جوركي والأديب المكافح
في القرن التاسع عشر، وخاصة في نصفه الثاني، كانت روسيا التي هي الآن جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفييتي، تتنازعها حركتان أدبيتان — أو الأحرى اجتماعيتان — إزاء ضغط الثقافة الأوروبية التي كانت تزحف إليها من أوروبا الغربية، والتي فتح لها بطرس الأكبر صدره حين أراد أن ينقل روسيا من الشرق إلى الغرب.
وكان إزاء هذا الضغط الزاحف، تنشط حركة أخرى يقول دعاتها إن الروس صقالبة لا شأن لهم بالأوروبيين، وإن لهؤلاء الصقالبة روحًا وتقاليد وعادات يجب على الروس أن يحافظوا عليها وألا يتلوثوا بالحضارة الأوروبية الفاسدة.
وكان تولستوي ودستوفسكي داعيتي هذه الحركة الصقلبية، كما كان تورجنيف وجوركي داعيتي الاتجاه الأوروبي، وكان التصادم الفكري بينهما كثيرًا، وهذا التصادم قد رأينا مثله في مصر، ففي الخمسين أو الستين سنة الماضية رأينا دعاة السفور للمرأة، مثل قاسم أمين، يتجهون نحو الغرب ويقولون بالأخذ بالحضارة العصرية، كما رأينا دعاة الحجاب، مثل طلعت حرب، يقولون بأننا شرقيون لنا تقاليدنا التي تفضل التقاليد الغربية.
بل كذلك حدث في اليابان والصين والهند، ولكن في جميع هذه المصادمات يتغلب دعاة الحضارة الغربية لسبب مفرد بسيط، هو أنها ليست غربية؛ إذ إن وصفها الحقيقي أنها عصرية جديدة، في حين أن ما يسمى حضارة شرقية، أو صقلبية، إنما هو تلك العادات والتقاليد القديمة التي أثبت الاختبار أنها ليست كفئًا للوقوف في وجه الحضارة العصرية.
الحضارة العصرية الصناعية منتجة، توفر المال والقوة للغربيين، أما الحضارة الشرقية الزراعية القديمة فلم تكن منتجة إلى حد الوفرة؛ ولذلك يحيا أبناؤها في فقر وضعف يغري المستعمرين الأوروبيين باستغلالهم واستعمار بلادهم.
بقيت هذه المعركة بين دعاة القديم الشرقي والجديد الغربي مستعرة إلى عام ١٨٨١، حين قُتل القيصر إسكندر الثاني، وعندئذٍ سادت البلاد رجعية سوداء كان من نتائجها أو وسائلها منع المؤلفات اليسارية الأوروبية من الدخول في روسيا واضطهاد المؤلفين الاشتراكيين، وفي مثل هذه الظروف تجري الدعايات المضطهدة في الظلام، وتختمر بأشد وأعنف مما كانت تختمر لو كانت مكشوفة؛ إذ عندئذٍ يدخلها العنف الذي لا يتفق والحركات المكشوفة؛ ولذلك فشت الجمعيات السرية التي يحدثنا عنها جوركي، الذي كان وقتئذٍ شابًّا حوالي العشرين، يجوس خلال الأفكار والناس، ويحيا شريدًا يتنقل من حرفة إلى حرفة لسد الرمق. وفي هذا الضغط أو الكبت، عقب مقتل القيصر، تبخَّر الصراع بين دعاة الصقلبية، أي الشرق، وبين دعاة الحضارة الغربية، وأخذ مكانه صراع أعمق وأبعد بين الرأسمالية والاشتراكية. وكانت الرأسمالية بازغة في روسيا، قد جلبها المستعمرون — أي المستغلون — من الغربيين الذي ألَّفوا الشركات لإيجاد المصانع، واشترك معهم الأثرياء من الروس الذين آمنوا بالحضارة الغربية، والذين وجدوا الظروف ملائمة لاستغلال الثروة المادية، والبشرية الروسية، وذلك عقب إلغاء النظام الإقطاعي السابق وتحرير عبيد الأرض — أي العمال — الذين لم يكن يسمح لهم من قبل بترك الأرض إلا بإذن المالكين.
