عقيدة الفيلسوف
وإذا سئلنا رأينا عن عقيدة «ابن سينا» لم نشك في أنه كان من المؤمنين بالله وبالنبوءات لا مراء.
لأن مذهبه في العالم وموجده لا يشتمل على جانب واحد يناقض العقيدة الدينية في أصولها، بل هو مما يوافق العقيدة الدينية ويدعو إليها، ولا نعلم أن أحدًا قال في ضرورة النبوءات ما قاله ابن سينا حيث جعلها «وظيفة حيوية» في بنية المجتمع الإنساني، وقرر أن الحاجة إلى النبي «أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة لها في البقاء، بل أكثر ما فيها أنها تنفع في البقاء. ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما كان سلف منا ذكره. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها … فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنسانًا، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس حتى يستشعر الناس فيه أمرًا لا يوجد لهم فيتميز عنهم؛ فتكون له المعجزات التي أخبرنا بها. فهذا الإنسان إذا وجد وجب أن يسن للناس في أمورهم سننًا بأمر الله تعالى وإذنه ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه.»
ومن واجب النبي في رأي ابن سينا أن يخاطب الناس على قدر عقولهم وألا يشغلهم بما يختلط عليهم «ويجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شبه ولا شريك. وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته، وتسكن إليه نفوسهم. ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالًا مما يفهمونه ويتصورونه، وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمرًا مجملًا، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته، وأن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم» إلى آخر ما أوجزه في كتاب النجاة، ومنه يتبين أنه لا ينقض النبوءات بما يعتقده عامة الناس، بل يرى ذلك مصلحة للأكثرين منهم وواجبًا على أصحاب النبوءات لإقناعهم وتهذيب طبائعهم. وقد كان ابن سينا يصلي ويدعو الله، ويستلهمه بالصلاة أن يهديه إلى معضلات الفلسفة كلما أشكل عليه أمر مغلق أو قضية مستعصية، فهو لا يقطع الصلة بين الله والإنسان ولا بين النفس والجسد، ولا يمنع تأثير النفس في المادة، فلا يستبعد كما قال في ختام الإشارات «إتيان العارف بما يخرق العادة في الأمور السفلية، وذلك لأن الأجرام السفلية قابلة لهذه الصفات، والنفس الناطقة ليست بجسم ولا حالة في الجسم، فإذا لم يبعد وقوعها بحيث تقدر على التأثير في هذا البدن لا يبعد وقوعها بحيث تقوى على التصرف في مادة هذا العالم العنصري لا سيما على قولنا إن النفوس الناطقة مختلفة بالماهية، فلا يبعد أن تكون الماهية المخصوصة التي لنفسه تقتضي تلك القدرة … وصاحب النفس القوية إن كان خيرًا رشيدًا فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء، وقد يصير ذلك الذكاء والصفاء سببًا لازدياد تلك القوة حتى يبلغ الأمر الأقصى، وإن كان شريرًا واستعمل تلك القوة في الشر فهو الساحر الخبيث …»
وقد حذر أتباعه في ختام الإشارات أن يعجلوا إلى التكذيب فقال: «قد يبلغك عن العارفين أخبار تكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب، وذلك مثل ما يقال إن عارفًا استسقى للناس فسقوا واستشفى لهم فشفوا ودعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف الوباء والموتان والسيل والطوفان أو خضع لبعضهم سبع، ولم ينفر عنه طير، ومثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح. فتوقف ولا تعجل، فإن لأمثال هذه أسبابًا في أسرار الطبيعة …»
ويخطر لبعض المرتابين أنه كان يكتب ذلك ويقول من باب المداراة والتقية خوفًا على حياته من ثورة العامة ومعارضة الفقهاء المتشددين، وهو خاطر واهم لا موجب له على الإطلاق، وإنما يصح أن يخطر على البال إذا كانت هذه الآراء مخالفة لمقتضى مذهبه الفلسفي أو مخالفة لقوانين الطبيعة في تقديره، ولكنها لا تخالفها ولا تناقضها في كثير ولا قليل.
فابن سينا كان يعتقد أن التصرف في الأجرام الفلكية بالتغيير عن مجاريها مستحيل، ولكنه كان يعتقد أن عقولها تؤثر فيما دونها من العقول إلى العقل الفعال الذي يسيطر على العالم الأرضي وما تحت القمر من الموجودات.
