دليل ميكانيكا الكم
وخيال رُوحك الشارد المتوقِّد يتمثَّل في صورة بلاغية، في قصة رمزية.
(١) الفيزياء الكلاسيكية لا تُقدِّم تفسيرًا للديمومة
هكذا وبمُساعدة معدَّات الأشعة السينية بديعة الإتقان (التي، كما يتذكر الفيزيائي، أظهرت منذ ثلاثين عامًا التركيبات الشبكية الذرية التفصيلية للبلورات)، نجحت مؤخَّرًا جهودُ علماء الأحياء والفيزيائيين الموحدة في تقليل الحد الأعلى لحجم التركيب المِجهري المسئول عن الصفات المحدَّدة الواسعة النطاق للفرد — حجم الجين — وتقليصه كثيرًا لأرقامٍ دون التقديرات التي عرضنا لها مسبقًا. وأصبح علينا الآن أن نجيب على نحوٍ جدي على السؤال التالي: كيف يُمكن لنا، من وجهة نظر الفيزياء الإحصائية، التوفيق بين الحقيقتَين القائلتَين إن تركيب الجين يبدو أنه يتضمَّن فقط عددًا قليلًا نسبيًّا من الذرات (في حدود ١٠٠٠ وربما أقل من ذلك بكثير)، وأنه رغم ذلك يُظهر نشاطًا شديد الانتظام والانضباط، مع استمرارية وديمومة تصلان إلى حدود إعجازية؟
دعوني أُلقِ الضوء ثانية على ذلك الوضع العجيب حقًّا. كان العديد من أفراد أسرة هابسبورج الحاكمة مصابين بتشوُّه غريب في الشفة السفلى (الشفة الهابسبورجية). فدُرست بعناية الجوانب الوراثية للأمر ونُشرت كاملة مع صور تاريخية للأشخاص بواسطة الأكاديمية الملَكية لفيينا وتحت رعاية الأسرة الحاكمة السالفة الذكر. ثبُت أن تلك الصفة «أليل» مندلي حقيقي للنوع الطبيعي من الشفة. وبتأمل صورة أحد أفراد تلك الأسرة الذي كان يعيش في القرن السادس عشر، وصورة أحد ذريته الذي عاش في القرن التاسع عشر، يمكن أن نفترض دون شكٍّ أن مادة تركيب الجين، المسئولة عن الصفة غير الطبيعية، قد انتقلت من جيل إلى جيل عبر القرون، وتناسخَت بدقة في كل انقسامات الخلايا البَينية، تلك الانقسامات التي لم تكن كثيرة جدًّا. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدد الذرات المشاركة في تركيب الجين المسئول على الأغلب هو بالقيمة الأُسِّية نفسها كما هو الوضع في الحالات التي اختُبرت بواسطة الأشعة السينية. لقد بقيَ الجين في درجة حرارة ٩٨ فهرنهايت تقريبًا طوال ذلك الوقت. كيف يُمكن لنا أن نفهم أنه ظلَّ كما هو رغم الميل الفوضوي للحركة الحرارية لقرون؟
إن أيَّ فيزيائي في نهاية القرن الفائت كان سيحتار ولا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، إذا كان مستعدًّا للاعتماد فقط على قوانين الطبيعة تلك التي يستطيع تفسيرها والتي يفهمها بالفعل. ربما، في واقع الأمر، بعد تفكير قصير في المَوقِف الإحصائي، كان سيجيب (على نحو صحيح، كما سنرى): لا يُمكن أن تكون تركيبات المادة هذه سوى جزيئات. إن الكيمياء تحصَّلت بالفعل على كمٍّ واسع من المعرفة في ذلك الوقت عن طريق وجود تلك الروابط بين الذرات، وأحيانًا الثبات أو الاستقرار الهائل جدًّا لها. لكن تلك المعرفة تجريبية خالصة. لم تُفهَم طبيعة الجزيء؛ فقد كانت الروابط المشتركة القوية للذرات التي تحفظ شكل الجزيء تمثِّل لغزًا كاملًا للجميع. لكن في واقع الأمر تبيَّن أن تلك الإجابة صحيحة، لكن قيمتها محدودة ما دام الاستقرار البيولوجي المبهم أُرجع فقط إلى استقرار كيميائي مُبهَم بالقدر نفسه. إن الدليل على اعتماد صفتَين متماثلتَين في الشكل على المبدأ نفسه، دائمًا ما يكون غير راسخ ما دام المبدأ نفسه غير معروف.
