حقائق قضية راتكليف
١
التقيتُ الآنسةَ بورجير للمرة الأولى في حفلة شاي في بلدة را…، بينما كنت أحضُر محاضراتٍ طبية. كانت فتاةً طويلةً، ليست بالفاتنة، ولم يكن هناك ما يُميز وجهها سوى ما تُبديه عيناها من تَقلقُلٍ غريب. لم تكن عيناها برَّاقتَين ولا مُعبِّرتَين، لكنها أبقتْهما في حركةٍ مُستمرة لدرجة أنهما بَدَتا كما لو كانتا تلتقِطان الضوء وتَعْكسانه من مصادر مُتعدِّدة. وكلما صوَّبَتْهما نحو شيءٍ ما ولو حتى لبضع ثوان — وهو أمرٌ نادِرًا ما كان يحدث — سرعان ما يختفي منهما ذلك الذكاء المُصطنَع، وتَغدوان باهِتَتَين وناعِستَين. وإنني لعاجزٌ حتى عن تحديد لون عينيها.
بعد احتساء الشاي، كنتُ واحدًا من مجموعة أشخاصٍ سعى مضيفنا، القس الموقر السيد تينكر، لتَسلِيَتهم بإطلاعهم على مجموعةٍ من صور الأماكن في الأرض المُقدَّسة. وبينما كنتُ أحاول إظهار اهتمامي بأوصافه وتوضيحاته، التي كنتُ قد سمِعتُها كلها من قبل، لاحظتُ أن الآنسة بورجير كانت تُكرِمني بنظرِها المُستمرِّ إليَّ. ولمَّا نظرتُ إليها والتقتْ أعيُننا، وجدتُ أنني لم أستطع بأيِّ حالٍ من الأحوال إبعاد عيني عن هذه المواجهة. كانت تلك التَّجربة فريدةً، وقد لاحظتُ ظواهرها بِدقَّةٍ مِهنية؛ إذ شَعرتُ حينها بانقباضٍ طفيفٍ في عضلات وجهي، وتنميلٍ في الأعصاب مثل ذلك الذي يَسبِق فُقدان الوعي الناجم عن عملية التخدير. وعلى الرغم من أنني اضطُررتُ إلى مقاومة الشعور البدني بالنعاس، فإن قُدُراتي العقلية كانت أكثر نشاطًا من المُعتاد. بدا أنَّ عينيها تُخدِّران جسدي بينما تُحفِّزان ذِهني، تمامًا كما يفعل الأفيون. كنتُ واعيًا تمامًا بما يُحيط بي، ومُنتبِهًا على وجه الخصوص إلى سرد السيد تينكر لقصة انتقاله من يافا، وقد رافَقتُه في تلك الرحلة، لا كمُستمِعٍ إلى حكايةِ مُسافر، ولكن كمن خاض غِمار الرحلة بنفسه. وعندما وصلنا أخيرًا إلى النقطة التي يتقدَّم فيها حِمار السيد تينكر نحو المُنعطف الحادِّ الأخير حول الصخرة التي حالت دون رؤية ما يُوجد أمامنا، حيث امتلأت عيون السيد تينكر بالفرحة والدهشة من المنظر البانورامي المَهيب للقُدس، رأيتُ كلَّ ذلك بوضوحٍ استثنائي. رأيت القُدس في عيون الآنسة بورجير.
شَكرتُ — في صمت — الحظَّ عندما استأنفَتْ عيناها تَقلُّبَهما المُعتاد في أرجاء الغرفة، فأطلَقَتا سراحي مما صار نوعًا مِن الأَسْر المُهين. وما إن تحرَّرتُ من تأثيرهما الغريب، حتى ضحكتُ مُتعجِّبًا من ضعفي، وقلتُ لنفسي: «يا لك من هدفٍ جيِّدٍ للتدريب من قِبل امرأةٍ شابةٍ ساحرة.»
سألتُ زوجة السيد تينكر، عندما أُتيحت لي أول فرصة: «مَن الآنسة بورجير؟»
أجابت المرأة الطيبة، مع بعض المفاجأة: «حسنًا، إنها ابنةُ ديكون بورجير.»