واتحد الاشتراكيون والأحرار في التوجيه السياسي للشعب الروسي، وحدثت ثورة عام ١٩٠٥ التي كانت في صميمها مظاهرة أحالها طغيان الحكومة القيصرية إلى مجزرة قُتل فيها أكثر من خمسمائة، غير آلاف الجرحى، وكان يقودها إلى الفشل الكاهن «جابون» الذي دعا المتظاهرين إلى ألا يحملوا السلاح ضد «الأب الصغير» — أي القيصر — ولكن الأب الصغير كان يحمل السلاح هو وآلاف من جنوده، استعملوا جميعهم السلاح لقتل الجماهير المتظاهرة، والتي لم تكن تطلب من القيصر أكثر من حكومة دستورية عادلة توفر الخبز والعمل لأبناء الشعب الجائعين. وهنا نجد مكسيم جوركي لأول مرة يشترك في هذه الثورة، ويتعلم منها. وكان أول ما تعلم من دروسها أن عرش القيصرية لن يهدمه الأحرار، وأن أحزاب الأحرار لم يعد لها مكان في القرن العشرين، وأن الاشتراكية وحدها تتحمل عبء التغيير المنتظر بإيجاد جمهورية بدلًا من القيصرية.
وقصته العظيمة «الأم» التي ظهرت في عام ١٩٠٧ هي التعليق على ثورة ١٩٠٥ الفاشلة، كما هي إرشاد وإلهام للشباب الثائرين في روسيا حتى لا يقنطوا من النجاح المنشود في ثورات أخرى.
•••
ذكرت الصراع بين دعاة الصقلبية الشرقيين، وبين دعاة الحضارة العصرية الغربيين، هذا الصراع تغير — أو تطور — إلى حركتين جديدتين فيما بين عامي ١٩٠٠ أو ١٩١٤، فإن الاتجاه الاشتراكي بين المفكرين والأدباء حملهم على الانحياز للإنسانية ضد الوطنية.
«نحن للعالم ولسنا لروسيا. لسنا وطنيين، نحن عالميون.»
هذا كان موقفهم، وكان منطقهم هنا أنه ما دمنا نعمل للاشتراكية فيجب ألا تكون هناك فوارق في الوطن، وإنما نهدف إلى خدمة الإنسان مهما يكن سواء أكان روسيًّا أم مصريًّا أم صينيًّا أم إنجليزيًّا، في حين كان خصومهم يقولون: روسيا أولًا، نحن وطنيون.
وجاءت الحرب في عام ١٩١٤ فتغلب بالطبع الوطنيون، ولكن لفترة قصيرة، واستحالت الوطنية إلى نزعة حربية عنيفة ضد ألمانيا، وهذا ما كان يُنتظر. ولكن جوركي بقي على ما كان عليه داعية للسلم حتى مدة الحرب، داعية للإنسان؛ الإنسان العالمي.
•••
عاش جوركي أربعين سنة، وهو يكافح في صدره مرض الدرن — أي السل — وأمضى معظم حياته في جنوب إيطاليا ابتغاء الشمس والدفء، ولم يستسلم لهذا المرض، ولم ينم له، بل كان يعمل، ويخرج في الهواء ويمرن عضلاته؛ لأنه كان يحس أنه في سباق مع الموت. وعاش ٦٨ سنة كان يمكن بالطبع أن تكون ٨٠ أو ٩٠ لولا هذا المرض، ولولا هذا الكفاح الآخر الذي كافح به الفقر والحرمان في صباه كله وبعض شبابه.
لقد نشأ جوركي في أسرة من الفقراء الذين جرَّ عليهم الفقر طائفة غير صغيرة من الكوارث، فرأى بعينه الإجرام في أعضاء أسرته. كما أن الجوع قد حمله على أن يحترف أوضع الحرف، بل كان احترافه لهذه الحرف أقرب إلى التشريد منه إلى الاحتراف فعمل خبازًا، وبائعًا جوالًا، وجامعًا للخرق، وبستانيًّا، وبائعًا للأيقونات المقدسة. بل إنه احتاج أن يصيد العصافير كي يأكلها ويشبع بها جوعه. وليس غريبًا علينا أن نفهم أن قصته «من الأعماق السفلى» تحتوي أشخاصًا يشهدون أو يطابقون أولئك الذين خالطهم في صباه وشبابه، بل ليس غريبًا علينا أن نفهم أنه قد ألْهَم الواقعية في الأدب؛ لأن ما رآه من واقع حياة هؤلاء الناس قد ألهمه هذا المذهب، إنما الغريب أن نعرف أنه تغلب على هذا الوسط السيئ فلم يقتدِ بأحد من أولئك المجرمين، بل رفع نفسه فوق وسطه، فلم يتعود شرب الخمور، ولم يقنع بالبطالة والتشرد، ولم يقع في جريمة أو فساد آخر، وإنما خرج من هذا الظلام ينشد النور في درس المذاهب واقتناء الكتب والتفكير في الإنسانية، وترقية شخصيته. تغلب على وسطه، وتغلب على هذا الميكروب الذي كان يأكل رئتيه مدة أربعين سنة.
