منهج الفيزيائي الكلاسيكي في تناول الموضوع
(١) الطابع العام للكتاب والغرض منه
وُلِدَ هذا الكتاب الصغير من رحم مجموعة محاضرات عامة، ألقاها أحد علماء الفيزياء النظرية أمام نحو أربعمائة من الحضور الذين لم يتقلَّص عددهم كثيرًا، على الرغم من تحذيرهم في البداية من أن الموضوع قَيدَ البحث من الموضوعات الصعبة، وأن المحاضرات ليست موجهة للعامة، على الرغم من أن الاستنتاج الرياضي — وهو من أكثر أسلحة الفيزيائي المُحاضِر إثارةً للفزع — لم يكن سيُستخدَم إلا فيما ندر. لم يكن ذلك لأن الموضوع كان بسيطًا للغاية بحيث يُمكن شرحه دون الاستعانة بعلم الرياضيات، بل لأنه كان على درجة من التعقيد يتعذَّر معها التناول الرياضي له على نحوٍ كامل. ثمَّة سمة أخرى أعطَت على الأقل بعضًا من الجاذبية للمُحاضَرات، ألا وهي نية المحاضر بأن يوضح الفكرة الأساسية التي تتراوَح بين علمي الأحياء والفيزياء، لكلٍّ من عالِم الفيزياء وعالِم الأحياء.
وعلى الرغم من تنوُّع الموضوعات المتضمَّنة فالمقصود، في الواقع، من هذا الجهد في مجمله هو إيصال فكرة واحدة فقط؛ تعليق واحد صغير على سؤال كبير ومُهم. وحتى لا ننحرف عن الطريق، ربما يكون من المفيد أن نضَع الخطوط العريضة للخطة المتَّبَعة هنا على نحو مختصر جدًّا مقدَّمًا.
إنَّ السؤال الكبير المهم الذي نُوقش كثيرًا هو:
كيف يُمكن للفيزياء والكيمياء أن تُفسِّرا الأحداث التي تقع «في الزمان والمكان» داخل الكائن الحي؟
الإجابة المبدئية التي سيسعى هذا الكتاب الصغير لشرحها والتأسيس لها يُمكن تلخيصها في التالي:
إن العجز الواضح للفيزياء والكيمياء بصورتَيهما الحاليتَين عن تفسير هذه الأحداث ليس سببًا على الإطلاق للشك في إمكانية تفسيرهما لها.
(٢) الفيزياء الإحصائية: الاختلاف الجوهري في التركيب
سيكون ذلك تعليقًا تافهًا لو كان المقصود منه مجرَّد إثارة الأمل في أن نحقق في المستقبل ما لم نُحققه في الماضي. لكن المعنى المقصود أكثر إيجابية بكثير؛ أي إن العجز القائم حتى يومنا هذا مبرَّر تمامًا.
اليوم، وبفضل العمل البارع لعلماء الأحياء، خاصة علماء الوراثة، خلال الثلاثين أو الأربعين عامًا الماضية، صِرنا نعرف قدرًا من المعلومات عن التركيب الفعلي للمادة التي تُشكِّل الكائنات الحية ووظائفها، يكفي ليؤكد ويفسِّر بدقة عجزَ الفيزياء والكيمياء المعاصرتَين عن تفسير ما يحدث في الزمان والمكان داخل الكائن الحي.
ليس من المتوقَّع أن يُلمَّ غيرُ المشتغلين بالفيزياء — فضلًا عن أن يُقدِّروا — دلالةَ هذا الاختلاف في «التركيب الإحصائي» المُعبَّر عنه على نحو مجرد للغاية كالذي استخدمتُه للتو. وفي سبيل منح الأمر نبضًا وحيوية، سأَستبقُ وأذكر ما سيأتي شرحه تفصيلًا فيما بعد؛ ألا وهو أن أكثر أجزاء الخلية الحية أهمية، وهو الليفة الكروموسومية، قد يكون مناسبًا أن نُطلِق عليه «البلورة غير المنتظمة أو الدورية». لم نتعامل في الفيزياء حتى اللحظة الراهنة إلا مع «البلورات المنتظمة». في نظر الفيزيائي العادي، تُعدُّ الأخيرة موادَّ شائقةً ومعقَّدة للغاية؛ فهي تُمثِّل واحدًامن أكثر تركيبات المادة روعةً وتعقيدًا التي تَخلب بها الطبيعة غير الحية لُبَّه. غير أنها بسيطة ومملَّة إذا ما قُورنت بالبلورات غير المنتظمة. يشبه الفارق في تركيبهما ذلك الفارق بين ورق حائطٍ عادي وتُحفة فنية مطرزة ومزخرفة، كلَوح رافايل النسيجي المطرَّز مثلًا؛ ففي المثال الأول، يتكرر النمط نفسه مرة تلو الأخرى على نحوٍ دوري مُنتظم، أما في الثاني، فلا تكرار مُمل، بل تصميم دقيق مُحكم ذو مغزًى، نسجه فنان بارع.
