هل الحياة مبنية على قوانين الفيزياء؟
إذا لم يُناقِض رجلٌ نفسه قطُّ، فمن المؤكد أن السبب هو أنه يكاد لا يقول شيئًا على الإطلاق.
(١) توقَّع قوانين جديدة للكائن الحي
ما أرجو أن أجعله واضحًا في هذا الفصل الأخير هو باختصار أننا من خلال كل ما قد تعلمناه عن تركيب المادة الحية، يجب أن نكون مستعدِّين لأن نجده يعمل بأسلوب لا يمكن اختزاله في قوانين الفيزياء المعتادة. وليس هذا راجعًا إلى أن هناك أي «قوة جديدة» — أو أي شيء آخر — توجه سلوك الذرات المُنفرِدة داخل الكائن الحي، ولكن إلى أن البناء مختلف عن أي شيء اختبرناه في معامل الفيزياء حتى الآن. لنوضِّح الأمر، إليك المثال التالي: إن المهندس الذي يألف العمل مع المحركات الحرارية فقط بعد أن يطلع على تركيب المحرك الكهربي سوف يكون مستعدًّا لأن يجده يعمل وفق مبادئ لا يفهمها بعد. هنا سوف يجد النحاس الذي يألفه في الغلايات في صورة أسلاك طويلة وقد لُفَّت في ملفات؛ هنا الحديد الذي يألفه في الروافع والقضبان وأسطوانات البخار يملأ دواخل تلك الملفَّات النحاسية. سوف يكون مقتنعًا بأنهما النحاس والحديد نفسهما، وأنهما يتعرَّضان لقوانين الطبيعة نفسها، وهو محق في ذلك. الفارق في التركيب كافٍ كي يجعله يعتقد أنه يعمل بطريقة مختلفة تمامًا. وهو لن يشكَّ في أن شبحًا يقف وراء عمل المحرك الكهربي لأنه يدور بمجرد تحريك زر، بلا غلاية أو بخار.
(٢) استعراض الوضع البيولوجي
إن الأحداث المتكشِّفة في دورة حياة الكائن الحي تُظهر تمتُّعها بنظام وانتظام مثيرَين للإعجاب، ليس لهما نظير فيما يتعلَّق بالمادة الجامدة. إننا نجده محكومًا بمجموعة من الذرات الفائقة التنظيم، التي تمثِّل جزءًا صغيرًا جدًّا فقط من إجمالي ما في كل خلية. إضافة إلى ذلك، ومن المنظور الذي كوَّناه عن آلية التطفر، نستنتج أن أي خلل يحدث في عدد ضئيل من الذرات الموجودة ضمن مجموعة «الذرات الحاكمة» في الخلية الجرثومية يكفي لإحداث تغيير واضح المعالم في الخواصِّ الوراثية الواسعة النطاق للكائن الحي.
هذه الحقائق هي الأكثر إثارة فيما كشفه العلم في أيامنا هذه. ومن الممكن أن نكون ميالين لأن نجدها — رغم كل شيء — غير مقبولة بالكلية. فيبدو أن العطية المذهلة الممنوحة للكائن الحي والمتمثِّلة في قدرته على تركيز «تيار من النظام» على نفسه مما يُمكنه من تجنُّب التحلل والدخول في فوضى ذرية — أو بتعبير آخر، قدرته على «شرب النظام» من البيئة المناسبة — مُرتبطة بوجود «الجوامد غير المنتظمة»؛ أي الجزيئات الكروموسومية، التي بلا شك تمثِّل أعلى درجات التجمُّع الذري جودة التي نعرفها في التنظيم — فهي أعلى بكثير من تلك التي للبلورة المُنتظِمة العادية — بفضل الدور الفردي الذي تلعبه كل ذرة وكل مجموعة مرتبطة من الذرات هنا.
باختصار، نحن شاهدون على حدَث النظام القائم فيه لديه القدرة على الحفاظ على نفسه وإنتاج أحداث منظَّمة. وهذا يبدو معقولًا على نحوٍ كافٍ، على الرغم من أننا في إدراكنا لمعقوليته نستند بلا شك إلى خبرة خاصة بالتنظيم الاجتماعي، وأحداث أخرى تتضمَّن نشاط الكائنات الحية. وهكذا، قد يبدو أن هناك شيئًا يشبه الدائرة المفرغة متضمَّنًا في الأمر.