«ومن هو ديكون بورجير؟»
«إنه إنسانٌ رائع، وهو من أهم رعايا أبرشية زوجي. يَسخَر الشباب مما يُسمُّونه خموله، ويقولون إنه كان يمشي في البلدة في نَومِه لمدَّةِ عشرين سنة. لكنني أؤكد لك أنه من أكثر المُخلِصين والمُتحمِّسين اﻟﻤﺴﻴﺤ…»
استدَرتُ فجأة، تارِكًا السيدة تينكر أكثر دهشةً من أيِّ وقتٍ مضى؛ لأنني كنتُ أعرف أنَّ مَن أقوم بالاستِعلام عنها كانتْ تنظُر إليَّ مرةً أخرى. لقد جَلَسَت في أحد أركان الغرفة، بمَعزِلٍ عن بقيَّةِ الرفاق. ذهبتُ على الفور وجلستُ إلى جانبها.
قالت الآنسة بورجير: «هذا جيد. تمنَّيتُ أن تأتي. هل استمتعتَ برحلتك إلى القُدس؟»
«نعم، وذلك بفضلك.»
«ربما. لكن يُمكنك ردُّ الجميل. قيل لي إنك مُساعد الدكتور ماك في الجراحة في الكُلية. وهناك محاضرة إكلينيكية غدًا، وأنا أريد أن أحضُرَها.»
سألتها: «كمريضة؟»
ضحكَت ثمَّ قالت: «لا، كمُشَاهِدة. يجِب أن تَجِد طريقةً لتنفيذ طلبي.»
أبلغتُها، بكلِّ أدب، عن دهشتي من هذا الاهتمام غير المُعتاد من جانب سيِّدة شابة، وألمحتُ إلى الفضيحة التي سيُخلفها ظهورُها في المدرَّج. عَرَضَت على الفور أن تَتخفى في ملابس الرجال. لكنني أوضحتُ أن طبيعة العلاقات بين كلية الطب والمرضى الذين وافقوا على الخضوع للعلاج الجراحي أمام طلَّاب الطبِّ ستجعل الأمر شائنًا بالنسبة إليَّ بالتستر على إدخال أيِّ شخصٍ غير مُخوَّلٍ له الدخول، سواء من الذكور أو الإناث. لم تَجِد هذه الحُجَّة صدًى عندها، مما اضطَرَّني إلى القَطْع بعدَم استطاعتي أن أُساعِدها في هذا الشأن. قالت الآنسة بورجير: «حسنًا، يجب أن أجِد طريقة أخرى.»
بذلتُ جُهدًا كبيرًا في مكان المحاضرة في اليوم التالي لأتأكَّد أن الآنسة بورجير لم تتسلَّل إلى المكان خِلسة. لقد جاء الطلاب في الوقت المناسب، صاخِبين ولا مُبالِين كالمعتاد، وجلسوا في صفوف الكراسي الموجودة حول طاولة العمليات. ثم أخرجوا دفاترهم وشرعوا في بَرْيِ أقلامِ الرَّصاص الخاصة بهم. لم تكن الآنسة بورجير من بين هؤلاء بالتأكيد. كان كلّ وجهٍ في قاعة المحاضرة مألوفًا بالنسبة إلي. أغلقتُ الباب الذي يفتح على الرَّدهة، ثم فتشتُ غرفة الانتظار الموجودة على الجانب الآخر من المُدرَّج. كان هناك اثنا عشر مريضًا أو أكثر، كانوا عصبِيِّين ومُكتئبين، ينتظرون العلاج ومعهم أصدقاؤهم الذين هم بالكاد أقلُّ منهم خوفًا. ولكن لم تكن الآنسة بورجير ولا أيُّ شخصٍ يُشبِهها من بينهم.
دخل الدكتور ماك بنشاطٍ من بابه الخاص، وألقى نظرةً مُتفحِّصةً على الطاولة التي رُتِّبَت عليها أدواتُه، بحيث صارت جاهزةً للاستخدام، وبعد أن تأكَّد بنفسه أنَّ كلَّ شيءٍ في مكانه، بدأ المحاضرة الإكلينيكية. أجرى عمليَّاتٍ بسيطةً مُعتادة؛ اثنتَين أو ثلاثًا للحَوَل، وواحدةً لإزالة المياه البيضاء، واستئصال العديد مِن الأكياس والأورام، الكبيرة والصغيرة منها، وبتْر إصبع يدٍ مُحطَّمٍ لعامل مكابح بالسكك الحديدية. وبعدما عُولجَت الحالات، أرجعتُ المرضى إلى غرفة الانتظار وتركتُهم في رِعاية أصدقائهم.
