شفايتزر
السيكلوجية هي التجسس على النفس، وقد تعودتُ بما كسبته من الدربة السيكلوجية، أن أتجسس على المؤلفين وأن أسأل عن حياتهم ومكانتهم الاجتماعية، وتربيتهم حين أرغب في الوقوف على البواعث التي حملتهم على الدعوة إلى فكرة معينة أو اتخاذ أسلوب خاص. ثم كثيرًا ما أحس كما سبق لي أن أشرت إلى ذلك، أن حياة المؤلف هي نفسها كتابه الأول، وأنه إذا لم يكن قد أحسن تأليفها فإنه لن يحسن شيئًا آخر، وأن مشكلاته الخاصة التي عاناها في حياته هي نفسها المشكلات العامة التي عالجها في مؤلفاته.
اعتبر مثلًا تولستوي فإنه جحد مناعم الحضارة، والانغماسات الكئولية والجنسية، وحياة الترف والثراء، بل إنه بعد أن قضى سِنِي النضج والإيناع وأخرج المؤلفات الفنية البديعة، عاد فجحد الفن وعدَّه استهتارًا يجب أن نتجنبه وأن نقنع بسذاجة العيش بل بالفقر والكفاف، وكل هذه المؤلفات كانت ثمرة حياته أو مرآة حياته، فقد انغمس في اللذات الجنسية أيام شبابه ثم نفضها وجحدها، ولكنه أحس من التوترات ما جعله يكافح جسمه ويضغط أعصابه، وكانت مؤلفاته تفريجًا أو شرحًا أو علاجًا لهذه التوترات والضغوط. وكان يقول بأننا يجب أن نتجنب المرأة إلا بغية التناسل، ثم كان ينهزم أمام هذا العزم فيطلب زوجته ويترضاها، وبلغ من كراهته للفن أن قاطع تأليف القصة باعتبارها تسلية وخيمة تنأى عن جد الحياة، ولكنه وهو فوق الثمانين، كان يؤلف القصة ثم يخبئها في درج المنضدة. وكان يحاول أن يعيش بالكفاف، وأن يحترف صنع الأحذية وأن ينزل عن أرضه للفلاحين، ولكنه كان ينهض في الفجر و«يأمر» خادمه بأن يلجم جواده ويخرج به إلى الحقول فيعدو به في وجه الريح ويلتذ هذه «السيادة» على الأرض بل هذا الكفاح للريح والطبيعة.
وليس شك أنه كان بعد أن يعود إلى غرفته، يندم على ضعفه ويحاول أن يكف، لا بل أن يربي نفسه من جديد، فيخرج من درج المنضدة المشرط والأديم كي يصنع حذاءً سخيفًا ركيكًا لأحد الفلاحين. وما أعتقد أن حملته على شكسبير كانت إلا تفريجًا عن إحساسه بالخطيئة التي كان يرتكبها هو بانغماسه في الفن، فإن شكسبير كان فنانًا عظيمًا، وكان تولستوي فنانًا عظيمًا أيضًا، وقد رأى صورته في شكسبير فلعن في شخصه هذا الشاعر الإنجليزي العظيم، وهو إنما كان يلعن نفسه ويحاول التخلص من هذه المتناقضات التي كانت تحطم أعصابه. وأي تناقض أكبر من هذا الانفصال بين ناس يعيشون في ترف الفن يؤلفون الأشعار والقصص، وبين الملايين الكادحة التي تحيا بلا حياة وبلا فن؟ إن عقولنا تزداد فطنة وبصيرة حين نتعمق حياة المؤلف ونسأله من أين لك هذا؟ من أين لك هذه الأفكار؟ وما هي الأحداث التي نزلت بك ثم أنتجت هذه الأفكار في مؤلفاتك؟ ومن أين لك هذا الأسلوب؟ وما هي العلاقة بينه وبين مكانتك الاجتماعية؟ هل أنت مع الشعب تخاطب الشعب بلغته؟ أم أنت في مكانة اجتماعية عالية تعلو على الشعب فتتعالى عليه بأسلوبك؟
إني حين أجد مؤلفًا يبغض التعصب الديني ويكافح الغيبيات ويدعو إلى مذهب العقليين، ويقول بضرورة الاشتراكية، أسأل: هل هو فرد في طائفة من طوائف الأقليات تعاني ضغطًا اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا بحيث يحب هذه المبادئ وينقلها إلى الوجدان الفني؟ أليست علة ذلك أنه قد أحس أن الغيبيات تفصل بين البشر، وأنه لذلك بشري العقيدة اشتراكي المذهب؟
واعتقادي أنه إذا كان رجل السياسة مكلفًا أن يجيب عن سؤالنا: «من أين لك هذا؟» بتقديم الحساب المفصل عن ممتلكاته، فإنه يجب على الأديب أن يجيب عن مثل هذا السؤال بأن يكتب تاريخ حياته حتى نفطن إلى البواعث ونتعمق الأسرار ونتربى ونستبصر بكوارثه.