واعتقاده في العالم الأرضي أنه عالم الفساد وعالم الإمكان أو أنه هو العالم الذي يجوز فيه التغيير والانحراف، وأن المرجع في ذلك إلى العقل الذي يسبغ الصور على الهيولى ويعطيها بذلك الوجود فتخرج من القوة إلى الفعل، وتعلو صعدًا أو تهبط سفلًا على حسب ما يعتريها من غلبة العقل أو غلبة المادة والهيولى.
وقد أسلفنا أن العقل المستفاد في الإنسان على صلة تامة بالعقل الفعال، فهو يملك من القدرة على إسباغ الصور وخلعها أو تحويل الموجودات من صورة إلى صورة مثل ما يملكه العقل الفعال، ويرى ابن سينا أن النفوس تؤثر في أجسادها وفي غيرها من الأجساد بقوة واحدة؛ لأنه لا مانع من تأثيرها في الأجساد الأخرى إذا كانت تؤثر في أجسادها وهي غير متحيزة فيها ولا تنقسم بانقسامها.
فالذي يفهم المؤثرات الأرضية هذا الفهم لا يمتنع عليه عقلًا أن يقبل تغيير العادات على النحو الذي ينسب إلى أصحاب الكرامات.
وقد نسبت إليه أشعار في مناجاة الكواكب واستلهام عطارد، ولا نستبعدها لأنه استلهام للعقول وليس هو بمستغرب من الفيلسوف.
كقوله:
إلا أن القوم قد غلوا في تعلقه برصد الكواكب حتى نسبوا إليه قصيدة رائية تنبئ بغارة التتر وغلبة الملك المظفر عليهم في أرض كنعان، مطلعها:
ومنها:
إلى آخر القصيدة التي أثبتها ابن الأثير في تاريخه وقال: «وكان الاعتماد بما في هذه القصيدة من كتاب الجفر عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، والله أعلم أن يكون الشيخ الرئيس قال هذه القصيدة أو غيره.»
ولو جزم ابن الأثير بأنها منحولة لابن سينا لما كان عليه من تثريب؛ لأن ابن سينا مات قبل وقوع هذه الحوادث بأكثر من مائتي سنة، ولم يثبتها أحد في كتابه خلال هذه السنين.
ولا نعرف كلامًا صحت نسبته إلى الفيلسوف حاول فيه كشف الغيب من طريق التنجيم، وإنما يعرض لقوة الحروف الحسابية من قبيل الولع بالألغاز الرياضية التي يولع بها كبار الرياضيين شحذًا للخاطر وتحريضًا للملكة. فقابل بين الأحرف الأبجدية وبين الموجودات العلوية والسفلية، وجعل لكل حرف دلالة ثم وفق بين هذه الدلالات وبين الحروف التي وردت في أوائل السور القرآنية، فاستقامت له فكرة مقبولة واعتمد من أجلها ذلك التوفيق العجيب ولم يعتمده للتنجيم أو لتسخير القوى الطبيعية للحروف كما يفعل السحرة والمشعوذون، وقد ألف رسالة خاصة عن الحروف باعتبارها أصواتًا طبيعية تختلف باختلاف حركات العضلات في الصدر والحلق والفم وتأثير تلك الحركات في الهواء.
ومن أمثلة ذلك أن الألف يساوي الواحد، فهو رمز للباري جل وعلا، وأن الباء رمز للعقل، والجيم رمز للنفس، والدال رمز للطبيعة، وهكذا إلى نهاية سلسلة الموجودات وهي المادة العنصرية. واستخلص من ذلك أن الكاف والعين والهاء والصاد والقاف وغيرها من الحروف في أوائل السور هي حاصل ضرب الحروف الدالة على تلك الموجودات بعضها في بعض على الحساب الذي تحراه، وإنها أقسام من قبيل الأقسام التي بدئت بها بعض السور مذكورة بالأسماء.
ونحن ننفي التنجيم عن ابن سينا ولا ننفي عنه الإيمان بإمكان علم الغيب والإخبار بالمغيبات، فإن المسألة عنده قضية فلسفية وليست بمسألة تصديق وتسليم؛ لأنه يقول بأن علم الله بالأشياء في الأزل هو سبب وجودها في الزمان، ويقول بصدور العقول العلوية من الله، وأن عقل الإنسان إذا ترقى في مراتب الكمال والصفاء بلغ مرتبة العقل المستفاد وهو على اتصال دائم بالعقل الفعال، فلا جرم بعلم الأمور قبل وقوعها ويكون له سلطان على إيجادها وإخراجها من القوة إلى الفعل، ولا يكون اعتقاد الفيلسوف هذا الرأي غريبًا كأنه من قبيل التصديق الذي لا يليق بالمفكرين، فإنما هو قضية منطقية تنتهي إلى هذه النتيجة من طريق الفلسفة لا من طريق التصديق.