في النهاية، جاء الدور على سيِّدةٍ مُسِنَّة فقيرة تُدعى السيدة ويلسون، وقد كانت تُعاني من مُشكلةٍ روماتيزمية جعلتْ ساقها تَنثني لسنوات؛ مما أدَّى إلى تحجُّر مِفصَل الركبة. كانت واحدة من تلك الحالات التي يكون فيها العلاج اللازم قاسيًا رغم بساطته؛ إذ كان يجِب تقويم الطرف المُصاب عن طريق استخدام قوَّة اليد. رفضَتِ السيدة ويلسون بِعنادٍ الخضوعَ للتخدير، وسُجِّيَتْ على ظهرها على طاولة العمليات، مع وجود وِسادةٍ تحت رأسها. أظهرت الرُّكبة المُصابة انحِرافًا يبلُغُ عشرين أو خمسًا وعشرين درجةً عن الخطِّ المستقيم. وكما ذُكر من قبلُ، كان يجِب تصحيح هذا الانحراف عن طريق الضغط المُباشر والقهريِّ إلى أسفلَ باتِّجاه الرُّكبة.
بمساعدة جَرَّاحٍ شابٍّ يَتمتَّع بقوةٍ بدنية كبيرة، شرَع الدكتور ماك في تنفيذ هذا الضغط. كانت هذه العملية واحدةً من أكثر الأشياء التي لا يُمكن تخيُّلها ألَمًا. كنتُ مُتمركزًا عند رأس المريضة، لكي أُمسك بكتِفَيها إذا أبدَتْ أيَّ مقاومة. لكنني لاحظتُ أن تغيُّرًا بارِزًا طرَأَ عليها منذ أن وضعناها على الطاولة. لقد كانت مُهتاجةً جدًّا في البداية، ثم أصبحتْ هادئةً تمامًا. وبينما كانت مُستلقيةً بلا حَراك، مُصوِّبةً عينَيها إلى أعلى بنظرةٍ ثابتة، وجفونها مُتثاقِلة كما لو كانت تقترِب من النوم، بينما يغمر وجهها الهدوء، كان من الصعب إدراك أن هذه المرأة قد بدأتْ لتوِّها تجربةً من الألم القاسي.
ومع ذلك، لم يكن لديَّ الوقت الكافي لأتأمَّل أكثرَ شجاعتها الرائعة؛ فقد بدأتِ العملية القاسية، وكان الجَرَّاح ومُساعده يضغطان بنحوٍ مُطَّرِدٍ وبقوةٍ مُتزايدة على الركبة المُتصلِّبة. لعلَّ محاكم التفتيش الإسبانية لم يخطُر لها قَطُّ على بالٍ طريقةٌ للتعذيب الجسدي أكثر قسوةً ممَّا تمرُّ به هذه المرأة الآن، ومع ذلك لم تتقلَّص عضلةٌ واحدة من وجهها. كما أنها كانت تتنفَّس بسهولةٍ وبانتظام، وما زالت ملامِحها تُعبِّر عن حالتها الهادئة. وفي أشدِّ لحظات مُعاناتها وأكثرِها تعقيدًا، رأيتُ عينيها مُغلَقتَين، كأنما تغطُّ في نومٍ هادئ.
في تلك اللحظة أتى الضغط الهائل الذي مارَسَه الجرَّاح ومُساعده على رُكبتها بالأثر المرجُو؛ فلقد بدأ المِفصل المُتصلِّب يتحرَّك، وصاحَب ذلك صوتٌ يَبعثُ على الغثَيان؛ صوت لا يُوصَف من الطحن والصرير الصادر من عظام شخصٍ حي، وهو صوت مُرعِب جدًّا لدرجة أنني رأيتُ جرَّاحِين قُدامى، من ذوي المشاعر المُتصلِّبة بفعل الخِبرة الطويلة، وقد شحَبَتْ وجوههم عند سماعه. وفي النهاية، أصبح الطرف المُصاب مُستقيمًا تمامًا كنظيره الآخر.
