التحوط: تأمين أم مضاربة؟
مثَّل الحظر النِّفْطي العربي جرس إنذار، إنْ لم يكن لمستهلكي النِّفْط في الغرب فعلى الأقل للمنتجين، الذين أدركوا الآن أن بمقدور دولة ما أن تمتنع عن إمداد النِّفْط دون سابق تحذير وأن تتسبب في شلل اقتصاد الولايات المتحدة وغيرها من الدول. تَمثَّل أحدُ السبل التي جابهتْ بها الولايات المتحدة المشكلةَ في إنشاء احتياطيٍّ نفطي استراتيجي؛ كي تتحوَّط من أي أحداث سياسية مستقبلية. لكنَّ أحداثًا أخرى مثَّلتْ أيضًا تهديدًا للاقتصادات المعتمدة على النِّفْط: كالأعاصير والفيضانات، وجفاف الآبار، والإضرابات والحروب الأهلية. كانت شركات النِّفْط بحاجة لوسيلة حماية؛ نوعٍ من التأمين ضدَّ أي أحداث غير مرغوبة يُمكِنها التأثير على أسعار النِّفْط.
***
كي تتمكن أيُّ منصة تداول تجاري لأي سلعة من التحوُّط ستحتاج إلى أمرين: (١) المضاربة على سعر السلعة في أي وقت من المستقبل، (٢) أطراف متعارضة؛ بمعنى طرفين مختلفين يتخذان جانبي عملية «الرهان». وكي يُولِّد هذا التبادُل سيولةً نقدية تُمكِّنه من أنْ يكون قويًّا؛ يجب أن يكون هناك حجم تبادل تجاري كبير، ويجب أن يكون سعر السلعة عرضة للتغيُّر.
خلال الوقت الذي كانت تهيمن فيه الأخوات السبع والأوبك على الساحة، كانت أسعار النِّفْط ثابتة بالأساس؛ ومِن ثَمَّ لم يكن هناك دافع كبير للمضاربين كي يأخذوا أي جانب من جانبي الرهان على الأسعار. لكن كانت الأمور آخذة في التغيُّر.
وحتى من دون الحظر النِّفْطي العربي لعام ١٩٧٤ كانت هناك شائعات في أوائل السبعينيات تقول إن شركات النِّفْط كانت تتسبب عن عمد في نقص المعروض النِّفْطي من أجل زيادة الأسعار. كان ردُّ فعل الكونجرس هو التوسع في فرض ضوابط على أسعار النِّفْط. لكن لأن الكونجرس الأمريكي ليس له ولاية إلا على النِّفْط المحلي فقط، أثَّر التشريع فقط على المنتجين الأمريكيين؛ ومِن ثَمَّ ارتفعت الواردات حتى مثلت نحو ٥٠ بالمائة من الاستهلاك الكلي.
(١) عقود النِّفْط المستقبلية
بدأ إيميت ويتلوك، وهو سمسار أسهُم في قطاع السُّكَّر بشركة إي إف هاتون، يستكشف أحوال تبادُلات العقود المستقبلية على السلع كي يَرَى إنْ كان أيُّ شخص سيتقبَّل فكرة المتاجرة في عقود النِّفْط المستقبلية. لم يتحمَّس الكثيرون، إلى أنْ ذهب ويتلوك إلى بورصة نيويورك التجارية. بحلول عام ١٩٧٨ كان سعر النِّفْط مرتفعًا بما يكفي، وكانت ذكرى الحظر النِّفْطي لا تزال حاضرة؛ ومِن ثَمَّ لم يكن مستبعدًا حدوث تقلُّب حادٍّ في أسعار النِّفْط. كانت البورصة راغبةً في تجربة الفكرة.
زيت التدفئة (المازوت) رقم ١ وزيت الوقود الصناعي رقم ٦ … سيتم تداوُلُهما في بورصة نيويورك التجارية … مناصرو العقود الجديدة … يقولون إن تَوَقُّعات عقود النِّفْط المستقبلية الجديدة أثارتِ اهتمام العديد من كبار المتاجرين المستقلِّين في الجزء الشرقي من البلاد. وهؤلاء المتاجرون، كما يُعتقد، سيشكِّلون الأساس لعمليات تداول قادمة.
كان هناك عدد قليل من المتاجرين بالأسهم، وكان هناك عدد قليل من السماسرة يجلسون قرب هواتفهم بالطابق العلوي في مكاتب السمسرة الخاصة بهم. وفي العاشرة والنصف صباحًا، أُطلِق صوت جرس كعلامة على بدء التداوُل في سوق المازوت. كانتِ البداية بطيئة، وفي نهاية ذلك اليوم الأول لم يَجْرِ إبرام سوى اثنين وعشرين عَقْدًا مستقبليًّا.
