة تقليل الخطر إلى حَدِّهِ الأدنى بقدْر الإمكان، ثم الاستجابة بسرعة بعد ذلك لو وقعت كارثة، على نحو أخلاقي، وبكل صراحة.
(١) حادثة التسرُّب النِّفْطي للناقلة إكسون فالديز
في الثالث والعشرين من مارس ١٩٨٩ غادرت ناقلة النِّفْط إكسون فالديز مرفأ خط أنابيب ترانس ألاسكا في التاسعة واثنتي عشرة دقيقة مساءً. وجَّه المُرشِد ويليام ميرفي الناقلة البالغ طولها ٩٨٦ قدمًا عبْرَ مضيقِ فالديز مع القبطان جو هازلوود إلى جواره، فيما كان هاري كلار يتحكَّم في دفَّة السفينة. بعد عبور السفينة مضيق فالديز تولَّى هازلوود غرفة القيادة. وحين واجهتِ الناقلةُ فالديز جبالًا جليدية في مسارات الشحن الملاحية أمر هازلوود كلار بأن يبعد الناقلة عن هذه المسارات مؤقتًا وأن يَدُور حول الجليد. بعد ذلك سلَّم هازلوود غرفة القيادة إلى الضابط الثالث جريجوري كازينز. بعد ذلك، ولأسباب لا تزال مجهولة، حلَّ قائد الدفَّة روبرت كاجان محلَّ كلار، وفشل كازينز وكاجان في الاستدارة بالناقلة من أجل العودة إلى مسارات الشحن الملاحية.
جنحت الناقلة وارتطمتْ بحَيْد بلاي ريف في الثانية عشرة وأربع دقائق من صباح الرابع والعشرين من مارس ١٩٨٩. وقد كان القبطان هازلوود في قمرته في ذلك الوقت.
(١-١) التنظيف
تطلَّب تنظيف التسرب النِّفْطي الذي تسببت فيه الناقلة إكسون فالديز من المعدات والعمالة والوقت مقدارًا يفوق ما تطلَّبه أيُّ تسرب نفطي آخر في تاريخ الولايات المتحدة؛ إذ شارك أكثر من أحد عشر ألف شخص، وألف وأربعمائة سفينة، وخمس وثمانون طائرة في العام الأول الذي امتدَّ من أبريل عام ١٩٨٩ حتى سبتمبر ١٩٨٩. استمرت جهود التنظيف في عامي ١٩٩٠ و١٩٩١، في أشهُر الصيف، مع مراقبة محدودة لخط الشاطئ في أشهُر الشتاء.
(١-٢) ما أسباب حادثة التسرب النِّفْطي للناقلة إكسون فالديز؟
- (١)
فشل الضابط الثالث في المناورة بالناقلة على نحو صحيح، وهو ما قد يَرجِع إلى الإرهاق وأعباء العَمَل الجسيمة.
- (٢)
لم يُقدِّم قبطان الناقلة الإشرافَ المِلَاحيَّ اللائق، وهو ما قد يَرجِع إلى تَعاطِيه الكحوليات.
- (٣)
لم تُشرِف شركة إكسون موبيل للشحن على قبطان الناقلة أو توفِّر عددًا كافيًا من أفراد طاقم العمل غير المُحمَّلين بالأعباء للناقلة إكسون فالديز.
- (٤)
لم يوفِّر خفر السواحل الأمريكي نظامًا مروريًّا فعالًا لحركة الناقلات.
- (٥)
كان هناك نقصٌ في كلٍّ من التوجيه الفعَّال والخدمات المرافقة للناقلة.
في البداية صدر حكمٌ بتغريم إكسون خمسة مليارات دولار كتعويض عن الأضرار التي تسببت فيها، لكن الشركة استأنفت الحكم، وهو ما أطال عملية التقاضي لسنوات. وأخيرًا، في الخامس والعشرين من يونيو عام ٢٠٠٨، وبعد عشرين عامًا تقريبًا على حادثة التسرب، خفضت المحكمة العليا الأمريكية الغرامة إلى قرابة ٥٠٠ مليون دولار. وقد أعلنت إكسون في الثلاثين من يونيو عام ٢٠٠٩ أنها لن تُعارِض الحكم.
(٢) كازاخ جيت
يُوضِّح حادثٌ آخَرُ أقلُّ مأساويةً المشكلات التي تُواجِهها صناعة النِّفْط مع الرشوة وأخلاقيات الحوكمة، وهذه الحالة صارتْ تُعرَف باسم «كازاخ جيت».
جيمس جريفين رجل أعمال أمريكي ومستشار للرئيس الكازاخستاني نور سلطان نظر باييف، الذي سيطر طيلة خمسة عشر عامًا هي مدة حكمه على ثروات بلاده النِّفْطية، وجَنَى لنفسه ثروات طائلة على حساب مواطنيه الذين يُعانون الفَاقَةَ.
في التسعينيات، زُعِم أن جريفين دفع ٧٨ مليون دولار رشوة لكلٍّ من نظر باييف ووزير النِّفْط والغاز الكازاخستاني السابق نورلان بالجيم باييف، كي تفوز بعض من أكبر شركات النِّفْط الغربية بحقوق الحفر في حقول النِّفْط الكازاخستانية.