وقد يتصل الإنسان بالعقل الفعال من طريقين في رأي ابن سينا لا من طريق واحد.
يتصل به من طريق التأمل الصادق والفكر الصحيح، ويتصل به من طريق النسك والرياضة الروحية.
والطريق الأولى طريق الفلاسفة والحكماء، والطريق الثانية طريق النساك والصالحين.
ولابن سينا سبحات يفهم منها أنه راض نفسه على التصوف في بعض أيامه، وأنه حاول الكشف عن الحقائق متوسلًا بالصلاة والزكاة والكف عن الشهوات، وكانت له علاقة بأكبر المتصوفة في زمانه «أبي سعيد بن أبي الخير»، وهو رجل يتعالى على خلافات الشعائر الدينية ويشطح ذلك الشطح البعيد في التسوية بين ضروب العبادات، وكان أبو سعيد يسأله ويستفسره في معضلات الفلسفة ويطلعه على ذات نفسه كأنه من الواصلين الذين لا تحجب عنهم هذه الأسرار.
إلا أن الرجل لم يخلق لعزلة التصوف، وطمأنينة الخلوات، ولكنه خلق لزحام الدنيا ومجاذبة الحوادث ومكافحة الرجال، وغلب فيه سلطان العقل على سلطان الروح، فتراه حتى في وصيته التي يكتبها إلى إمام المتصوفين يذكر السفر «بالعقل» إلى الملكوت ويتخذه مرقاة لطالب الوصول إلى اللاهوت، فلا عجب تنقطع المودة بينه وبين أبي سعيد ويعود أبو سعيد فيقول فيه:
وحق لابن سينا أن يؤثر طريقه على طريق أبي سعيد، لأن هذين البيتين لا ينمان على خلق يرجح به المتصوف على الفيلسوف.
•••
ومن الواجب أن نختم الكلام عن مذهب ابن سينا وعقيدته بكلمة موجزة عن قدره أو عن أثره في الثقافة الإنسانية، سواء في عالم الفلسفة أو عالم المنطق والعلوم الطبيعية.
فالحاسدون لسمعته يقولون كما قال ابن سبعين غير متحرج ولا متحفظ: «إنه مسفسط كثير الطنطنة قليل الفائدة، وما له من التآليف لا يصلح لشيء.»
والعارفون بفضله يعتمدون عليه ولو كانوا ممن يدينون بغير دينه. فإن إثباته للنفس الفردية وخلودها كان من الدعائم التي استند إليها أكبر علماء اللاهوت كالقديسين توما الأكويني وألبرت الكبير، وكان الإقبال عليه بقدر الإعراض عن ابن رشد في موضوع «النفسيات» على التعميم.
وقد كانت ملاحظاته الطبيعية — من قبيل ملاحظاته على قوس قزح وعلاقته بأحوال السحاب — محل إعجاب من باكون إمام المدرسة التجريبية. وكانت طبيعياته من أسباب الفتوح العلمية الحديثة؛ لأنها ظلت في جامعات أوروبة موضعًا للدرس والمراجعة مع بحوثه الطبية عدة قرون.
وأقل ما يقال في الرجل إنه لم يترك ثقافة بني الإنسان كما وجدها حين نشأ في هذه الدنيا. فكان له توجيه العقول شأن لو زال لزال معه شيء غير قليل من تراث المعرفة والتفكير.
مسائل أخرى
تناول ابن سينا بالمنطق والفلسفة كثيرًا من المسائل الذهنية والروحية، ويمكن أن يقال إن المنطق كان في عرف ابن سينا آلة سلبية تعصم من الزلل وتساعد على اجتناب الخطأ، وإنما تدرك الحقائق بهداية الحكمة ونور البصيرة، فهي مصباح والمنطق ميزان.
وفي المنطق، والفلسفة الإلهية، مسائل لها شأن خاص في مذهب ابن سينا، كمسألة الكليات ومسألة المعرفة؛ لأنهما تقترنان باسمه في كتب هذه المباحث مع سبق الكلام فيها من قبله، لما ألقى عليهما من لمحاته الشخصية التي لا تلتبس بملامح غيره.