رغم أن المضاربة على أسعار النِّفْط بدأت مثل هذه البداية البطيئة، فإن ذلك اليوم مع ذلك يحمل أهمية عظيمة. ففي البداية، اجتذبت هذه العقود بالأساس تجار الجملة والمستهلكين الكبار للمازوت في منطقة ميناء نيويورك، لكن سريعًا ما انتشر استخدامها إلى مناطق خارج نيويورك وإلى قطاعات وقود أخرى غير المازوت، كالديزل ووقود الطائرات.
(١-١) مَن يستخدم عقود المازوت المستقبلية؟
اليوم، تُستخدم العقود المستقبلية من جانب مصافي تكرير النِّفْط، ومسوِّقي الجملة، وتجار المازوت بالتجزئة، وغيرهم من مستهلكي زيت الوقود الكبار — شركات الطيران وشركات النقل بالشاحنات وشركات الشحن — وكلهم يستخدمونه كأداة لإدارة المخاطر وآلية للتسعير.
موزعو زيت الوقود قد يستخدمون عقود المازوت المستقبلية أو عقود الخيارات في حماية حصص من التزامات التسليم الشتوية الخاصة بهم. فلو أمكنهم استخدام العقود من أجْل «تثبيت» الأسعار لأنفسهم، يُمكِنهم عندئذٍ أن يُقدِّموا لمستهلكيهم أسعارًا ثابتة على مدار فترة استهلاك الوقود خلال الشتاء.
قد يستخدم تجار الجملة العقود المستقبلية لحماية المخزون المادي من النِّفْط، أو حماية مشترياتهم النِّفْطية المستقبلية.
أما الجهة التجارية المستخدمة لوقود النقل فقد تستخدم العَقْد المستقبلي للتحوُّط من أيِّ زيادة في تكاليف وقود الديزل ووقود الطائرات وزيت الوقود رقم ٢.
وخارج صناعة النِّفْط، قد تستخدم شركة نقل بالشاحنات أو شركة طيران أو شركة شحن العَقْد المستقبلي كأداة لإدارة المخاطر من أجْل التسعير ووضع الميزانيات وتأمين ما لديها من وقود.
هناك أيضًا جهات غير صناعية تستخدم العقود المستقبلية كوسيلة للمضاربة بالأساس.
(١-٢) صناعة الطاقة المتنامية
سريعًا ما أُتبعت العقود المستقبلية الخاصة بالمازوت بعقود مستقبلية لأنواع أخرى من مشتقات النِّفْط. وبعدها بخمسة أعوام، وفي الثلاثين من مارس ١٩٨٣، تمَّ إطلاق عقود النِّفْط الخام المستقبلية.
في ذلك الوقت كانت هناك عقود مستقبلية أيضًا للبنزين والمازوت والغاز الطبيعي. لقد تغيرت الطريقة التي يُدير بها العالَم صناعة الطاقة تغيُّرًا جذريًّا، وكان توقيت بدء تسويق العقود المستقبلية توقيتًا مثاليًّا. كانت دول الأوبك قد أمَّمتْ شركات النِّفْط العاملة بها وانتزعت السيطرة على التسعير من كبرى الشركات الغربية. وقد أمَّلتْ أنها ستتمكَّن في النهاية من إدارة عملية تسعير سلسلة القيمة كلها؛ من الحفر إلى التكرير وانتهاءً بالبيع بالتجزئة، لكن بسبب الضغوط المتزايدة على الأسعار، أدرك أعضاء الأوبك أنهم بهذا يتحمَّلون ما لا يُطيقون.
عام ١٩٧٩، ونتيجة للثورة الإيرانية، غابت مليارات البراميل من النِّفْط عن السوق، ونشأ نقص نفطي ضخم. ارتفعت أسعار النِّفْط بحِدَّة لتصل إلى ٣٩ دولارًا للبرميل. كانت الدول النِّفْطية تسعى جاهدة إلى سبيل يُمكِّنها من التحلِّي بمرونة أكبر في عملية التسعير، وقدمتِ العقودُ المستقبلية الحلَّ؛ إذ كانت وسيلة تمكِّنهم من جعْل التقلُّبات في الأسعار أقلَّ حِدَّة.
عام ١٩٧٩، حين غَزَتِ العراقُ إيرانَ، كانتِ النسبة الضئيلة البالغة ٣ بالمائة التي انخفض بها المعروض العالمي من النِّفْط كافية لخَلْق حالة أخرى من التهافُت على الوقود وحالة «نقص نفطي» ثانية. انخفضت الأسعار أخيرًا في عام ١٩٨٠، حين تَجَاهَل رونالد ريجان تمامًا الضوابط الخاصة بتسعير النِّفْط فورَ انتخابه رئيسًا. ومجدَّدًا، بدا أن العقود المستقبلية تؤدِّي الغرض منها.