بُعَيد سماعِ هذا الصوت المُرَوِّع، سمعتُ دويَّ ضحكةٍ مجلجلةٍ.
تتوسَّط طاولةُ العمليَّات صحنَ المُدرَّج، وهي مُضاءةٌ من السقف. ومُباشرةً فوق الطاولة، هنالك فتحةٌ مربعة، طول كل جانب فيها خمسُ أو ستُّ أقدام، وهي مُغطَّاة بنحوٍ وثيقٍ في جوانبها الأربعة، وكانت تؤدِّي إلى الجُزء العلويِّ للمبنى مُنتهيةً إلى كُوةٍ في السقف. كانت الفتحة عميقةً وضيِّقةً جدًّا لدرجة أن فُوَّهتها العُلوية لم تكن مَرئيةً من أيِّ جُزءٍ من القاعة باستثناء مساحةٍ محدودة حول الطاولة مُباشرةً. يبدو أن الضحِك الذي شدَهَني يأتي من أعلى. وإذا سمِعَه أيٌّ مِن الحاضرين، فربَّما يُخيَّل له أنه صرخةٌ هيستيرية أطلقتْها المريضة. ولكنني كنتُ في وضعٍ يُمكِّنني من إدراك الأمر على نحوٍ أفضل. وبصورةٍ غريزية، صوَّبتُ بصَري لأعلى بالاتجاه الذي تسمَّرَتْ نحوَه عَينا السيدة ويلسون.
وهناك، وفي إطارٍ رُباعيٍّ مِن زُرقةِ السماءِ، رأيتُ رأسَ وعُنقَ الآنسة بورجير. فلقد أُزيلَ غِطاء الكُوة، لتوفير التهوية. كان من الواضح أن المرأة الشابَّةَ مائلةٌ بجسدِها بالكامل على السقف. لقد حَظِيَت برؤيةٍ مثاليةٍ لكلِّ ما حدَث على طاولة العمليات. لقد توهَّجَ وجهُها من الشغَفِ وبدَتْ عليها أماراتُ الاندهاش البريء الخالي من البهجة. عندما نظرتُ إليها أومأَتْ لي بِمرحٍ واضعةً إصبَعَها على شفتَيْها، وكأنها تُخبِرُني ألَّا أشيَ بها. وسرعان ما أشحتُ ببصري عن عينَيها في اشمئزاز. في الواقع، وبعدَ تجربتي في الليلة الماضية، لم أعُد أثِقُ في قُدرَتي على ضبط نفسي من تأثير نظرتها.
بينما كان الدكتور ماك يقطَعُ بِمِقَصِّه الحادِّ نهاية ضمادةٍ كتَّانية، همس لي قائلًا: «هذه سابقةٌ لا مثيل لها. لا وجود لأيِّ علامةٍ على الإغماء، ولا أثرَ للاضطراب الوظيفي. لقد راحتْ بهدوءٍ في نومٍ صحيٍّ أثناء تَعرُّضِها لألمٍ شديدٍ من شأنه أن يدفع رجُلًا قويًّا إلى الجنون.»
حالما انتهيتُ من مَهامِّي في قاعة المحاضرة، شققتُ طريقي إلى سطح المبنى. وعندما اقتربتُ من الكُوة، انتَصَبَت الآنسة بورجير واقفةً على قدمَيها وتقدَّمَتْ للقائي دون إظهار أيِّ اضطراب. وارتسَمَت — بشدَّةٍ — البهجةُ على مُحيَّاها.
سألَتني بابتسامة، وقد مَدَّت يدَها لتُسلِّم عليَّ: «ألم يكن ذلك جميلًا؟ لقد سمِعتُ العظام وهي تُطحن وتُسحَق ببطء!»
