فرويد وتشريح النفس البشرية
في النصف الأول من القرن العشرين خطا كثير من العلوم خطوات تقرب الوثبات، فإن انتهاء الطبيعيات بالطاقة الذرية يعد وثبة، وإن تكن وثبة جامحة في الظلام؛ إذ ما كان أحد ينتظر أن يصل عالمنا إلى هذا الكشف العظيم قبل مئات السنين؛ ولذلك فوجئنا بالقنبلة الذرية فكانت شر البدايات التي عمَّمت الذعر.
والتقدم في الطبيعة والكيمياء والبيولوجيا كان منتظرًا منذ أكثر من مائة سنة؛ لأن لهذه العلوم تاريخًا يعود في بعضها إلى أكثر من مائتي سنة، ولكن السيكلوجية كانت إلى نهاية القرن الماضي علمًا مغلقًا أو كالمغلق، ولعل أكبر ما عاق تقدمه بل ميلاده، هو أنه نشأ نشأة زائفة في حضن الفلسفة التي كانت تنأى عن التجربة، وتقتصر على التفكير المجرد.
ثم جاء فرويد فكشف عن النفس قناعاتها بمفتاح جديد هو «العقل الكامن» أو الكامنة.
وفكرة الكامنة هي إحدى الفكرات المحورية أو البذرية، فكرة خصبة ولدت، وتوالد أولادها، حتى ظهر من الأولاد ما عاق الأم، ولكنه في عقوقه قد أثمر ونفع. وفي العقد الأول من هذا القرن كان صوت فرويد هامسًا خافتًا، فما هو أن بلغنا العقدين الثاني والثالث حتى صخب وعلا بل طغى، وأحس العالم أن ها هنا قوة فكرية توجه الثقافة توجيهًا جديدًا لم نكن نعرفه من قبل.
وإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع قد حفل بالصراع الفكري بشأن داروين والتطور، فإن النصف الأول من القرن العشرين قد حفل بصراع آخر بشأن فرويد والعقل الكامن، وبين الفكرتين شبه كبير؛ ذلك أن نظرية داروين قد أثبتت لنا أن الجسم البشري هو ثمرة التطور، وأنه لذلك يخفي كثيرًا من الأعضاء الأثرية القديمة التي ورثناها من الأرومة الحيوانية التي نشأنا منها. وكذلك الشأن في نظرية فرويد، فإنه أثبت أن النفس البشرية قد ورثت وظائف وحشية قديمة، وأننا نألم ونبتئس لأننا في صراع لا ينقطع بين هذه الوظائف الطبيعية القديمة، وبين قيود الحضارة التي تمنعنا من ممارستها.
وقد قضيت كثيرًا من سِنِي عمري في ضوضاء هذه النظرية، وتأثرت بها كما يبدو من مؤلفاتي، فإني أعد منها خمسة أو ستة ألَّفتها في هذا الموضوع بالذات، أو تناولت الموضوعات الاجتماعية والثقافية بالشرح والتعليل السيكولوجيين، فإن كتبي «فن الحياة» و«كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين» و«التثقيف الذاتي» و«الشخصية الناجعة» هي معالجات سيكلوجية لهذه الموضات، وهذا فضلًا عن كتابي «أسرار النفس» و«عقلي وعقلك» و«محاولات سيكلوجية» وهي في صميم السيكلوجية الشعبية.
وقد انتفعت كثيرًا بهذا الاتجاه السيكلوجي في ثقافتي، ولكني لم أنتفع به كثيرًا في حياتي اليومية؛ لأني على الرغم من السيكلوجية ما زلت أعيش وفق ما نشأت وتدربت عليه أيام طفولتي إلا القليل، بل القليل جدًّا الذي استطعت أن أنفضه عن نفسي من أخلاق وعادات ذهنية طفلية، وأنا هنا شاهد على صحة التعاليم الفرويدية وهو أن للسنين الأولى من العمر أكبر الأثر في التوجيه الأخلاقي.