عام ١٩٨٢، كانت الولايات المتحدة في حالة من الركود، ونتيجة لذلك انخفضت بحلول عام ١٩٨٣ أسعار النِّفْط إلى أقل من ٣٠ دولارًا للبرميل، وكان هناك منتجو نفط جدد. كانت عوائد النِّفْط السعودي تنخفض بحِدَّة، وأخذت حصتُها السوقية تقلُّ. كانوا يَوَدُّون لو أنهم زادوا الإنتاج من أجْل ضمان مستوًى ثابتٍ من الدخل، لكنهم بدلًا من ذلك كانوا يُحاوِلون أن يستخدموا قدرتهم الإنتاجية لتهدئة السوق، فقد كانوا يَحرِمون أنفسَهم، عامدين وكارهين لذلك، من عوائد النِّفْط التي كان غيرهم يحصل عليها. كانت حصص الإنتاج تُحدَّد من جانب الأوبك كل بضعة أشهر، لكن كان هذا النظام يتداعَى؛ لأن بعض دول الأوبك كانت تتجاوز الحصة الإنتاجية المقررة لها.
في النهاية، شعر السعوديون أنه لم يَعُدْ لدَيْهم خيار، وأن عليهم أن يزيدوا إنتاجهم النِّفْطي. دخل الإنتاج الجديد سوق النِّفْط في ديسمبر عام ١٩٨٥. وسريعًا ما زاد الإنتاج من مليونَيْ برميل يوميًّا إلى خمسة ملايين. وعلى الفور تقريبًا، بدأ انهيار أسعار النِّفْط عام ١٩٨٦. وبحلول شهر أغسطس، كانت أسعار النِّفْط قد انخفضت إلى ما دون ٩ دولارات للبرميل. وبات واضحًا وقتَها للعالم أن السعوديين فَقَدوا قدرتَهم على التحكُّم في الأسعار.
(١-٣) العام الذي فَقَدَتْ فيه الأوبك سيطرتَها على الأسعار
مثَّل انهيار أسعار النِّفْط عام ١٩٨٦ نقطة تحوُّل فارقة؛ إذ بيَّن للعالَم أنه من الناحية السعرية، لم تملك منظمة الأوبك سيطرة حقيقية. فلم تستطع المنظمة رفع الأسعار حين كان هناك زيادة في المعروض. ومِن ثَمَّ تعيَّن على العالَم أن يتحوَّل إلى سوق العقود المستقبلية؛ من أجل التحوط من مخاطرها، وكي يثبِّت القيمة.
لم تكن تضمن أنك ستعثر على حقل نفطي وتصير ثريًّا مثلما رأيتَ في المسلسل التليفزيوني بيفرلي هيلبيليز. فبسعر عشرة دولارات للبرميل، ستبدأ في التساؤل إنْ كان من المُربِح أن تحفر بحثًا عن النِّفْط من الأساس. صار السعر مشكلة عظيمة، وكانت هناك تقلبات يومية في الأسعار. وأي شخص كان بمقدوره أن ينظر إلى شاشته ويعرف سعر النِّفْط. لهذا السبب أظن أن عام ١٩٨٥ يمثل نقطة تحوُّل محورية؛ لأنه العام الذي بدأتْ فيه دول الأوبك حقًّا تفقد السيطرة على أسعار النِّفْط.
(١-٤) حروب صدَّام حسين
في الآونة نفسِها، وفي مكان آخر في الشرق الأوسط، كان الصراع العربي الإيراني يشتعل مجددًا. فقد هاجمتِ العراقُ التي يحكمها صدَّام حسين إيرانَ التي يَحكُمها آيةُ الله الخميني عام ١٩٨٠، خلال فترة كان صدَّام يأمل أنها لحظة ضعف لإيران؛ أي عقب الثورة الإيرانية مباشرة. لكن إيران كانت أقوى كثيرًا مما أمَّل صدَّام حسين، واستمرت الحرب ثمانيَ سنوات. وبوجْهٍ عامٍّ اعتُبر أن العراق هي المنتصرة في هذه الحرب.
بحلول عام ١٩٩٠ كان صدَّام يترنَّح بفِعْل الضربة المزدوجة المتمثِّلة في انخفاض أسعار النِّفْط وديون الحرب التي تبلغ ٧٥ مليار دولار. لم تكن أمامَه فرصة كبيرة في أن تُعفِيَه الدول العربية الأخرى من هذه الديون. وحين رفضتِ الكويتُ مطالبَه بأنْ تَشطُبَ الدَّيْن البالغة قيمته ٧٥ مليار دولار، غزا صدَّام حسين الكويت، على أمَل السيطرة على حقول النِّفْط الكويتية وربما التوسع في أعماله العسكرية وصولًا إلى كبرى الدول المنتِجة للنِّفْط، السعودية. كان ذلك في صيف عام ١٩٩٠.