ونحن هنا إزاء رجل نجح في الأدب وأخرج الكتب العظيمة، ولكنه قبل أن يُخرج كتابًا من مطبعة أخرج لنا حياته التي نجح في تأليفها، وحياته هذه هي خير مؤلفاته، وهي التي تلهمنا أكثر من أي كتاب من كتبه، ولكن ما هو الحافز في هذه الحياة؟
•••
أعتقد أن أعظم نعمة أنعمت بها الأقدار على مكسيم جوركي أنه منذ بداية شبابه، كما يخبرنا هو عن ذلك في ترجمة حياته، عرف المذهب الاشتراكي، وكان هذا المذهب جديرًا بأن يلصق بقلبه أكثر مما يلصق بقلب أي إنسان آخر؛ لأنه رأى بعينيه، واختبر بأسلوب عيشه في الفقر والتشريد والصعلكة، أكثر مما كان يرى ويختبر غيره، فكان للاشتراكية الوقع العميق في نفسه، وهذا الوقع هو الذي نقله من الواقعية إلى الرومانسية.
لقد اكتسب الواقعية مما رأى واختبر، فصار ينقل إلينا في أدبه صورًا من الفقر والحرمان، وما يجران على الفقير المحروم من الانهيار النفسي والتفكك الأخلاقي في بعض الأحيان، كما يبعثان في أحيان أخرى قوة جديدة للتغلب والسيطرة على الوسط. ولكن هذه الواقعية التي اكتسبها من واقع حياته الأولى استحالت عنده بالمذهب الاشتراكي إلى رومانسية علمية، فصار يرسم لنا الأهداف الجديدة للارتقاء الشخصي، وأيضًا للارتقاء الشعبي عن طريق العلم الذي خدم الإنسان، ويسخر الطبيعة ويغيرها لتوفير الرفاهية للجميع.
إن بعض الناس يؤمنون بالاشتراكية لأنها عدل ورحمة، ولكن المفكر العلمي يؤمن بها لأنها علم تتفتح لنا أبوابه في النظام الاشتراكي فقط حين تنطلق الطاقات لجميع أبناء الشعب للإنتاج والاختراع والاكتشاف والثراء والرخاء، وهذه هي اشتراكية جوركي، وهذا الأمل في تحقيقها هو الذي يجعله يحلم بالسعادة، ويعود رومانسيًّا يرسم لنا ما سوف نستمتع به بعد تعميم هذا النظام للعالم.
•••
قبل ثورة عام ١٩٠٥ الفاشلة كان جوركي يؤلِّف القصص القصيرة التي يعالج فيها أعماق الفقر والبؤس ويبعث فيها بخمائر الثورة، وكان موقفه الاجتماعي من مؤلفاته الفنية هو أن الفقر ساحق عام، ولكننا نستطيع أن نلغيه بالعلم والاشتراكية، وأن الفقير زريٌّ في معظم أحواله؛ لأنه يحيا في وسط سيء يحمله على الإجرام والرذيلة، بل يحمله على أن يفر من الجوع والبؤس بالخمر. ثم رأى بعد الثورة الفاشلة في عام ١٩٠٥ أن هنا يأسًا عامًّا، وأن السلطات الروسية قد استأنفت قسوتها ووحشيتها، فألَّف «الأم». ومغزى هذه القصة أن الثائرين يجب ألا ييأسوا، وهو يشرح، كأنه الدليل المرشد، كيف يجب أن يستعد المتآمرون، وكيف يعرفون الخائن فيتقونه، وكيف يحذرون الجواسيس. وقصة «الأم» من هذه الجهة ليست قصة فقط؛ إذ هي قبل كل شيء دليل يوضح أساليب الثورة، وهذا هو المغزى العام منها.