ولكن جمعي بين فكرة التطور وفكرة العقل الباطن قد أخصب ذهني، وحرَّكني إلى تفكير أخلاقي جديد، فمن ذلك مثلًا أني تجنبت الخبط الذي يرجم به الكتَّاب في موضوعات مختلفة مثل السعادة، فإني وثبت فورًا وبداهة إلى أن السعادة هي الوجدان؛ أي ما يسميه عامة كتَّابنا «الوعي»، وأنه بمقدار ما عندنا من وجدان ودراية نكون سعداء، وبمقدار ما يستولي علينا العقل الكامن أو الكامنة نكون تعساء. وهكذا الشأن في موضوعات أخرى.
وقولي إن فرويد قد هداني ووجهني ليس معناه أنى قد سلمت له بلا قيد أو شرط، ولكنه كان البذرة التي أخصبت في نفسي، وأخصبت أحيانًا ضد ما أراده فرويد. وحسبي من ذلك أن أقول إني أوشك أن أكون «بافلوفيا» هذه الأيام من حيث الإيمان بأن الأفكار البشرية جميعها إنما هي رجوع انعكاسية مكيفة؛ أي معدولة عن الرجع الأصلي، ولكني ما زلت في شك.
وقد كانت رحلتي في السيكلوجية وانية متعثرة، بدأت بفرويد ثم يونج ثم أدلر، ثم أولئك الأمريكيين التجريبيين، ثم كرتشمر ثم بافلوف، ولكن فرويد هو الذي فتح لي الكوة، وبسط لي الميدان، وأكسبني الحافز.
وفرويد هو بعد ذلك المفكر الأساسي بين السيكلوجيين، فإنه حط على الحقيقة الأولى، وهي الكظم العام للشهوة الجنسية، وما يؤدي إليه من اضطرابات شخصية. وهو حين يجعل هذه الشهوة حافزًا أوليًّا للنشاط البشري لا يعدو الحقيقة في عالم الحيوان كله. ثم هو حين يعلق مستقبلنا الأخلاقي والمزاجي والعاطفي على السنين الأولى من الطفولة إنما يوضح حقيقة بل أكبر الحقائق في مبادئ التربية، وقيمة العائلة الحاسمة في التوجيه الاجتماعي الصحيح.
وأخيرًا هو الذي جعلنا نعرف أننا نسير في هذا العالم بقوة العواطف المستترة في الكامنة أكثر مما نسير بقوة الوجدان اليقظ الذي ندري به ما نفعل، فنحن نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، بعواطف اندست في كامنتنا منذ الطفولة ونكاد لا ندري بها إلا بعد التحليل الشاق.
فقد يحب أحدنا فتاة ويتزوجها على اعتقاد أنه يحبها؛ لأنها جميلة أو وديعة، أو أن عينيها ساحرتان أو غير ذلك، وهو إنما أحبها لسبب طفلي هو أنها تشبه أمه أيام كانت تحمله على صدرها للرضاع، أو هو قد يكون مدللًا نشأ على إحساس الحاجة إلى الأم، وقد وجد في هذه الفتاة رعاية الأم؛ لأنها أكبر سنًّا منه، فهو يستجملها لهذا السبب، أو هو وجد فيها كبرياء وتسلطًا وهو «مازوكي» يحب أن يتألم فهو يحبها؛ لأنه يحس في جانبها أنه ذليل (وأيضًا مَحمي)، أو قد يكون عكس ذلك؛ أي إنه سادي يحب إيقاع الأذى والقسوة بغيره، فهو يختارها صامتة منكسرة أو ضئيلة الجسم؛ لأن انكسارها وضآلتها يشبعانه ويزيدان إحساسه بالقوة، أو قد يكون شاذًّا، فهو يحبها لأنها تشبه الصبيان والشبان.
وقد يكره أحدنا بعض الأطعمة، بل لعله يشمئز من رؤيتها بحيث يكاد يعتقد أن هذا الاشمئزاز «طبيعي»، وهو إنما يردد في نفسه ظرفًا معينًا سابقًا أو أسلوبًا للعيش قد تعلمه في طفولته. وقد نجد شخصًا له «إرادة حديدية» لا يتراجع ولا ينحرف عن هدفه مهما اعترضه من صعوبات، وكأنه معجزة عجيبة في التزامه هذا الهدف وفي توفيقه بتحقيقه، وحقيقة أمره أنه لظروف سابقة معينة قد تخيل هذا الهدف، وتجسم هذا الخيال الذي ربما يكون قد نشأ أيام الطفولة، ثم صار هذا الخيال يوجهه من حيث لا يدري، إلى هذا الهدف، ولبعض المجانين مثل هذه الإرادة الحديدية.
