دستوفسكي
كان من حظي الحسن أن هبطتُ على الأدباء الروس وأنا حوالي العشرين، فارتفعت بذلك إلى مستوًى من التقدير للفن القصصي، جعلني في مستقبل عمري أتأنق وأُحجم عن قراءة تلك القصص الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، التي لا ترتفع إلى مقام المؤلفات العظيمة التي ألَّفها تولستوي ودستوفسكي وجوركي وجوجول وتيشهوف وترجنيف. والحق أن الانتقال من دستوفسكي الروسي إلى أرنولد بنيت الإنجليزي هو وثبة إلى الحضيض يفزع منها الإنسان، والانتقال من تولستوي إلى أي أديب آخر في أوروبا أو أمريكا هو انهيار فادح.
وأحيانًا أحاول أن أعلل حبي لهؤلاء الأدباء الروس بأن الحال الاجتماعية التي وصفوها كانت تشبه حالنا في مصر، وأن الوسط الاجتماعي الأوروبي الأمريكي كان يجري على نظم ديمقراطية حرة، لا تتيح للأوروبي أن يستمرئ هذا المجتمع الروسي القديم، وما حفل به من فوضى وفاقة واستسلام وركود. ولكن هذا التعليل لإحساسنا بتفوق الأدب الروسي على الآداب الغربية لا يكفي، وقد حدث لي ما يشبه ذلك في الموسيقا، فإني في مقتبل عمري عرفت الموسيقا الأوروبية الكنسية والمسرحية، فارتفع ذوقي إلى حد الكراهية، بل العداء للموسيقا الشرقية الباكية الجنسية المخنثة، فلست أطيق إلى الآن أغنية أو لحنًا مصريين، بل إني أوثر عليها «موالًا» من تلك المواويل التي يغنيها فلاحونا، فإن فيه أحيانًا من الصدق والرجولة ما يبعث على الاحترام، في حين نشمئز من الأغاني والألحان المصرية الحاضرة لما فيها من التباكي والتخنث. ولعل ميزة أوروبا علينا في الموسيقا أنها أدخلتها الكنائس، فأكسبتها شيئًا يقارب حرمة الدين، وهذا في الوقت الذي تركنا نحن فيه موسيقانا وأغانينا تعيش وترافق الرقص الذي كانت تمارسه البغايا، وقد كان رقصًا جنسيًّا مخنثًا فسقطت مكانة الموسيقا والأغاني في نفوسنا.
•••
وُلد دستوفسكي في عام ١٨٢٢ ومات في عام ١٨٨١، وكان مريضًا طوال حياته، تنتابه نوبات من الصرع، وقد أخرج قصته الأولى «المساكين» في عام ١٨٤٦ ووثب بها إلى مصاف الأدباء الأفذاذ، وفي عام ١٨٤٩ أُلقي القبض عليه بتهمة الاشتراك في جمعية سياسية غير مشروعة، وحكم عليه بالإعدام ثم خفِّف الحكم إلى النفي إلى سيبريا حيث قضى أربع سنوات ألَّف عنها كتابًا بعد ذلك باسم «ذكريات من بيت الموتى». وبعد سنوات أخرى في الجندية والسياحة استقرَّ على التأليف القصصي، فأخرج «الإخوة كارامازوف» وهي الأولى بين قصص العالم جميعها، وأخرج أيضًا قصة «الجريمة والعقاب»، وقد بعثتني حماستي لها أني في سنة ١٩١١ ترجمت منها نصفها، ثم طبعت الربع بهذا الاسم ولم أتمم الترجمة.
وتتسم قصصه بحنان ورقة يشيعان في نفوسنا إحساس الدين، وهي جميعًا دعوة إلى الخير وحب الأطفال وحماسة الأمومة، ولذة التضحية، وارتفاع عن الدنايا المادية ونحو ذلك، وقد كانت حياته هو نفسه مليئة بهذه العواطف.
