إرنست رينان
في السنين الأولى من هذا القرن كان شاب لبناني يدعى فرح أنطون يصدر في مصر مجلة صغيرة تسمى «الجامعة»، وكانت الثقافة الغالبة على هذا الشاب فرنسية، وهو كان يكتب اللغة الفرنسية بكلمات عربية؛ وكان لذلك فهمه للثقافة والأسلوب والأدب يختلف عما كنا نفهمه من كتَّابنا المصريين البارزين الذين كانت تغلب عليهم الثقافة العربية القُحَّة. وقد عرفت عن طريق فرح أنطون كتَّابًا فرنسيين بعثوا في نفسي استطلاعًا للثقافة الأوروبية، وغرسوا في ذهني شكًّا في العقائد والعادات الشرقية، ووصلوا بيني وبين الآداب البشرية بِصلة القربى والرحم وحبَّبوا إليَّ الطبيعة، وفتحوا عيني إلى الأجواء والآفاق، فلا يغرب عني نشاط فكري، ولا يفصل بيني وبين كاتب قديم أو حديث فاصل من دين أو عنصر أو لغة، وقد رأيت في حياتي كُتَّابًا أضلَّهم الاستغراق العنصري أو الديني أو القومي وعمرتهم موجاته، ومع أن هذه الموجات قد مستني بطلاوتها السطحية، فإني سرعان ما كنت أتخلَّص منها بل أتطهَّر منها، ذلك أن فرح أنطون قد وجَّهني نحو أوروبا الجديدة؛ أوروبا البشرية، أوروبا التي كانت تسترشد بفولتير وروسو ورينان. وما زلت أذكر طرب الحماسة الذي غمرني حين كنت أقرأ قصة صغيرة تُرجمت إلى العربية باسم «الكوخ الهندي» لمؤلِّفها الفرنسي برناردن دو سان بيير، فقد كان هذا المؤلِّف يصف سذاجة العيش وجمال الحب وروعة الطبيعة بكلمات ساحرة تترك في النفس إحساسًا دينيًّا نحو المرأة والشجرة والسماء والأرض، كما تفتح الذهن لمعاني القناعة والاستغناء. وكان هذا المؤلف من أولئك الذين دعوا دعوة الطبيعة مع جان جاك روسو، وأعطوا أوروبا عيونًا جديدة رأت من خلالها وعرفت بها هيئة الجبال وروعة الأشجار، ومعنى الاصطياف على الشواطئ، والانغماس في الماء، بالرجوع إلى الطفولة التي أفسدتها الحضارة، والتي يجب ألا تفارقنا طوال أعمارنا في القدرة على الاستمتاع بحيوية الحياة ولذة اللعب والنفور من تعقد العيش وارتباكات الترف المرهقة. وهناك من لا يزالون يستصغرون قيمة الأديب العظيم في توجيه الحضارة وتكوين الأذواق، ولهؤلاء نذكر جان جاك روسو، فإن العالم قبله لم يكن يعرف معنى التجوال في الحقول أو الاصطياف على الشواطئ. وهذه الحقول والشواطئ كانت مع ذلك في مكانها كما هي الآن قبل روسو، ولكنها كانت خالية ممن يجول فيها ويتأمل سماءها وأرضها وأشجارها أو ينغمس في مياهها، ولكن روسو بدعوته الحارة إلى الطبيعة، وتقديسه لها، ردَّ إلى الناس هذا الإحساس وبسط لهم ميادين جديدة للاستمتاع النفسي كانوا يجهلونها قبله. وحين أجد شفيتزر يدعو إلى تقديس كل شيء حي، وحين أجد ثورو يتساءل: لماذا لا تقرع النواقيس في الكنائس حين تقتلع شجرة من مكانها نعيًا لها وحزنًا على الطبيعة المجروحة؟ وحين أجد غاندي يترك المدن، ويقنع بأن يعيش في كوخ بين الحقول بثلاثة قروش في اليوم، وحين أجد الطرب البشري يغمر سواحل الإسكندرية أو بورسعيد في أطفال وفتيات وشبان يمرحون و«يزأطون» في الماء والهواء، وقد خلعوا مركبات المدنية وعادات العرف، حين أجد كل هذا لا أتمالك أن أذكر جان جاك روسو نبي الطبيعة وأديبها، الذي غيَّر أذواق الناس ووجَّه النفوس وجهات جديدة زادت البشر سرورًا واستمتاعًا وحبًّا. لقد عرفت روسو أول ما عرفته، بقلم فرح أنطون.