(٢) قابلة للتفسير من خلال نظرية الكم
في هذه الحالة، تقدِّم نظرية الكم الإجابة. وفي ضوء المعرفة الحالية، فإن آلية الوراثة ترتبط على نحو وثيق بأُسس نظرية الكم، بل وتعتمد عليها. هذه النظرية اكتشفها ماكس بلانك عام ١٩٠٠. ويمكن أن يؤرِّخ لعلم الوراثة الحديث منذ إعادة اكتشاف ورقة مندل البحثية من قبل دي فريس وكورنس وتشيرماك (١٩٠٠)، ومنذ ورقة دي فريس البحثية عن الطفرات (١٩٠١–١٩٠٣)؛ من ثم فميلاد النظريتَين العظيمتَين مُتزامن تقريبًا، وليس من العجيب أن كلتيهما كان عليها أن تصل لدرجة من النضج قبل أن ينبثق الرابط بينهما. وفيما يتعلق بنظرية الكم فقد استغرقَت أكثر من ربع قرن حتى تُوصِّل لنظرية الكم الخاصة بالرابطة الكيميائية في مبدئها العام، فيما بين عامي ١٩٢٦ و١٩٢٧ على يد دبليو هايتلر وإف لندن. تتضمَّن نظرية هايتلر ولندن أكثر المفاهيم براعة وتعقيدًا لآخر تطورات نظرية الكم (الذي يُطلق عليه «ميكانيكا الكم» أو «الميكانيكا الموجية»). إن عرض هذه النظرية دون استخدام لغة التفاضُل والتكامُل يكاد يكون من المستحيل، أو سيتطلب على الأقل كتابًا آخر صغيرًا مثل هذا. لكن لحُسن الحظ، بعد إنجاز كل الأبحاث ذات الصلة في هذا المجال ومساهمتها في توضيح أفكارنا، يَبدو من المُمكن أن نبرز بطريقة مباشرة أكثر الرابطَ بين «القفزات الكمية» والطفرات؛ كي نبرز أهم النقاط في هذا الشأن. هذا ما نحاول القيام به هنا.
(٣) نظرية الكم والحالات المنفصلة والقفزات الكمية
كان الكشف الأعظم لنظرية الكم هو اكتشاف سمات الانفصال في الطبيعة، في سياقٍ بدا فيه أي شيء بخلاف الاستمرارية غير معقول بحسب الرؤى الراسخة في ذلك الوقت.
أولى الحالات من ذلك النوع كانت خاصة بالطاقة؛ فالجسم على المستوى الكبير بوجه عام يُغيِّر طاقته على نحوٍ مُستمر. فالبندول، على سبيل المثال، الذي يُضبط ليتأرجَح يتباطأ تدريجيًّا بسبب مقاومة الهواء. الغريب أنه ثبت أن علينا أن نعترف بأن النظام على المستوى الذري يتصرَّف على نحوٍ مختلف. وبناءً على أسس لا يمكن أن نتناولها هنا، بات علينا أن نفترض أن النظام الصغير بطبيعته يُمكن أن يمتلك فقط كميات معينة منفصلة من الطاقة، تُسمى مستويات الطاقة المحددة خاصته. والانتقال من حالة لأخرى هو إلى حد كبير حدثٌ غامض، يُدعى غالبًا «القفزة الكمية».
لكن الطاقة ليست الخاصية المُميزة الوحيدة للنظام. فلنلجأ مرة أخرى إلى مثال البندول خاصَّتنا لكن فكِّر في واحد يستطيع أداء أنواع مختلفة من الحركات؛ كرة ثقيلة معلَّقة بخيط من السقف يمكن أن نجعلها تتأرجَح من الشمال للجنوب أو من الشرق إلى الغرب أو أي اتجاه آخر، أو في دائرة أو في قطع ناقص. وعن طريق نفخ الكرة برفق بمنفاخ، يمكن جعلها تنتقل على نحو مُستمر من حالة حركة إلى أخرى.