فالكليات كما قدمنا هي موجودات مفارقة — أو مجردة — سابقة لوجود الجزئيات في مذهب أفلاطون.
وهي عند أرسطو لا وجود لها في خارج الذهن لأنها منتزعة من تصور الجزئيات.
أما ابن سينا فرأيه في هذه المسألة وسط بين رأي الحكيمين الكبيرين؛ لأنه يرى أن الكليات موجودة قبل الجزئيات، وموجودة فيها، وموجودة بعدها. فوجودها قبل الجزئيات في علم الله أو في العقل الإلهي الذي لا يغرب عنه مثقال ذرة مما في السماء والأرض، ووجودها في الجزئيات لأن «الشجرية» موجودة في جميع الأشجار والكوكبية موجودة في جميع الكواكب والإنسانية موجودة في جميع الناس. أما وجودها بعد الجزئيات ففي عقولنا نحن الذين نشاهدها ونعرفها من معرفة المفردات التي تدخل تحت عنوان واحد، أو من معرفة الأخبار والأنواع والفضول والآحاد كما يقول المناطقة.
ويترتب على هذا الرأي في الكليات والجزئيات رأي ابن سينا في المعرفة وأسبابها.
فعند أفلاطون أن المعرفة «تذكر» لأن النفس قد شهدت هذه الحقائق الخالدة قبل حلولها في الجسد، فهي تذكرها كلما أفاقت من غاشية المادة واتصلت بعالم العقل والروح.
وعند أرسطو أن المعرفة مشاهدة واستقراء وتفكير مبني على المشاهدة والقياس.
ورأي ابن سينا وسط بين الرأيين في هذه المسألة كما هو وسط بينهما في مسألة الكليات، فالمعرفة عنده قسمان: معرفة فكر ومعرفة حدس. فمعرفة الفكر من المشاهدة والقياس، ومعرفة الحدس من فيض العقل الفعال في العقل الإنساني على سبيل الوحي والإلهام.
الطبيب
كان الشيخ الرئيس يحب أن يتحدث إلى تلاميذه عن أيام تلمذته وتحصيله، فكان يقول لهم عن تحصيله لعلم الطب: «ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون علي علم الطب، وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة …»
ويؤخذ من هذا أن الفلسفة والرياضيات كانت عند الشيخ الرئيس بالمنزلة الأولى التي تتقدم على الطب والعلوم الطبيعية، وهو ترتيب موافق لرأيه في تقديم الإلهيات والمعارف المجردة على المعارف النفعية أو الملتبسة بالأجسام. إلا أن المسألة على ما يظهر مسألة استعداد لا مسألة رأي في ترتيب العلوم، فهو يفضل الفلسفة والرياضيات لأنه يشعر في دراستها بكل قواه ويستغرق بها جهد ملكاته، فيلذ له مراسها ويستمتع منها برياضة ذهنية لا يستمتع بها من غيرها، ويشتغل بالطب فلا يستغرق جهده كله فيه؛ لأنه يفرغ له جانب الملاحظة وجانب الذاكرة من تفكيره، ويستسهله من أجل ذلك وليس هو بالسهل على سواه.
نعم لم يكن هذا العلم الواسع بالسهل على سواه في زمانه، وحري به ألا يكون سهلًا في الزمن الذي كان الطبيب فيه طبيبًا لجميع الأمراض مطالبًا بالنظر والعمل في وقت واحد، ومع هذا بذل أناس غاية جهدهم وقصارى سعيهم في تحصيل ذلك العلم ولم يبلغوا فيه شأو ابن سينا ولا اقتربوا من شأوه؛ لأنه كان طبيب العصر غير مدافع في الشرق كله، ثم انتقلت تواليفه إلى الغرب فأصبح طبيب العالم بأسره زهاء أربعة قرون، ولم يشتهر أحد بهذه الصناعة مثل تلك الشهرة العالمية بغير استثناء أحد من أيام بقراط وجالينوس.