في أكتوبر عام ٢٠٠٦، وبينما كان الرئيس بوش يستعدُّ لاستضافة نظر باييف على عشاء رسمي في واشنطن، اندلع الجدل مجددًا، وهو ما سبَّب إحراجًا ومشكلة عويصة للحكومة الأمريكية. كان العشاء إجراءً دبلوماسيًّا قصدت الإدارة الأمريكية من ورائه أن تُحدِث حالة من التوازن في علاقتها بدولة ذات أهمية استراتيجية متزايدة، لكنها أيضًا تملك سجلًّا من الفساد وتزييف الانتخابات وانتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك قتْلُ اثنين من زعماء المعارضة. واجهت الحكومة الأمريكية مشكلةً عويصة. قال المنتقدون إن إقامة عشاء رسمي لرجل ليس في حقيقته أكثر من رجل عصابات إنما يُوضِّح استعداد الإدارة الأمريكية للتضحية بالديمقراطية، لو حدث أنْ تعارضتْ هذه الديمقراطية مع أهداف سياستها الخارجية.
وقد قال يفجيني إيه زوفتيس من المكتب الكازاخستاني الدولي لحقوق الإنسان وسيادة القانون (وهي منظمة تلقَّت تمويلًا من السفارة الأمريكية والصندوق الوطني للديمقراطية): «يوجد أربعة أعداء لحقوق الإنسان: النِّفْط، والغاز، والحرب على الإرهاب، والاعتبارات الجيوسياسية … ولدينا هنا الأربعة جميعهم.»
وبينما كان العاملون بالبيت الأبيض يتباحثون بشأن ما إنْ كان العشاء سيُقام أم لا، ونوعية أطقم الصيني التي سيُقدَّم فيها الطعام، كانت ثمة دراما قانونية تدور في مانهاتن. فقد أورد الادِّعاء الأمريكي في نيويورك اسمَ نظر باييف بوصفِهِ شريكًا متآمِرًا غيرَ متَّهم لجريفين. وفي نهاية المطاف رضخت إدارة بوش للانتقادات المتزايدة وقررت إلغاء العشاء الرسمي.
وفي الخامس من نوفمبر عام ٢٠٠٦، كتبت صحيفة نيويورك تايمز تقول: «لقد فتحتِ القضية المتَّهم فيها جريفين نافذةً على المناورات عاليةِ الخطورة العابرة للقارات التي تحدث حين يقع تداخل بين شركات النِّفْط الكبرى وعالم السياسة؛ وهو نطاق يتسم بممارسة الضغوط الشديدة والمكلِّفة، وعَقْد الصفقات بين الدول، وتقاطُع سُبُل المال والأعمال والعوامل الجيوسياسية.» وحتى عام ٢٠٠٩ لم يتم البَتُّ في هذه القضية.
(٣) الإبادة الجماعية في دارفور
فيما يخص القصص المتعلِّقة بانتهاكات حقوق الإنسان، تظل دارفور بالسودان، المثال الأبرز. من المعتقد أن السودان تضمُّ أعظم الموارد غير المستغلَّة بعدُ في قارة أفريقيا، بل إنها تفوق في حجمها تلك الموارد الموجودة في خليج غينيا. وفي السنوات الأخيرة، مُنعت شركات النِّفْط الأمريكية بالكامل تقريبًا من العمل بالسودان، وتعرضت شركات غربية أخرى لضغوط كي لا تَعمل هناك. (شركة النِّفْط الكندية «تاليزمان إنرجي» على سبيل المثال تُواجِه اتهاماتٍ تتعلَّق ﺑ «التواطؤ في جرائم الحرب والإبادة الجماعية» في محكمة أمريكية نتيجة أعمالها السابقة في السودان.)
سارعت دول ذات متطلبات طاقة أكبر من متطلبات الولايات المتحدة، أو أخرى صاحبة وازع أخلاقي أقل — أو كلاهما — إلى دارفور كي تملأ الفراغ الذي خلَّفه رحيل الشركات الغربية.
تُهَيْمن أربع شركات للنِّفْط حاليًّا على صناعة النِّفْط في السودان، وهي: مؤسسة البترول الوطنية الصينية (سي إن بي سي/بتروتشاينا)، ومؤسسة البترول والكيماويات الصينية (ساينوبك)، وبتروليم ناسيونال بيرهاد (بتروناس، وهي شركة ماليزية)، ومؤسسة النِّفْط والغاز الطبيعي بالهند-فيديش (أُو إن ﭼﻲ سي/أُو ﭬﻲ إل).
أسفر استخدام الحكومة السودانية للعوائد النِّفْطية في دعم حملتها العسكرية في دارفور عن مقتل ما يزيد عن مائتَيْ ألف شخص، واغتصاب عدد لا يُحصَى من النساء، وتعذيب واختطاف العديد من المدنيين. شُرِّد أكثر من ٢٫٦ مليون شخص بسبب الصراع، وبات ثُلُثَا سكان دارفور يعتمدون على المساعدات من أجْل البقاء أحياءً. ففي هذه الحرب الأهلية، بات النِّفْط هو وقود كلٍّ من الإبادة الجماعية و«التطهير العرقي» الدائرَيْن حاليًّا.