إنني أقصد هنا الفيزيائي الحق عندما قلت إن البلورة المنتظمة تُعد أكثر المواد تعقيدًا في بحثه. إن الكيمياء العضوية، من خلال بحثها ومحاولتها سبرَ أغوار جزيئات أكثر تعقيدًا، اقتربتْ كثيرًا في الحقيقة من البلورة غير المنتظمة التي في رأيي هي المادة الحاملة للحياة؛ لذا ليس عجيبًا أن يكون لعلماء الكيمياء العضوية إسهامات كبيرة مُهمَّة بالفعل في معضلة الحياة، بينما إسهامات الفيزيائيين تكاد تكون معدومة.
(٣) منهج الفيزيائي العادي في تناول الموضوع
بعد أن أوضحتُ بإيجاز شديد الفكرة العامة — أو بالأحرى النطاق الرئيسي — لبحثنا، دعوني أصف طريقتي في تناول الأمر.
أقترح بدايةً أن نتوسَّع فيما يُمكن لكم أن تدعوه ﺑ «أفكار الفيزيائي العادي عن الكائنات الحية»، وهي الأفكار التي قد تَبزغ في ذهن الفيزيائي الذي درس الفيزياء، خاصة الأساس الإحصائي لها، ثم بدأ التفكير في الكائنات الحية، وفي طريقة سلوكها وأدائها وظائفَها، وسأل نفسه على نحوٍ واعٍ عما إذا كان يَستطيع أن يُسهم بما له صلة بالمسألة؛ وذلك من خلال ما تعلَّمه، ومن منظور علمِه البسيط والواضح والمُتواضع نسبيًّا.
سيَنجلي الأمر عن استطاعته. أما الخطوة التالية فيجب أن تكون مقارنة تكهُّناته النظرية بالحقائق البيولوجية. سيتبين لاحقًا أنه بالرغم من أن أفكاره في مجملها تبدو معقولة تمامًا، فإنها بحاجة إلى تعديلات كبيرة. بهذه الطريقة يُمكن لنا تدريجيًّا أن نقترب من الطريق الصحيح، أو بتعبيرٍ أكثر تواضعًا، الطريق الذي أرى أنه صحيح.
حتى لو كنتُ مصيبًا في ذلك، فلا أدري إن كان أسلوبي هذا هو الأفضل والأسهل أم لا لكنه، باختصار، أسلوبي. و«الفيزيائي العادي» هو أنا، ولم أَجِد أي أسلوب أوضح أو أفضل لتحقيق هدفي إلا أسلوبي الملتوي ذلك.
(٤) لماذا تتَّسم الذرات بحجمها الشديد الضآلة؟
والآن، لماذا تبدو الذرات شديدة الضآلة؟
اتفقنا إذن على أن الغرض الحقيقي لسؤالنا هو إبراز النسبة بين طولَين، طول جسدنا وطول الذرة، وبما أن للذرة ووجودها المستقل أولويةً لا مراء فيها، فإن السؤال في الحقيقة هو: لماذا تَبدو أجسادنا غاية في الضخامة مقارنة بالذرة؟
يُمكنني أن أتخيل أن كثيرًا من طلاب الفيزياء أو الكيمياء المُتحمِّسين ربما يَستنكرون الحقيقة القائلة إن كل عضو من أعضاء الحسِّ في أجسادنا، الذي يُشكِّل جزءًا كبيرًا منها بصورة أو بأخرى (في ضوء القيمة المذكورة عنها)؛ ومن ثم يتكون من عدد لا يُحصى من الذرات، إنما هو من القوة بحيث لا يظهر عليه تأثير أي ذرة مُنفرِدة. نحن لا نستطيع أن نرى الذرات المنفردة أو نشعر بها أو نسمعها، وفرضياتنا عنها تختلف اختلافًا كبيرًا عن النتائج الفورية التي ترصدها أعضاء حسِّنا الضخمة، ولا يُمكن اختبارها بالملاحظة المباشرة.
