فولتير
يهفو الذهن إلى ذكرى فولتير كلما هبَّت على الأمة عواصف الظلام التي تقيد الحرية، وتسوغ الاعتقال، وتمنع الكتب، وتراقب الصحف، وتضع الحدود والسدود للعقول، وتنهك النفوس البشرية بأفظع مما ينهك الفاسق الأجسام البشرية.
ذلك لأن فولتير عاش من أجل الحرية، وكانت إيماءة حياته احترام الإنسان وكرامة الناس وحريتهم. ومن الأحسن أن نقرأ تاريخه، ومن الأحسن أن يقرأه أولئك الذين حملوا النيابة العامة في مصر على أن تقوم بأكثر من أربعمائة تحقيق مع الصحف في أقل من سنتين بين سنة ١٩٤٤ و١٩٤٦، ثم بعد ذلك منعوا بعض الكتب الأوروبية من الدخول إلى مصر، كما منعوا بعض المؤلفين من طبع مؤلفاتهم ونشرها.
وُلد فولتير في عام ١٦٩٤ ومات في عام ١٧٧٨. وتغير تاريخ أوروبا بحياته؛ إذ نقل هذه القارة من التعصب إلى التسامح، ومن التقييد إلى التحرير، وغرس بذلك شجرة الديمقراطية، وحمل على العقائد والخرافات الضارة فحطمها، كما بسط الآفاق لحكم العقول، فظهرت الحكومات المدنية العصرية. وقد كان فولتير يمثِّل الطبقة الجديدة البازغة، طبقة الصناعيين والتجاريين الذين شرعوا يأخذون مكان النبلاء في المجتمع الأوروبي، ومن هنا كان إحساسه بضرورة الحرية واحترام الكرامة البشرية عميقًا؛ لأن النبلاء الإقطاعيين كانوا يستعبدون الفلاحين. وعاش فولتير طول عمره وفي نفسه حزازة، فإن أحد النبلاء استطاع أن يحبسه في سجن الباستيل وأن يراه وهو يُجلد انتقامًا منه لبضعة أبيات من الشعر ألفها عنه فولتير. وقد خرج من السجن وهو يبغض النبلاء ويدعو إلى إلغاء النظام الإقطاعي. وسافر إلى إنجلترا وبقي بها أربع سنوات، فأعجب بشيئين هما: الدستور الإنجليزي الذي ينص على أن الحكم للشعب، وأيضًا العالِم الرياضي نيوتن. ولما عاد إلى فرنسا دعا إلى الأخذ بقواعد الدستور الإنجليزي في الحكم. ولو أن الحاكمين تنبهوا في ذلك الوقت إلى قيمة هذه الدعوة لعملوا بها، وعندئذٍ كانوا يتفادون بلا شك من جموح الثورة الفرنسية الكبرى.
وأسوأ ما تصاب به أمة أن يتحد الدين مع الاستبداد، وأن يتحالف الطغاة مع الكهنة، بحيث يستند الدين إلى قوة البوليس، ويستند الاستبداد إلى أساطير الدين، وهذا ما فشا في فرنسا في القرن الثامن عشر، فقد صدر قانون في عام ١٧٥٧ بإعدام المؤلفين الذين يهاجمون الدين. وصحيح أن هذا القانون لم ينفذ؛ لأن الذين وضعوه أحسوا بالأخطاء التي يُستهدفون لها إذا جرءوا على تنفيذه، ولكن حركة التأليف وقفت أو كادت بسبب هذا القانون، واستمر إحراق الكتب إلى عام ١٧٨٨؛ أي قبل الثورة بعام واحد.
ولكن فولتير استطاع أن يُخرج العشرات من الرسائل الحرة بأسماء مستعارة؛ أي مزورة، كي ينجو من خطر الإعدام، وكان في هذه الرسائل يحطم الأساطير ويحمل على الطغيان الحكومي والكنسي، وقبل كل شيء يدعو إلى التسامح، وأن الناس إخوة ولو كانوا مؤمنين أو ملحدين، مسيحيين أو مسلمين، يهودًا أو بوذيين. ولقي فولتير عنتًا في دعوته إلى الحرية، وخاصة حرية العقيدة؛ لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت تحالف في أيامه الحكومة الفرنسية، وكانت تحمل الحكومة والشعب معًا على التعصب وإيذاء غير الكاثوليك … وقد كتب فولتير بقلمه وأنفق من ماله كي ينقذ العائلات التي وقع بها الاضطهاد الديني، وكي يدعو إلى التسامح وحرية العقيدة.
