سارتر
الفلسفة الوجودية، المذهب الوجودي، بول سارتر؛ كلمات تجري على الألسنة للمناقشة والمداعبة، تجري على ألسنة الأساتذة الذين تعمقوا الفلسفة، أو العلميين الذين ينشدون دينًا أو مذهبًا يتفق مع الثقافة المادية التي تغمرهم.
وتجري على ألسنة الشبان والفتيات الذين وجدوا في مذهب الحرية التي تدعو إليها الوجودية، أو تضطر إلى الاعتماد عليها، أساسًا قويًّا تنهض عليه، وجدوا فيها ما يقارب الإباحة فاستهتروا، ولكنهم لم يخدعوا أحدًا بأنهم فلاسفة أو أن بول سارتر يؤيدهم … لا، هم شبان يضحكون ويمرحون لا أكثر.
حضرتُ درامة لبول سارتر في باريس، ولم أستطع الحصول على تذكرتي إلا قبل ميعادها بخمسة أيام لفرط التزاحم على رؤيتها، وكان ثمنها جنيهًا كاملًا، وهذه الدرامة هي: «إبليس والله الطيب»، وهي تحوي من الزندقة أو الهرطقة ما لا يطيقه مؤمن، ولكن المتفرجين أنصتوا وكأنهم كانوا في قاعة جامعية يتعلمون.
إنهم شعب قد تعلَّم معاني التسامح، وهو أن تتقبل في يسر وصمت ما تتألم منه؛ لأنك تعرف أن لغيرك الحق في أن يعتقد غير ما تعتقد، ولقد رأيت أحد الممثلين ينظر إلى أقدس شخصية عند المسيحيين فيقول: أنت أصم أنت أبكم!
ثم يقف ممثل آخر فيقول: «الناس متساوون، الناس إخوة، وهم جميعهم في الله، والله فيهم، والروح القدس ينطق من جميع الأفواه، وجميع الناس إنما هم كهنة وأنبياء، وكلهم قادر كفء لأن يقوم بالتعميد، وأن يشهد بالزواج، ويعلن بالبشارة الطيبة، ويغفر الخطايا، وكلهم يحيا الحياة العامة على الأرض في مواجهة الناس كما يحيا الحياة الخاصة مع نفسه في مواجهة الله.»
وهذه كلمات يستطيع القارئ المسلم أن يتحمل الكثير منها دون معارضة، ولكن المسيحي يجد فيها المناقضة للمبادئ الكنسية إن لم نقل للمبادئ المسيحية المعروفة، ومن هنا الصدمة التي أحدثتها هذه الدرامة في باريس للكثيرين من المؤمنين، ولكن حتى هنا نجد سارتر رقيقًا مهذب الكلمة لطيف الإيماءة، أما في كتبه فإنه يصارح بالإلحاد، بل يجعل الإلحاد أساسًا لفلسفته ومذهبه، وهذا على الرغم من أن هناك وجوديين، مثل جاسبر، وجبرايل مارسيل، يأخذون بمذهب الوجودية مع الإيمان بالله.
وعندي أن وجودية سارتر ليست شيئا جديدًا على أوروبا إلا من حيث لهجتها الهجومية، وهي عندي أيضًا ليست فلسفة، وقصارى ما أفهمه منها أنها مذهب أخلاقي هو في النهاية ثمرة النزعة المادية في العلوم، كما هو ثمرة النزعة الانفرادية التي كانت تسود القرن التاسع عشر في السياسة والأخلاق.
ما هي الوجودية؟
هي أنك موجود، هي أنك قد وجدت، ولكن وجودك هذا لم يكن ليزيد على سائر الأشياء الموجودة مثل الحجر والشجرة والملح والسكر، ولكنك أنت تختلف عن هذه الأشياء بأنها هي تبقى «موجودات» لا تزيد على ذلك، أما أنت فإنك تتناول وجودك هذا بعقلك ويدك فتصوغ نفسك وتستخرج أو تستخلص جوهرك. أنت وجود أولًا ثم جوهر ثانيًّا.