عالج أمير بخارى وهو في السابعة عشرة من عمره، ثم ترجم كتابه «القانون» في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد إلى اللغة اللاتينية فأصبح مرجعًا للدراسات الطبية في جامعات أوروبة من أقصاها إلى أقصاها. فكان يدرس في جامعتي مونبلييه ولوفان إلى منتصف القرن السابع عشر، وكان هذا الكتاب وكتاب المنصوري للرازي عمدة الأساتذة في جامعة فينا وجامعة فرنكفورت طوال القرن السادس عشر، وترجم إلى العبرية فتداوله الإسرائيليون المشتغلون بالطب بين أرجاء العالم بأسره، وتكررت طبعاته حتى قاربت أربعين طبعة ما بين ظهور فن الطباعة وبداية القرن السادس عشر، وتعدد طبع الكراسات المقتبسة منه غير طبعاته الكاملة فلم تدخل في حساب، وكانت النسخة اللاتينية التي ترجمها جيرارد الكريموني في سنة ١١٨٧ رديئة الترجمة، فأعيد النظر فيها وتجشم العلماء كل مشقة لمراجعتها وتنقيحها؛ لأنهم يرون الكتاب جديرًا بالصبر على المشقات الجسام في سبيله، وينظرون إليه كما ينظرون إلى وحي من السماء.
وإنما تبوأ كتاب ابن سينا هذه المكانة الرفيعة، بين المراجع العالمية، بحق لا نزاع فيه؛ لأنه كان أوفى مرجع من مراجع الطب القديم، وظل كذلك إلى عهد الموسوعات العصرية قبيل القرن التاسع عشر بقليل، واجتمعت له مزايا الإحاطة والتحري والاستقصاء والتنسيق، فاشتمل على تراث أمم الحضارة في أصول الطب وفروعه من شرح الأعراض إلى وصف العلاج إلى سرد أسماء العقاقير والأدوية، ومواطن الجراحات وأدوات الجراحة، مع قدرة على الترتيب الموسوعي قل نظيره في زمانه واقتدى بها المقتدون إلى مطالع عهد العلم الحديث.
وقد كان طب القرون الوسطى مشوبًا بالكهانة من ناحية، وبالشعوذة والسحر من ناحية أخرى، وكانت الأبخرة والتعاويذ مقرونة بالأدوية والعقاقير في علاج جميع الأمراض. ولم يكن من العجيب أن يستدرج ابن سينا إلى هذه الأوهام، بحكم مذهبه في النفوس والأرواح واتصالها قبل الموت وبعد الموت بأجسام الأحياء، فلا عجب على هذا المذهب أن تكون عللًا للأمراض، وأن يلتمس لها العلاج عند السحرة والأولياء، ولكنه استطاع بقدرة عقله أن يفصل بين فلسفته وطبه فصلًا علميًّا دقيقًا، في موضوع الطب والعلاج، سواء منه ما تعلق بالأجسام أو ما تعلق بالنفوس والعقول. فلم ينكر تأثير الأرواح العلوية أو السفلية في الجسم الحي. ولكنه قرر أن الطبيب لا يعرف الأمراض إلا من حيث هي عوارض جسدية، وحالة من أحوال المزاج، فلما شرح أعراض «المالنخوليا» قال: إن بعض الأطباء ينسبونها إلى الجن. ثم قال: «… ونحن لا نبالي من حيث نتعلم الطب أن ذلك يقع عن الجن أو لا يقع بعد أن نقول: إنه إن كان يقع من الجن فيقع بأن يحيل المزاج إلى السوداء، فيكون سببه القريب السوداء، ثم ليكن سبب تلك السوداء جنًّا أو غير جن …»
بل هو يسلك «العشق» في عداد الأمراض بما له من الأعراض الجسدية، ثم يصف الحيلة في علاجه — وقد روى أنه جربها وأفاد بها — فيقول: «والحيلة في ذلك أن يذكر أسماء كثيرة تعاد مرارًا، وتكون اليد على نبضه، فإذا اختلف بذلك اختلافًا عظيمًا، وصار شبه المنقطع ثم عاود وجربت ذلك مرارًا علمت أنه اسم المعشوق، ثم يذكر كذلك السكك، والمساكن، والحرف، والصناعات، والنسب، والبلدان. ويضيف كلًّا منها إلى اسم المعشوق ويحفظ النبض حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مرارًا جمعت من ذلك خواص معشوقه من الاسم والحيلة والحرفة وعرفته، فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان في الوقوف عليه منفعة.»
ثم يصف العلاج، فإذا هو يذكر فيه التغذية الصالحة، والمنومات التي لا ضرر فيها مع العوامل النفسية على اختلافها.