والإيحاءات المختلفة من أبوينا، ومن المجتمع، ومما نقرأ، ومما نصادف في شبابنا، توجهنا وتعين لنا الحسن والقبيح، بحيث نعتقد أننا نحن الذين نعيِّن هذا الحسن وهذا القبيح، بل قد نتأثر بوحي أحلامنا ونحن نيام، ونسلك في الصباح وفق الرجوع التي أحدثها الحلم، ثم نبرر سلوكنا أو نسوغه بالمنطق.
وكذلك عندما يوضح لنا أن ضميرنا إنما يرجع في الأصل إلى مجموعة المحظورات التي تعلمناها منذ الطفولة، نضطر إلى التسليم بقوله. بل كذلك أيضًا لا نستطيع أن نخالفه حين يقرر أننا في الطفولة نحس دوافع لذية مبهمة تتفاوت بين القوة والضعف، من الغرام الصريح إلى الحب الأفلاطوني.
كل هذا قد سلَّمت به وانتفعت به في مركباتي الذهنية، ولكني اضطررت إلى مخالفته في أساس نظريته وهو مركب أوديب هذا؛ ذلك أن فرويد يعتقد أن الطفل يحب أمه حبًّا جنسيًّا ويجد لذة جنسية في الرضاع والتمسح بجسمها، وهو يضطر إلى كظم هذا الحب خوفًا أو حياءً من أبيه، وأن هذا الكظم يدور في دورات مختلفة بعد ذلك في نفسه وهو يفرج عنه بنشاط بدلي كالتسامي، إلى إيجاد مؤسسات الحضارة أو إلى ألوان أخرى من الثقافة أو قد يمرض منه. ولم أستطع أن أقنع نفسي بكل هذا، ولكني مع ذلك أسلِّم بالعواطف المركَّبة في الطفل نحو الأب وهي حب وكراهة واحترام وعداء، وهي تُعزى في بعضها إلى مركب أوديب، فإن الطفل يغار على أمه من أبيه غيرة أظنها غير جنسية، أو هي إذا كانت جنسية فإن الإحساس الجنسي فيها ضعيف حتى لا يكاد يؤبه به؛ أي إن مركب أوديب ليس ميزان النفس البشرية، وليس أساس المركبات النفسية في الشباب.
اختلافي هنا مع فرويد في الدرجة كما هو في الموضوع، فأنا أسلِّم بأن خيال الأم أيام الطفولة يلصق بالطفل سائر حياته حتى ليختار زوجته من طراز أمه، وهو ينظر إلى رئيسه الأعلى ومن دونه إلى الرؤساء نظرته الطفلية إلى أبيه.
ولكن إذا سلَّمنا بأن هناك دوافع جنسية بين الطفل وأمه فإننا يجب ألا ننسى ما هو أهم منها، وأحرى بأن يكون الميزان الذي توزن به السكينة أو الاضطراب النفسي طوال العمر؛ ذلك أن تعلق الطفل بأمه والتصاقه بها أيام الطفولة، يجعله يحس نحوها بأنها مركز أمنه وطمأنينته، وهي موئله ومكان استغاثته عند الخوف، ومركب أوديب في هذا المعنى هو مركب الاحتماء من الخوف والخطر أكثر مما هو مركب الاشتهاء الجنسي.
والأم هنا تمثِّل المجتمع، فإذا كانت قد أسرفت في حماية طفلها فإنه ينشأ عاجزًا كارهًا للاقتحام ينشد السلامة مهما كانت وضيعة … وإذا كانت قد أسرفت في تقييد حريته، فإنه ينشأ خائفًا ضائقًا بالصعوبات والأخطار الخفية، وهو ينشد مَن يحميه أو ما يحميه في شخص كالزوجة أو الرئيس، أو في عمل مستقر قد يكون قليل الكسب.
