الآلية الوراثية
الوجود أبدي، ومهمة القوانين هي الحفاظ على كنوز الحياة التي يعتمد عليها الكون في توفير الجمال.
(١) توقُّعات الفيزيائي الكلاسيكي، بعيدًا عن كونها تافهة، هي خاطئة
هكذا وصلنا إلى استنتاج أن الكائن الحي وجميع العمليات ذات الأهمية البيولوجية التي يَشهدُها يجب أن يتمتَّعا بتركيب يتكون من «عدد هائل من الذرات»، وأن يكونا بمأمن من إكساب الأحداث العشوائية «الأحادية الذرة» أهمية أكبر مما يَنبغي. يخبرنا «الفيزيائي العادي» أن ذلك ضروري لكي يحظى الكائن الحي بقوانين فيزيائية دقيقة بما يكفي للاستعانة بها في تأسيس نشاطه البديع التنسيق والتنظيم. كيف تتَّسق هذه الاستنتاجات البديهية من منظور بيولوجي (أي من وجهة النظر الفيزيائية البحتة)، مع الحقائق البيولوجية الفعلية؟
أصبحنا نعرف حاليًّا أن هذا الرأي كان خاطئًا؛ فكما سنرى فيما يلي، تلعب مجموعات متناهية الصِّغَر على نحوٍ لا يُصدَّق من الذرات — أصغر بكثير من أن يكون لها قوانين إحصائية دقيقة — دورًا مُسيطرًا في الأحداث الشديدة التنظيم والانضباط التي تحدث داخل الكائن الحي. فهي تتحكَّم في الملامح الواسعة النطاق القابلة للرصد والتي يكتسبها الكائن الحي في أثناء تطوُّره، وتحدد خصائص مهمة لعمله، وفي خضم كل هذا تظهر قوانين بيولوجية شديدة الحدة والصرامة.
يجب أن أبدأ بتقديمٍ مُخلص مختصر للوضع في علم الأحياء، وعلى وجه الخصوص في علم الوراثة. بعبارةً أخرى: عليَّ أن أُلخِّص الوضع المعرفي الحالي في مجال لستُ بارعًا فيه. لا يُمكن تجنُّب هذا، وأُوجِّه اعتذاري لأي عالم أحياء على وجه الخصوص على ملخصي غير الاحترافي. ومن ناحية أخرى، أطلب الإذن بالسماح لي بعرض الأفكار الأساسية عليكم من دون الخوض في الأدلة الخاصة بها. فمن غير المتوقَّع أن يقدِّم فيزيائي نظري تقليدي عرضًا وافيًا للأدلة التجريبية، التي تتكوَّن من عدد ضخم من السلاسل الطويلة والمُتداخِلة على نحوٍ رائع لتجارب تكاثُر، والتي أُجريَت ببراعة غير مسبوقة بالفعل من ناحية، ومن ملاحظات مباشرة للخلية الحية التي تمَّت بكل دقة باستخدام المجاهر الحديثة، من ناحية أخرى.
(٢) نَص الشفرة الوراثية (الكروموسومات)
وعندما نُطلِق على تركيب الألياف الكروموسومية نَص الشفرة، فإننا نعني أن العقل المُدبِّر الذي تحدَّث عنه لابلاس في وقتٍ ما، والذي ترتبط به كل علاقة سببية ارتباطًا مُباشرًا، يُمكنه أن يُحدِّد من تركيب هذه الألياف ما إذا كانت البُوَيضة ستنمو، في ظل ظروف مواتية، لتُصبح ديكًا أسود اللون أم دجاجة مرقَّطة، أم ذبابة أم نبات ذرة، أم نبات ردندرة، أم خنفساء أم فأرًا أم امرأة. ويُمكننا أن نضيف إلى هذا أن أشكال خلايا البويضة تكون مُتشابِهة دومًا على نحوٍ ملحوظ، وحتى عندما لا يحدث هذا، كما في حالة بيض الطيور والزواحف الضخم نسبيًّا، فإن هذا الاختلاف لا يكون في تركيبها إلى حدٍّ كبير بقدر ما يكون في المواد الغذائية التي تُضاف في هذه الحالة لأسباب واضحة.