(٣) تلخيص الوضع الفيزيائي
أيًّا كان هذا الوضع، فالنقطة التي أودُّ أن أؤكد عليها أكثر من مرة هي أن الحالة الراهنة بالنسبة للفيزيائي ليست فقط غير مفهومة لكن أيضًا مثيرة للغاية؛ لأنها غير مسبوقة. فعلى عكس الاعتقاد السائد، فالمَسار المُنتظِم للأحداث المحكوم بقوانين الفيزياء ليس أبدًا نتاج تكوين واحد جيد التنظيم من الذرات؛ إذ لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا كان ذلك التكوين من الذرات يُعيد نفسه عددًا هائلًا من المرات، كما هي الحال في البلورة المنتظمة أو كما هي الحال في السائل أو الغاز المكون من عدد هائل من الجزيئات المتماثلة.
حتى عندما يتعامل الكيميائي مع جزيء شديد التعقيد في المختبَر، فإنه دائمًا يُواجَه بعدد هائل من الجزيئات المتشابهة التي تنطبق قوانينه عليها. من الممكن أن يُخبرك، على سبيل المثال، أن نصف هذه الجزيئات قد تفاعلت بعد دقيقة من بدء تفاعلٍ ما معيَّن، وأن ثلاثة أرباعها قد تفاعلت بعد مضي دقيقة أخرى. لكنه لن يستطيع أن يتنبأ ما إذا كان أي جزيء محدد — بفرض استطاعتك تتبع مساره — سيكون ضمن الجزيئات التي ستتفاعل أم تلك التي لن تتفاعل أبدًا. فهذا الأمر تحكمه الصدفة الخالصة.
هذا ليس بتخمين نظري خالص. وهو لا يعني أننا لا نستطيع أبدًا أن نرصد مصير مجموعة صغيرة منفردة من الذرات أو حتى ذرة واحدة، فنحن نستطيع ذلك أحيانًا. لكن كلما فعلنا وجدنا عدم انتظام كامل، يتعاون كي ينتج انتظامًا، فقط في المتوسط. تعاملنا مع مثال على ذلك في الفصل الأول. إن الحركة البراونية لجُسَيم صغير عالق في سائل تكون غير منتظمة تمامًا. لكن لو أن هناك عددًا كبيرًا من الجسيمات المتماثلة، فإنها من خلال حركتهما غير المنتظمة ينبثق عنها ظاهرة الانتشار المعتادة.
يُمكن ملاحظة انحلال ذرة مشعَّة مُنفردة (إذ تبعث مقذوفًا يُسبِّب وميضًا مرئيًّا على شاشة فلورية). لكن إذا ما أُعطيت ذرة مشعة، فإن عمرها المحتمل سيكون أقل تأكيدًا بكثير من ذلك الذي لعصفور دوري صغير بصحَّة جيدة. في حقيقة الأمر، لا شيء يمكن أن يُقال عن ذلك أكثر من هذا: ما دام عمرها ممتدًّا (وذلك من الممكن أن يكون لآلاف الأعوام)، ففرصة انفجارها خلال الثانية القادمة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تبقى هي نفسها. لكن هذا الغياب الواضح للتحديد الفردي ينتج عنه القانون الأُسي المُنضبِط لتحلل عدد ضخم من الذرات المشعَّة التي من النوع نفسه.