أنت تولد وتحيا على هذه الأرض سبعين أو ثمانين سنة، ونحن نعرفك وأنت في السنة الأولى من عمرك مثلًا شيئًا «موجودًا» لا أكثر، ولكن بعد أربعين أو خمسين سنة نجد أنك قد «تجوهرت» فظهرت خلاصتك وأصبحت لك دلالة، فأنت وزير أو مؤلِّف أو ثري أو محام أو فيلسوف، وهذا هو الجوهر بعد الوجود، ومن الذي أحالك من الوجود إلى الجوهر؟
أنت نفسك؛ لأن كلًّا منا يتناول حياته من حيث يدري أو لا يدري، كأنها «مشروع» يقوم بإتمامه، وقد يشرع أحدنا في بناء بيت أو متجر أو غير ذلك من المشروعات، ولكن حياتنا «مشروع» أيضًا؛ إذ نحن نبنيها منذ طفولتنا تقريبًا إلى أن نموت، وعلى قدر مهارتنا في البناء تكون حياتنا سامية أو متوسطة أو دون المتوسط، وما دامت الحياة مشروعًا، وما دمت أنت تقوم بإنجاز أو إتمام هذا المشروع، فأنت مسئول عن حياتك، عن جوهرك.
ليس الإنسان شيئًا أكثر من أن يكون المشروع الذي شرعه وخططه لنفسه، ووجوده نفسه ليس قائمًا إلا على الحدود والقياسات التي يحققها لنفسه، وهو إذن ليس شيئًا أكثر من مجموع أعماله، ليس شيئًا أكثر من حياته.
ليس الإنسان شيئًا آخر غير مجموع مشروعاته، هو مجموع علاقاتها الواحد مع الآخر.» وهو يلحظ هنا أن هذا المذهب يكرهه كثيرون ممن لن يصيبوا نجاحًا في الحياة، ولكننا نحملهم مسئولية فشلهم؛ لأنهم أساءوا الاختيار حين اختاروا عملًا معينًا يرتزقون منه، أو أخلاقًا معينة اتخذوها للسلوك العام أو الخاص، أو حين اختاروا زوجاتهم أو أصدقاءهم أو نحو ذلك، ويقول: «هاك رجلًا يرتبط بعمل ويؤدي خدمة، وهو بهذا قد رسم حياته بل ليس هناك من حياته ما يزيد على ذلك، وواضح أن هذه الفكرة تبدو قاسية عند أولئك الذين لم ينجحوا في الحياة.
ما هي النقطة البؤرية عن سارتر؟
هي إلحاده، هي أن يقول إننا — نحن البشر — يتامى في هذا الكون ليس لنا سند نستند إليه في اتخاذ الأخلاق أو تعيين الأهداف، «نحن همل» نحن سدًى، قد حُكم علينا بالحرية، هي حُكْم علينا، وهي ليست ميزة لنا.
ولذلك، لأننا أحرار، نحن في قلق، نحن في حيرة، كيف أختار؟ كي أخطط حياتي؟ كي أنجز مشروع حياتي؟
ويتذكر سارتر هنا قول دستوفسكي: «إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء «يجوز»؛ أي إن الإنسان عندئذٍ يصبح مجرمًا يرتكب ما يشاء من جرائم كما تمليها عليه شهواته.» ولكن سارتر يرد فيقول: لا، إنما الإنسان حر؛ لأنه مسئول، وهذه الشهوات لا تقود الإنسان، إنما الإنسان هو الذي يقودها، وهو مسئول عن التصرف بها.
إننا حين نطلب الحرية لأنفسنا نجد أنها تتوقف على حرية الآخرين كما تتوقف على حريتنا.
يجب أن نجعل الاختيار للأخلاق مثل صياغة العمل الفني، نصوغ حياتنا كما لو كانت تحفة فنية.
يصف الوجوديون الرجل الجبان بأنه هو المسئول عن جبنه، وهو ليس جبانًا لأن له قلبًا أو رئة أو مخًّا، ليس جبانًا لأن له نظامًا فسيولوجيًّا معينًا؛ وإنما هو جبان لأنه بنى نفسه على هذه الصورة بأعماله، وأيضًا «الجبان قد صاغ نفسه بالجبن، والبطل قد صاغ نفسه بالبطولة.