لكنني لم أُسلِّم عليها. وسألتها، مُتحاشِيًا نظرة عينَيها: «كيف أتيتِ إلى هنا؟»
قالت بضحكةٍ رنَّانة: «أوه! لقد جئتُ مُبكِّرًا، قُرب شروق الشمس؛ فقد ترك البواب الباب مُواربًا وتَسلَّلتُ أثناء وجوده في القَبْو. وقضيتُ طوال الصباح في المكان الذي يُشرِّحون فيه. وعندما بدأ الطلاب في القُدوم إلى الطابق السفلي، هربتُ إلى السطح.»
سألتها بمُنتَهى الجدِّيَّة: «هل تعلمين، آنسة بورجير، أنكِ ارتكبتِ فِعلًا طائشًا وخطيرًا، ويجِبُ أن تخرُجي من المبنى بمُنتهى السِّرِّيَّة وبأسرَعِ ما يُمكن؟»
لم يبدُ أنها فهِمَت ما قلتُه. أجابتني قائلة: «حسنًا، أعتقد أنه لا يُوجَد شيء آخر يُمكن رؤيته. سأذهب إذن.»
قُدتُها إلى الأسفل عبر العُلية المُثقلَة بصناديقَ وبراميلَ مِن العِظام البشرية المُتفرِّقة، ثم عبْرَ المكتبة الطبية، التي لم يكن بها أحد في تلك الساعة. ثم نزَلنا الدَّرَج الخلفيَّ ومررْنا عبر غُرفة المُحاضرات الكيميائية الكبرى الشاغرة، ثُم عبْرَ غرفة التشريح، المُمتلئة بالأشياء المُروِّعة بالنسبة إلى خيال بنات جِنسها. كنتُ صامِتًا ولم أتفوَّه بشيء. لكن عينَيها كانتا تتجوَّلان في كلِّ مكان، تَنهلان من الأشياء الغريبة المُحيطة بها بنهمٍ يُمكنني أن أشعُر به دون حاجةٍ إلى النظر إليها بتاتًا. وأخيرًا وصلنا إلى مَمرٍّ في الطابق السفلي، ينتهي إلى باب، قلَّما يُستخدَم، يؤدي إلى زقاقٍ ومنه إلى الشارع. كان يُؤتَى بالأشياء الخاضعة للتشريح من خلال هذا الباب إلى المبنى. أخذتُ مجموعةً من المفاتيح من جَيبي وفتحتُ القُفل بأحدِها ثم قلتُ لها: «يمكنك أن تذهبي الآن.»
ثُم قامت بما أثار عظيم دَهْشتي، بينما نقِف معًا في نهاية المَمرِّ المُظلم، حيث طوَّقَت رقَبَتي بذراعيها وقبَّلَتْني.
وقالت وهي تتوارى عبر الباب المُوارب: «وداعًا.»
وعندما استيقظتُ في صباح اليوم التالي، بعد النوم لأكثر من خمس عشرة ساعة، وجدتُ أنني لا أستطيع رفع رأسي عن الوِسادة دون الشعور بالغثَيان. كانت الأعراض تُشبه تمامًا تلك الناتجة عن آثار جُرْعةٍ زائدة من صبغة الأفيون.
٢
اعتقدتُ أنه حِفظًا لسمعتي الشخصية والمِهنية ينبغي عليَّ سرد هذه الوقائع قبل أن أتحدَّث باختصارٍ عن شهادتي الأخيرة كخبير، في المحاكمة الخاصة بجريمة راتكليف؛ إذ إن طبيعة علاقتي بالمُتَّهمة تعرَّضَت للتشويه باستمرار.
لا شكَّ أن مُلابَسات هذه القضية المشهورة لا تزال حيَّةً في ذاكرة الرأي العام؛ فقد قَدِمَ السيد جون إل راتكليف، وهو تاجرٌ ثريٌّ في مُنتصف العمر من بوسطن إلى سانت لويس مع عروسه الشابَّةِ في رحلة شهر العسل الخاصة بهما. وقد استرعى انتباه الرأي العام، وجذَب اهتمام العامة لدرجةٍ استثنائية للغاية، موتُه المُفاجئُ في فندق بلانترز، ثم اعتقالُ زوجتِه، التي كانت بلا أصدقاء ولا مَعارف على الإطلاق في المدينة، واتهامُها بالقتْل بالتسميم، وما حدث من نِزاع حولَ الشهادة الطبية في المحاكمة، والطبيعة الظرفية تمامًا للدليل ضِدَّ المُتَّهمة.