(٤) التباين الشاسع
رائع، هذا توصيف بديع، يُناسب شاعرًا أكثر منه عالمًا. على أيِّ حال، الأمر لا يحتاج إلى خيالٍ شعري، لكن فقط إلى تأمُّل علمي واضح ورزين؛ لنُدرك أننا هنا في مواجهة واضحة مع أحداث تتجلى على نحو منظَّم ومنضبط، وتوجهها في ذلك «آلية» مختلفة تمامًا عن «آلية الاحتمالات» الخاصة بالفيزياء. الأمر كله يَكمن ببساطة في ملاحظة أن المبدأ الموجِّه في كل خلية يتمثَّل في تجمُّع ذري مفرد يوجد فقط في نسخة واحدة (أو اثنتين أحيانًا)، وأنه من الممكن أن يُنتِج أحداثًا تُعدُّ نموذجًا مثاليًّا للتنظيم. وسواء كنا نرى قدرة مجموعة صغيرة لكن عالية التنظيم من الذرات على التصرُّف وَفق ذلك الأسلوب أمرًا مُدهِشًا أو معقولًا إلى حدٍّ كبير، فإن هذا الوضع غير مسبوق، وهو غير معروف في أي مكان آخَر بخلاف المادة الحية. فالفيزيائي والكيميائي الباحثان في شأن المواد غير الحية لم يَشهدا أبدًا ظواهر عليهما تفسيرها بهذه الطريقة. إن تلك الحالة لم تظهر؛ ومن ثم فنظريتنا لم تغطِّها؛ نظريتنا الإحصائية الجميلة، التي كنا معتزين جدًّا بها لأنها سمحت لنا بالكشف عن الخبايا، لنرى النظام الرائع للقوانين الفيزيائية المُنضبطة، المنبعث من الفوضى الذرية والجزيئية، ولأنها كشفت عن أن قانون الإنتروبيا الأهم والأعم والأشمل يمكن أن يُفهم دون افتراضٍ خاص؛ فهو ليس سوى الفوضى الجزيئية نفسها.
(٥) طريقتان لإنتاج النظام
النظام الذي نُصادفه في الحياة ينشأ من مصدر مختلف. يبدو أن هناك «آليتين» مختلفتَين، بواسطتهما يمكن إنتاج الأحداث المنظَّمة، وهما: «الآلية الإحصائية» التي تُنتِج «النظام من الفوضى»، وتلك الجديدة التي تنتج «النظام من النظام». المبدأ الثاني سيبدو للعقل غير المتحيِّز أكثر بساطة وأكثر معقولية بكثير. وهو بلا شك كذلك. لعلَّ ذلك هو السبب في اعتزاز الفيزيائيِّين الشديد بمصادفتهم للمبدأ الآخر، مبدأ «النظام من الفوضى»، المتَّبع فعليًّا في الطبيعة، الذي بمفرده يقدِّم فهمًا للخط الكبير للأحداث الطبيعية؛ لاستحالة انعكاسها في المقام الأول. لكننا لا نستطيع توقُّع أن تكون «قوانين الفيزياء» المشتقَّة منه كافية على نحو مباشر لتفسير سلوك المادة الحية، التي ملامحها الأبرز تنبني على نحوٍ واضح إلى حدٍّ كبير على مبدأ «النظام من النظام». لن تتوقع أن آليتين مختلفتين تمامًا ستؤديان إلى نوع القوانين نفسه؛ فلن تتوقع أن مفتاح قفل بابك سيفتح قفل باب جارك كذلك.
لذلك علينا ألا نيأس أمام صعوبة تفسير الحياة من خلال قوانين الفيزياء العادية؛ إذ ذلك هو بالضبط ما يمكن توقُّعه من المعرفة التي اكتسبناها عن تركيب المادة الحية. ويجب أن نكون على استعداد لإيجاد نوع جديد من القوانين الفيزيائية التي تسود فيها. أو هل علينا أن نَصطلِح على تسميتها بقوانين غير فيزيائية، أو لنقل فوق فيزيائية؟
(٦) المبدأ الجديد ليس غريبًا على الفيزياء
لا، أنا لا أظن ذلك. فالمبدأ الجديد هو مبدأ فيزيائي أصيل؛ ومجدَّدًا أقول إنه، في رأيي، ليس إلا مبدأ نظرية الكم. ولكي نوضِّح ذلك، علينا أن نفعل أي شيء، بما في ذلك تنقيح، أو ربما حتى تعديل، التأكيد الذي أشَرنا إليه سابقًا، الذي يقول إن كل القوانين الفيزيائية مبنية على الإحصاء.
هذا التأكيد، الذي يتكرَّر كثيرًا الجزمُ به، من المؤكَّد أن يثير التناقض؛ إذ إن هناك في واقع الأمر ظواهرَ ملامحها الأساسية مبنية على نحو واضح ومباشر على مبدأ «النظام من النظام» ويبدو أنها لا علاقة تربطها بالإحصاء أو الفوضى الجزيئية.