•••
قلعة بطرس وبولس في ٢٢ ديسمبر سنة ١٨٤٩
أخي، صديقي الحبيب، كل شيء قد تم، وحكم عليَّ بالسجن والأشغال الشاقة أربع سنوات في القلعة (أظنها قلعة أورنبورج)، وبعد ذلك ألتحق بالجيش جنديًّا، وفي هذا اليوم ٢١ ديسمبر نادونا إلى مكان العرض في سميونوف وقرءوا علينا الحكم بالإعدام، ثم أمرونا بأن نلثم الصليب، ثم كسروا سيوفنا فوق رءوسنا، ثم نزعوا ملابسنا وألبسونا القمصان البيض، وبعد ذلك ربطوا ثلاثة منا إلى عمود كي يضربوا بالبنادق، وكان ترتيبي السادس، وكان النداء على ثلاثة كل مرة، وكنت أنا بذلك في الفرقة الثانية فلم يكن باقيًا لي من الحياة سوى دقيقة، وقد ذكرتك أيها الأخ أنت وأولادك، وفي هذه الدقيقة لم أذكر سواك يا أخي وحبيبي، وعرفت عندئذٍ مقدار حبي لك، وقد تمكنت من أن أقبِّل بلاتسياف ودوروف، وكانا واقفين جانبي وودعتهما، وأخيرًا نفخ البوق وأعلن الأمر بالرجوع، وحُلَّ الذين كانوا قد ربطوا إلى العمود، ثم قُرئ علينا أمر صاحب الجلالة الإمبراطورية بمنحنا حياتنا، والحكم علينا بالأحكام الجديدة. ولم يفرج عن أحد سوى بالم الذي أُرجع إلى الجيش برتبته السابقة. وقد أُبلغت يا أخي الحبيب بأنهم سيرسلونني اليوم أو غدًا، وقد طلبت رؤيتك، ولكنهم أخبروني بأن هذا محال، وأن كل ما يستطيعونه أن يسمحوا لي بالكتابة إليك، فأسرع وابعث لي الرد. وأنا أخشى أن يكون قد بلغك الحكم علينا بالإعدام، فقد نظرت من نافذة العربة التي حملتنا إلى ساحة الإعدام ورأيت في الطريق جمهورًا كبيرًا، وخشيت أن يكون من رأوني قد أبلغوك وآلموك بذلك، ولكن الآن يمكنك أن تهنأ بشأني. يا أخي، لا تظن أن الحكم قد هدني أو غم علي، فالحياة في كل مكان هي الحياة، هي في داخلنا وليست فيما هو خارج عنا، وسيكون قريبًا مني أناس، وسأكون رجلًا بينهم وأبقى كذلك إلى الأبد، ولن يهن قلبي أو تفشل عزيمتي أمام المصائب، وهذا في اعتقادي هو الحياة أو الواجب في الحياة، وقد حققت ذلك وصار هذا الخاطر جزءًا من لحمي ودمي. أجل، هذا صحيح، فهذا الرأس الذي كان يبتكر ويعيش في أسمى الحياة الفنية، والذي حقق أسمى الحاجات الروحية واعتقادها، هذا الرأس قد قطع من عاتقي ولم يبقَ عندي سوى الذكريات والخيالات التي أخترعها، ولكنها لم تتجسم فيَّ بعد، وإني لأعرف أنها ستمزقني، ولكن ما يزال باقيًا لي قلبي وهذا اللحم والدم الذي ما يزال قادرًا على الحب والألم والرغبة، ولا تنسَ أن هذه هي الحياة، أجل ما زلت أرى الشمس. والآن وداعًا يا أخي ولا تحزن من أجلي.