وقد ذكر أحمد بن عمر بن عليٍّ النظامي، في مقالاته الأربع طريقة نفسية حسنة اتبعها ابن سينا في علاج فتى من آل بويه خولط في عقله، وتوهم أنه بقرة سائمة، فصار يمشي على أربع ويخور خوار الأبقار ويصيح بمن حوله: اقتلوني، اقتلوني، واطبخوا أكلة لذيذة من لحمي! فأوصى ابن سينا تلميذًا له أن يقف على مسمع من الفتى المريض فينادي: ها هو ذا الجزار مقبل إليك، ثم دخل ابن سينا، وفي يده مدية كبيرة، وهو يقول: أين هذه البقرة لأذبحها؟ ثم أمر بالفتى فألقي على الأرض وأوثق بالحبال ووضعت المدية على عنقه، ثم نهض الطبيب، وهو يقول: كلا، إنها بقرة عجفاء، لا تساوي مؤونة الذبح حتى تعلف وتسمن … وكان هذا هو العلاج المطلوب؛ لأن الفتى المخبول كان قد صدف عن الطعام وأهمل نفسه، فزاده نقص التغذية هزالًا على هزال وخبالًا على خبال. فلما أكل ما ينفعه ويغذيه عاد إليه العقل مع الصحة والاعتدال.
•••
ومن هذه الأمثلة: نعرف بعض الشيء عن منهج ابن سينا في طبه وعلاجه. فلا نستعظم تلك المكانة العالمية على طبيب يباشر الطب على أنه علم طبيعي، بعيد من الأوهام والخرافات، ويستعين في علاجه بذلك النظر الصائب وتلك الفطنة الوحية ويحيط بعوارض الأعضاء، ولا ينسى مداخل النفس في تصحيح الأجسام.
ما على الإنسان إلا أن يقرأ جالينوس، ثم ينتقل منه إلى ابن سينا ليرى الفارق بينهما. فالأول غامض، والثاني واضح كل الوضوح، والتنسيق والمنهج المنتظم سائدان في كتابة ابن سينا ونحن نبحث عنهما عبثًا في كتابة جالينوس.
ثم تناول الأستاذ جملة من التصحيحات التي أدخلها ابن سينا على طب الأقدمين: في عوارض الجنون، والفالج، وأمراض الكبد، والصدر، والجراحات، وعلاقة بعض الأمراض بالخمر، فإذا هي خطوات أجيال خطاها رجل واحد قليل النظير … فلا جرم يقول الأستاذ كمستون: «لعله لم يظهر قبله ولا بعده نظير لهذا النضج الباكر، وهذه السهولة الممتنعة، وهذه الفطنة الواسعة، مقرونة بمثل هذه المثابرة في مثل هذا الأفق الفسيح.»
الأديب
… كان الشيخ جالسًا يومًا من الأيام بين يدي الأمير علاء الدولة، وأبو منصور الجبائي حاضر، فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت أبو منصور إلى الشيخ، يقول: إنك فيلسوف وحكيم، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يرضينا بكلامك فيها. فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستهدى كتاب تهذيب اللغة من خراسان: من تصنيف أبي منصور الأزهري، فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلما يتفق مثلها، وأنشأ ثلاث قصائد ضمنها ألفاظًا غريبة من اللغة، وكتب ثلاثة كتب: أحدها على طريقة ابن العميد، والآخر على طريقة الصابي، والآخر على طريقة الصاحب، وأمر بتجليدها وإخلاق جلدها. ثم أوعز إلى الأمير فعرض تلك المجلدة على أبي منصور الجبائي، وذكر أنا ظفرنا بهذه المجلدة في الصحراء وقت الصيد، فيجب أن تتفقدها وتقول لنا ما فيها، فنظر فيها أبو منصور وأشكل عليه كثير مما فيها، فقال له الشيخ: إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتب اللغة. وذكر له كثيرًا من الكتب المعروفة في اللغة كان الشيخ حفظ تلك الألفاظ منها. وكان أبو منصور مجزفًا فيما يورده من اللغة غير ثقة فيها، ففطن أبو منصور: أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ، وأن الذي حمله عليه ما جبهه به في ذلك اليوم، فتنصل واعتذر إليه، ثم صنف الشيخ كتابًا في اللغة سماه: (لسان العرب)، لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقي على مسودته لا يهتدي أحد إلى ترتيبه.