إن نظام المجموعة الشمسية وحركة الكواكب ظل كما هو ولم يختلَّ منذ زمن بعيد غير محدَّد. وكوكبة اليوم ترتبط على نحوٍ مباشر بالكوكبة التي كانت موجودة في أي لحظة معينة في زمن بناء الأهرامات؛ فيُمكن تتبُّعها حتى هذا الزمن والعكس صحيح. وقد تمَّ حساب حالات الكسوف التاريخية، وقد وُجد توافُق وثيق بين تلك الحسابات والسجلات التاريخية أو استُخدمت في بعض الأحيان لتصحيح التسلسل الزمني المقبول. وهذه الحسابات لا تتضمَّن أي إحصاء؛ فهي مبنية فقط على قانون نيوتن للتجاذب العام.
كما يبدو أن الحركة المُنتظمة للساعة الجيدة أو أي آلية مماثلة ليست لها أيُّ علاقة بالإحصاء. باختصار، يبدو أن كل الأحداث الميكانيكية الخالصة تتبَع على نحوٍ جَليٍّ ومباشر مبدأ «النظام من النظام». وعندما نقول «ميكانيكية»، فالمصطلح يجب أن يُؤخذ بمعناه الواسع. فأي نوع مفيد جدًّا من الساعات، كما تعرف، يقوم على نقل النبضات الكهربية على نحوٍ مُنتظم من مصدر الطاقة.
أتذكر ورقة بحثية صغيرة ومثيرة لماكس بلانك عن موضوع «القانون الديناميكي والقانون الإحصائي». إن التفريق بينهما هو تحديدًا ذلك الذي نجده هنا والمتمثِّل في «النظام من النظام» و«النظام من الفوضى». والغرض من هذه الورقة البحثية بيان كيف أن النوع الإحصائي المثير من القوانين، المتحكِّم في الأحداث الواسعة النطاق، مؤلف من القوانين «الديناميكية» التي من المفترض أنها تحكم الأحداث الصغيرة النطاق؛ أي التفاعل بين الذرات والجزيئات المنفردة. ويتضح النوع الأخير من القوانين من خلال الظواهر الميكانيكية الواسعة النطاق؛ كحركة الكواكب أو الساعة … إلخ.
هكذا يبدو أن المبدأ «الجديد» — مبدأ النظام من النظام — الذي أشرنا إليه في إجلال باعتباره المفتاح الحقيقي لفهم الحياة ليس جديدًا على الفيزياء إطلاقًا. وحتى رؤية بلانك أعطَت له الأولوية. ويبدو أننا قد وصلنا إلى الاستنتاج السخيف القائل إن مفتاح فهم لغز الحياة هو ذلك المبني على آلية خالصة، ما يُشبه «آلية الساعة» بحسب ورقة بلانك البحثية. إن هذا الاستنتاج ليس سخيفًا، وفي رأيي ليس بخاطئ تمامًا، لكن يجب أن يُقبَل مع كثير من التشكك.
(٧) حركة الساعة
دعونا نُحلِّل حركة الساعة الحقيقية على نحوٍ دقيق. إنها ليست ظاهرة ميكانيكية خالصة على الإطلاق؛ فالساعة الميكانيكية على نحو خالص لن تكون في حاجة إلى زنبرك أو ملء؛ فما إن تضعها في وضع الحركة، ستَعمل إلى الأبد. لكن الساعة الحقيقية التي دون زنبرك ستتوقَّف بعد دقات قليلة من البندول؛ لأن طاقتها الميكانيكية تتحوَّل إلى حرارة. وهذه عملية ذرية معقَّدة على نحوٍ لا نهائي. والصورة العامة التي يكونها الفيزيائي عنها تدفعه إلى الاعتراف بأن العملية العكسية ليست مستحيلة تمامًا: قد تبدأ الساعة التي بلا زنبرك في العمل على نحوٍ مفاجئ على حساب الطاقة الحرارية لتُروسها المسنَّنة والبيئة المحيطة. وسيكون عليه أن يقول إن الساعة تخضع لنوع من الحركة البراونية القوية على نحو استثنائي. لقد رأينا في الفصل الثاني كيف أن هذا النوع من الأمور يحدث طوال الوقت مع أداة ذات اتزان التوائي حساس للغاية (إلكترومتر أو جلفانومتر). في حالة الساعة، هذا أمر بالتأكيد غير محتمل تمامًا.