وبالنسبة للأنظمة ذات المستويات الصغيرة، فأغلب هذه الخصائص أو مثيلاتها — لا يُمكن أن ندخل في التفاصيل — يتغيَّر على نحوٍ غير مستمر؛ فهي «تتجزَّأ كميًّا» بالضبط كما هي الحال مع الطاقة.
إن التحول من أحد هذه التكوينات لآخر يُعد قفزة كمية. لو أن للحالة الثانية طاقة أكبر (مستوى أعلى)؛ فالنظام يجب أن يُمَد من الخارج بالفارق بين الطاقتين على الأقل لجعل الانتقال مُمكنًا. وعند الانتقال لمستوى أقل يمكن أن يتغير النظام تلقائيًّا، ببذل فائض الطاقة في صورة إشعاع.
(٤) الجزيئات
ضمن مجموعة الحالات المُنفصلة لأي مجموعة مختارة من الذرات، يجب بالضرورة ألا يكون هناك مستوًى أدنى، ولكن من المُمكن أن يَحدث هذا، مما يعني اقتراب الأنوية بشدة بعضها من بعض. تُشكِّل الذرات في تلك الحالة جزيئًا. النقطة التي سنركز عليها هنا هي أن الجزيء سوف يمتلك بالضرورة استقرارًا معينًا؛ فلا يُمكن للتكوين أن يتغير ما لم يتم على الأقل توفير فارق الطاقة، الضروري ﻟ «رفعه» إلى المستوى الأعلى التالي، من الخارج. وهكذا، فإن هذا الفارق في المستوى الذي هو كمية جيدة التحديد، يحدِّد كميًّا درجة استقرار الجزيء. سوف يلاحظ كيف أن هذه الحقيقة مرتبطة على نحو وثيق بأسس نظرية الكم؛ أي بانفصالية مخطَّط المستويات.
أرجو من القارئ أن يعتقد أن هذا النسق من الأفكار قد جرى التحقُّق منه تمامًا من خلال الحقائق الكيميائية، وقد ثبت نجاحه في تفسير الحقيقة الأساسية للتكافؤ الكيميائي، والكثير من التفاصيل عن تركيب الجزيئات، وطاقات الارتباط خاصتها، واستقرارها في درجات الحرارة المختلفة، وهكذا. أنا أتحدَّث عن نظرية هايتلر ولندن التي، كما قلتُ، لا يمكن أن نعرض لها بالتفصيل هنا.
(٥) استقرارها مُعتمِد على درجة الحرارة
يجب أن نكتفي بفحص النقطة ذات الأهمية الأساسية لمسألتنا البيولوجية؛ أعني استقرار الجزيء في درجات الحرارة المختلفة. فلنَنظر في نظام الذرات خاصتنا على أنه فعليًّا في أقل مستوًى من الطاقة. إن الفيزيائي سيقول عنه إنه جزيء في درجة حرارة الصفر المُطلَق. ولرفعه إلى الحالة أو المستوى التالي الأعلى، هناك احتياج إلى المد بطاقة محدَّدة. وأبسط طريقة لمحاولة القيام بعملية المد هذه هي «تسخين» الجزيء؛ إذ إنك بذلك تنقله إلى بيئة درجة حرارتها أعلى (حمام حراري)، مما يسمح للأنظمة الأخرى (الذرات والجزيئات) أن تؤثر فيه. ومع الوضع في الاعتبار عدم الانتظام الكامل للحركة الحرارية، فإنه لا يوجد حدٌّ حراري قاطع عنده سيحدث «الرفع» فورًا ويقينًا. بدلًا من ذلك، فعند أي درجة حرارة (غير الصفر المُطلَق) توجد فرصة معيَّنة، أصغر أو أكبر، لحدوث عملية الرفع، مع ازدياد الفرصة بالطبع مع ازدياد درجة حرارة الحمام الحراري. وأفضل طريقة للتعبير عن هذه الفرصة هي بالإشارة إلى متوسِّط الوقت الذي سيكون عليك انتظاره حتى تَحدُث عملية الرفع، أو ما يُطلق عليه «الوقت المتوقَّع».