ولكن هناك مغزًى آخر يمكن أن نسميه المغزى الشخصي من الثورة، هو أن العامل الفقير، عندما ييأس يُفْسِد، ويهرب من الحياة بالخمر والرذيلة، ولكنه عندما ينهض، ويحس أنه رجل له آمال في الارتقاء العام وتغيير النظم الاستبدادية، عند ذلك يعمد إلى نفسه هو فيرقي شخصيته، ويغير أخلاقه، فيشرع في التعلم، أو ما نسميه التثقيف الذاتي، فما هو أن تمضي عليه سنوات قليلة حتى يكون قد انتقل من العامية المهنية إلى الثقافة العالية، وخاصة إذا كانت هذه الثورة التي ينشدها هي النظام الاشتراكي.
•••
كما أن هناك «عقدًا» أو «مركبات» في الأخلاق تعين لنا سلوكنا وأهدافنا، كذلك نحن في دراستنا وثقافتنا نجد أننا في أسر هذه العقد أو المركبات الذهنية النفسية التي تكسبنا الحوافز، وتبعث فينا النشاط للدرس، وتفتأ تملؤنا اهتمامات تكاد تكون همومًا مؤلمة، لا نرتاح إلا بعد أن نحلها وننفرج من أسرها. وهنا كلمة عن شخصي أنا من حيث اختباراتي للشهوة الثقافية والإرشاد للعلوم والآداب، فقد وجدت عقدتين في حياتي كان لهما كل الأثر في توجيه أبحاثي ودراساتي.
العقدة الأولى: هي نظرية التطور التي طرأت عليَّ، ولمَّا أبلغ السابعة عشرة من عمري، وكانت مجلة المقتطف تسميها نظرية النشوء والارتقاء، وما هو أن عثرت عليها حتى وجدتني في عاصفة من التفكير والتردد. هذه النظرية، هذه العقدة، جعلتني أبحث الأديان، وأدرس البيولوجيا — أي علم الحياة — وأقتني عشرات بل مئات الكتب عن الإنسان البدائي ونشأة الحضارات، وأسلوب الحياة عند المتوحشين في أيامنا، وثورة العلم على التقاليد في النهضة الأوروبية، ومعاني التطور الاجتماعي، وتاريخ الأرض، وأصل الكون، ومستقبل الإنسان، وأخيرًا السيكلوجية — أي علم النفس. كل هذه الدراسات كانت ولا تزال عندي، تعود إلى العقدة الأولى التي غرستها في نفسي نظرية التطور. والمهم الذي يجب أن أذكره أني ما زلت في أسر هذه العقدة، وأن استطلاعاتي الجديدة للثقافة تعود إلى جذورها الأولى حين كانت سني ١٧ سنة، وهي الأصل في اتجاهاتي العلمية.
والعقدة الثانية: هي الاشتراكية التي طرأت عليَّ وأنا حوالي العشرين في لندن حين التحقتُ عضوًا بالجمعية الفابية؛ فقد حفزني هذا المذهب على بحوث واستطلاعات اجتماعية جديدة.
-
ما هي علة الفقر؟
-
ما هو معنى الاستعمار؟
-
هل البغاء عند محترفاته استهتار أم فقر؟
-
هل الجرائم تعود إلى ما يسميه بعضنا «سوء الأخلاق»، أم إلى الفقر؟
-
بل كذلك المرض، يعود إلى عادات سيئة، أم إلى قلة التغذية؟
إلخ … إلخ. ودفعتني هذه البحوث إلى أن أدرس العناصر التي يتألف منها الغذاء الحسن، بل إلى أن أدرس طرق الزراعة العلمية والتقليدية، وإلى أن أدرس مشكلة السكان … إلخ.
ولكن نظرية التطور، ثم نظرية الاشتراكية، زيادة على ما حملتني كل منهما على الدرس، حملتني أيضًا على الآمال البعيدة، بل أحيانًا المسرفة، في مستقبل الإنسان القريب بالاشتراكية. والذي أفهمه من حياة جورجي أنه انبعث بدراسة العلم والاشتراكية إلى الآمال الإنسانية العظيمة التي نَصِفُها بأنها رومانسية.