ومع هذا، فإن مُصطلح نص الشفرة، بكل تأكيد، محدود للغاية؛ فتركيبات الكروموسومات تكون في الوقت نفسه أداةً فعالة في تحقيق النمو الذي تؤذن بحدوثه. فهي شفرة قانونية وقوة تنفيذية — أو إذا استخدمنا تشبيهًا آخر فهي تُشبه تصميم المهندس المعماري وحرفة البنَّاء — في آنٍ واحد.
(٣) نمو الجسم عن طريق انقسام الخلية (الانقسام الميتوزي)
(٤) في الانقسام الميتوزي، يتضاعف كل كروموسوم
ومهما كانت معرفتنا قليلة بالوسيلة التي يتم بها هذا، فلا يسعنا إلا الاعتقاد أنها حتمًا مرتبطة بطريقة ما ارتباطًا وثيقًا بوظيفة الكائن الحي، وأن كل خلية فردية، حتى الخلايا الأقل أهمية، يجب أن تملك نسخة كاملة (مزدوَجة) من نص الشفرة. علمنا في وقت سابق من الصحف أن الجنرال مونتجومري في حملته على أفريقيا أصرَّ على ضرورة إبلاغ كل جندي في جيشه بدقة بكامل خُططه. إن كان هذا صحيحًا (إذ من المُمكن تصوُّر هذا؛ نظرًا لمستوى الذكاء العالي لجنوده وموثوقيتهم الكبيرة)، فإنه يمدنا بتشبيه رائعٍ مُناظِرٍ لحالتنا، تكون فيه الحقيقةُ المقابلةُ بالتأكيد صحيحةً، وتكون الحقيقةُ الأكثر إثارة للدهشة تضاعُفَ مجموعةِ الكروموسومات الذي يحدث طوال الانقسامات الميتوزية. هذا، وينكشف الملمَحُ البارز للآلية الوراثية على أوضح ما يمكن بالاستثناء الوحيد عن القاعدة الذي علينا أن نتحدث عنه الآن.
(٥) الانقسام الاختزالي (الميوزي) والتخصيب (التكاثُر الجنسي)
بعد بدء عملية نموِّ الفرد بوقت قصير جدًّا، تُحفَظ مجموعة من الخلايا كي تُنتِج في مرحلة لاحقة ما يُسمى بالأمشاج؛ الخلايا المنوية، أو خلايا البويضات، بحسب الحالة، الضرورية لتكاثُر الفرد عند البلوغ. ويعني «الاحتفاظ بها» أنها لا تُستخدم في أغراض أخرى في هذا الوقت، وتتعرَّض لانقسامات ميتوزية أقل بكثير. والانقسام الاستثنائي أو الاختزالي (المعروف بالانقسام الميوزي) هو الذي من خلاله أخيرًا عند البلوغ، تظهر الأمشاج، ويُمكن تكوينها من هذه الخلايا المحفوظة، كقاعدة قبل حدوث التكاثُر الجنسي بوقت قصير. وفي الانقسام الميوزي تنقسم مجموعة الكروموسومات الثنائية للخلية الأم ببساطة إلى مجموعتين منفردتَين، تذهب كل واحدة منهما إلى كل خلية من الخليتَين الوليدتَين، الأمشاج. بعبارة أخرى، لا يحدث التضاعُف الميتوزي في عدد الكروموسومات في الانقسام الميوزي، فيَبقى الرقم ثابتًا؛ ومن ثم يحصل كل مَشِج على نصف العدد فقط، بمعنى نسخة واحدة كاملة من الشفرة، وليس اثنتَين؛ على سبيل المثال يوجد لدى الإنسان ٢٤ كروموسومًا فقط وليس ٤٨ (أي ٢ × ٢٤).
تُوصف الخلايا التي تحتوي على مجموعة واحدة فقط من الكروموسومات بأنها أحادية الصيغة الكروموسومية؛ ومن ثم، فإن الأمشاج تكون أحادية الصيغة الكروموسومية، أما خلايا الجسم العادية فتكون ثُنائية الصيغة الكروموسومية. يوجد أحيانًا أفراد يَمتلكون ثلاثًا، أو أربعًا أو أكثر من مجموعات الكروموسومات في جميع خلايا أجسامهم، ويُطلَق على هؤلاء ثلاثيي أو رباعيي … أو متعددي الصيغة الصبغية.