والآن هلمَّ إلى الماديات، إن كتبي (باستثناء الكتاب المقدس الذي ما يزال عندي) وعدة أوراق من مخطوطاتي، وتخطيط درامة، وقصة (وقصة أخرى كاملة تسمى قصة طفل) قد أُخذت كلها مني، والأرجح أنك ستتسلمها، وقد تركت معطفي وملابسي فيمكنك أن تأخذها. والآن يا أخي أظن أنني سأمشي مسافة طويلة وأحتاج إلى نقود، أخي الحبيب، إذا تسلمت هذا الخطاب وكان يمكنك أن تحصل على قليل من النقود فأرسلها إليَّ بأسرع وقت، فأنا أحوج الآن إلى المال مني إلى الهواء (لغرض خاص)، وابعث لي ببضع كلمات، ثم إذا جاءت نقود من موسكو فتذكرني ولا تنسى، وهذا كل ما أريده، وأنا أعرف أن عليَّ ديونًا ولكن ماذا أفعل. قَبِّل زوجتك وأولادك واذكرني عندهم كثيرًا ولا تجعلهم ينسونني فَعَلَّنا نلتقي يومًا ما! أخي، أوصيك بالعناية بنفسك وأولادك، وأن تعيش في هدوء ويقظة، وأن تفكر في مستقبل أولادك، عش عيشًا إيجابيًّا، إني ما شعرت قط بوفرة الحياة الروحية في شخصي كما أشعر بها الآن وأنا مريض بالإسخربوط، ولكني لا أبالي بذلك. أخي، لقد كابدت من الحياة الشيء الكثير حتى ما يكاد شيء يخيفني الآن في العالم، فليكن ما هو كائن، وسأكتب إليك في أول فرصة، وابعث لأسرة مايكوف بتسليماتي وتحياتي، واشكر لهم اهتمامهم بحظي، وقل بضع كلمات حارة يمليها عليك قلبك ليوجينيا بتروفيا، فأنا أدعو لها بالسعادة وسأذكرها على الدوام بجميلها، واضغط يد نيكولاي أبولو نوفتش أبولون مايكوف، وجميع الآخرين، وابحث عن يانوفسكي واضغط يده واشكره. وأخيرًا صافح جميع أولئك الذين لم ينسوني، وقبِّل أخي كوليا، واكتب خطابًا إلى أخي أندريه وأخبره بكل شيء عني واكتب لعمي وعمتي، وافعل ذلك باسمي وابعث لهم تحياتي، واكتب لأخواتي اللواتي أدعو لهن بالسعادة، وربما نلتقي يا أخي في المستقبل. لا تهمل العناية بنفسك بل عِش وابق حيًّا حتى نلتقي ثانيًا، فَعَلَّنا نتعانق يومًا ونذكر شبابنا ذلك الوقت الذهبي، ذلك الشباب وتلك الآمال التي أمزقها الآن من قلبي ودمي كي أدفنها، هل يمكن حقًّا أني لن أتناول القلم بيدي مرة أخرى؟ أظن أني سأعود إلى الكتابة بعد هذه السنوات الأربع، وسأرسل لك كل شيء أكتبه إذا كتبت شيئًا، وا رباه! كم من خيالات عشت فيها أو اخترعتها ستموت وتنطفئ في دماغي، أو تتمزق وتسير في دمي كالسهم، أجل، إذا لم يُسمح لي بالكتابة فإني سأموت، وخير لي من ذلك أن أُسجن خمس عشرة سنة، ويكون في يدي قلم. اكتب لي كثيرًا، واكتب بالتفصيل والإسهاب واذكر لي حقائق، حقائق كثيرة، وفي كل خطاب اكتب لي عن شئون الأسرة مع التفصيل، ومع ذكر الأشياء التافهة، ولا تنس هذا فهذه الخطابات تعيد إليَّ الرجاء والحياة. آه لو تعرف كيف أحيتني وأتعستني خطاباتُك التي أرسلتها إليَّ وأنا في هذه القلعة، وقد كان الشهران والنصف شهر الماضية، حين مُنعنا من كتابة الخطابات أو تسلمها، من أشق ما كابدته، وقد كنت مريضًا. ولما أهملت أنت إرسال النقود إليَّ ساورني القلق من أجلك؛ لأني فهمت من عدم إرسالك للنقود أنك أنت في حاجة شديدة. قَبِّل الأطفال مرة أخرى، فإن وجوههم الحلوة الصغيرة لا تغيب عن بالي، لتكن لهم السعادة! وأنت يا أخي كن سعيدًا، كن سعيدًا، ولكن لا تحزن، وبحبك الله لا تحزن لأجلي، وثق أني لم أهن وتذكر أن الرجاء لم يهجرني، وبعد أربع سنوات سيخفف عني ما فعلته الأقدار، وأصير جنديًّا فينقضي سجني، وتذكر أني سأعانقك يومًا