نجم وحيد في الأفق

لا يذكر متَى ألِفَ العادة.

كان يجلس على جِذع شجرة عند الساحل، يتأمَّل تَلاحُق الأمواج، ويتطلَّع إلى ما قد تَبوح به من أسرار تغيب عنه، ويتمنَّى التعرُّف إليها. تضاءَل الإحساس بالنشوة. تلاشَى تمامًا كأنه لم يكن. حلَّ — بدلًا منه — شعور بالترقُّب والتطلع، وبالقلق. حاول أن يستعيد نظرته القديمة إلى كل ما حوله، فلم يُوفَّق. ظلَّت هناك في موضع لا يتبينه. لم تَعُد تستهويه أفانين المرأة وحيلُها، غابت الدهشة من عينيه ونفسه، وغابت في دردشات الجيران. أعادُوا الذكريات القديمة، فاتَّسعَت مساحات الصَّمت. يَستغنون بالشرود عن الحكايات التي تَكرَّر سماعُهم لها. أَلِف التجوُّل — بلا هدف — في أرجاء الجزيرة. يطيل التأمُّل والتحديق. عرف المواضع والكائنات والسِّحن. لم يَعُد ثَمَّة ما يجتذبه، أو يثير اهتمامه. تحوَّلت كل المشاهد إلى المألوف، ذوَت لحظات الاكتشاف والدَّهشة، وحلَّت الرتابة. تكرَّرت المشاهد وتكرَّرت، حتى التوقُّعات لم تَعُد غائبة. ربما يغمض عينيه بالشرود، فتظل جزئيات المشهد ومنمنماته الدقيقة. ما أذهله منذ قدم إلى الجزيرة يراه الآن صورًا ثابتة، يتوقع أن تكون هي رؤيته في قادم الأيام.

لم يُفلح في كتْم الهاجس المتصاعِد مِن داخله. يحيا الشَّجن والحنين والرُّؤى والأغنيات البعيدة. يستعيد ملامح الذين فارَقهم، وفارقوه. اختفَت مئات الصور من حياته مع مديحة والولَدين. لم يحتفظ إلا بصور قليلة، في المقدِّمة صورة لها وهي تُودِّعه باكية. ماذا تفعل مديحة والولدان الآن؟ هل تَزور أُمَّه؟ وهل تَصحَب الولدين — كما أوصاها — إلى الشيخ نجاتي؟ هل ينفذ إيهاب القباني — برعايته لهم — ما وَعَده به؟

عَشَّشَت في صدره وحشة. تَيقَّظ الحنين في أعماقه، حنين لم يسبق له معاناته، أبدع ألحانًا لم يستمع إليها من قبل.

اكتفى بتأمُّل الأفق، في جلسته أمام الساحل، ربما ظل في موضعه منذ يتركه القارئ — بعد أن يُردِّد وراءه آيات القرآن — حتى يأتيه القارئ في المرة التالية.

ضاقت الجزيرة بحنينه إلى بَحرِي، أكَل الحنين قلبه. لم يشعر بأقسى من نيران الشَّوق إلى أمه، ومدحت، ويسري ومديحة، وإيهاب القباني، والشيخ نجاتي، والكابتن، وغازلي الشِّباك، والصيادين، ونقطة الأنفوشي، وميدان المساجد، ووشوشات النخيل في طريق الكورنيش. تصاعدت من الظلال العميقة صور لشخصيات ومواقف وأحداث. تاقَ إلى الملامح والأماكن والكلمات والتفصيلات الصغيرة: حدوة الحصان أمام سَراي رأس التين، زحام شارع الميدان، سُرادقات المُولد في أبو العباس، التَّمشِّي على كورنيش الميناء الشرقية، الجلوس على قهوة السَّيَّالة. انتظاره لمدحت، ويسري على الرصيف المُواجِه لمدرسة راتب باشا. الأخذ والرد والفِصال في حلقة السمك. حلقة المُصلِّين حول إمام علي تمراز في درس المغرب. التَّسلِّي بقزقزة اللب في الشُّرفة المُطِلة على تقاطعات الطُّرق. حتى التردد على الأطباء، ومتابعة التحاليل والأشعة، غلبه الحنين إليه، ضجَّت في داخله مواويل الوَجْد، تحرَّكت جذوة الحنين، وعَلَت نار الشوق. نسي في لهيبها حتى أشعة الشمس قبل أن يحتويه ضياء الجزيرة. يَتوق إلى الاكتشاف والانفعال.