مع غزو صدَّام حسين للكويت، ارتفعت أسعار النِّفْط بحِدَّة فوصلت إلى ٤١ دولارًا للبرميل. لكن مع نهاية الحرب، بدأت الأسعار في الانخفاض مجددًا، وبحلول عام ١٩٩٤ وصل سعر برميل النِّفْط إلى ١٣ دولارًا للبرميل. لم يَعُدْ نقص تقلُّب الأسعار يُمثِّل مشكلة لعقود النِّفْط المستقبلية.
وجهة نظر: «المضاربون هم مَن يتحكَّمون في السوق»
لا تولي حكومةٌ أيَّ اهتمام لما يحدث؛ فالمضاربون هم مَن يتحكمون في السوق، ليس شركات النِّفْط، ليس إكسون أو بي بي أو شِل أو ما شابَهَها من شركات. بل المضاربون والأطراف المؤثرة في عالم سوق المال هم مَن لهم اليَدُ العليا، فهم لا يشترون النِّفْط الخام أو يبيعونه لأي ضرورة، وإنما يتلاعبون بهذه السلعة. وهناك مقدار ضخم من المال يُمكِن جَنْيُه بهذه الوسائل.
(١-٥) سوق عقود النِّفْط المستقبلية في القرن الحادي والعشرين
اليوم، بعد تأسيس عقود النِّفْط المستقبلية المختلفة، صار التداول مفتوحًا وتتسم العملية بالشفافية التامة. لم تَعُدْ عقود النِّفْط الخام المستقبلية هي المعايير الرئيسية لحساب الأسعار في السوق العالمية وحسب، وإنما أيضًا قدَّمت مساحة لأطراف ليسوا حتى على علاقة ارتباط بسوق الطاقة. في بعض الأوقات، تسببت السرعة التي لا يمكن التنبُّؤ بها لتحرُّكات الأسعار وكذلك التقلُّب الشديد فيها في تشجيع المضاربين على الدخول إلى هذه السوق، وهو ما تسبَّب في رفع أسواق التعامل النقدي وأسواق العقود المستقبلية إلى ارتفاعات هائلة. لم تكن آلية العرض والطلب وحدَها هي العاملَ المُهِمَّ المحدِّد للأسعار، وإنما أيضًا تَوَقُّعات العرض والطلب القائمة على المضاربة. وقد أُثيرت أسئلة جدِّيَّة بشأن إن كان كبار المتاجرين والمضاربين يستطيعون بالفعل التلاعب بالسوق من أجْل صالحهم.
رغم رفض القائمين على نايمكس للفكرة، فقد استمر الجدل حول هل كان للتداول بالمزايدة العلنية، في مقابل التداول الإلكتروني، تأثير مباشر على أسعار النِّفْط؟ وقد وصف أحد المحللين النِّفْطيين سوق المضاربة بأنها «قاعة مقامرة عالمية».
قال بعض المنتقدين إن أسواق العقود المستقبلية يتم التلاعُب بها، لكن مثل هذا التلاعُب الفاضح يبدو أمرًا غير مُرجَّح، رغم الإقرار بوجود نوع من المضاربة. فعَدَد الأطراف المشاركة ذات المصالح المتباينة الذين يتاجرون يوميًّا أكبر بكثير من أن يسمح بهذا التلاعب. وسيكون من المستحيل تقريبًا على هذه الأطراف أن تجتمع وتتآمَرَ من أجْل تحريك السوق في اتجاه بعينه. فلا يوجد «صانع سوق» واحد؛ وإنما مئات من الأطراف التي تُشارك في عمليات السوق كل يوم.
«لقد اصطَدْنا كلَّ الأرانب البطيئة»
قد يتسبَّب المضاربون في قدْر من التقلُّب، وقد يتسبَّبون في رفْع الأسعار أو خفْضها في أيِّ وقت بعينه، لكن في نهاية المطاف، هم الذين يستجيبون للحَرَاك، لا مَن يُسبِّبونه. وفي القرن الحادي والعشرين، وبينما صار العثور على النِّفْط صعبًا وتجنب الخلل في المعروض النِّفْطي أصعب، فمن الحتمي على الأطراف المؤثِّرة في عالم النِّفْط أن تمتلك القدرة على إبقاء الأسعار تحت السيطرة. وسوق عقود النِّفْط المستقبلية تجعل هذا أمرًا ممكنًا.