ما. لقد كنت اليوم في قبضة الموت ثلاثة أرباع الساعة، وعشت هذه المدة بهذا الخاطر وبلغت آخر لحظة من الحياة، وها أنا ذا حي مرة أخرى، وإذا كان أحد يتذكرني بسوء، أو إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أو أسأت إلى أحد، فأخبره إذا لقيته بأن ينسى الإساءة، وليس في نفسي مرارة أو نقمة على أحد، وأود لو أعانق في هذه اللحظة كل واحد من أصدقائي السالفين، وقد شعرت اليوم بالراحة وأنا أودع أحبابي الأعزاء قبل الموت، وخطر ببالي في هذا الوقت أن خبر إعدامي سيقتلك، ولكن استرح الآن فإني ما زلت حيًّا، وسأعيش راجيًا بأن أعانقك يومًا ما، وهذا كل شيء في بالي الآن. ماذا تفعل، وبماذا فكرت اليوم، وهل عرفت شيئًا عنا؟ وماذا كان مقدار البرد اليوم؟ آه ما أشوقني إلى أن يصل خطابي هذا إليك بسرعة، وإلا فإنه إذا تأخر فإني سأبقى أربعة أشهر بدون خطاب منك، وقد رأيت الظروف التي أرسلت فيها النقود لي مدة الشهرين الماضيين، وكان عنواني مكتوبًا عليها بخطك وسررت برؤية الخط، وعندما ألتفتُ إلى الماضي وأتذكر مقدار الوقت الذي ضاع عبثًا وكم منه ضاع في الأوهام والكسل والجهل بالعيش، وكيف أني لم أقدِّر الوقت حق قدره، وكيف جنيت على قلبي وذهني! أحس بأن قلبي يسيل دمًا، أجل إن الحياة عطية وهي سعادة، وكان من الممكن أن نجعل من كل دقيقة منها عصرًا طويلًا من السعادة. آه لو عرف الشباب … والآن هذه حياتي تتغير، وأنا أولد من جديد في شكل آخر. أخي أقسم لك أني لن أفقد الأمل، وسأصون روحي وقلبي في الطهارة، وميلادي الجديد سيكون إلى حال أحسن من حالي الماضية، وهذا كل رجائي، وهذا كل عزائي. إن حياة السجن قد قتلت في جسمي مطالب اللحم التي لم تكن كلها طاهرة، ولم أكن قبل هذه الحياة أُعنى بنفسي كثيرًا، أما الآن فالحرمان لا قيمة له عندي؛ ولذلك لا تخشَ عليَّ من المشاق المادية وتحسب أنها ستقتلني، كلا لن يحدث هذا، وداعا. وداعًا يا أخي، إني أعانقك بقوة وأقبِّلك بحرارة، تذكَّرني ولكن بلا ألم في قلبك، فأرجوك ألا تحزن، وفي الخطاب الآتي سأخبرك بما يتم لي، وتذكر عندئذٍ ما أخبرتك به ألَّا تَعِش جزافًا دائمًا، دبِّر حياتك ورتِّب حظك وتفكَّر في أولادك. آه لو أراك، وداعًا، إني أنزع نفسي الآن من كل شيء أحببته، وهذا النزاع مؤلم ومن الموجع أن أقطع نفسي نصفين وأشق قلبي شقين، وداعًا … وداعًا، ولكني سأراك، أنا واثق، واعٍ أنا فلا تتغير، وأحبني، ولا تدع ذاكرتك تبرد … وذكرى حبك ستكون أحسن شيء في حياتي، ومرة أخرى وداعًا، وداعًا، وداعًا، وداعًا لكم جميعًا.
لما قبض عليَّ أخذوا مني كتبًا عدة، ولم يكن بينها سوى كتابين ممنوعٌ تداولهما، فهل لك أن تطلب الباقي لنفسك، ولكنَّ لي طلبًا، وهو أن أحد الكتب يحتوي على مؤلفات فاليريان مايكوف، وهو مقالاته الانتقادية، وهذه النسخة كنت أخذتها من أوجينيا بتروفنا، وكانت تعدها كنزًا، وقد أقرضتها لي، ولما قُبض عليَّ طلبت من الشرطي أن يرد إليها الكتاب وأعطيته عنوانها، ولا أعرف إذا كان قد رده، اسأل عن ذلك لأني لا أحب أن أحرمها هذه الذكرى، وأخيرًا وداعًا وداعًا.
«على الهامش: لا أعرف هل أمشي أو أركب فرسًا، وأظن أنهم سيركبون الخيول، ربما، قَبِّل يد إميلي فيدروفنا، وقَبِّل الصغار واذكرني عند كريافسكي، اكتب لي عن القبض عليك وحبسك والإفراج عنك.»
•••
هذا الخطاب هو جزلة حية ترشح بالدم من نفس دستوفسكي.