ولما كانت حياتنا الاجتماعية الاقتصادية حافلة على الدوام بالأخطار، غير مطمئنة إلى المستقبل، يكثر فيها الإفلاس والتعطل وخوف المرض والموت والقلق على الوظيفة أو الأبناء، وخوف الهزيمة في الحب أو المباراة الاقتصادية العامة، فإن القلق الذي يصيبنا من جميع هذه الحالات يتخذ الأسلوب الذي نشأ عليه مع الأم أيام الطفولة. ولكن إذا كانت علاقة الأم بطفلها أو مركب أوديب، قائمة على التوسعة للطفل في مجال الحرية، بحيث يتعود الجراءة ويقدم ويخترع اختراعاته الصغيرة، فإنه عندما يكبر يستطيع تحمل الصعوبات بل يضحك من الأخطاء، ولا يخشى عليه من نيوروز أو سيكوز؛ أي من مرض عصبي أو عقلي.
ولست أجد في كل هذا تناقضًا مع بافلوف الذي يرد عاداتنا الذهنية وعقائدنا وأفكارنا إلى تلك الرجوع الانعكاسية الأولى أيام الطفولة، ثم ما ينشأ منها من رجوع مكيفة؛ أي معدولة عن أصلها. ويكاد الفرق بين فرويد وبافلوف يكون سيميائيًّا أو لغويًّا في اختيار الكلمة أو أسلوب التعبير، ولكني لست فرويديًّا من حيث إيمان فرويد بأن لنا غرائز ثابتة موروثة في الرغبة في العدوان أو الموت، أو في هذا الاتجاه الأخلاقي، أو نحو ذلك. فقد وصلت بدراساتي الاقتصادية إلى أن التربية وحدها: العائلية، والاجتماعية، هي التي تعين لنا عواطفنا من حب وكراهية واستلطاف أو اشمئزاز، وكفر أو إيمان، وخضوع أو تمرد، وظني أن هذا هو الفرق الأساسي بين فرويد وبافلوف؛ الأول يكاد يكون غريزيًّا مائة في المائة، والثاني يكاد يكون اجتماعيًّا مائة في المائة.
وبكلمة أخرى أقول إن المجتمع يفرض لنا أسلوبًا للارتزاق، فيعين لنا بهذا الأسلوب ووسائله العواطف التي تسود نفوسنا من غيرة، وتحاسد إلى تعاون وحب، ومن مباراة تهدف إلى التفوق وتحمل في غضونها ما يلابسها من إحساسات القلق، وطينة تجمعنا في وجهة موحدة نحو خير المجموع، وعواطفنا التي تحرك نشاطنا هي جميعها ثمرة هذا النظام الارتزاقي الذي يرتِّب لنا معاني الضعة والشرف والخسة والسمو، ولن نستطيع أن نفهم معنى الانتحار أو الثأر والأمانة، أو الخيانة الزوجية، أو قوانين الزواج أو الطلاق، إلا إذا رجعنا إلى تلك النظم الأصلية التي يرتزق بها الناس من صناعة أو زراعة ونحو ذلك.
وأنا أعد نفسي ممتازًا على فرويد من هذه الناحية التي أعجب من إهماله لها، وهو إهمال خطير؛ لأن سيكلوجية فرويد الغريزية تعد راكدة جامدة إلا من حيث إنها تدعو إلى التفريج كي يقل الكظم، ولكن هذه السيكلوجية الاجتماعية التي تعلل العواطف بنظام المجتمع تعد متحركة ارتقائية؛ لأنها تنشد ترقية المجتمع لإيجاد العواطف البارة السارة، بل إن العلاقات الجنسية نفسها، على ما تنبني عليه من أساس طبيعي، تتكيف بالمجتمع بحيث تكون سوية أو شاذة؛ لأن الشذوذ الجنسي العدواني مثلًا هو اجتماعي في أصله، أو إذا كان هناك أساس طبيعي له فإن هذا الأساس لا يعلل أكثر من أربعة في المائة من الاتجاه العدواني. وكذلك الشأن في مركز المرأة العاطفي من الرجل، فإنها كما أثبتت «مارجريت ميد» ليست على الدوام مطلوبة مغرية مزدانة كما هو الشأن في مجتمعنا؛ إذ هي قد تكون عكس ذلك كله.