•••
ولكن هناك من المؤلفين والمفكرين من لا يحوجنا إلى مثل هذا السؤال؛ لأن حياتهم مكشوفة، وقد كشفوها هم بأعمالهم أو كفاحهم؛ ولذلك نحن نقرأ سيرتهم في هذه الأعمال أو هذا الكفاح لنسترشد ونتعلم ونقتدي، فضلًا عن النور الذي نستضيء به من مؤلفاتهم، وهذا هو الشأن في ألبيرت شفيتزر.
هو مؤلف في الأدب والاجتماع والفلسفة والمسيحية قد استطاع أن ينير الأذهان ويهذب الحيوان في الإنسان، ولكنه زيادة على المؤلفات قد عمل وكافح، حتى إننا لنجد في هذا الكفاح ما يغنينا عن قراءة مؤلفاته، كما نجد في كفاح غاندي ما يغنينا عن مؤلفاته.
قضى شفيتزر قرابة أربعين سنة وهو في «لا مبارينيه» في سنغال الفرنسية بأفريقيا الغربية يعالج أمراض الزنوج بالمجان، ويجمع لهم التبرعات من أوروبا وأمريكا، وقد بنى لهم مستشفًى وأعدَّ له كل ما يحتاج إليه من عتاد صحي وعلاجي إلى الأطباء الذين أقنعهم بترك أوروبا والرضا بالعيش لخدمة المرضى من الزنوج في شمس أفريقيا المحرقة، وكان هذا عملًا جليلًا أرصد له حياته وعاد إلى بلاده وهو أعمى إذا لم تتحمل عيناه شمس أفريقيا، ولكنه عاد بعد أن أنجز وعد حياته كما ينجز أحدنا وعدًا من وعود المجد والشرف والإنسانية. وهو يقيم هذه الأيام (عام ١٩٥١) في قريته القريبة من «استراسبورج» ينتظر الموت بعد أن جاوز الثمانين.
كان ألبرت شفيتزر صبيًّا ألمانيًّا نشأ في أسرة ألزاسية حيث تتاخم ألمانيا فرنسا، وأحيانا تخالطها وكانت نية أبويه أن ينشأ نشأة دينية. وقضى ألبيرت تلمذته والتحق بالجامعة في استراسبورج، وحصل على الشهادة الجامعية في الإلهيات، ولكنه طوال دراسته يكب على الموسيقا دراسة ومرانة، ونبغ في العزف على الأرغن، وهو أكبر آلة موسيقية لا تخلو منها كنيسة كبرى في أوروبا. واحتضان الكنائس للموسيقا قد رفع من قيمة هذا الفن وأكسبه الاحترام الذي لا نجده للأسف في بلادنا. وكان يحصل من العزف في الكنائس على أرباح كبيرة، وذاع اسمه حتى كانت الكنائس الكبرى تدعوه في الأعياد والحفلات، وله مؤلفات عن باخ وعن الموسيقا تعد صفحاتها بالآلاف.
وإلى هنا يتساءل القارئ: رجل حصل على الثقافة وعلى الحرفة وعلى الكسب! ما الذي بقي من حياته يذكر فيؤثر؟
والجواب أن الباقي كان كل شيء، فإنه جحد حياته الماضية كلها وآثر عليها كفاحًا إنسانيًّا يحتاج إلى الدم والدموع؟
فقد تساءل شفيتزر وهو شاب: ماذا أفعل كي أخدم الزنوج الذين سحقهم الاستعمار؛ البريطاني والفرنسي والهولندي والبلجيكي، وكيف أستطيع خدمتهم؟ وأجاب المبشرون بأنه يمكنه أن يرحل إلى أفريقيا حيث يبشر الوثنيين من الزنوج بالمسيحية، أليس هو دكتور في الإلهيات؟ ولكنه أحس مرارة التهكم في هذا الاقتراح، فإنه كان يعرف بل يوقن أن كثيرًا من المبشرين كانوا أعوانًا للاستعمار، وزيادة على ذلك تساءل هو: كيف نقدم للزنوج تعاليم المسيحيين، وهم قد عرفوا أن هؤلاء المسيحيين الذين تعلموا هذه التعاليم هم أنفسهم الذين ينهبونهم ويذلونهم ويحرمونهم الثقافة والمدنية والعدل والشرف؟ لا، إنه لن يكذب عليهم، ولن يزعم لهم أن المسيحيين المستعمرين أشراف، وإذن ماذا يفعل؟ لقد بلغ الثالثة والثلاثين، وكل ما يحذقه من المعارف دراية ومرانة عظيمتان في فن الموسيقا، وأيضًا فقهيات جدلية في المذاهب المسيحية، وإنها لسوف تكون سخرية حقًّا أن يقصد إلى الزنوج ويعرض عليهم هذه البراعات، لا إنه لن يفعل ذلك.