تمتاز قصص دستوفسكي بأن أشخاصها يتسمون بالإحساس والذكاء معًا فإن بطل «الجريمة والعقاب» طالب في الجامعة يتأمل ويتفلسف ويتساءل: لماذا لا يقتل هذه العجوز الثرية المقترة التي لا تزيد قيمة حياتها على حياة برغوث؟ أليس هو أولى بثرواتها ينفقها في الخير والنفع؟ ثم يقتلها، ثم يعود إلى التأمل والفلسفة فيسلم نفسه في النهاية إلى البوليس حيث يحاكم ويُحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا، ويرضى لنفسه هذا المصير؛ لأنه وجد شيئًا أكبر من ذكاء العقل هو ذكاء الإحساس.
وسائر قصصه على هذا الغرار، إحساس فوق الذكاء، وخيال فوق العقل، وقصصه تكاد جميعها تخلو من العقدة إلا القليل جدًّا، وفي النهاية نجد أنه يهدف إلى خيال الشعر، فهو يتناول الواقع ثم يسير به نحو آيات من الفن والشعر، وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن القصة هي التفسير الخيالي للحياة حيث يرتفع المؤلف بالواقع إلى المثليات، فيكسب هذا الواقع دلالة جديدة، فالفتاة التي تبيع عرضها كي تنقذ إخوتها من الجوع، والسكير الفاني الذي يتعلق بالدين ولا يزال يؤمل الآمال، والراهب الذي يحب ولكنه لا يسقط، والشاب الذي يملأ الشرف صدره فيذهب إلى أحد الأثرياء، ويعرض عليه في غرارة وسذاجة مشروعًا للخير فلا يجد سوى الاستهزاء، والأبله الذي يؤمن بالعلم فيرتكب جريمة الاغتيال استنادًا إلى العلم، وهذا يذكرنا بالبُله العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية.
كل هذا يقع في قصص دستوفسكي، وهو بفرط حنانه وجمال خياله قد يناقض العقل والمنطق، ولكن كما كان يناقضه غاندي أو تولستوي … وقد كسبت من دستوفسكي أكثر مما كسبت من غيره، وهو ذلك الإحساس الأدبي الذي لا يختلف من الإحساس الديني أو الموسيقي، وذلك أننا إزاء الدين والأدب والموسيقا لا «نعرف» وإنما نحس. وقد قلت في أول هذا الفصل إن هبوطي المبكر على القصصيين الروس قد جعلني أستصغر شأن الأدباء الأوروبيين، والحق أني قرأت برنارد شو، وولز، وديكنز، وأناطول فرانس، وأندريه جيد، وكثيرًا غيرهم فكان تقديري لهم اجتماعيًّا أكثر مما كان أدبيًّا، وقد وجدت عندهم الرأي والمعرفة أكثر مما وجدت الفن والإحساس، وعندما أتأمل هؤلاء الأدباء الروس جميعهم، حتى مكسيم جوركي، أجد أنهم ينشدون الدين، فإن الإحساس الديني البشري في هذا الكاتب الأخير على الرغم من إلحاده كبير جدًّا. وقد استطاع دستوفسكي وتولستوي أن يجعلا المسيحية دينًا وأدبًا معًا، بل إنهما أبرزا الميزة الأصلية لهذه الديانة، وهي الحب البشري العام أكثر مما أبرزها كهنة هذه الديانة أنفسهم.
كان دستوفسكي يكره الشبان الثائرين على القيصر، وكثيرًا ما نجد في قصصه ثائرًا أو أكثر يستهزئ بأفكارهم ويسخر من عقائدهم، ولكن كراهيته لهم لم تكن تستند إلى حبه للنظام الاستبدادي الذي كان يسود حكومة القيصر ويوجهها، وإنما كان يكره أوروبا أيضًا لهذا السبب، وقد دعا إلى مقاطعة الثقافة الأوروبية في الوقت الذي كان يدعو فيه تورجنيف إلى اعتناقها.
وعندما نتعمق أقوال دستوفسكي لا نتمالك الإحساس بأنه يكره العلوم المادية جميعها، ويكره الحركات الاجتماعية الارتقائية القائمة عليها، وأن في نفسه شوقًا ملحًّا إلى أن يعيش الناس في إيمان بالله قانعين بكلمات الإنجيل التي يجب أن تكون الأساس الذي تنبني عليه الأخلاق، وقد عجز دستوفسكي عن أن يفطن للحقيقة الأوروبية البازغة وهي أن الأوروبيين قد شرعوا منذ أوائل القرن التاسع عشر في استبدال الرؤيا البشرية للرقي والأخلاق والدين برؤيا الكنيسة، وأن الإحساس الديني البشري الجديد، على الرغم من أنه لا يزال ضعيفًا، يجد أنصارًا أقوياء يسلكون في حماسة وحب للبشر، ويخدمون ويضحون للإنسانية.