ثم عرفت أديبًا آخر بقلمه أيضًا كان له أبلغ الوقع وأبعد الأثر في ثقافتي وتربيتي، هو إرنست رينان، وهو الذي غرس في نفسي الروح البشري، وبهذا الروح أحببت تلك الشخصية السامية التي وصفها رينان في كلمات الحب والإعزاز، والتي أحاول مع العجز، ولكن مع الأمل، أن أرتفع إلى الأخلاق التي رسمها في شخصية المسيح.
وقد تحطم فرح أنطون بما وقع فيه من مناقشات تاريخية مع الشيخ محمد عبده بسبب إرنست رينان، وتحطم إرنست رينان بسبب كتابه عن المسيح، ومثل هذه المعارك الأدبية تحتاج إلى الشرح الذي لا يسمح له هذا الفصل، ولكن قصارى ما أقول: إن فرح أنطون نقل عن رينان اضطهاد الحكومات الإسلامية للأحرار، فردَّ عليه الشيخ محمد عبده بأن اضطهاد الحكومات المسيحية كان أكبر وأقسى، ودارت المساجلات بين الاثنين، هذا يكتب في الجامعة، وهذا يكتب في المنار، ولم يكن الجمهور المثقف يتحمل في ذلك الوقت الوهج اللاسع من هذه المساجلات. وانهزم فرح ورحل إلى أمريكا كي يعود بعد ذلك إلى مصر وينغمس في الثورة الوطنية إلى حب سعد. أما إرنست رينان فكان تحطمه أكبر وأبلغ، فقد ولد هذا الأديب في عام ١٨٢٣ ومات في عام ١٨٩٢ وقضى من العمر نحو أربعين أو خمسين سنة وهو يخيم على أوروبا ويضيء عقولها ويربي نفوسها، وأوروبا بعده غير أوروبا قبله، بفضل ما كتب وبفضل ما تألم، وقد تعلم كثيرًا.
وما زلت أحس كأن سكينًا تمزق أحشائي حين أذكر أن هذا الأديب العظيم، بعد أن حرمته الكنيسة الكاثوليكية ومنعت رعاياها من قراءة مؤلفاته، وبعد أن حطَّت عليه الشيخوخة حتى كادت تُقعده، بعث بخطاب إلى ناظر المدرسة الابتدائية التي كان قد تعلَّم فيها قبل ستين سنة يطلب منه أن يأذن له بزيارتها، كي يرى الفصل الذي تعلَّم فيه حروف الهجاء، والفِناء الذي لعب فيه مع أقرانه، وكي يلمس جدرانها التي تمسح بها، ويصلي في إحدى غرفها على اختلاء، صلاة الحب والذكرى لهذه الأيام الماضية، والتي تنفصل عن حاضره بما يشبه قرنًا من الزمان، وتسلم ناظر المدرسة الخطاب وكانت المدرسة دينية كاثوليكية، كما كان ناظرها راهبًا يعرف أن رينان مطرود من الكنيسة وأن مؤلفاته من المحظورات، فلما قرأ الخطاب وتأمل الإحساسات الجميلة التي يحتويها، كتب إلى رينان في رقة بالغة يشكره على أن تَذكَّرَ الرهبان الذين علموه طفولته، وتذكر الأقران من الصبيان، بل لعله تذكر صلاة الصبح التي كان يقولها في ابتهال قبل ابتداء الدروس، ثم بعد ذلك يقول له إنه لا يستطيع أن يأذن له بزيارة المدرسة؛ لأنه … لأنه كافر منبوذ من الكنيسة، ولا بد أن رينان قد تضور على فرشه من ألم هذه الصدمة، بل لا بد أنه بكى وانهمرت دموعه وبللت هذا الخطاب. ولكن ليست هذه هي الدموع الأولى التي انهمرت من المؤلفين الذين علموا أوروبا، ولولا هذه الدموع، ولولا هذه الآلام، لبقيت أوروبا خامدة متأخرة مثل الشرق.