إن تحديد ما إذا كانت حركة الساعة يمكن نسبها إلى الأحداث المنضبطة التي من النوع الإحصائي أم تلك التي من النوع الميكانيكي (إذا أردنا استخدام تعبيرات بلانك) يعتمد على رؤيتنا. فنحن حين نصفها بأنها ظاهرة ديناميكية نركز انتباهنا على السير المنتظم الذي يمكن ضمانه من خلال زنبرك ضعيف نسبيًّا، والذي يتغلب على الاضطرابات الضئيلة بالحركة الحرارية بحيث يُمكننا أن نتجاهلها. لكن إذا ما تذكَّرنا أن الساعة دون الزنبرك ستُبطئ تدريجيًّا بالاحتكاك، فسوف نجد أن هذه العملية يُمكن أن تُفهم فقط باعتبارها ظاهرة إحصائية.
مهما بدَت التأثيرات الحرارية والاحتكاكية في الساعة غير ذات قيمة من وجهة النظر العملية، فإنه لا يُمكن أن يداخلنا أي شك في أن الرؤية الثانية التي لا تتجاهَل تلك التأثيرات هي أكثر جوهرية، حتى وإن كنا بصدد الحركة المُنتظمة لساعة تعتمد في عملها على زنبرك؛ إذ يجب ألا يُعتقد أن الآلية الدافعة تُنهي فعليًّا الطبيعة الإحصائية للعملية. فالصورة الفيزيائية الحقيقية تتضمَّن احتمالية أن حتى الساعة السائرة بانتظام يجب أن تَعكس حركتها على نحو مفاجئ وبعملها بالعكس، تعيد ملء الزنبرك خاصتها، على حساب حرارة البيئة المحيطة. إن هذا الحدث «لا يزال احتمالًا أقل قليلًا» من «الخضوع لحركة براونية» لساعة بلا آلية دافعة.
(٨) إن آلية الساعة في نهاية الأمر إحصائية
دعونا الآن نستعرض الموقف. إن الحالة «البسيطة» التي حلَّلناها تُعد ممثلة لحالات أخرى كثيرة في الحقيقة لكل تلك التي يبدو أنها تتجنَّب المبدأ الشامل للإحصاء الجزيئي. لا تُعد آليات الساعات المصنوعة من مادة فيزيائية فعلية (على نقيض الخيال) «آليات ساعات» حقيقية. صحيح أن عنصر الصدفة قد يقلُّ على نحو أو آخر، وأن احتمالية سير الساعة فجأة على نحو خاطئ تمامًا قد تكون متناهية الصغر، لكنه يبقى دائمًا في الخلفية. وحتى في حركة الأجسام السماوية؛ فالتأثيرات الاحتكاكية والحرارية التي لا يمكن عكسها غير غائبة. وهكذا، فدوران الأرض يقلُّ ببطء بالاحتكاك المدِّي، واتساقًا مع ذلك، يبتعد تدريجيًّا القمر عن الأرض، وهو الأمر الذي ما كان ليحدث لو كانت الأرض كرةً دوَّارة جامدة على نحو كامل.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة التي ترى أن «آلية الساعة المادية» تظهر فيه على نحوٍ واضح ملامح بارزة جدًّا لمبدأ «النظام من النظام»؛ وهي من النوع الذي أثار اندهاش الفيزيائي عندما صادفه في الكائن الحي. ويبدو من المُحتمَل أن هناك شيئًا مشتركًا في النهاية بين الحالتين. ويبقى أن يُحدَّد ما هو ذلك الشيء، وما الاختلاف البارز الذي يجعل حالة الكائن الحي في نهاية الأمر غير مألوفة وغير مسبوقة.