سيُذكر أن الادِّعاء أثبَتَ أن العلاقة بين السيد والسيدة راتكليف، كما لُوحظت من قِبل الضيوف والموظَّفين في الفندق، لم تكن على ما يُرام؛ وأنه نادِرًا ما تحدَّث معها على طاولة الطعام، وأنه كان دائمًا يتجنَّب النظر إلى وجهها في حضورها، وأنه قبل مرَضه كان يتجوَّل بلا هدفٍ في الفندق لعدَّة أيام، وهو على ما يبدو نِصف مُخَدَّرٍ، كما لو كان يرزحُ تحت وَطأة عبءٍ عقليٍّ هائل، وأنه عندما كان يُخاطبه أيُّ شخصٍ في الفندق، يَبدو كما لو كان يحلم، وكان يُجيبه بكلام غير مُترابط. هذا لو أجابه على الإطلاق.
وقد اتَّضح أيضًا أن السيدة راتكليف، بعد وفاة زوجها، أصبَحَت الوريثة الوحيدة لثروته الضخمة.
كانت الأدلَّة التي تُشير مباشرة إلى ظروف وفاة السيد راتكليف واضحةً غايةَ الوضوح. فلمُدَّة أربعٍ وعشرين ساعة قبل استدعاء الطبيب، لم يَرَه أحد سوى زوجته. وفي عَشاء ذلك اليوم، ردًّا على الاستفسار المُهذَّب لسيدةٍ على الطاولة المُجاوِرة، قالت السيدة راتكليف، برَبَاطة جأشٍ شديدة، إن زَوجها كان مُصابًا بوعكةٍ شديدة. وبعد الساعة الحادية عشرة ليلًا بقليل، دقَّت السيدة راتكليف جرَسَها، ودون أدنى اضطرابٍ في السلوك، قالت إن زوجها يبدو أنه يُحتَضر، وإنه ربما يكون من الأفضل استدعاء الطبيب. وجد الدكتور كولبرت، الذي وصل في غضون دقائق قليلة، السيد راتكليف في سُباتٍ عميق، ويتنفَّس بصعوبة. وأكد في المُحاكمة أنه عندما دخل الغُرفة للوهلة الأولى، قالت المُتَّهمة ببرود، مُشيرةً إلى السرير: «أظنُّ أنني قتلتُه.»
بدا أن شهادة الدكتور كولبرت تُشير بنحوٍ لا لبْسَ فيه إلى التسمُّم بصبغة الأفيون أو المورفين. كان نبضُ قلب الرجُل الغائب عن الوعي قويًّا لكنه بطيء؛ وكان جلدُه بارِدًا وباهتًا؛ وملامح وجهه تبدو هادئة، ولكنه شاحبٌ بنحوٍ مُخِيف؛ وكانت شَفتاه مُزرَقَّتَين. كان قد دخل في غَيبوبَةٍ بالفعل، وكان من المُستحيل إخراجه منها. وباءت مُحاولات إنقاذه بالطرُق العادِيَّة بالفشل؛ إذْ فشلَ لطمُ راحتَي يدَيه وأخمَصَي قدمَيه واستخدام الكهرباء على الرأس والعمود الفقري، في تحقيق أيِّ تأثيرٍ وإيقاظه من غيبوبته. وعندما فُتح جفناه بالقوة، كَشفا عن بؤبؤي عينَيه المُتقلِّصَين اللذَين صار كلٌّ منهما في حجم رأس الدبوس، وقد استَدارا بنحوٍ عنيفٍ إلى الداخل. بعد ذلك، تطوَّرت حدَّة التنفس الشَّخيري لتُصبحَ حشرجةَ موتٍ عاليةَ النَّبرةِ صادرةً من المُخاط الموجود في القصبة الهوائية. هذا بالإضافة إلى تشنُّجات، صاحَبَها إزبادٌ غزيرٌ من الفم، وتدلِّي فكِّه السُّفلي على صدره. وتَبِع ذلك شللٌ ثُمَّ الوفاة، وذلك بعد أربع ساعاتٍ من وصول الدكتور كولبرت.