وفي حالة التكاثُر الجنسي يتَّحد مشج الذكر (الحيوان المنوي) ومشج الأنثى (البويضة)، وكل منهما خلية أحادية الصيغة الكروموسومية، ليكونا خلية البويضة المخصَّبة، التي تكون نتيجةً لهذا ثنائية الصيغة الكروموسومية؛ فتأتي إحدى مجموعتَي كروموسوماتها من الأم والأخرى من الأب.
(٦) الأفراد الأحاديو الصيغة الكروموسومية
ثمَّة نقطة أخرى بحاجة إلى تصحيح. ورغم كونها غير أساسية في غرضنا هنا، فإن لها أهمية حقيقية؛ لأنها تُوضِّح في واقع الأمر احتواء كل مجموعة فردية من الكروموسومات على نص شفرة كامل إلى حدٍّ ما من «النمط».
(٧) الأهمية الكبيرة للانقسام الاختزالي
لكن حين تَتتبَّع أصل موروثاتك حتى تصل إلى أجدادك، فإن الأمر يكون مختلفًا. دعوني أركز اهتمامي على مجموعة كروموسوماتي الأبوية، وعلى وجه الخصوص على واحدٍ منها، فلنَقُل الكروموسوم رقم ٥. إنه صورة طبق الأصل إما من الكروموسوم رقم ٥ الذي حصل عليه أبي من والده، أو ذلك الذي حصل عليه من والدته. تقرَّر هذا الأمر باحتمال ٥٠:٥٠ في الانقسام الميوزي الذي حدث في جسم أبي في نوفمبر عام ١٨٨٦ وكوَّن الحيوان المنوي الذي سيكون له دورٌ فعال بعد بضعة أيام في إنجابي. ويُمكن تكرار القصة نفسها مع الكروموسومات أرقام ١ و٢ و٣ … و٢٤ من مجموعة أبي، وبعد إجراء التعديلات اللازمة، مع كل من كروموسومات والدتي. بالإضافة إلى ذلك، يكون كل كروموسوم من الكروموسومات الثمانية والأربعين مستقلًّا بالكامل. فحتى إن كان معروفًا أن كروموسومي الأبوي رقم ٥ كان مأخوذًا من جدي جوزيف شرودنجر، فإن ذلك الذي رقمه ٧ ما زال ثمة احتمال متساوٍ بأنني حصلتُ عليه من جدي أيضًا، أو من زوجته ميري، التي كان لقبها قبل الزواج بوجنير.
(٨) العبور الكروموسومي: موضع الخصائص الوراثية
فلو لم يكن هناك عبور للكروموسومات، لانتقلت أي خاصيتَين يكون الكروموسوم نفسه مسئولًا عنهما دومًا معًا عند عملية الخلط، ولم يكن أي سليل ليحصل على إحداهما دون الأخرى، لكن أي خاصيتَين، نظرًا لوجود اختلاف في كروموسوماتهما، يكون ثمة احتمال ٥٠:٥٠ لانفصالهما أو تنفصلان في جميع الأحوال، بحيث تحدُث الحالة الثانية هذه عند وجودهما على كروموسومات مُتماثلة للسلف نفسه؛ ومن ثم لا تتَّحد إحداهما مع الأخرى أبدًا.
يَتداخل مع هذه القواعد والاحتمالات عملية عبور الكروموسومات؛ ومن ثم يُمكن التأكد من احتمالية هذا الحدث عن طريق التسجيل الدقيق لنِسَب تركيب النسل في تجارب تكاثر موسَّعة، وُضعت خصوصًا على نحوٍ مُناسب من أجل هذا الغرض. وعند تحليل الإحصاءات، يتقبل المرء الفرضية العاملة الموحية التي تشير إلى أن «الارتباط» بين خاصيتَين موجودتَين على الكروموسوم نفسه يقل احتمال فكِّه بفعل العبور الكروموسومي كلما زاد اقترابهما من بعضهما؛ حيث سيقلُّ احتمال وجود نقطة تبادُل بينهما، في حين تنفصل الخصائص الواقعة بالقرب من الطرفين المتقابلَين للكروموسوم مع كل عملية عبور. (الشيء نفسه تقريبًا ينطبق على إعادة تجميع الخصائص الوراثية التي تقع على كروموسومات مُتماثلة للسلف نفسه.) بهذه الطريقة يُمكن توقع الحصول من خلال «إحصاءات الارتباط» على نوعٍ ما من «خريطة الخصائص الوراثية» في داخل كل كروموسوم.