(٩) نظرية نرنست
متى يُبدي نظام فيزيائي — أي نوع من تجمُّع الذرات — «قانونًا ديناميكيًّا» (بمفهوم بلانك) أو «ملامح آلية الساعة»؟ تملك نظرية الكم إجابة مختصرة جدًّا لهذا السؤال، وهي عند درجة حرارة الصِّفر المُطلَق؛ إذ إنه بالاقتراب من درجة الصفر المطلق، تتوقف الفوضى الجزيئية عن أن يكون لها أي أثر على الأحداث الفيزيائية. إن هذه الحقيقة، بالمناسبة، لم تُكتشَف من خلال نظرية، وإنما بفحص التفاعُلات الكيميائية بعناية عبر نطاق عريض لدرجات الحرارة واستنباط النتائج التي ستكون عند درجة الصفر والتي لا يمكن الوصول إليها فعليًّا. هذه هي «نظرية الحرارة» الشهيرة لفالتر نرنست التي تُمنح أحيانًا وعلى نحوٍ لا تزيُّد فيه الاسم الفخري «القانون الثالث للديناميكا الحرارية» (القانون الأول هو مبدأ الطاقة والثاني هو مبدأ الإنتروبيا).
تُوفِّر نظرية الكم الأساس المنطقي لقانون نرنست التجريبي، وتُمَكِّنا من حساب إلى أي حدٍّ على النظام أن يقترب من الصفر المطلق كي يُظهر سلوكًا «ديناميكيًّا» على نحو أو آخر. أيُّ درجة حرارة في أيِّ حالة محدَّدة تعادل بالفعل عمليًّا الصفر؟
الآن عليك ألا تعتقد أنها يجب أن تكون دائمًا درجة حرارة منخفضة جدًّا. في حقيقة الأمر، إن اكتشاف نرنست جاء من حقيقة أن الإنتروبيا تلعَب دورًا غير ذي أهمية على نحو مُذهِل في كثير من التفاعلات الكيميائية حتى عند درجة حرارة الغرفة. (دعوني أُذكِّركم أن الإنتروبيا هي مقياس مباشر للفوضى الجزيئية؛ أي اللوغاريتم خاصتها.)
(١٠) الساعة البندولية هي تقريبًا في درجة الصفر المطلق
ماذا عن الساعة البندولية؟ بالنسبة لتلك الساعة، تكون درجة حرارة الغرفة مُساوية عمليًّا للصِّفر. وهذا هو سبب أنها تعمل على نحوٍ «ديناميكي». فهي سوف تستمر في العمل إذا ما برَّدتَها (بشرط أن تكون قد أزلتَ كل آثار الزيت!) لكنها لن تستمر في العمل إذا ما سخَّنتها فوق درجة حرارة الغرفة؛ إذ إنها في النهاية سوف تَنصهر.
(١١) العلاقة بين آلية الساعة والكائن الحي
سيبدو ذلك تافهًا، لكنه في اعتقادي سيُوضِّح النقطة الأساسية التي نريد إيضاحها. إن آلية الساعة تَقدر على العمل على نحو «ديناميكي» لأنها مصنوعة من جوامد تحفظ شكلها بواسطة قوى لندن وهايتلر، القوية بالقدر الكافي بحيث تتجنَّب الميل الفوضوي للحركة الحرارية عند درجة الحرارة العادية.
أعتقد أن هناك الآن حاجة لمزيد من الكلمات القليلة لكشف نقطة التشابه بين آلية الساعة والكائن الحي. إنها تتمثَّل ببساطة وعلى نحو منفردٍ في أن الأخير يَعتمد على جامد أيضًا؛ البلورة غير المنتظمة التي تُشكِّل المادة الوراثية، والبعيدة على نحو كبير عن فوضى الحركة الحرارية. لكن أرجوكم لا تتَّهمونني بأنني أصف الألياف الكروموسومية بأنها مجرد «تروس الماكينة العضوية»، على الأقل قبل الرجوع إلى نظريات الفيزياء العميقة التي يَنبني عليها التشبيه.
إذ، فعليًّا، ما زال الأمر في حاجة إلى فصاحةٍ أقل لعرض الفارق الجوهري بين الاثنين، ولتبرير نعت الحالة البيولوجية بغير المألوفة وغير المسبوقة.
إن أكثر الملامح بروزًا في الحالة البيولوجية هي أولًا: التوزيع العجيب للتروس في الكائن الحي المتعدِّد الخلايا، الذي قد أشرتُ له سابقًا في هذا الفصل في وصف بلاغي بعض الشيء. وثانيًا: حقيقة أن الترس المنفرد ليس من صنع البشر؛ أي غير مصقول ورديء؛ فهو أروع تحفة فنية أُنجزت في ضوء ميكانيكا الكم الخاصة بالرب.