ولكنه فطن إلى أن عِلمًا بلا دين هو دمار بشري عام، بل نستطيع أن نقول إنه بصر بقوة العلم الطاغية في القنبلة الذرية التي يخرج بها طيار يشرب كأسًا من الكونياك في نزق ومجانة، ثم يقتل ثمانين ألف إنسان في ثانية، ويعود ضاحكًا إلى معسكره كما حدث في هيروشيما في أغسطس من عام ١٩٤٥.
ومع ذلك فإن الله يُمتِّعني أحيانًا بلحظات من الهدوء الكامل، وفي هذه اللحظات أجد الإيمان الذي يتجلى لي فيه كل شيء في وضوح وقداسة، وإيماني هذا في غاية البساطة، وهو أني أعتقد أنه ليس هناك ما هو أروع وأحب وأعقل وأشجع وأكمل من المسيح، وليس هذا فقط بل إني لأقول لنفسي في إحساس المحب الغيور إنه لا يمكن أن يكون هناك شيء أكثر من هذا، وهو أنه لو أن أحدًا قال لي: المسيح يجافي الحق، ولو أن هذا القول كان صحيحًا، لآثرت البقاء مع المسيح على التزام الحق.
وقصص دستوفسكي جميعًا تَنشد الإيمان الذي يستطيع أن يستقر به الإنسان على هذه الدنيا حتى ولو كان هذا الإيمان يخالف منطق العيش وأسلوب البحث العلمي، وقد وجد دستوفسكي حافزًا عظيمًا للاعتماد على الإيمان، هو هذا الاختبار المؤلم حين وقف أمام الجنود ينتظر إطلاق النار، فإنه بقيَ طوال عمره بعد ذلك ينظر إلى الحياة من موقف الموت، وهو موقف جدير بأن يغير النظرة والنبرة للحياة معًا، وواضح أنه لم ينسه بتاتًا في كل ما كتب.
وأكاد هنا أقول إن الدين ليس شيئًا آخر سوى النظر إلى الحياة من موقف الموت، فإن الموت أكبر حقيقة بشرية، وهو عندما نتأمله نجد أنه يغير القيم والأوزان ويحيلها من التقدير الاجتماعي إلى التقدير البشري، فنحن في هرولة الحياة الاجتماعية نتعب ونلهث لأجل الثراء أو الوجاهة أو ننساق في أنانية بشعة، لا نبالي مصالح الغير، ولا نرحم من ندوسه في سبيل الاقتناء أو التغلب، وكلنا على هذه الحال بدرجات متفاوتة، ولكن فكرة الموت تنقدح فجأة في أذهاننا فنقف في طريق الحياة ونتساءل عن نهايته، وهذا وجدان أكبر الوجدان بالحياة التي تتخلص عندئذٍ من ملابساتها الاجتماعية، وعندئذٍ نحس كما أحس دستوفسكي، بل كما يعلم ويكرر في جميع قصصه، إننا نحن بنو البشر كيان واحد قد تعددت أجزاؤه وانفصلت، ولكن انفصالها لم يمنع بينها التراحم والحب والحنان، فكلنا عندئذٍ بعد تأمل الموت، أب وأم وأخ لأبناء البشر جميعًا.
وهذا هو إحساس المسيح، وغاندي، وتولستوي، بل فولتير، وروسو، وشفيتزر بل كل إنسان استطاع أن يقف عن هرولته الاجتماعية ويتأمل حقيقة الموت. أجل، إن تأمل الموت هو كشف ديني، كأني — حين أوقن أني في إحدى اللحظات سأفارق هذا العالم فلا يبقى لي فيه جسم أو اسم أو ذكرى — لا أسأل عندئذٍ عن هذا الرجل هل هو باشا أو بك؟ وثري أو فقير؟ وهل يملك ضيعة أو أتومبيلًا أو قصرًا؟ وإنما أسأل عن ميزاته الإنسانية، بل إني لأهتم به وأتأمله كثيرًا عندما أعرف أنه يحب الزهور، ويحنو على الأطفال، ويفرح لرؤية الشفق، وتلتمع في ذهنه أشعة الذكاء وشهوة الحرية، ويحس قرابته للحيوان بل للنبات.