هذه التوقعات أُكِّدَت جميعًا. في الحالات التي خضعت للاختبار على نحو تام (بالأساس، ذبابة الفاكهة، لكنها ليست الوحيدة)، تَنقسم الخصائص الوراثية المُختبرة إلى العديد من المجموعات المنفصلة، دون وجود ارتباط بين مجموعة وأخرى؛ نظرًا لوجود كروموسومات مختلفة (أربعة في ذبابة الفاكهة). وضمن كل مجموعة يمكن رسم خريطة خطية للخصائص الوراثية التي تُحدِّد كميًّا درجةَ الارتباط بين أي اثنتين في هذه المجموعة، بحيث تكون درجة الشك صغيرة فيما يخص مواضعها الفعلية، وأنها تتموضع بطول خط؛ وذلك كما يشير الشكل القضيبي للكروموسوم.
بالطبع، إن مخطط الآلية الوراثية، كما هو مرسوم هنا، لا يزال إلى حدٍّ ما فارغًا وغير ملوَّن، وربما بدائيًّا أيضًا بعض الشيء. فنحن لم نُصرِّح بعدُ بما نعنيه بالضبط بكلمة خاصية؛ إذ يبدو أنه ليس مناسبًا أو محتملًا أن نقسم نمط أي كائن حي الذي هو بالضرورة وحدةٌ أو «كلٌّ» واحد إلى «خصائص وراثية» منفصلة ومتمايزة. ما وضَّحناه وذكرناه بالفعل أنه في أي حالة معينة كل زوج من الأجداد يكونان مختلفَين في جانب معين ومحدَّد (فلنقل إن أحدهما عيناه زرقاوان والآخر بُنِّيتان)، والنسل سيتبع في هذا الشأن أحدهما فقط. ما حدَّدنا موضعه على الكروموسوم هو مكان هذا الاختلاف. (ندعوه بلغة التخصُّص «الموقع» أو لو فكَّرنا في تركيب المادة النظري الذي يقوم عليه، فسندعوه «جينًا».) الاختلاف في الخصائص الوراثية — من منظوري — هو حقيقةً المفهوم الأساسي الجوهري أكثر من الخصائص نفسها، على الرغم من التناقُض اللغوي والمنطقي الواضح في هذه العبارة. فالاختلافات في الخصائص الوراثية في واقع الأمر منفصلة ومُتمايزة، كما سيظهر في الفصل التالي عندما يتوجَّب علينا الحديث عن الطفرات، ويكتسب المخطط الممل المطروح حتى الآن — كما أتمنَّى — حياة أكثر.
(٩) الحجم الأقصى للجين
قدَّمنا توًّا مُصطلح الجين للتعبير عن المادة النظرية نفسها الحاملة لملمَح وراثي محدد. يجب الآن أن نؤكد نقطتين ستكونان ذواتي دلالة عالية لعرضنا. النقطة الأولى هي الحجم، أو بالأحرى الحجم الأقصى لهذا الحامل؛ بمعنًى آخر، إلى أي حجم صغير نستطيع تتبُّع الموضع؟ النقطة الثانية هي ديمومة الجين التي تُستنتج من استمرار النمط الوراثي.
بالنسبة للحجم، يوجد تقديران مُستقلان تمامًا، أحدهما يستند على الدليل الجيني (تجارب التكاثُر)، والثاني على الدليل الخلوي (الفحص المِجهري المباشر). الأول من حيث المبدأ البسيط بالقدر الكافي. فبعد تحديد مواقع عدد كبير من الملامح المختلفة (الواسعة النطاق) — لنقل ذبابة الفاكهة — ضمن كروموسوم معين من كروموسوماتها، بالطريقة الموصوفة بالأعلى، يُمكن الحصول على التقدير المطلوب بقسمة الطول الذي قِسناه لذلك الكروموسوم على عدد الملامح، ونضرب الناتج في طول المقطع العرضي؛ إذ نرى بالطبع أن الملامح تكون مختلفة فقط عند انفصالها من آنٍ لآخر بسبب عملية العبور؛ ومن ثم لا يُمكن أن تكون جزءًا من التركيب نفسه (المجهري أو الجزيئي). من ناحية أخرى، من الواضح أن تقديرنا يُمكنه فقط أن يُحدد الحجم الأقصى؛ لأن عدد الملامح التي تُفصل بواسطة هذا التحليل الجيني يتزايد باستمرار مع استمرار عملية البحث.
