جون ديوي
كنت أتحدث ذات مرة مع الدكتور كليلاند مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن مركب أوديب أو مركب النقص لا أدري، فأنصت إليَّ ثم رفع عينيه في وجهي يسأل في خبث: هل هناك إحصاءات عن هذا الموضوع؟ وبهذا السؤال أفحمني وأضحكني معًا.
فإني أحسست أن السؤال أمريكي، هو سؤال ينبع من الوسط الأمريكي الذي يعتمد على العلم، ويحيا على أساس المعارف العلمية، وهو التجربة، والإحصاء يقوم في علم الاجتماع مقام التجربة في الطبيعيات أو الكيمياء من العلوم المادية. ويجب أن نسلم بأن الكثير من معارفنا السيكلوجية لم يرتفع إلى مقام العلم، وقصارى ما نقول عن هذه المعارف: إنها «فروض» ننتفع بها في تفكيرنا، وإن هناك ما يرجح صحتها؛ لأننا حين نعمل بها نجد النتائج الحسنة، ولكنها ليست علمًا، وإنما العلم هو ما قام به بافلوف الذي جرب التجارب في الكلاب واستنتج النتائج، هو أيضًا تلك الحقائق التي استطاع السيكلوجيون أن يستخرجوها بالإحصاء بالتجارب التي قاموا بها بين الطلبة أو العمال أو الأزواج أو المسجونين أو نحوهم. والعلم هو شيء جديد في عصرنا؛ إذ ليس هو محض التفكير والاستنتاج، وإنما هو التخيل أولًا، ثم التجربة باليد، ثم التفسير بما يتلاءم مع النتائج من هذه التجربة.
وشيوع الأسلوب العلمي في أيامنا قد جعل الفلاسفة والأدباء يتشككون في قيمة ما يمارسون من فلسفة وأدب؛ ولذلك أصبحت الفلسفة «تجريبية»، وصاحب هذا الرأي أو هذه الدعوة إلى اتخاذ الأسلوب العلمي في الفلسفة هو جون ديوي الذي مات قبل سنتين، والذي يعد من أكبر الفلاسفة الأمريكيين، كما أنه مؤسس المدارس «الارتقائية» الجديدة التي دعا فيها إلى أن تكون المدرسة مجتمعًا صغيرًا يمثل المجتمع الذي سيعيش فيه التلميذ أو الطالب بعد ذلك، وفلسفته عن التعليم تندغم في فلسفته عن الحياة، وأنا أحاول هنا أن أشرح فلسفته التي تأثرتُ بها، والتي ما زلتُ أسترشد بها وأعتمد على أسلوبها في حياتي الذهنية.
وأبدأ بما أستطيع أن أسميه «مفتاح» التفكير الفلسفي «ديوي»، وهو أنه ليس في هذا الكون شيء كائن — أي ثابت لا يتغير — لأن كل ما فيه من ناس أو حيوان أو نبات أو جماد هو أشياء «صائرة»؛ أي إنها في تغير لا ينقطع، أو بكلمة أخرى هي في تطور.
نحن وكل شيء حولنا في صيرورة تغير، ولسنا في كينونة ثابتة، واعتقادي أن الذي غرس هذه الفكرة في الأذهان العصرية هو داروين حين أثبت أن التطور هو الأصل، والمبدأ في عالمنا، وما دام التغير أو التطور هو الأساس لوجودنا فيجب لذلك أن نقول بالتجربة؛ أي التجربة في الفلسفة والتجربة في الاجتماع، والتجربة في التربية، ذلك أن مجتمعنا ليس نهائيًّا؛ إذ هو سيتطور، وما دام هذا شأنه يجب أن نتناول بالتغير كلما وجدنا الحاجة إلى هذا التغيير.
هذا هو المفتاح الأول، أما المفتاح الثاني الذي يفتح لنا أبواب الفلسفة عند ديوي فهو أن الفصل بين الماديات والمعنويات الذي قال به أفلاطون ليس حقيقة، وإنما هو وهمٌ؛ فالمادة والروح، والجسم والعقل، والفكرة والمادة، كلها شيء واحد، وهو يجبهنا بالقول بأننا لم نعرف قط عقلًا بلا جسم، ولا فكرة بلا مادة.