إننا في حديثنا العام نفرض على الدوام أن المذهب الاشتراكي مذهب إنساني بار، وأن الاشتراكيين يضحون ولا يكسبون منه شيئًا، ولكني باختباراتي أستطيع أن أُكذِّب هذا الفرض، وأنا أقول إني اكتسبت من إيماني بالاشتراكية هذه الدراسات والاستطلاعات التي لا تنقطع، والتي أحس منها أن ذهني حي، وأنه في شباب، ينمو وينضج، وأني أتفاءل في حياتي بالمستقبل، ولا أخشاه، ولا أتشاءم.
•••
ولكننا نجد في جوركي شذوذًا، أو فذاذة عجيبة فيما يختص بتأثير الوسط على الأخلاق، فإن الوسط الذي نشأ فيه وسط الأسرة من الجدود والأعمام والأخوال، هذا الوسط كان هاوية من الخسة والشراسة والإجرام والرذيلة، وأيما مفكر قد تشبَّع من الثقافة الاجتماعية، ويقرأ عن هؤلاء الأشخاص الذين نشأ بينهم جوركي، لا يتمالك الإحساس بأنه — أي هذا الوسط — كان جديرًا بأن يخلق منه أعظم مجرم في العالم، ولكن جوركي كذَّب هذا المنطق ونشأ أعظم إنسان في العالم، وصحيح أنه كانت له في هذا الوسط جدة بارة أحبته وخدمته، ولكن هل يكفي للنشأة الحميدة أن يكون هناك شخص واحد فاضل بين عشرة من الأرزال؟
وإذا لم يكن الشأن كذلك فإِلَام تعزو هذه النشأة العصامية التي اتسمت بها حياة جوركي؟
كان جوركي عصاميًّا، ولكن ليس في جمع المال كما هو المعنى العرفي، وإنما في تأليف شخصيته وتربية إنسانيته. وليس عندنا من تفسيرٍ لهذه الظاهرة الفذة سوى أنه تقلَّب كثيرًا في الحرف والمهن، ورأى وقارن بين الناس، واستعمل ذكاءه في الفهم والمقارنة، وعرف في غضون ذلك المذهب الاشتراكي، واستطاع أن يصوغ حياته وفق خياله، وخياله هو الاشتراكية.
وهنا العبرة لكل شاب، بل لكل فتاة، فإني لا أكاد أتخيل وسطًا عائليًّا أسوأ من الوسط الذي نشأ فيه جوركي، ومع ذلك تغلب على هذا الوسط كما تغلب على مرضه؛ السل، مدة أربعين سنة، وامتلأ آمالًا في المستقبل الاشتراكي.
•••
ومع ذلك لا نستطيع أن ننكر تأثير الوسط أو قيمته في جوركي، أو بالأحرى في مؤلفاته، ونحتاج هنا إلى المقارنة بين تولستوي وجوركي، فإن الذي لا شك فيه أن نشأة المؤلف، ووسطه العائلي والاجتماعي يؤثران على موقفه من الدنيا وآرائه وفلسفته واتجاهاته، بل كذلك على أسلوب تعبيره وموضوع تفكيره، ولا يكاد أحدنا يتغير ويخالف هذه القاعدة إلا إذا عاش في وسط اجتماعي آخر يزعزع عاداته وعقائده السابقة.
فقد نشأ تولستوي على القمة، في أسرة يرأسها كونت. ونشأ جوركي في الهوة، في أسرة أكثر أفرادها من المجرمين؛ ولذلك نجد أن تولستوي على الرغم من يقظته وبغضه لمعيشة النبلاء مما يضارعونه في الجاه والثراء، لا يزال يحس إحساسهم، فهو لا يؤمن إيمانًا كاملًا بالاشتراكية، بل لا يؤمن بالحضارة الصناعية، وكل ما نجد فيه أنه إقطاعي رحيم بالفقراء الذين قلما يكتب عنهم؛ لأن أبطاله جميعهم تقريبًا من النبلاء أمثاله أو من المتيسرين، والرحمة المسيحية عند علاج المساوئ الاجتماعية، وهو يؤمن بالدين، وإن كان يجحد الكنيسة.
العدل عند تولستوي هو الرحمة، وألا نقاوم الشر مقاومة إيجابية.