هل من مفرٍّ من ذلك؟ هل يوجد سببٌ جوهري لذلك؟ هل يُمكن إرجاع هذا الوضع إلى مبدأ أول، حتى نتأكَّد ونفهم لماذا لا يتناسب شيء ما مع قوانين الطبيعة؟
هذه قضية يستطيع الفيزيائي، هذه المرة، أن يُوضِّحها تمام التوضيح. إن الجواب عن كل هذه التساؤلات إنما هو بالإيجاب.
(٥) عمل الكائن الحي يتطلَّب قوانين فيزيائية دقيقة
لو لم يكن الأمر كذلك، أي لو كنَّا كائنات حية حساسة للغاية لدرجة أن ذرة واحدة أو حتى بضع ذرات قادرة على إحداث تأثير ملموس على حواسِّنا، فيا إلهي! كيف كانت ستبدو الحياة؟! دعونا نؤكِّد نقطة واحدة: إن كائنًا حيًّا كهذا لن يتمكَّن، بكل تأكيد، من تطوير هذا النوع من التفكير المنظَّم الذي يؤدِّي في النهاية، بعد اجتياز سلسلة طويلة من مراحل سابقة، إلى تكوين فكرة الذرة، من بين الكثير من الأفكار الأخرى.
رغم اختيارنا تلك النقطة فقط، فإنَّ الاعتبارات التالية سوف تَنطبق أيضًا بالضرورة على عمل الأعضاء الأخرى بخلاف المخ والجهاز الحسي. غير أن الشيء الواحد والأوحد محل اهتمامنا البالغ في ذواتنا هو أننا نَشعُر ونُفكِّر وندرك. فبالنسبة إلى العملية الفسيولوجية المسئولة عن التفكير والإحساس، كل ما عدا ذلك يلعب دورًا ثانويًّا، من المنظور البشري على الأقل إن لم يكن من المنظور البيولوجي الموضوعي البحت. إضافة إلى ذلك، مما سيُسهِّل كثيرًا من مهمَّتنا، هو أن نختار لبحثنا العمليات التي تجري مصحوبةً بأحداث غير موضوعية، رغم جهلنا بالطبيعة الحقيقية لهذه المُصاحَبة الوثيقة. وأرى، في الحقيقة، أن ذلك يقع خارج نطاق العلوم الطبيعية، وغالبًا خارج نطاق الفهم البشَري كله.
يُجابهنا إذن السؤال التالي: لماذا من الضروري أن يتكون عضوٍ كالمخ، والجهاز الحسي المتصل به، من عدد هائل من الذرات، من أجل أن تكون حالته المتغيِّرة فيزيائيًّا في توافُق وثيق مع تفكير غاية في التطور؟ وعلى أي أساس لا تكون المهمَّة الأخيرة للعضو المذكور مُتوافقة مع كَونه، في مجمله أو في بعض من أجزائه الطرفية المتفاعلة مباشرةً مع البيئة، آلية دقيقة وحساسة بما يكفي لتتأثَّر بذرة واحدة من الخارج وتستجيب لها؟
يُعزى ذلك إلى أن ما نُطلِق عليه التفكير أولًا: هو في ذاته أمر منهجي؛ وثانيًا: لا يمكن تطبيقه إلا على مادةٍ ما، أي على مدركات أو خبرات، على درجة معينة من المنهجية والترتيب. إن لمثل هذه الحقيقة نتيجتَين؛ الأولى: لكي يكون أي نظام فيزيائي في توافُق وثيق مع التفكير (كتوافُق مخي مع تفكيري)، لا بد أن يكون نظامًا في غاية الترتيب، وهو ما يعني امتثال الأنشطة التي تجري داخله لقوانين فيزيائية صارمة، على درجة عالية جدًّا من الدقة على الأقل. أما النتيجة الثانية، فهي أن التأثيرات الفيزيائية التي تُحدثها أجسام أخرى من الخارج على هذا النظام المتصف بالترتيب الفيزيائي الجيد تتوافَق بوضوح مع إدراك التفكير المُطابق وخبرته، مكوِّنةً مادته، كما أطلقتُ عليها. وعلى هذا، يجب أن تتَّسم في الغالب التفاعلات الفيزيائية بين نظامنا والأنظمة الأخرى بدرجة معيَّنة من التنظيم الفيزيائي؛ أي بعبارة أخرى، ينبغي أن تمتَثِل لقوانين فيزيائية صارمة على درجة معينة من الدقة.