واحتال كي يعيش وكي يرصد حياته للكفاح في سبيل الحرية، وكان من احتياله أن اشترى أرضًا في سويسرا وأرضًا أخرى في فرنسا، وكانتا تتجاوران وذلك ترقبًا للاضطهاد من إحدى الحكومتين السويسرية أو الفرنسية بحيث يستطيع الفرار إلى فرنسا إذا وجد الحملة عليه من الأولى، أو إلى سويسرا إذا وجد الحملة عليه من الثانية، وعاش على هذه الحال السنين الطويلة كي يؤدي رسالته، وهي صيانة الحرية من الوحوش الآدميين، الذين كانوا يكرهون من لا يؤمن بإيمانهم. وقد كان في باريس شيء يسمى «برلمان» ولكنه لم يكن يمثل الشعب؛ ولذلك كان أعضاؤه يسيرون وينقادون إلى دعاة الاستبداد من الحكومة والكنيسة معًا. وقد عني هذا «البرلمان» بأن يحرق قصيدة لفولتير. وألَّف فولتير المعجم الفلسفي، فمنعت الحكومة الفرنسية، بل معظم الحكومات الأوروبية تداوله، وحكم على مؤلِّفه بالكفر.
وشاعت لفولتير أخيرًا شهرة بأنه زعيم الحرية، فكانت تصل إليه شكاوي المضطهدين من الأحرار من جميع الأقطار يطلبون منه الدفاع والإسعاف، وكان يجمع لهم المال كي ينقذهم من حكوماتهم ومن كنائسهم. وما زلنا إلى الآن نسمع عبارة فولتير: «اسحقوا الخزي»، وهذا الخزي هو اضطهاد الأحرار المخالفين للكنيسة.
ومع كل ما اتهم به فولتير لم يكن كافرًا، فإنه كان يؤمن بالله أعظم الإيمان، ولكنه كان يعتقد أن الكنيسة يجب ألا تحتكر الدين، وأننا يجب أن نكون «إلاهيين» قبل أن نكون مسيحيين أو يهودًا أو هندوكيين، وهو يقول: «إن كلمة الإلهي هي الوصف الوحيد الذي يجب أن يتصف به الإنسان، والكتاب الوحيد الذي يجب أن يُقرأ هو كتاب الطبيعة، والديانة الوحيدة هي أن نعبد الله، وأن يكون لنا شرف وأمانة، وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببًا للأذى.»
وكان فولتير يرى الله في كل مخلوق، حتى قال: «إن في البرغوث شيئًا من الألوهية.»
إني أجهل كيف تكوَّنتُ وكيف وُلدتُ. وقد قضيت ربع حياتي وأنا أجهل تمامًا الأسباب لكل ما رأيت وسمعت وأحسست. وكنت ببغاء تلقنني ببغاوات أخرى. ولما حاولت أن أتقدم في الطريق الذي لا نهاية له، لم أستطع أن أجد طريقًا مُعبَّدًا ولا هدفًا معينًا، فوثبت وثبة أتأمل الأبدية ولكنني سقطت في هوة جهلي.
والواقع أننا حين نتأمل حياة فولتير نجد أن الكنيسة الكاثوليكية قد انتفعت بعداوته لها؛ لأنها كفَّت عن اضطهاد المخالفين، وكان هذا الاضطهاد أكبر ما توصم به في القرن الثامن عشر كما كان أكبر ما يعمل لفسادها.
وكذلك انتفعت بفصلها من الدولة؛ لأن اعتلاء الدين للدولة يضر الدين ويحطه؛ إذ يغنيه عن القوة الروحية والأخلاق السامية بما يستمتع به من قوة بوليسية وحماية قانونية. والدين يجب أن يتجرد من أي سلطان مادي؛ أي حكومي أو بوليسي، حتى يستنبط قواه الروحية المستقلة ويصل إلى القلوب عفوًا دون مساعدة خارجية.
وهذه هي مهمة فولتير التي علَّمها لأوروبا، مهمة الحرية الفكرية وفصل الدين من الدولة.