وذلك كله شبيه بأخلاق الشيخ الرئيس، ومعهود أعماله، ووثبات همته في طلب المعرفة والتفوق فيها على النظراء، وما كان مطلب من مطالب العلم على عهده ليتوفر عليه ثلاث سنوات، دون أن يوفي فيه على الغاية ويتمكن بين أساطينه وثقاته. فلا جرم يقول مفتخرًا بالبلاغة في بعض شعره:
وهو فخر لا ينفرد فيه بالشهادة لنفسه؛ لأنها شهادة يزكيها أبناء زمانه وتقوم الأدلة عليها من شعره ونثره، ويرشحه لاستحقاقها أنه حفظ القرآن قبل العاشرة من عمره، وانطبع لسانه على فصاحته من باكر صباه، ثم أضاف إليه ما أضاف من محصول الآداب العربية والفارسية، فحق له أن يلقب بين الفلاسفة بالفيلسوف الأديب، وإن كان الأدب وحده لا يرتفع به إلى مثل مكانه في زمرة الحكماء.
فلو حسب الشعر وحده لابن سينا لحسب به بين أوساط الشعراء ولو تفرغ له لعله كان بالغًا منه فوق هذه المرتبة الوسطى أو معدودًا في الرعيل الأول بين أدباء المشرق من الأرومة الفارسية، ولكنه لم يخلق للشعر على ما نرى، فلم يخطئ في النصيب الذي أعطاه إياه من وقته، ولم يكن يعطيه من وقته إلا بمقدار تسلية المتسلي وتفكهة الحكيم وبطالة المشغول.
ومن هنا جاءته في شعره مزية غير مقصودة: وهي أنه استغنى عن التكسب به أو عن نظمه في الأغراض المفتعلة، فكان ينظمه فيما يحسه من أحوال حياته، وكان شعره كله دالًّا عليه في مختلف حالاته، مطبوعًا بطابع مزاجه ودخيلة شعوره، متصلًا بأسلوب تفكيره وطريقته في النظر إلى الأمور.
فكان الرجل محسودًا مزاحمًا في ميدان الغلبة والطموح، فإذا شكا حسد الحاسدين قال:
وإذا نظر إلى الذين سبقوه في حظوظ الحياة قال:
وكان محبًّا لمتعة الجسد فكان شعوره بالشيب خليقًا بمن تحرمه السن صفوة ذلك المتاع. فنظم في هذا المعنى أبياتًا من أفضل شعره كقوله:
أو كقوله:
أو كقوله:
وكان فخورًا فأحسن الفخر في أبيات منها:
ومنها:
ومنها:
وأحب الخمر، فمن قوله فيها:
ومدحها مدح الفيلسوف فقال:
وقال فيها وفي المرأة التي كان يحبها كما يحب الخمر:
وهو عالم بالطبيعيات، فلا ينساها في شعره كما قال:
وهو حكيم لا يرى للحياة معنى بغير المعرفة فهو يقول:
وعنده ما عند جميع الفرس من حب الجناس والمحسنات، فلا ينساها في بيت نظمه كما قال:
وهذه الأبيات وأمثالها إن لمن تكن من خيرة الشعر، فهي شعر ابن سينا لأمراء. وهي شعر يستحسن من فيلسوف، وقد يستحسن من غير فيلسوف!
أما نثره فقد كان على ثلاثة أساليب: أسلوب مرسل، وأسلوب فلسفي، وأسلوب منتقى يحتفل به احتفال المنشئين.
وأسلوبه المرسل فصيح سائغ وهو أسلوبه في معظم مؤلفاته.
وأسلوبه الفلسفي تكثر فيه العسلطة لغير ضرورة إلا أن قراء الفلسفة قديمًا يشجعونها لأنها تخصصهم بنمط لا يشبههم فيه سائر المتكلمين.
… فقلت كذلك للدهر ضربات أخياف … فإنه ليكسو، ثم ينضو، ويخلع ثم يخلع، والتغيير ديدنه، والتبديل هجيراه …
وقد استقام له هذا الأسلوب كلما توخاه في مقاماته الفلسفية فلم يسبقه سابق من أصحاب المقامات في حلبة التنميق والإنشاء وربما أقصر بعضهم عن شأوه في جزالة اللفظ وفخامة العبارة. ولم ينطو على معنى وراء الجزالة والفخامة كمعناه.
ومما لا ريب فيه أن أناسًا كثيرين عاشت أسماؤهم بالأدب وحده في تاريخ الثقافة العربية. ولم يكن لهم في النثر ولا في الشعر محصول أنفس من هذا المحصول.