التقدير الآخر، على الرغم من أنه مبني على الفحص المجهري، فإنه فعليًّا أقل مباشرة بكثير. فخلايا معينة لذبابة الفاكهة (تحديدًا، تلك الخاصة بغددها اللعابية) لسبب ما تكون كبيرة بشدة، وكذلك كروموسوماتها. وفيها يُمكن تمييز نمط مُزدحِم لشرائط عرضية داكنة عبر الليفة. لاحظَ سي دي دارلنجتون أن عدد هذه الشرائط (الذي كان ألفين في الحالة التي عمل عليها) كبيرٌ على نحو هائل، لكن تقريبًا له القيمة الأسية نفسها لعدد الجينات الموجودة على ذلك الكروموسوم والمحدَّد من خلال تجارب التكاثُر. لقد مال إلى اعتبار أن هذه الشرائط تُشير إلى الجينات الفعلية (أو إلى انفصال الجينات). وبقسمة طول الكروموسوم المقاس في خلية طبيعية الحجم على عدد تلك الشرائط (ألفين)، وجد أن حجم الجين مساوٍ لمكعَّب طول حافته ٣٠٠ أنجستروم. ومع الأخذ في الاعتبار تقريب المقادير، يُمكن أن نعتبر هذا هو الحجم نفسه الذي حصلنا عليه بالطريقة الأولى.
(١٠) الأعداد الضئيلة
(١١) الديمومة
دعنا الآن نتحوَّل إلى ثاني الأسئلة المهمَّة بقدر كبير؛ وهو: ما درجة الديمومة التي نصادفها فيما يتعلق بالخصائص الوراثية، وما الذي يجب أن نعزوه مِن ثم لتركيبات المادة التي تحملها؟
يُمكن الإجابة على ذلك دون أي استقصاء خاص. فمُجرَّد حديثنا عن الخصائص الوراثية يشير إلى أننا نُدرك أن الديمومة شبه مُطلَقة. إذ يجب ألا ننسى أن ما ينقله الوالد للابن ليس فقط هذه الخاصية أو تلك؛ أنف معقوف أو أصابع قصيرة أو ميل للإصابة بالروماتيزم أو الهيموفيليا أو عمى الألوان … إلخ. فتلك الخصائص هي التي قد نختارها على نحو تقليدي لدراسة قوانين الوراثة. ولكن ما ينقله فعليًّا هو كل النمط (الرباعي الأبعاد) ﻟ «الطراز الظاهري»، كل الطبيعة المرئية والمتجلية للفرد التي يُعاد إنتاجها دون تغيير ملحوظ لأجيال؛ ومن ثم هي دائمة عبر قرون — وإن لم يكن خلال عشرات الآلاف من السنين — ومحمولة في كل انتقال بواسطة المادة الموجودة في تركيب نُواتَي الخليتَين اللتَين تتحديان لإنتاج خلية البويضة المخصبة. تلك معجزة، لا يوجد أعظم منها غير واحدة أخرى، واحدة رغم أنها متصلة بها على نحو وثيق، فهي تقع على مستوى مختلف. أنا أعني الحقيقة القائلة بأننا نحن، الذين ينبني وجودُنا الكليُّ على نحو كامل على تفاعل مُتبادَل مُدهش وإعجازي من هذا النوع، نمتلكُ القدرة على اكتساب قدر كبير من المعرفة عن هذا التفاعل. أعتقد أنه من الممكن أن تتحسن تلك المعرفة لتصل إلى ما هو أقل قليلًا من فهم كامل للمعجزة الأولى. أما المعجزة الثانية فقد تتجاوز مستوى الفهم البشري.