أما المفتاح الثالث فهو التسليم بأن معارفنا عن الكون والأشياء موقتة؛ أي لوقتنا أو لعمرنا هذا فقط، وهي ليست نهائية، ولا نستطيع لذلك أن نقول إنها صادقة؛ لأن هذه الأشياء في تطور، وقصارى ما نستطيع أن نقوله عن المعارف البشرية أنها «آلة» و«وسيلة» نفهم بها الأشياء. وغاية هذا الفهم غير النهائي إنما هي التسلط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة البشر، لو كانت الأشياء ثابتة، ولو كان الكون ثابتًا، ولو كانت عقولنا ثابتة، لكان فهمنا لهذه الأشياء ثابتًا نهائيًّا، ولكننا نحن جميعًا في صيرورة، نصير ونتغير؛ ولذلك فإن هذا الفهم أيضًا سيتغير، ولا يمكن أن يكون نهائيًّا، وما عندنا من فهم عن الكون والأشياء إنما هو صورة وقتية ننتفع بها، ويجب أن ننتفع بها في استخدام قوى الطبيعة لمصلحة الإنسان لا، ليست الغاية من الفلسفة أن نعرف أسرار الطبيعة، وإنما هي أن نستخدم قوى الطبيعة.
أما المفتاح الرابع فهو أن الذكاء البشري اجتماعي، فما عندنا من أفكار وآراء وعقائد، وعواطف وفلسفات إنما مرجعها جميعها إلى المجتمع الذي نعيش فيه، وكان يمكن ديوي هنا أن يقول إن اللغة اجتماعية، وإنها الوسيلة للذكاء؛ إذ لا يستطاع التفكير بلا لغة.
هذه هي الأسس لفلسفة ديوي التي يسميها «الآلية»؛ أي إن الفلسفة يجب أن تكون آلة أو وسيلة للفهم وللتسلط بهذا الفهم على الطبيعة.
- (١)
أننا وكل شيء حولنا في صيرورة ولسنا ثابتين على حال لا تتغير.
- (٢)
كل ما في هذا الكون هو وحدة لا تنقسم، فليس هناك فرق بين الماديات والمعنويات، ولا بين الحياة والمادة ولا بين الجسم والعقل، بل ليس هناك عقل مستقل أو نفس مستقلة.
- (٣)
معارفنا عن الأشياء مؤقتة؛ إذ هي في تغير كما أن عقولنا التي نعرف بها في تغير.
- (٤)
الذكاء البشري اجتماعي؛ أي إننا ننبعث بنظرياتنا وعقائدنا وأفكارنا بقوة الإيحاء الاجتماعي الذي ينغرس في نفوسنا في المجتمع الذي نعيش فيه.
هذا هو ديوي الفيلسوف فما هو ديوي المربي؟ إن شهرته في التربية أكبر من شهرته في الفلسفة، وقد دعته تركيا وروسيا والصين كي ينظم لها وسائل التعليم، وإليه تعزى هذه الأساليب الجديدة في التعليم في الولايات المتحدة نفسها.
التربية عند ديوي هي النمو الذهني، ولكن لما كان الذهن في كل حال اجتماعيًّا، فإن المدرسة يجب أن تكون اجتماعية، فإذا كان المجتمع الأمريكي مثلًا يتنقل أفراده بالسيارة، فإن التلميذ يجب أن يتعلم قيادة السيارات، وإذن يجب على المدرسة أن تخلق لتلاميذها اختبارات اجتماعية، بحيث يختبرون ويحاولون حل المشكلات كما لو كانوا كبارًا على اهتمام يقظ بكل ما يحدث في بلادهم بل في الدنيا أيضًا.
المدرسة عند ديوي هي جنين المجتمع، وحين تنطوي المدرسة على نفسها، وتعلم النظريات وتلقي الدروس التي لا علاقة لها بالمجتمع العصري، حين تفعل ذلك، تعود بالضرر على تلاميذها؛ ولهذا يجب ألا تنقطع بتاتًا عن الاتصال بالمجتمع.
وقيمة المدرسة عند ديوي تقاس بدرجة ما تخلقه في التلميذ من الرغبة في النمو، وهذا النمو هو في النهاية تجدد ذاتي، وهو دءوب في التوسع الذهني بالاستطلاع والاختبار والدرس.