ولكن العدل عند جوركي هو الحق، ومذهبه مكافحة الشر بالسيف والنار.
وأبطال جوركي هم أولئك الذين أسقطهم الفقر على الحضيض، ولكنه يعمل على رفعهم بإيقاظهم، وإيجاد الوعي الإنساني في قلوبهم.
تولستوي لم يدعُ إلى الثورة، ولكنه أوجد السخط الذي هيأ لها.
وجوركي دعا إلى الثورة واشترك بنفسه في ثورة عام ١٩٠٥، ثم عاد إلى روسيا بعد ثورة عام ١٩١٧، وخدمها في أمانة وحماسة إلى أن مات في عام ١٩٣٦.
إن التصادم عند جوركي، بين واقع حياته وأماني نفسه، هو الذي ينعكس أثره في أدبه حين يصف لنا رجال قصصه، فيصف الإنسان بأنه بليد وخسيس وجاهل وراكد وأرعن ومغفل.
واقعة جوركي جاءت من حياته السفلى مع أخواله وأعمامه، رومانسيته جاءت من آماله، بعد أن عرف الثائرين الاشتراكيين، وبعد أن اشترك معهم بعقله وجهده، كان يعيش في الظلام الرأسمالي، ويؤمل في النور الاشتراكي، كان يعيش في الرق والفاقة، ويفكر في الحرية والرفاهية. إن القبح في الواقع جعله — في الخيال — يفكر في الجمال، وكان اليأس يبعث فيه الأمل. كان يحلم وهو في عبودية المجتمع الروسي أيام القيصر في سيادة الإنسان على الطبيعة وعلى الآلة، وفي قدرة الإنسان بعقله على محو الخرافات.
يجب ألا نتعب من تكرار القول بأن الأديب يجب أن يستنبط من شخصه «نفسًا أدبية» قبل أن يؤلِّف في الأدب، يجب أن يكون رجلًا مكافحًا وإنسانًا اشتراكيًّا، فأين هي عوامل الرجولة والإنسانية في جوركي؟ لقد صار يتيمًا وهو في السنة السابعة من عمره، وصار عاملًا يكسب عيشه وهو في التاسعة من عمره، وبعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وفي حيرة وتنقل من عمل إلى آخر وفِّق اختياره؟ هذه الأعمال كانت بعد ذلك المواد الخامة التي صنع منها قصصه. وفيما بين عامي ١٩٠٤ و١٩١٣ أسس واشترك في دار نشر تدعى «زنانيا» لنشر الأدب الذي يحمل دلالة اجتماعية. وبقي طيلة حياته بعد ذلك يفهم من الأدب أنه وسيلة لتغيير المجتمعات والناس. وبقي أربعين سنة يكافح مرض السل (الدرن) الرئوي. وفي سنة ١٩٠٨ وصف الشعب في كتابه «الاعتراف» بأنه «خالق الآلهة، خالق المعجزات.» ويقول فيه أيضًا: «إن قوة الشعب حين يسترشد بالإرادة الذكية، لا تعرف حدودًا تعوقها عن التقدم.»
هذا الأمل العظيم إنما أحس به بعد الكوارث العظمى التي جعلته يتألم من الفقر في صباه، ومن المرض أربعين سنة حتى حاول الانتحار والفرار من الدنيا، ولكنه خرج من هذا اليأس إلى الأمل الواسع، فأصبح أعظم مرشد للناس يرشدهم إلى طريق الخير الاشتراكي، وما زلنا نحن، بعد وفاته نسترشد به ونبني، أو نحاول أن نبني حياتنا على غراره.
•••
وُلد جوركي في عام ١٨٦٨ ومات في عام ١٩٣٦، ونفهم من هذين التاريخين أنه أمضى ٣٢ سنة في القرن التاسع عشر و٣٦ سنة في القرن العشرين، ونفهم أيضًا أنه ألَّف قبل الثورة الروسية في عام ١٩١٧، وبعدها، فكان من دعاتها المكافحين المضطهدين ثم كان بعد ذلك من أبنائها الموالين. كان مولده، فيما كنا نسميه قبل الحرب «نجني نوفجورود» ثم صارت بعد الثورة تسمى باسمه «جوركي» على نهر الفولجا الذي نجد ذكره يتكرر في مؤلفاته، وكانت روسيا قد ألغت الرق الإقطاعي، ولكن ذكراه كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ورأى جوركي في صباه ناسًا كانوا أرقَّاء، لهم أخلاق إقطاعية في الدرجات السفلى، ولكنه رأى أيضًا بزوغ الحركة الصناعية والرواج التجاري في المدن حيث المصانع والمتاجر.