أَقسم العديد من أبرز مُمارِسي الطب في المدينة، الذين استدْعَتهم النيابة للشهادة في المحكمة، بأن الأعراض التي أشار إليها الدكتور كولبرت — في رأيهم — لم تُشِر فقط إلى تسمُّمٍ بالأفيون، بل أيضًا إلى أنها لا يُمكنُ أن تكونَ قد نجمَت عن أيِّ أسبابٍ أخرى.
على الجانب الآخر، فشل الادِّعاء تمامًا في إثبات شراء السيدة راتكليف للأفيون بأيِّ شكلٍ من الأشكال في سانت لويس أو إثبات العثور على آثار الأفيون بأيِّ نحوٍ في الغرفة بَعدَ الحدث. ورغم ذلك، سعى مُمثِّل الادعاء، في مُرافعته الخِتامية، إلى جعل الأمر الأخير يُشير إلى تورُّط المُتَّهمة. فقال إن عدم وجود أيِّ عُبوةٍ تحتوي — أو كانت تحتوي — على صبغة الأفيون، في ضوء تأكُّد استخدامها، ساهم في إثبات وجود نيَّةٍ مُبيَّتة للقَتْل وهدَم أيَّ نظريةٍ للتَّسَمُّمِ العَرَضيِّ قد يُحاول الدفاع بناءها، وطرَح العديد من الطرُق الافتراضية التي ربما تكون السيدة راتكليف قد تخلَّصَت بها مُسبقًا من هذا الدليل على جريمتها. حذَّرَت المحكمة، بطبيعة الحال، في نهاية حديثها، هيئة المُحلَّفِين من إعطاء وزنٍ لتلك الافتراضات من جانب مُمثِّل الادعاء.
غير أن المحكمة أولَت اهتمامًا كبيرًا للشهادات الطبية من جانب الادِّعاء، ولاعتراف السيدة راتكليف الهادئ الذي سرَدَه الدكتور كولبرت: «أظن أنني قتلتُه.»
ونظرًا لقيامي بتشريح الجُثة، وإجراء تحليلٍ نوعيٍّ لمُحتويات مِعدَة الرَّجُل الميت، فقد استُدعيتُ إلى المِنصَّة كشاهدٍ من جانب الدفاع.
حينذاك رأيتُ المُتَّهمة للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات. وعندما أدَّيتُ القَسَم وأجبتُ على الأسئلةِ الأوليَّةِ، أماطتِ السيدةُ راتكليف غطاء الوجه الذي ارتدَتْه منذُ بَدء المحاكمة، ونَظَرَت مُباشرةً إلى عينيَّ بعينَي الآنسة بورجير التي لا تُنسى.
أعترِف بأنَّ تصرُّفي خلال اللحظات القليلة الأولى من المفاجأة أفسح بعض المجال لما أُشيع فيما بعد فيما يتعلَّق بعلاقتي بالمُتَّهمة. لم تأسِر عيناها عينَيَّ فحسب، بل لساني أيضًا؛ فلقد رأيتُ القُدس مرَّةً أخرى، والوجهَ المؤطَّرَ في مُربَّعٍ من زُرقَةِ السماء المُشرِفَ من أعلى على مُدرَّج كلية الطب القديمة. إلا أنني تمكنتُ من مُتابعة شهادتي، وإن كان هذا بعد صراعٍ جذَب انتباه القاضي وهيئة المُحلَّفين والمُحامين والحضور.