(٦) القوانين الفيزيائية تستند إلى إحصاءات ذرية؛ ومن ثم فهي تقريبية فقط
لماذا لا يُمكن أن يتحقَّق كل ذلك في كائن حي مكون من عدد متوسِّط من الذرات فقط، وحساس بالفعل لتأثير ذرة واحدة أو عدد قليل من الذرات فحسب؟
لأننا نعرف أن كل الذرات تقوم طوال الوقت بحركة حرارية غير منتظمة تمامًا، وتتعارض، إن جاز التعبير، مع سلوكها المنتظم، وهو ما لا يسمح للأنشطة التي تجري بين عدد ضئيل من الذرات أن تَخضع لأيِّ قوانين معروفة. لا تبدأ القوانين الإحصائية عملها، ولا تتحكَّم في سلوك الذرات بدقة، إلا في حالة تعاون عدد هائل من الذرات، وتزداد دقة القوانين الإحصائية مع تزايُد عدد الذرات المشاركة، وبهذه الطريقة تكتسب الأنشطة سمات منظَّمة حقيقية. تتصف كل القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تلعب دورًا مهمًّا في حياة الكائنات الحية بهذه السمة الإحصائية؛ أيُّ نوع آخر من المطابقة أو التنظيم الذي قد نُفكِّر فيه، سيَضطرب ويتعطَّل دائمًا بفعل الحركة الحرارية الدائبة للذرات.
(٧) تعتمد الدقة على العدد الكبير من الذرات المُشارِكة
(٧-١) المثال الأول: «البارامغناطيسية»
دعوني أُوضِّح ذلك بأمثلة قليلة اخترتها عشوائيًّا إلى حدٍّ ما من بين آلاف الأمثلة، وربما لا تكون أفضل ما يَجذب قارئًا يطَّلع لأول مرة على مثل هذه الظاهرة، التي تُعد أساسية وجوهرية في الفيزياء والكيمياء المعاصرتَين، وتُعادل في أهميتها الحقيقة القائلة إن الكائن الحي مُكوَّن من خلايا في علم الأحياء، أو قانون نيوتن في الفلك، أو حتى سلسلة الأعداد الصحيحة ١، ٢، ٣، ٤، ٥ … في الرياضيات. ينبغي ألا يتوقَّع القارئ المبتدئ أن يكتسب من الصفحات القليلة القادمة فهمًا وتقديرًا كاملَين للموضوع الذي يَقترن بأسماء لامعة، مثل لودفيج بولتسمان وويلارد جيبز، والذي تَتناوله المراجع تحت اسم «الديناميكا الحرارية الإحصائية».
يُعد هذا مثالًا واضحًا على نحوٍ خاص على قانون إحصائي بحت. فتَعمِد الحركة الحرارية إلى المُقاوَمة المُستمرة للوضعية التي يَميل المجال إلى إنتاجها؛ إذ تعمل هذه الحركة على ترتيب الجزيئات في وضعية عشوائية. يُسفر هذا الصراع في الحقيقة عن مجرَّد تفضيل بسيط للزوايا الحادة على تلك المُنفرجة بين المَحاور الثنائية القطب والمجال. وعلى الرغم من أن الذرات المنفردة تُغيِّر وضعياتها باستمرار، فإنها تنتج في المتوسط (نظرًا لعددها الضخم) ترجيحًا ضئيلًا وثابتًا للوضعية في اتجاه الحقل، وعلى نحوٍ متناسب معه. يعود الفضل في هذا التفسير البارع إلى الفيزيائي الفرنسي بي لانجفان، ويُمكن التأكُّد منه بهذه الطريقة: لو أن المغناطيسية الضعيفة المرصودة هي حقًّا نتيجة الاتجاهات المُتنافسة؛ أي المجال المغناطيسي الذي يعمل على ترتيب كل الجزيئات بحيث تكون مُتوازية، والحركة الحرارية التي تعمل على ترتيبها في وضعية عشوائية، فحري إذن أن يكون من المُمكن زيادة المغناطيسية بإضعاف الحركة الحرارية؛ أي بتقليل الحرارة، بدلًا من تقوية المجال. يتأكَّد ذلك بالتجربة التي ستَخلُص إلى أن المغناطيسية تتناسَب عكسيًّا مع درجة الحرارة المطلقة، وهو ما يتفق كميًّا مع الجانب النظري (قانون كوري)، بل إن المعدات الحديثة تُمكننا عن طريق خفض درجة الحرارة من تقليل الحركة الحرارية إلى مقدارٍ غايةٍ في الضآلة بحيث يَسمح للميل التوجيهي للمجال المغناطيسي بفرض سيطرته على نحوٍ كافٍ على الأقل، إن لم يكن تامًّا، لإنتاج قدر كبير من «المغناطيسية الكاملة»، وفي هذه الحالة لن نتوقَّع أن تؤدي مضاعفة قوة المجال إلى مضاعفة المغناطيسية، بل ستزداد الأخيرة بقدر أقل فأقل مع زيادة قوة المجال، مُقتربة مما يُسمى «التشبع». إن مثل هذا التنبؤ تأكَّد كميًّا أيضًا بالتجربة.