كانت روسيا في فترة الانتقال تصطدم فيها الأخلاق الإقطاعية التي تعتمد على الإيمان والتواكل والمحافظة التي تقارب الجمود، والأخلاق الجديدة؛ أخلاق المتجر والمصنع. وكلنا — نحن أبناء القاهرة الذين أمضوا بعض حياتهم في الريف — نعرف الفرق بين الفلاح، هذا الإنسان القديم، الذي يخرج علينا بأخلاق الفراعنة، والذي تغلبت عليه الأخلاق الإقطاعية، ثم هذا الإنسان الجديد العامل في المصنع أو المتجر، بل أيضًا صاحب المصنع أو صاحب المتجر، هؤلاء جميعًا قد تغلبت عليهم الأخلاق التجارية الصناعية، وهم يعيشون في المدينة الصناعية المنبهة بينما الفلاحون يعيشون في القرى النائمة الغافلة.
رأى جوركي القرية التي لم تكد تتخلص من أخلاقها الإقطاعية، كما رأى المدينة الصناعية. ومع أنه عرف أن مكانه هو المدينة، هو الحضارة، هو الصناعة، هو استقلال الشخصية، هو التعقل والتساؤل بدلًا من الإيمان والتسليم، فإنه مع ذلك وجد في المدينة ما يكره، وأعظم ما كان يكره هو المتاجر والعقلية التجارية.
كان ظهور المصانع نتيجة لإلغاء الإقطاع، وكذلك كان ظهور المتاجر، وهنا تثب إلى أذهاننا كلمة عصامي، أو الرجل الذي يصنع نفسه، ينشأ فقيرًا، ثم لا يزال يَجِدُّ حتى يجمع الثروة الطائلة، ثم يحصل على لقب ويشيد كنيسة في بلدته، هو رجل متحرر من قيود الإقطاع، يجد جيوشًا من العمال يختار منهم ويعيِّن الأجور لعملهم ويجمع للثروة بعرقهم وجهدهم. ونحن نعرف العصاميين في بلادنا، ينشأ أحدهم عاملًا يقطع الحجر للبناء أو ينقله إلى القاهرة، ثم لا يزال يقتِّر على نفسه حتى يجمع ثمن عربة يجرها حمار أو جواد للنقل، ثم يسرف في التقتير حتى يشتري عربة نقل كبيرة، ولا تمضي عليه السنوات القليلة حتى يكون مقاولًا يبني العمارات. والثروة الضخمة تأتي إليه عندئذٍ بلا عائق؛ لأنه يستطيع أنه يقتطع من الأجور مقدارًا يدخره، ثم يعود «رأس مال».
قبل أكثر من خمسين سنة قرأت كتابًا ترجمه «يعقوب صروف» مؤسس مجلة «المقتطف» عن صمويل سميلز، وكان عنوانه «سر النجاح»، وفي «سر النجاح» هذا قصص متوالية للعصاميين الإنجليز الذين نهضوا من الفقر إلى الثراء، كانوا عمالًا فأصبحوا سادة، يملكون المتاجر أو المصانع ويستخدمون العمال. قصص نهوض رأس المال في القرن التاسع عشر.
ولكن صمويل سميلز لم يسأل، وهو يروي تواريخهم، كيف جمعوا هذه الثروات؟ وهل كانوا يجمعونها لو أنهم كانوا يؤدون الأجور الحقة لعمالهم؟ كما لم يسأل يعقوب صروف هذين السؤالين عندما ترجم الكتاب.
ويشير جوركي إلى هذا الكتاب بالذات ويسخر به، ويعلن كراهته للتاجر الذي أثرى بإذلال العمال وحرمانهم مما كانوا في حاجة إليه من طعام أو مسكن أو كساء، وفي جميع مؤلفاته تقريبًا نجد هذه الكراهة للتاجر والصانع؛ أي للرأسمالي، صاحب المتجر أو صاحب المصنع الذي يُثري بما يكسبه من عرق العمال.