وحزم رأيه، ثم حزم أمتعته، ورحل من ستراسبورج إلى باريس، وهناك عاد تلميذًا وهو في الثالثة والثلاثين، والتحق بكلية الطب.
إنه حين يكون طبيبًا يستطيع أن يرحل إلى أفريقيا وأن يعالج المرضى من الزنوج، حتى يعرفوا أن بين الأوروبيين من يواسي جراحهم، ويعالج أمراضهم كما عرفوا من آلاف الاستعماريين المجرمين.
وبعد أربع سنوات نال شهادة الطب فحزم رأيه وحزم أمتعته ورحل إلى «لامبارينيه» في سنغال الفرنسية، وهناك أسس مستشفًى وأقام مع زوجته يخدمان الزنوج نحو أربعين سنة عاد بعدها في سنة ١٩٤٩ إلى قريته التي عرفها وهو صبي بالقرب من ستراسبورج، عاد وهو أعمى.
وإلى هنا نستطيع أن نقتنع بأننا عرفنا إنسانًا بارًّا بالإنسانية، ولكن شفيتزر، كما كان رجل عمل وكفاح، كان مفكرًا عميقًا يبحث ويستقصي ويحاول أن يهتدي إلى يقين، ومن هنا مؤلفاته العديدة، فقد ألَّف عن الموسيقا، ثم ألَّف عن المسيح وحواري المسيح بولس. ولا بد أنك، أيها القارئ، ستقول: إن ها هنا إنسانًا مسيحيًّا قد درس الإنجيل، وعمل بتعاليم المسيح. وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق؛ ذلك أن شفيتزر ألَّف كتابًا عن المسيح الذي أحبه وعمل بتعاليمه، ولكنه عالج حياته بمشرط فرويد بما لا يرضى المسيحيين. وقد قرأت الكتاب وأحسست وأنا في الفصول الأخيرة أن الحلوى التي كنت ألوكها بلساني قد استحالت إلى علقم مر لا أسيغه ولا أطيقه، ولكنه — أي شفيتزر — يقول وكأنه يحس برعشة الاشمئزاز الذي أحدثه تحليله السيكلوجي القاسي: وماذا علينا أن نؤمن بالفلسفة العظيمة حتى ولو كان داعيتها؟ إنها مأساة، وإننا نحن البشر لا نطيق كل الحق، وإذن ما هو اليقين الذي يستند إليه شفيتزر؟ ما هو اليقين الذي يحمله على أن يترك الثراء والمجد والراحة والمدنية ويرحل إلى أفريقيا، ويقضي هناك أحسن سِنِي عمره في خدمة الزنوج بعد أن يستعد لخدمتهم بالدراسة أربع سنوات في جامعة باريس؟
هذا اليقين هو احترام الحياة، إننا يجب أن نحترم الحياة كائنة ما كانت، ولا نقتل نملة إلا إذا حتَّمت الضرورة ذلك، ألسنا نحن الأحياء جميعًا من العشب الذي ندوسه إلى الجواد الذي نركبه، إلى الكلب الذي يرافقنا إلى الشجرة الخضراء؟ ألسنا جميعًا ننتمي إلى أصل واحد ونسير في موكب التطور نحو المستقبل؟ ثم احترام الحياة هو مفتاح يهيئ لنا التفكير السليم في تطور المجتمع البشري. فهل نقنع من شفيتزر بذلك؟ إنه يستطيع أن يقول: انظروا إلى حياتي.
لقد أحببت شفيتزر على الرغم من العلقم الذي ملأ به فمي، وعلى الرغم من السحب الباهرة الناصعة التي أحالها إلى قتام أسود، ورضيت وأنا كاره أن أستمع بعقلي إلى أقواله، كما هدأت نفسي إلى عجزي عن الرد عليه، وتقبلت دعوته إلى الحياة في ترحيب وسرور؛ لأن دراستي للتطور قد جعلتني على إحساس عميق بوحدة الحياة نباتًا وحيوانًا وإنسانًا. ثم هو بعد كل هذا، لم يعترض بكلمة واحدة على سمو الأخلاق التي دعا إليها المسيح.