هو مذهب انفرادي ممعن في الانفرادية، كأن المجتمع ليس مسئولًا عن الفرد، وأن الفرد ليس مسئولًا عن المجتمع. وما دام الشأن كذلك فأنت مضطر إلى أن تقول إنك حر، وإنك تختار، وإنك تجمع حياتك، وإنك مسئول عن كل ميزاتك أو نقائصك.
اعتبر كلماته هذه: «أنا محتاج إلى أن أعيِّن القيم الأخلاقية، وإذن يجب أن نعتبر الأشياء كما هي في الواقع، وإذا قلنا إننا نخترع هذه القيم الأخلاقية فمعنى هذا أنه ليس للحياة أولًا معنًى؛ أي قبل أن تولد أنت لم تكن الحياة شيئًا له معنًى، والقيمة الأخلاقية ليست شيئًا أكثر من هذا المعنى الذي تكسبه أنت للحياة. وإذن تجد أنه من الممكن إيجاد مجتمع بشري على هذا الأساس.»
أصحيح هذا؟ هل يمكن إيجاد مجتمع بشري إذا كنا نفرض قبل كل شيء أن كل إنسان حر في أن يخترع أخلاقه بنفسه لنفسه؟
إن هذا إمعان في الانفرادية التي قد تنتهي بالفوضى الاجتماعية والأخلاقية.
•••
إني عندما أتأمل الوجودية التي طغت على الباريسيين هذه الأيام، أراني أفتقد فيها الفلسفة فلا أجدها، وأنتهي إلى أنها «مذهب» ولكنها مذهب ضار.
ذلك أن الفلسفة تمتاز بأنها يمكن البرهنة على صحة قواعدها، ولكن الوجودية تلقي بقواعدها كما لو كانت عقائد دينية، وإن خلت من الأساس للأديان الكبرى من حيث الإيمان بالله. أما أنها مذهب ضار فذلك لإسرافها في الفردية، فالإنسان عند الوجوديين مسئول أمام نفسه ولنفسه فقط، وليس مسئولًا أمام المجتمع ولا أمام الله.
ثم هي مع ذلك تفرض للإنسان حرية الاختيار، كأن المجتمع بعاداته ولغته، وسني الطفولة التي تتكون فيها المركبات وتكاد تتجمد، والوسط الثقافي والاجتماعي، ووطأة الحوادث وتنوعها، كل هذا لا يؤثر في تكوين الفرد أو توجيهه؛ إذ هو حر في الاختيار. وينسى سارتر أنه اختيار الضرورة، اختيار الجبر.
ولكن السؤال هنا: لماذا نجحت الوجودية في فرنسا بل أوروبا؟
اعتقادي أن نجاحها يرجع أولًا إلى التفكير المادي الذي عم أوروبا وجعل الأوربيين ينفرون من الغيبيات بأنواعها جميعًا. ويرجع ثانيًا إلى إحساس الزهو الذي تضفيه الوجودية على المؤمن بها، من حيث إنه مستقل في هذا الكون له حق الاختيار دون أية قوة أخرى. ويرجع ثالثًا إلى اليسر البديع في أسلوب سارتر الذي يجعل الأستاذ والطالب والحوذي والسمكري يفهمونه بلا استغلاق، ولعل الوجودية أول ما فهموه من أنواع الرطانة الفلسفية، وهم بهذا الفهم سعداء مزهوون. ويرجع هذا النجاح أخيرًا إلى أنها تناقض الأخلاق الاشتراكية التي تقول، أول ما تقول، بأن الإنسان قد تكوَّن بالمجتمع ثم هو يجب أن يكوِّن المجتمع الأمثل.
ومعنى هذا أنه أصبح للوجودية معنًى سياسي، حزبي؛ فهي لذلك تتسلسل إلى المنابر ويأخذها الخطباء بالقدح والمدح وتذكر كلماتها وعقائدها أيام الانتخابات البرلمانية؛ ولذلك هي أكثر من «فلسفة»، هي كفاح، هي سياسة، هي حزبية.