وكان أول مؤلفاته كتاب «المدرسة والمجتمع» في عام ١٨٩٩ واسم الكتاب يدل القارئ على الاتجاه الذي اتخذه ديوي في فلسفته الاجتماعية. في هذا الكتاب يصف النشاط الذهني بأنه لا يختلف عن أي نشاط آخر نؤديه بعضلاتنا؛ أي إنه تفاعل مع الوسط، هو أقرب الأشياء إلى الرؤية، فإننا حين نرى شيئًا بعيوننا لا نحس أن الرؤية هي شيء داخلي فينا، إنما هي تفاعل بيننا وبين هذا الشيء؛ أي إنها حدث قد حدث بيننا وبين هذا الشيء. وكذلك الشأن في التفكير فإننا لا نفكر إلا لأننا قد التفتنا إلى شيء خارج عنا أو اهتممنا به؛ وإذن ليست التربية ادخار المعارف، وإنما هي غرس العادات الحسنة في التفكير حتى نصل إلى أحسن النتائج، وأحسن النتائج هي استخدام المعارف كما لو كانت آلات لخدمة البشر؛ أي المجتمع.
والهدف من التربية هو إيجاد التلاؤم بين الفرد والمجتمع. وليست الأخلاق عند ديوي شيئًا مطلقًا، وليست هناك أخلاق مثلى دائمة، وإنما هناك تغيرات اجتماعية تؤدي إلى تغيرات أخلاقية، وما دامت غايتنا هي سعادة العيش، فإذن يجب أن نجعل الملاءمة بين الفرد والمجتمع غاية التربية.
ثم ينتهي بأن الأخلاق المثلى في مجتمع ما ليست سوى الأخلاق العلمية، كما أن خير المجتمعات هو المجتمع العلمي. وبالطبع هنا شطط؛ فإن ما يزعمه ديوي من أن غاية التربية يجب أن تكون الملاءمة بين المجتمع والفرد قد يحملنا على القول بأن هذه الملاءمة تقتضينا أن نعيش فيه، حتى ولو كان ظالمًا، ورجل الثورة الذي يحتاج إليه رقي الأمم من وقت لآخر هو رجل لا يتلاءم مع المجتمع، ومن هنا ثورته، وهي فضيلته.
والواقع أن ديوي رأى قبل أن يموت شطط هذا الاندفاع في التساوق مع المجتمع، فقد عُقد مؤتمرٌ أمريكي بلغ أعضاؤه نحو ٦٠٠ من خريجي الجامعات وأساتذتها، وعرض هذا الاقتراح على المؤتمرين:
أيهما أنفع، أن نعلم الطلبة اللغة الإغريقية أم نعلمهم فن الرقص؟ فكانت الأغلبية الساحقة في جانب الرقص؛ وذلك اعتقادًا بأن المجتمع العصري يحتاج الفرد فيه كي يكون متلائمًا معه إلى الرقص، أما لغة الإغريق فيمكن الاستغناء عنها أو على الأقل تركها للمتخصصين.
لا، ليست التربية الحقة أن نتلاءم على الدوام مع المجتمع. والأغلب أن ديوي قد احتاج إلى الإكبار من شأن الاتصال بالمجتمع، وإلى جعله الأساس للتربية كي يحمل المعلمين والمربين على أن يضعوا القيمة العملية فوق القيمة النظرية في التربية، وعلى أن يجعلوا من المدرسة مجتمعًا يتهيأ فيه التلميذ أو الطالب لأن يكون فردًا اجتماعيًّا له عادات اجتماعية ارتقائية، وليس محض خزانة للمعارف الكيماوية والرياضية والتاريخية والجغرافية.
عضو نافع متطور في مجتمع ارتقائي متطور.
وقد نجح في هذا الشأن، فإن «المدارس الارتقائية» في الولايات المتحدة هي ثمرة فلسفته هذه، وهي جنات للصبيان والشبان يجدون فيها سعادة كان أسلافهم يحرمونها بالدءوب في دراسة واختزان المعارف.
أعتقد أنني انتفعت كثيرًا في تربيتي الذهنية بجون ديوي، وأول انتفاعي به أنه ألحَّ عليَّ مرارًا وتكرارًا بضرورة الالتزام للأسلوب العلمي في المشكلات الاجتماعية، وبالطبع كلنا يعرف قيمة الأسلوب العلمي، ولكن هناك من الأفكار ما نحتاج إلى أن نكرر القول فيه، ونبدي ونعيد حتى يصير عادة ذهنية ثابتة، وليس فكرة عابرة أو طارئة.
•••
«هل هناك إحصاءات عن هذا الموضوع؟»
هذا السؤال الأمريكي الذي سألنيه «كليلاند» هو ما يسأله جون ديوي في كل مشكلة؛ ولذلك هو لا يفتأ ينشد التجربة التي تصحح منطق الفكر المجرد وتوضح ما لعله قد أهمله هذا المنطق.