كانت تلك الشهادة تُقوِّي موقف المُتَّهمة. كان أول معرفتي بالقضية عند فحص الجثة بعد الوفاة، وبدأت مع تشريح الجثة. لم يُعثَر على أيِّ شيءٍ يُشير إلى التسمُّم بصبغة الأفيون أو أيِّ عُنصرٍ آخر. لم يكن هناك مظهرٌ مَرَضيٌّ للقناة المَعَوِيَّة. ولم يكن هنالك امتلاءٌ للأوعية الدِّماغية، ولا ارتشاحٌ مَصلي. كلُّ أثرٍ قد يكون ناتجًا عن الموت بالتسمُّم كان مفقودًا في الجثة المُشرَّحة. هذا، بالطبع، كان مُجرَّد دليل نفي. ولكن، علاوة على ذلك، فقد أثبت التحليل الكيميائي الذي أجريتُه عدم وجود السمِّ في جسده. ولم يُمكن العثور على أثرٍ لرائحة الأفيون. أجريتُ اختبارًا حثيثًا للتأكُّد من وجود المورفين في الجثة من عدَمِه مُستخدِمًا في ذلك حمض النيتريك، وبيرهيدروكلورات الحديد، وكرومات البوتاس، والأهم من ذلك كله، الحمض اليودي. وقد بحثتُ مرةً أخرى عن حمض الميكونيك باستخدام بيرهيدروكلورات الحديد. لقد فحصتُ بطريقة لاسين، ودوبلين، وفلاندين. وبقَدْر ما تستطيع مصادر الكيمياء العضوية أن تُخبِرنا، فقد أثبتُّ أنه على الرغم من أعراض حالة السيد راتكليف قبل الوفاة، فإن الموت لم يكن ناتِجًا عن صبغة الأفيون أو أيِّ سُمٍّ آخر معروف للعلم.
وتمكنتُ من الإجابة بصدق، وبطريقة لم تهُزَّ قوةَ شهادتي الطبية، على الأسئلة التي طرحها مُمثِّل الادعاء بشأن معرفتي السابقة بالمُتهمة. وعلى أساس قوَّة هذه الشهادة أصدَرَت هيئة المحلَّفين، بعد مداولاتٍ قصيرة، حُكمًا بالبراءة.
هل حنثتُ في القَسَم؟ لا؛ لأن العلم يؤكد صحة كلِّ زعم قدَّمتُه. كنتُ على يقين من أن راتكليف لم يتجرَّع عبر شفتَيه ولو قطرةً واحدة من صبغة الأفيون أو ذرَّة من المورفين. هل كان يجِب أن أُعلِن عن اعتقادي بشأن السبب الحقيقي لوفاة الرجل، وأحكي قصة مُلاحظاتي السابقة عن قضية الآنسة بورجير؟ لا؛ لأنه لن تُنصِت أيُّ محكمةٍ لتلك القصة ولو للحظةٍ واحدة. كنتُ أعرف أن المرأةَ لم تَقتلْ زوجها. ومع ذلك، كنتُ أُومِن وأعلم — كتأكُّدي أننا نستطيع أن نعرِف أيَّ شيءٍ يكون فيه قوام الحقيقة المُؤكدة ضعيفًا والقوانين غامضة — أنها سمَّمَتْه؛ سمَّمَتْه بعينَيها حتى الموت.
أعتقد أنه سوف يؤكِّد أهل المِهنة بوجهٍ عام أنني لستُ شخصًا مُروِّجًا للأخبار المُثيرة ولا أجنح إلى فُقدان ثباتي الانفعالي في مَتاهات التخمينات النفسية الفيزيائية. ولكنني أؤكِّد على ما ذكرته آنِفًا بكلِّ رَويَّة، مُدركًا بالكامل لكلِّ ما ينطوي عليه.
ما سرُّ التأثير المؤذي الذي مارسَتْه هذه المرأة عبر عينَيها؟ وما سِجِلُّ أسلافها، وما سِرُّ الاستعداد الوِراثي في حالتها؟ وبأيِّ عمليةٍ غامضة في التطوُّر تستمدُّ نظرتها التأثير السُّمِّيَّ لبذور الخشخاش المُنوِّم؟ وكيف أصبَحَت المرأة الخشخاش؟ لا أستطيع حتى الآن الإجابة على هذه الأسئلة. وربما لن أكون قادِرًا على الإجابة عليها على الإطلاق.
ولكن إذا كانت هناك حاجةٌ إلى مزيدٍ من الإثبات لصِدق إنكاري لأيِّ دافع من جانبي ربما يكون قد قادني إلى حماية السيدة راتكليف عن طريق الحَنث باليمين، فيُمكنني أن أقول إن لديَّ الآن في حَوزَتي رسالة بخطِّ يدِها كتَبَتها بعد تَبرئتها، تعرِض عليَّ فيها أن تمنَحني ثروَتها ونفسها؛ فضلًا عن نُسخةٍ من ردِّي، الذي رفضتُ فيه العرْضَ بأسلوبٍ مُهذَّب.