الضياء الشامل قائم، فلا ليل ولا نهار. غاب الإحساس بالزمن، وإن يعرف الوقت من أذانه، مِن مواعيد الصلاة، ويكتم — في داخله — اشتعال نيران الغُربة والحنين والأشواق والأشجان والوجد.

ترك لتوالِي الأيام شفاءه من الحنين، لكن الغصة ظَلَّت في نفسه، لا تغادرها. يشعر أنه يفتقد شيئًا ما في داخله.

فاجأتْه نوبة من البكاء، غاب باعثها. لم يكن منشغلًا — في تلك اللحظة — بما يمضي به إلى مواضع الحنين. انفعل بالبكاء واهتز، وعلا النشيج. حاول أن يكتم ما يعانيه، لكن الرغبة في البكاء فَرضَت نفسها، فترك لها المدى.

تزايَد شوقه لبَحرِي. الطيور تعود إلى أعشاشها. بَحرِي هو عُشُّه الذي لا بد أن يعود إليه.

في بحري، هناك بعدُ، توقُّعات تشغله، يَتوق إليها، أو يخشاها. في الجزيرة لا يُوجد بعد، لا توقُّعات، ولا انشغال بغير اللحظة التي يَحياها. حتى لحظته المُعاشة لا تشغله. التَّصرُّفات تسبق ذهنه، فيُهمل التفكير.

قال له الشيخ نجاتي: كنتَ تعلم أنَّ رحلتك قد تكون بلا عودة.

وهو يتجَنَّب عينيه: وهل كنت أملك أن أرفض؟!

وضغَط على شفته السفلى: أن أفعل شيئًا خير من المَلل.

وهمس بصوت حزين: المَلل قاتل!

المَلل!

تعرَّف إلى معنى الكلمة. تسلَّل إلى أعماقه، فأحس بالاختناق اختفَى الغموض والألغاز المُتسربِلة في نَفثات السَّحَر. بدَا كل شيء في حجمه وطبيعته. تساوَت كل الأشياء، وكل المعاني. واتَّصلت اللحظات أيامًا، والأيام شهورًا، والأشهر أعوامًا، ولا جديد يطرد المَلل من نفسه. يحرك الدهشة والتوقع والإثارة.

فطن إلى القراءة بالمصادَفة. تكلَّم الرجل، وتكلَّم. ثم دفع إليه بالكتاب يُوضِّح ما غمض. تكرَّرت الإعارة، وتكرَّر جلوسُه على حافة النهر يقرأ ويقرأ. تعرَّف إلى ما لم يكن يعرفه، وصادَق الدهشة والأسئلة والانفعال. ثم ضاقَت دائرة المَلل، مَلل لا يَدري بواعثه، ولا كيف يَتجاوزه.

تنامَى الإحساس بالمَلل في داخله، وفي علاقاته بما حوله، حتى أمضَّه. عانَى خواءً مميتًا. أَلِف دمْع العين؛ حنينًا إلى السفر. يسافر مع الأصوات إلى الأرض البعيدة. إلى الأحلام والذكريات والرُّؤى. تتوالى مَشاهد البحر، والشاطئ، والبلانسات، وطريق الكورنيش، والميناء، قصر رأس التين، وقلعة قايتباي، والصيادين وغَازِلي الشِّبَاك، وحلقة السمك، وحاجز الأمواج، ومباني السلسلة، وشارع الميدان، وميدان المنشية، وسَراي الحقانية، والجندي المجهول، والمشايخ، والبحَّارة، وعساكر السواحل، والمرسي أبو العباس، وياقوت العرش، والبوصيري، وعلي تمراز، ونصر الدين، وميدان المساجد، ومعهد الأحياء المائية، والسَّيَّالة، وجودة، وصفر باشا، والحجاري، والمسافرخانة، وما يتفرَّع منها، ويحيط بها، من شوارع وحَوارٍ وأزِقَّة.

لو يغمض عينيه! … يجد نفسه وراء مكتبه، يجيب، ويسأل، ويناقش، ويتسلَّم أوراقًا، ويُوقِّع أوراقًا. حتى طلبات المتردِّدين على مكتبه، وإلحاحهم، وتلاغُط الأصوات بما كان يضايقه، تساقطَت عنه الغِلالات، فتبدَّت الملامح مَجلوَّة. تناسَى حتى إن كان المرض — بعد أن يعود إلى بحري — سيعود إليه. يعانِي الآلام التي لا يدري مصدرها. يُجري التحليلات والأشعة. ينشغل بالتوقُّعات القاسية.