مشاركات شتى
ويصح أن يقال إن ابن سينا قد شارك في جميع علوم عصره، فلم يكن في زمانه فرع من فروع الثقافة الإنسانية لم يساهم فيه بقسط وافر ولم يذكر له فيه رأي معدود.
سئل وهو في الحادية والعشرين أن يؤلف لبعض الطلاب موسوعة موجزة في العلوم، فألف كتاب «المجموع» وألم فيه بكل علم معروف يومئذ ما عدا الرياضيات.
ومن العلوم التي ساهم فيها مساهمة الثقات علم الهيئة والرياضيات على اختلافها. فزاد على المجسطي أشكالًا ومسائل لم يسبق إليها، وأورد على إقليدس بعض الشبهات، وشك فيما ذهب إليه أرسطو من تشابه الثوابت وتساوي أبعادها واتحاد مراكزها في كرة واحدة. فقال في الشفاء: «على أني لم يتبين لي بيانًا واضحًا أن الكواكب الثابتة في كرة واحدة أو في كرات ينطبق بعضها على بعض، إلا بإقناعات، وعسى أن يكون ذلك واضحًا لغيري …»
ومن مقرراته أن الأرض متحركة، وأنه لا مانع من وقوف جسم في الفضاء لأنه لا بد له من مكان حيث كان. فإذا امتنع وقوفه فلا بد لذلك من سبب، وهو انجذاب الأشياء إلى مركز العالم أو مركز الكرة الأرضية.
وقرر أن النور ليس بجسم ولكنه كيفية في جسم … «وإن كان له انتقال فذلك بالتجدد، لا أن شيئًا واحدًا بعينه ينتقله» … وهو أقرب الأقوال إلى مذهب العصريين في حركة النور في غير خلاء.
وقد وكل إليه علاء الدولة تصحيح الخلل في التقاويم التي عملت بحسب الأرصاد القديمة، فأوشك أن يفرغ من تصحيحها لولا انقطاع العمل بالأسفار تلو الأسفار والأزمات في أثر الأزمات.
•••
واشتغل بالطبيعيات كالظواهر الجوية وعلم طبقات الأرض وما إليه. ومن أمثلة تحقيقاته في هذه الأغراض كلامه على الزلازل في الشفاء حيث يقول: «أما الزلزلة فإنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم يحرك ما فوقه. والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض ويحرك الأرض إما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع كالريح كما يشق الخوابي إذا تولد في العصير، وإما جسم مائي سيال، وإما جسم هوائي، وإما جسم ناري، وإما جسم أرضي. وأما الجسم الناري لا يحدث تحت الأرض وهو نار صرفة، بل يكون لا محالة في حكم الدخان القوي وفي حكم الريح المشتعلة، والجسم الأرضي لا تعرض له الحركة أيضًا إلا بسبب مثل الذي عرض لهذا الجسم الأرضي فيكون السبب الأول الفاعل للزلزلة ذلك. وأما الجسم الريحي ناريًّا كان أو غير ناري فإنه يجب أن يكون هو المنبعث تحت الأرض الموجب لتموج الأرض في أكثر الأمر.»
وعلى هذا النحو من التحري تقررت في كتبه — ولا سيما الشفاء — فوائد قيمة عن تكوين الجبال والمعادن والحجارة، واجتمعت له ملاحظات عن الظواهر الجوية كالرياح والسحب وقوس قزح لم يكن له في وسع معاصر له أن يزيد عليها حرفًا واحدًا في باب المراقبة والتسجيل.
وعرف حقيقة النظر وتكلم على زاوية الإبصار، وقد كان بعض الأقدمين يحسبون أن النظر إنما يكون بخروج شيء من العين يقع على المنظورات.
•••
وعني بالموسيقى سماعًا، وعني بها دراسة نظرية، فأقامها على قواعد الرياضة والملاحظات النفسية، وأصلح فيها غير قليل.
•••
وانصرف زمنًا إلى الفقه وتفسير سور القرآن الكريم، ولكنه كان يفسر القرآن ليستخرج منه مصاديق لآرائه الفلسفية التي لخصناها. فلا جرم كان الرجل موسوعة حية وعبقرية ملهمة، ولا جرم تغيرت العلوم والمعارف، ولا يزال ذلك العقل جديرًا بأن يسمى بالعقل الفعال … لأنه فعل في مجال الثقافة الإنسانية قصارى ما تفعله العقول.