وقد يزدان الرجل ويطلب من المرأة أن تغازله وتحاول استرضاءه واجتذابه. ومع أن المدارس «التحليلية» قد تعددت واختلفت أساليبها، فإنها جميعها ترجع إلى فرويد، ولا يكاد يوجد فيها إلا القليل الذي أوجده أدلر بما أسماه «مركب النقص».
فرويد يعلق النشاط الذهني والاجتماعي والفني والديني إلى «اللبيد» الجنسي الذي نشأ من الكظم السابق أيام الطفولة بحب الأم وكراهة الأب؛ أي بمركب أوديب.
وأدلر يعلق هذا النشاط، أو النشاط الشخصي على الأقل، بالنقص الكامن الذي نشأ في الطفولة ثم حرك عواطف تحفز وتوجِّه سائر العمر.
و«يونج» يعلق هذا النشاط إلى الطاقة الطبيعية؛ أي الغرائز الأولى، وأيضًا إلى تراث العقائد والممارسات القديمة وكلمات اللغة والعادات البدائية كالسحر القديم، وهو يرى أن هذا التراث يحيا في الكامنة من وقت لآخر.
لنفرض أن هناك كاتبًا ثائرًا نحاول أن نحلل ثورته التي ينشد منها الديمقراطية أو مكافحة الاستبداد، فإن من الواضح أن الناس ليسوا سواء في تحمل المظالم أو في الرغبة الحارة في التغيير الاجتماعي، فلماذا اختُصَّ هذا الكاتب بهذه الدعوة؟
فعند فرويد أن مرجع ثورته «مركب أوديب»؛ لأنه كان يكره أباه وخاصة إذا كان هذا الأب قد أساء إليه في طفولته واستبد به، وهو حين يكبر يضع الوزير أو الأمير المستبد مكان الأب، ويوجه إليه كراهيته وكفاحه.
وعند أدلر أن هذا الكاتب كان أيام طفولته يجد نقصًا في جسمه أو شوهة في وجهه، وكان الخجل يحز فيه ويوجهه نحو التمرد على الرؤساء الذين أخذوا مكان المجتمع الذي كان يعيره أو يقف منه موقف التعيير أيام طفولته.
وعند يونج أن هذا الكاتب ورث روح البطولة وإحساس العدل من الثقافة البشرية العامة منذ نشأت الحضارات الأولى، فهو يمثل في كفاحه دعوة دينية ونهضة شعبية كثيرًا ما تكررت في التاريخ البشري. ومن هنا قيمة الأحلام، وهي قيمة كبيرة عند فرويد ولكنها أكبر عند يونج، ولا تكاد تكون لها عِبرة كبيرة عند أدلر. وإنما يكبر يونج من قيمة الأحلام؛ لأنها تبرز هذه الثقافات القديمة وقت النوم، فنحن نحلم كما لو كنا نعيش قبل عشرين ألف أو عشرة آلاف سنة؛ أي نعيش في بيئة الوحوش المفترسة، والغابات المظلمة، والكهوف الصخرية، والفزع والفرار مع الاستعانة بما يشبه قواعد السحر القديم والكيمياء المنقرضة.
والحق أن في الأحلام شيئًا كثيرًا من هذا، وليس لنا الحق في أن نرفض وراثة الأفكار أكثر مما لنا الحق في أن نرفض وراثة الأعضاء، فإننا في أيامنا ننزع إلى الإيمان بوراثة العادة — كما كان يقول لا مارك — التي تعيِّن وظيفة للعضو في الجسم، كما نرى في طول العنق عند الزرافة أو الجمل؛ إذ إن هذا الطول نتيجة لمد العنق كي يصل كلٌّ منهما إلى الأعشاب. وكذلك الشأن في الأفكار، فإنها بالعادة والتكرار تورَّث وتعود كما لو كانت غرائز، وهذا الحلم العام الذي لا يكاد يخلو منه طفل، وهو السقوط، برهان على أن خوف السقوط من الشجر، وهو كارثة كان يجب على كل أسلافنا أن يتقوها بألا يستسلموا للنوم العميق، هذا الحلم التحذيري يدلنا ببقائه عندنا على أننا نرث الأفكار.