وليس لفولتير عبرة أو دلالة واحدة لعصرنا، وإنما له عبر ودلالات كثيرة، فإننا نفهم منه أن حرية العقل وحرية العقيدة وحرية الضمير هي أثمن ما يملكه البشر، وأن الحكومة أو الهيئة التي تنتهك هذه الحريات ترتكب أفظع الجرائم، وهي جريمة الخيانة للروح البشري. وعبرة أخرى نستخلصها من حياته هي أن الأديب ليس رجل القلم والحبر، وتقليب الكتب واجترار الأقوال القديمة، وإنما هو المكافح المبتكر الذي يشترك في هموم البشر واهتمامات المفكرين دعاة التطور والرقي، وأن أدباء البرج العاجي الذين يقفون بعيدًا عن معترك الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية لا قيمة لهم ولا منفعة منهم، بل هم بمثابة الجندي الفار من المعركة.
وعبرة ثالثة هي أن بؤرة الأديب شخصيته، من حيث إنه يكتب عن إحساس ووجدان بما يحس ويجد، ثم يصدر عن ذلك مفكرًا للتنظيم والتوجيه؛ ولذلك قيل إن أسلوب الكاتب هو شخصيته أو هو أخلاقه، ومن المحال أن يقنعنا كاتب فاسق بضرورة الطهارة، أو كاتب يتعلق بالمستبدين وينتفع منهم بضرورة الديمقراطية.
ولقد عشت حياتي وهنئت أيما هناء، وتعزيت أحيانًا أيما عزاء، بمرافقة فولتير وتأمل كلماته وتتبع حياته في أخطائها وأخطارها وتطوراتها، وعرفت منه معرفة الإحساس والوجدان معًا أن حرية العقل هي قدس الأقداس في النفس البشرية.
كانت حياة فولتير كفاحًا نجح فيه، وردَّ إلى الإنسان حريته بعد أن كانت قد حرمته إياها الكنيسة والدولة، واستطاع أن يحمل جماهير أوروبا على الإيمان بالطبيعيات بدلًا من الغيبيات إلى حدٍّ بعيد، كما استطاع أن يرد إلى التاريخ مكانته، وأن يجعل للتنقيب التاريخي فضل الاهتداء إلى الحق والباطل في العقائد. ودعا إلى العقل دون العقيدة، وأكبر لذلك من شأن «بيكون» داعية التجربة و«ديكارت» داعية العقل. وكان على وجدان برسالته التاريخية من حيث إنه رائد العصر الجديد، عصر القلم والعلم. وقد كتب في عام ١٧٦٠ إلى «هيلفيتبوس» يقول: «إن هذا القرن بدأ يرى انتصار العقل.»
ولقد عشت في هذا الوطن الأسيف — مصر — نحو ثلاثين سنة من عام ١٩١٤ إلى عام ١٩٤٩ في أسر الأحكام العرفية والرقابة القلمية؛ وذلك كي يعيش المستعمرون من الإنجليز، والمستبدون من المصريين، وهم في تحالف لمنع الحريات عن الشعب. وقد ألَّفت كتابين عن الحرية هما: «حرية الفكر»، وهو تاريخ للأبطال الذين كافحوا التعصب والاستبداد والرجعية والجهل. ثم «حرية العقل في مصر»، وهو دعوة إلى إلغاء إدارة المطبوعات التي تمنع إصدار الجرائد والمجلات إلا بعد تأدية غرامة مالية (في صورة تأمين). وفي كلا الكتابين أنعام تتردد من ذكرى فولتير.
وقد كان فولتير يقول: «إني قلَّما أتعمق، ولكني واضح الفكرة على الدوام.» وهذه كلمة أستطيع أن أقولها أنا أيضًا، وإذا كنت في حياتي الأدبية قد وصلت إلى أن أختص بأسلوب، فإني أعترف هنا بأني لم أقصد قط إلى هذا الهدف، وإنما كانت غايتي أن أصل إلى التعبير الجلي الذي يوضح فكرتي، وأظن أني نجحت في ذلك.
وعند الفرنسيين مثل يقول: «ما ليس واضحًا ليس فرنسيًّا»، ولهم الحق في ذلك، وهذا الوضوح يعزى إلى التزامهم المنطق السليم الذي تعلموه من فولتير وأمثاله.