•••
ولو كنت أخاطب الشبان وأنشد لهم القوة والمجد لدعوتهم إلى الوجودية، وعندئذٍ أكون معتمدًا على ما يسميه القانونيون «أكذوبة شرعية»؛ أي أكذوبة أهدف منها إلى أن أجعل الشاب يحس أنه مسئول، وأنه يستطيع أن يتسلط على القَدر، ويصوغ حياته كما يشاء، وأن عليه أن يأخذ حياته بالجد والبصر؛ إذ هو مستقل، وهو حر، وهو قادر، إذا شاء أن يصل إلى أعلى قمة في المجتمع الذي يعيش فيه.
وحين أقول هذا القول أعرف أني، من حيث الفلسفة والسيكلوجية والاجتماع كاذب؛ إذ إن الإنسان ليس حرًّا وأن الحقيقة أن المجتمع يصوغه.
وموقفي هنا لا يختلف عن موقف القضاء، فإننا نحاكم المجرمين «كما لو كانوا» مسئولين ليس للمجتمع تأثير عليهم، وعلى هذا الأساس نعاقبهم.
وهكذا الشأن أيضًا في الأخلاق يجب أن نقول إن كل إنسان مسئول عن أخلاقه، ونعامله كما لو كان حرًّا قد اختار هذه الأخلاق، وإذن لا تزيد الوجودية على أن تكون مذهبًا ارتقائيًّا في الأخلاق ووسيلة إلى بعث النشاط والحيوية والجد.
•••
سبق أن قلت إن «إلحاد» بول سارتر يعد نقطة بؤرية في فلسفته، ولكننا يجب أن نبين هنا أن هذا الإلحاد ليس هوًى وليس طارئًا؛ لأنه إنما يتفق ويتناسق مع فلسفته إذ هو يقول: إننا نوجد أولًا ثم نتجوهر ثانيًا.
أي: الوجود، الظاهر لنا، نعرفه أولًا.
ثم الجوهر، أو الماهية، أو الأصل خلف الوجود، نعرفه ثانيًا إذا استطعنا ذلك. وإذا عددنا أن الله هو أصل الكون فمحاولتنا لأن نعرفه يجب ألا تكون بداية البحث؛ لأن بداية البحث هو الوجود الظاهر وليست الماهية المستترة، بل ليست هناك عند سارتر ماهية لأي شيء، وإنما هناك وجود فقط. وقد نقول إنك تتجوهر بعد أربعين سنة، ولكن هذا المعنى مجازي هنا؛ لأننا نقصد منه أنك تتكامل وتصل إلى أقصى كفاءاتك وميزاتك.
ولذلك سارتر ينكر الإيمان بالله، بل هو يكافح هذا الإيمان.
•••
ويحب أخيرًا ألا نقلل من إقدام سارتر على أن يكتب الفلسفة للشعب، أو على حد قوله إنه قد أدخل الفلسفة في السوق، فإنك تقرؤه فلا تجد تلك الكلمات النابية أو العبارات المعقدة التي تجدها عند من كتبوا قديمًا حين كانت الفلسفة تُكتب للفلاسفة وليس للشعب، أو كما كان يُكتب الفقه للفقهاء، وليس للشعب.
وهو هنا مبتكر ونافع وجريء، ولكن الأدباء العصريين قد سبقوه بأن صاروا يكتبون منذ نحو مائتي سنة للشعب أيضًا. وهنا فرق عظيم بين الأدب الأوروبي والأدب العربي، أو على الأقل الأدب العربي القديم، فإن أمثال المتنبي والجاحظ والفرزدق وابن الرومي كانوا أدباء يكتبون لأدباء مثلهم وليس للشعب، بل إن المتنبي كان يفخر بأن الأدباء أنفسهم لا يفهمونه؛ إذ يختلفون عن معانيه ويناقشونها وهو قاعد هانئ.
وهذا التغير إنما يعزى إلى أن «الشعب» لم يكن موجودًا عند الأمم القديمة، والذي أوجده في أوروبا هو الحركة الصناعية الجديدة التي عممت الثراء بين أفراده ثم عممت التعليم، فصار الأدباء والفلاسفة يكتبون للشعب وليس للأدباء والفقهاء والفلاسفة.