(٦) فاصل رياضي
(٦-١) التعديل الأول
بطرح هذه الاعتبارات بوصفها نظرية لاستقرار الجزيء، افتُرض على نحو ضمني أن القفزة الكمية التي أطلقنا عليها عملية «الرفع» تؤدِّي، إن لم يكن لتفكُّك كامل، فعلى الأقل إلى تكوينٍ مُختلف بالضرورة للذرات نفسها — جزيء أيسومري، كما يُطلق عليه الكيميائي، وهو جزيء له الذرات نفسها لكن بترتيبٍ مُختلف (عند تطبيق هذا في علم الأحياء، فإنه سيُمثِّل «أليلًا» مختلفًا على «الموقع» نفسه، والقفزة الكمية ستمثل الطفرة).
حتى يكون هذا التأويل مُمكنًا، هناك نقطتان يجب تعديلهما في قصتنا، التي بسطتها عن قصد كي أجعلها جلية ومفهومة. بالطريقة التي سردتها بها، من المُمكن أن يتخيَّل أحدهم أن مجموعة الذرات خاصتنا في مستوى طاقتها الأدنى فقط ستكون ما ندعوه بالجزيء، وأن المستوى التالي الأعلى هو «شيء آخر». إلا أنه ليس كذلك. في الواقع، إن المستوى الأدنى يتبعه سلسلة مزدحمة من المستويات التي لا تتضمَّن أي تغيير ملحوظ في التكوين ككل، لكن فقط تتناظر مع تلك الاهتزازات الصغيرة التي تحدُث بين الذرات والتي ذكرناها في القسم السابق. إنها أيضًا «تتجزَّأ كمِّيًّا» لكن بخطوات صغيرة نسبيًّا من مستوًى للآخر؛ من ثم فتأثير جسيمات «الحمام الحراري» يمكن أن يكون كافيًا لإعدادها في درجة حرارة مُنخفضة إلى حدٍّ ما. ولو أن الجزيء تركيبٌ ممتدٌّ، فيمكن أن تتصوَّر هذه الاهتزازات موجاتٍ صوتيةً عالية التردد، تعبر الجزيء دون أن تسبب أي ضرر له.
لذلك، فأول تعديل ليس مهمًّا للغاية، علينا أن نتجاهَل «التركيب الذري الدقيق الاهتزازي» لمخطَّط المستويات. ويجب أن يُفهم مصطلح «المستوى الأعلى التالي» بمعنى المستوى التالي الذي يَتناظر مع تغييرٍ مُهمٍّ في التكوين.
(٦-٢) التعديل الثاني
التعديل الثاني شرحه أكثر صعوبة بكثير؛ لأنه معنيٌّ بسمات معيَّنة حيوية لكنها معقَّدة جدًّا لمخطط المستويات المختلفة. إن الانتقال الحر بين مستويين منهما يُمكن أن يُعاق بصرف النظر عن مقدار الطاقة المطلوب؛ في الحقيقة، من المُمكن أن يُعاق حتى عندما يكون من حالة أعلى إلى أخرى أدنى.
الحقيقة الجديرة بالملاحظة أن الجزيئَين مُستقران تمامًا؛ إذ كلاهما يتصرفان كما لو أنهما «الحالتان الدنييان». ولا يوجد انتقال تلقائي من أي حالة منهما للأخرى.
إن الانتقالات من دون عتبة بين الحالة المبدئية والنهائية ليست مُثيرة للاهتمام نهائيًّا، وهذا ليس فقط في تطبيقنا البيولوجي. فهي في واقع الأمر لا دور لها في الاستقرار الكيميائي للجزيء. لماذا؟ لأنها ليس لها أي تأثير باقٍ؛ إذ تبقى غير مُلاحظة. ذلك بأنها حال حدوثها، يتبعها في الغالب على الفور انتكاس إلى الحالة المبدئية؛ لأن لا شيء يمنع رجوعها هذا.