التجربة في كل شيء؛ في الفلسفة، وفي الأدب، وفي الموسيقا، وفي الأغاني، وفي الاجتماع …
ولم لا؟
أذكر أنه عندما عمدت إحدى الوزارات الماضية إلى إلغاء البغاء بالأحكام العرفية أني طلبت التجربة، فقلت: إننا نستطيع أن نلغي البغاء الرسمي في القاهرة، وندعه في الإسكندرية مدة عام، ثم نقوم بتحقيقات بشأن الصحة الجسمية والنفسية بين فريقين مختلفين من الشبان آخر هذا العام، فإذا ثبت لنا أن الإلغاء في القاهرة قد نقص من الأمراض الزهرية، ولم يؤدِّ إلى تفشي الأمراض النفسية، وتفشي الشذوذات التي تنشأ من التوترات الجنسية، فإننا نعمم الإلغاء في القطر كله، أما إذا ثبت العكس فإننا نعيد البغاء الرسمي.
هذه تجربة اجتماعية نحاول بها حل مشكلة معينة في مجتمعنا حلًّا علميًّا يقوم على الإحصاءات، وقل مثل ذلك في الفلسفة التي تنشد صلاح العيش، وتحقق السعادة للإنسان، بل كذلك في الفن الذي ينشد سعادة النفس، وجمال الذهن، وجلال العاطفة، نجرب ألحاننا وما يحدث في نفوسنا من إحساسات الشجاعة والشهامة أو الخسة والدعارة. ونجرب أشعار شوقي أو حافظ أو أبي نواس أو المعري، بحيث نجعل أحد الفصول في الأقسام الثانوية يدرس واحدًا من هؤلاء ويستغرق في إحساساته وقوافيه، ثم نحقق آخر العام أثر هذا في النفس والذهن والعاطفة ونخرج بالنتيجة التي توضح لنا ما نجهله.
بل كذلك التجربة في أغانينا وموسيقانا بالمقارنة إلى الأغاني والموسيقا الأوروبية، أيتهما تبعث على الانتعاش الروحي والصحة النفسية والإحساس الفني؟
أجل ليست التجربة في الكيمياء والطبيعيات وما إليها فقط؛ إذ هي يجب أن تشمل حياتنا الاجتماعية كلها، نجرب في نظام الدولة، ونجرب في نظام المجتمع ونجرب في الزواج والطلاق ونجرب في طرق التعليم، وفي معايش الناس حين يمارسون الزراعة أو الصناعة.
هذه واحدة مما تعلمت من جون ديوي. وأخرى هي أن المجتمع هو الذي يربينا؛ ولذلك هو يقول إن المجتمع كان يمكن أن يكون هو المربي الوحيد لنا بلا مدارس، ولكننا نحتاج إلى المدرسة كي نجمع الاختبارات المختلفة التي تزيد قيمتها على غيرها فنلتفت إليها دون غيرها مما هو أقل خطورة؛ وبذلك نستطيع أن نُكسب الطالب من هذه الاختبارات المختارة في عام أكثر مما يستطيع أن يكسب من المجتمع في سنين حين ينتظر طروء هذه الاختبارات عليه جزافًا.
التربية للمجتمع والمجتمع للتربية، وإذا انفصلت المدرسة عن المجتمع، وإذا انفصل إنسان، رجلًا كان أو امرأة، عن المجتمع فهو — بقدر هذا الانفصال — تنقص أو تنعدم تربيته.
•••
وقصة صغيرة أخيرة أرويها عن جون ديوي؛ لأنها تكاد تلخص لنا إيماءة حياته وهدف فلسفته، فإن هذا الرجل كان يحيا كي ينشد الاختبارات في هذه الدنيا، وهو يختبر كي يفلسف ويستقطر الحكمة والسعادة من اختباراته؛ ولذلك نجده قبل نحو ست سنوات يقصد إلى قرية أو مدينة صغيرة يعيش فيها آخر أيامه بعيدًا عن صخب العواصم وهرولتها. وهو يحب حتى في سني شيخوخته في هذا المعتكف أن يؤدي عملًا أو خدمة للمجتمع، فهو يربي البقر ويستدر اللبن، فإذا جاءت طلائع الصباح حمل اللبن على عربته وهرع إلى البيوت يوزعه بالثمن المجزي. وهو يقص علينا في فكاهة أن إحدى السيدات التي فتحت له الباب كي تتسلم منه زجاجات اللبن طلبت منه ألا يقرع هذا الباب، وإنما يقصد إلى الباب الخلفي الذي يؤدي إلى المطبخ.
فيلسوف لا غش فيه!