إن يقيننا بالانعدام بعد الموت يزيدنا وجدانًا بالحياة، وهذا هو إحساسنا عندما نقرأ دستوفسكي، فإن الحياة تصخب حولنا وتكاد تتجمع في بركان تحتبس فيه العواطف ثم تنفجر. ومع أن القارئ لقصصه يحس من وقت لآخر أن إيمانه بالله يتزعزع، هنا وهناك، فإن إصراره على الإيمان يتكرر في لهجة التأكيد والغضب من المنطق العلمي وتفشي المادية الأوروبية، فهل نستطيع أن نفسر ذلك بأن رهبة الموت حين وقف لتلقي النار قد حملته أيضًا على التشبث بالإيمان فرارًا من معاني القلق والشك والخوف، وجميعها من معاني الموت؟
قد يكون ذلك، ولكن هذا الإيمان قد جعل قصصه تذوب، رحمة وحنانًا وإخاءً وبرًّا حتى لنحس ونحن نقرأها هذه الفضائل تسري في كياننا، كما لو كانت بلسمًا، وترفعنا فوق أنفسنا.
•••
لا نتمالك ونحن نقرأ دستوفسكي أن نقارن بينه وبين نقيضه نيتشه، وقد عرف داعية القوة وعدو المسيحية داعية الرحمة والمسيحي الأول من إحدى قصصه. والعجب أننا على الرغم من هذا التناقض بينهما نجد اشتراكًا في الأسلوب الفكري، حتى لقد أحب نيتشه دستوفسكي وقال عنه: هو الإنسان الوحيد الذي علمني شيئًا عن السيكلوجية.
وهما يشتركان في الكراهة للحضارة العصرية، ولكن لسببين متناقضين، فإن دستوفسكي يكره أوروبا؛ لأنها تركت الإنجيل والمسيح، ونيتشه يكرهها لأنها اعتنقتهما، فالأخلاق العامة في أوروبا تحولت في رأي دستوفسكي إلى أخلاق المادية العلمية، والمباراة الاقتصادية، والبعد عن الإخاء والرحمة، ونيتشه يكره الأخلاق الأوروبية؛ لأنها ابتعدت عن الفطرة الحيوانية واستبقت الضعفاء والعجزة والمرضى الذين يفسدون المادة البشرية؛ لأنها أخلاق مسيحية. ولكنهما يتفقان من حيث إن لكلٍّ منهما رؤية بشرية، فكلاهما حالم، ولكن حلم دستوفسكي هو المسيحية العامة، وحلم نيتشه هو تنازع البقاء. وقد قال كلاهما: إن البطولة خير من السعادة، ولكن البطل عند دستوفسكي هو ذلك الذي يضع إحساسه البشري فوق عقله المنطقي، والإحساس هنا هو الرحمة والحب، وكذلك نيتشه يزدري العقل والمنطق، ويقول بالإحساس ولكن إحساسه هنا هو أن الصقر يجب أن يأكل العصفور ولا يرحم.
لقد انتهى رسكلنيكوف في قصة «الجريمة والعقاب» الذي قتل العجوز كي يحصل على مالها إلى أن يجحد عقله ويعود إلى إحساسه، ويرضى بالتكفير عن جريمته في سيبيريا، ولو أن نيتشه كان قد ألَّف هذه القصة لسخر من هذه النهاية، ولكنه مع سخره هذا، لم يكن ليقبل قتل العجوز؛ لأنه لم يكن داعية للفوضى، وإنما الأغلب أنه كان يطلب نظامًا اجتماعيًّا منطقيًّا يؤدي إلى الاستغناء عن العجزة الذين انتهى نفعهم للبشر. وحين نقرأ قصص دستوفسكي لا نتمالك أن نحس أنه يريد أن نفهم منه أن الإنسان مزيج من الخير والشر، وأن في نفس المجرم الآثم أو الشرير القارح جواهر من الشرف والبر، وهذا صحيح.
وثلاثة يمثلون العبقرية البشرية، هم نابليون الذي يمثل عبقرية الإرادة، وأينشتين الذي يمثل عبقرية الذهن، وأخيرًا دستوفسكي الذي يمثل عبقرية الإحساس.