نشأ رينان نشأةً كنسية؛ إذ تعلَّم في مدرسة للإلاهيات ولكنه تركها وآثر دراسة اللغات والأدب، ودرس اللغات السامية وأتقن اللغة العربية، ودرس فلسفة ابن رشد ونقلها ووضَّحها في اللغة الفرنسية. وقد نقل فرح أنطون عنه هذا الكتاب تلخيصًا وترجمة تحت عنوان «ابن رشد وفلسفته».
وأوفدت الحكومة الفرنسية في عام ١٨٦٠ بعثة إلى فلسطين لدراسة الآثار كان هو من أعضائها، وكانت أخته أفريت ترافقه، وعاد إلى باريس وحاولت الحكومة الفرنسية أن تعيِّنَه أستاذًا للغات السامية، ولكن الكنيسة اعترضت؛ لأنه كان قد ألَّف كتابًا عن المسيح بعنوان «حياة يسوع» في عام ١٨٦٣ باعتباره إنسانًا لا أكثر. وتتابعت مؤلفاته عن الشئون السامية، مثل «تاريخ إسرائيل» ومثل «محاورات فلسفية» ومثل «مستقبل العلم».
وزاره جمال الدين الأفغاني في باريس فوصفه رينان بأنه ملحد عظيم، وهنا مجال للتفكير ومراجعة الآراء في مصر، وقد سبق أن شرح لنا علي عبد الرازق (باشا) هذا الموضوع.
ولم يكتب أحد في سحر الأسلوب الذي كتب به رينان وضوحًا ويسرًا، وقد قيل عنه إنه كان يفكِّر كما لو كان امرأة، ويعمل كما لو كان طفلًا، وهذا أحسن أو من أحسن ما يقال عن كاتب أرصد عمره للتفكير المثمر، فإن المفكر العميق يجب أن يكون عميقًا أيضًا في إحساسه، أما من حيث العمل فإن هذا ليس من شأنه، وإنما هو شأن زوجته أو صديقه؛ إذ ليس له وقت أو كفاءة للعمل.
وكانت ثقافته تنبسط إلى الآفاق أكثر مما تسير الأعماق؛ ولذلك نجد له الإشارات والإيضاحات عن العرب والإغريق واليهود والعلم والأدب، ولكننا نجد أنه حين يتخصص لا يتعمق.
وكتابه عن حياة المسيح الذي ترجمه فرح أنطون إلى اللغة العربية في تلخيص غير مخل، هو جوهرة من جواهر الأدب الفرنسي بل الأدب العالمي، ومع أنه قد جرد شخصيته من الغيبيات فإنه أبرز ميزاته الأخلاقية ودعوته الإنسانية، بحيث إن القارئ للكتاب سواء أكان تقليديًّا أم عصريًّا ينتهي بالحب والاحترام؛ إذ يجد في المسيح جمالًا وفتنة كما يجد في دعوته تحديًا لكل رجل في شرفه وأسلوب حياته. ومن هنا يعد إرنست رينان من دعاة البشرية، وهو إن لم يكن قد دعا هذه الدعوة مباشرة ومواجهة، فإنه بمؤلفاته العديدة قد دعا إليها مداورة ومواربة؛ إذ هو يجمع بين الأدباء والأنبياء والفلاسفة ويضعهم جميعًا في صف لتربية الضمير البشري، فهو مسيحي مسلم يهودي بوذي، وهذا هو شأن الكثيرين من أدباء عصرنا الممتازين، بل كذلك هذا هو إيمان الساسة الممتازين أمثال غاندي ونهرو، بل ماذا أقول؟ لقد كان هذا إيمان السلطان أكبر الذي حاول أن يوجِد ما أسماه «الدين الإلهي» حين عقد مؤتمرًا في الهند من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوكيين والبوذيين، بل لقد كان هذا إيمان محيي الدين بن عربي حين قال هذه الأبيات الخالدة:
أجل، دين الحب، هذا هو الذي دعا إليه رينان، وهو رسالة حياته.