لاحِظْ أن هذا السلوك يَعتمد بالكامل على عدد ضخم من الجزيئات التي تتعاون في إنتاج هذه المغناطيسية الملاحَظة، وإلا فلن تكون المغناطيسية ثابتة على الإطلاق، بل ستشهد على تقلُّبات الصراع بين الحركة الحرارية والمجال، وذلك بتذبذبها العشوائي من لحظة إلى أخرى.
(٧-٢) المثال الثاني: «الحركة البراونية والانتشار»
إذا ملأت الجزء السُّفلي من إناء زجاجي مُغلق بالضباب المتكوِّن من قطرات دقيقة من الماء، فستجد أن الحد العلوي من الضباب قد بدأ يَنحدر تدريجيًّا بسرعة محدَّدة بدقة، تُحددها لُزوجة الهواء وحجم القطرات وثقلها النوعي. لكنك متى فحصتَ إحدى هذه القطرات تحت المجهر، فستجد أنها لا تَنحدِر دائمًا بسرعة ثابتة، بل تؤدي حركة غير مُنتظمة للغاية، وهي التي يُطلق عليها الحركة البراونية، والتي تتوافَق مع انحدار منتظم في المتوسط فحسب.
إن هذه القطرات ليست بذرَّات، لكنها صغيرة وخفيفة بما يكفي لتكون معرَّضة لتأثير إحدى تلك الجزيئات، التي تطرق أسطحها في تأثير دائم. هكذا تتعرَّض تلك القطرات لخبطات طوال الوقت، ولا يسعها الاستجابة لتأثير الجاذبية إلا بمعدلات متوسطة.
يُبين هذا المثال كم سيبدو حالنا مُضحكًا ومُضطربًا إذا ما قُدِّر لحواسِّنا أن تكون معرَّضة لتأثير عدد قليل من الجزيئات. توجد بكيتريا وكائنات حيَّة أخرى على قدرٍ من الضآلة يجعلها تتأثَّر بشدة بهذه الظاهرة؛ إذ تتأثَّر حركاتها بالتقلبات الحرارية في الوسط المحيط، ولا خيار أمامها. إن كانت لتلك الكائنات قدرة مستقلة على التحرُّك، فربما تنجح في التنقل من مكان لآخر لكن ببعض الصعوبة؛ لأن الحركة الحرارية تتقاذفها كقارب صغير في بحر هائج.
إن الأمر المميَّز في هذه العملية البسيطة التي قد تَبدو في ظاهرها غير مثيرة للاهتمام هو أنها ليست — كما قد يظنُّ المرء — نتيجة أي ميل أو قوة تقود جزيئات البرمنجنات بعيدًا عن المنطقة المُزدحمة إلى الأقل ازدحامًا، تمامًا كانتشار سكان بلدٍ ما إلى المناطق الأقل ازدحامًا. لا شيء من هذا القبيل يحدث لجزيئات البرمنجنات في الحالة المذكورة، فكل واحد منها يتصرف باستقلالية تامة عن الجزيئات الأخرى، ولا تتلاقى تلك التصرفات إلا في القليل النادر. يُعاني كل جزيء منها، سواءٌ في منطقة مزدحمة أو خالية، المصير نفسه، ألا وهو تلقِّي الضربات المُتواصلة من تأثيرات جزيئاتِ الماء؛ ومن ثم التحرك تدريجيًّا في اتجاه غير متوقَّع، ناحية التركيز الأعلى أحيانًا، وناحية التركيز الأقل أحيانًا، وبمَيل أحيانًا أخرى. كثيرًا ما شُبِّهت حركتها بحركة شخص معصوب العينين على سطح كبير وهو مُفعَم برغبة معينة في «المشي»، لكن بلا تفضيل لأي اتجاه خاص؛ ولذلك يغيِّر مساره باستمرار.