لقد كانت دراسة فرويد عندي بمثابة الخميرة التي تفشَّت في ذهني، وكانت علة العشرات بل المئات من الرجوع الذهنية، فإنه هو الذي كان يحفزني، من حيث أدري أو لا أدري، إلى دراسة المجتمع، وكيف يجب أن نتقي الإجرام أو نعيِّن أصول التربية، أو نتقي الحرب، أو نفكِّر في الشئون الجنسية، أو نقدِّر الثقافة، أو نصف الشخصية الحسنة، أو نحدد المعنى من الذكاء أو البلادة.
وقد ألَّفت كتابي «أسرار النفس» في عام ١٩٢٧ وأنا متأثِّر بفرويد؛ ولذلك لا يتجاوز موضوعه «العقل الباطن» — أي الكامنة أو العقل الكامن — ولكني عندما ألَّفت كتابي الآخر «عقلي وعقلك» في عام ١٩٤٧ كنت قد تجاوزت فرويد إلى غيره من السيكلوجيين، وإلى شيء من الاستقلال الفكري الذي لم أكن أجرؤ عليه في عام ١٩٢٧.
والعالم المتمدن أسعد حالًا وأهنأ في عيشه بما حظي من التوجيه السيكلوجي الجديد على يد فرويد وتلاميذه، فإن فرويد حرَّر الأطفال من القسوة والخوف، وأبرز القيمة الكبرى للحياة الطفلية الهانئة في مستقبل العمر أيام الشباب والكهولة؛ لأنه أوضح لنا كيف تعيش المركبات، وكيف تنشأ الصعوبات التي ربما تؤدي إلى خيبة الشاب أو الفتاة أو إلى انتحار أحدهما بسبب الأخطاء التي تعرَّضا لها أيام طفولتيهما من أحد الأبوين. كما أنه أوضح لنا فداحة النتائج التي تنشأ من الكظم الجنسي، وقد عاد كثيرون ممن ذهب وجدانهم واضمحل تعقلهم لتغلب العقل الكامن عليهم، عادوا من ظلام الجنون إلى نور العقل بفضل التحليل النفسي.
وإنه لَمِمَّا يؤلم جميع الذين انتفعوا بعبقرية هذا السيكلوجي العظيم أن يعرفوا أنه لم يستمتع بشيء من الرخاء الذي كان يمكن أن يخفف عنه الشيخوخة، فإنه عقب الحرب الكبرى الأولى خسر جميع ما ادخره من المال بسبب التضخم في النقد، وفي الحرب الكبرى الثانية طاردته النازية حتى مات في لندن بعيدًا عن بيته ومدينته.
وتراثنا من فرويد هو «التحليل النفسي» وهو لا يمكن أن يموت، وقصارى ما سوف يحدث أن تتغير الأسماء والعبارات؛ لأن صميم التحليل النفسي هو الانتقال من الفكرة الكامنة المتسلطة بالعاطفة إلى الوجدان؛ أي إلى الدراية. وحتى مع اتجاه السيكلوجية في أيامنا إلى التجربة، وهو اتجاه عظيم القيمة جدًّا، فإن التحليل سيبقى مفتوحًا للنفس البشرية نفهم منه خباياها ونتعمق أسسها.
وقد وُلد فرويد من أبوين يهوديين في عام ١٨٥٦، ومات في عام ١٩٤٠ منفيًّا مطاردًا من وطنه فيينا عاصمة النمسا، فإن النازيين الذين استولوا على النمسا طاردوا اليهود، وكان فرويد على الرغم من إلحاده معدودًا بين اليهود.
وحفلت عواصم أوروبا فيما بين عامي ١٩٠٠ و١٩٤٠ بالمناقشات الحامية بشأن التحليل النفسي، كما حفلت بالانشقاقات والخصومات، مما دلَّ على أن السيكلوجية الفرويدية كانت ولا تزال في طور المذاهب، ولا ينقص هذا من فضل فرويد.
ولمَّا نزلْ في هذا الطور لم نستقر، ولكن فرويد كان كما قلت، بمثابة الخميرة التي بعثت سلسلة من الأفكار لما تنتهِ حلقاتها، وهذا هو أكبر فضله في تربيتي.