(٧-٣) المثال الثالث: «حدود دقة القياس»
آخر مثال سنَضربه قريب جدًّا من المثال الثاني، لكن له أهمية خاصة. كثيرًا ما يستخدم الفيزيائيون جسمًا خفيفًا معلِّقًا بخيط طويل رفيع في حالة اتزان لقياس القوى الضعيفة التي تحرفه عن وضع الاتزان، مع استخدام القوى الكهربية أو المغناطيسية أو قوى الجاذبية لِلفِّه حول مِحوره الرأسي. (الجسم الخفيف يجب — بكل تأكيد — اختياره بما يُناسب الغرض المعيَّن.) إن المجهود المستمر المبذول لتحسين دقة هذه الأداة الشائعة الاستعمال بكثرة التي تتَّسم ﺑ «الاتزان الالتوائي»، قد جابهه حدٌّ غريب، شديد الإثارة في ذاته؛ فعند اختيار أجسامٍ أخفَّ فأخف وخيوطٍ أرفع وأطول؛ وذلك كي نجعل الاتزان حساسًا لقوًى أضعفَ فأضعف، وصلنا إلى الحد الذي أصبح الجسم المعلَّق عنده حساسًا على نحوٍ ملحوظ لتأثيرات الحركة الحرارية للجزيئات المحيطة، وبدأ في أداء «رقصة» مستمرَّة غير منتظمة حول وضع الاتزان، تمامًا مثل ارتجاف القطرات في المثال الثاني. على الرغم من أن هذا السلوك لا يقرُّ حدًّا مطلقًا لدقة القياسات التي نحصل عليها عن طريق الاتزان، فإنه يضع حدًّا عمليًّا. إن تأثير الحركة الحرارية الذي لا يُمكن التحكم فيه يتنافس مع تأثير القوة المراد قياسها، مما يجعل الانحراف الوحيد الملحوظ غير ذي بال. عليك مضاعَفة مُشاهَداتك من أجل التخلُّص من تأثير الحركة البراونية لأداتك. أعتقد أن لهذا المثال قيمةً توضيحية في بحثنا الحالي، فأعضاء حسِّنا في النهاية هي نوع من الأدوات. وهكذا نستطيع أن ندرك كيف ستصير هذه الأعضاء بلا فائدة لو أنها كانت حساسة أكثر من اللازم.
(٨) قاعدة
سنكتفي، حاليًّا، بهذا القدر من الأمثلة. سأُضيف فقط أنه لا يوجد قانون واحد في الفيزياء أو الكيمياء ذو صلة بالكائن الحي أو بتفاعلاته مع بيئته قد لا أختاره مثالًا. ربما يكون التفسير المفصَّل أكثر تعقيدًا، لكن النقطة البارزة ستظل دائمًا واحدة، وهكذا سيُصبح التفسير مملًّا ورتيبًا.
يَتبيَّن لك من هذا مرة أخرى أن الكائن الحي يجب أن يَحظى ببنية ضخمة نسبيًّا حتى يتمتَّع بميزة القوانين الدقيقة نوعًا ما، من أجل حياته الداخلية ومن أجل تفاعُله مع العالم الخارجي، وإلا فسيفقد «القانون» دقَّته بشدة لو كان عدد الجزيئات المُتعاونة أقل من اللازم. ويُعد الجذر التربيعي هو المسألة المُلحَّة للغاية؛ إذ على الرغم من أن المليون رقمٌ ضخمٌ إلى حدٍّ معقول، فإن دقة بقيمة ١ في الألف فقط هي دقة ليست جيدة للغاية لتَصف شيئًا يدَّعي شرف كونه أحد «قوانين الطبيعة».