أدرك أنه لن يستطيع العودة، لكنَّ الحلم ناوَشه واحتواه.

متى يبدأ رحلة أخرى، جديدة؟

عاد السندباد إلى البحر بعد كل عودة إلى اليابسة.

هذا ما يناوشه.

نسي كل المتاعب، وتمنَّى أن يبدأ رحلة العودة إلى يابسة الحنين.

•••

عندما اتخذ قراره بالرحيل؛ فلأنه بدَا الحل الوحيد. طالَت أيام معاناة التوتُّر والأرَق والاستيقاظ في الصباح بصعوبة. قلَّت شَهيَّته للطعام. غابت القدرة على التركيز والقراءة. تُفضي الذاكرة إلى خواء. حتى القراءة بدَت مجهودًا متعبًا. فقَد سكينة النفس. لم يَعُد يُطيق البقاء في البيت. الجدران من حوله تخنقه. ضاقَت عليه الأرض بما رَحُبَت.

الشوارع الضيقة، المُتعرِّجة، المتداخِلة، يصطخب فيها الهواء المحمَّل برائِحة الملح، واليود، والطحالب، والأعشاب، ويَترامى هدير الموج وراء البنايات العالية وتقاطعات الشوارع المُفضية إلى الميناء الشرقية وخليج الأنفوشي، والمَقامات والأضرحة في نواصي الحواري والأزِقَّة، والبيوت المتلاصقة، ذات الأسقف المنخفضة، والشرفات الخشبية، والنوافذ الصغيرة، والحِيطان المتآكلة، والمِلاط المتساقط بملوحة البحر، والنِّسوة الجالسات أمام الأبواب، يَنشغلن بتنقية الأرز في الصواني الكبيرة وتَقشير الخُضَر والكلام الذي لا ينتهي، ويرتمي على الجدران كومات الغَزْل والحبال القديمة وقِطَع الفلين، ونداءات الباعة، واختلاط روائح الطبيخ والقلي والبراز المتعفِّن في الأركان، والبول، والعطن، وبقايا السمك، والقطران، والسجاير، والمعسل والحشيش المحترق، ومياه الغسيل، والمياه الطينية الزلقة، والطائرات الورقية تعلو السماء … ذلك كله يَحياه حتى دون أن ينظر إليه. حتى وَشوَشات النَّخيل في امتداد الطريق، بدَت له مألوفة، ومتكرِّرة، ومُملَّة. وكان يأكُل كل ما تَضعه مديحة على المائدة؛ لا يرفض حتى لا يضايقها. تساوى مذاق كل الأطعمة في فمه.

ثَمَّة شعور تَملَّكه بأن شيئًا ما ينقصه، شيئًا لا يدرك طبيعته على وجه التحديد، لكنه يتسلَّل إلى داخله بالقلق والخواء.

أدرك أن الخوف في داخله، لا يعرف بواعثه، ولا كيف يتخلص منه، أنه يعاني ما هو أقوى من المرض، ولا شأن له بحياته العادية. يشعر أن جسدًا آخر غريبًا، ولا صلة له به، قد احتلَّ كيانه.

حين وَخزَته الآلام في صدره، ضغَط بأسنانه على شفتيه، حتى لا تفطن مديحة إلى ما يعانيه. ومَض أمام عينيه ضوء لا يعرف مصدره. بَريق خاطِف كالومضة، ثم حلَّ ظلام وسكون. أخَذ وقتًا لتزول ضبابية الرؤية، وتَبيَّن ملامح مديحة وإيهاب وفتاة خمَّن من البالطو الأبيض أنها طبيبة، أو ممرضة. تبدَّل الحال من أيامها. ثَمَّة ما قَبلُ وما بَعدُ.

اعتاد نوبات الغثيان، والصداع، والتوتُّر بلا سبب، والإخفاق عندما يُحيط مديحة بساعديه.

امتلأ صحوه ونومه بالأشباح، والأرواح الشريرة، والأصوات الهامسة، والنداءات التي لا يدرِي مصدرها، والسحن التي تظهر، ثم تختفي.

لم يعد يقدر على البقاء طويلًا في مكان واحد. يتمدَّد على السرير. يتأمَّل تكوينات النشع والطلاء في الجدران والسقف. يقف في الشرفة المُطلَّة على تقاطعات الشوارع. ينزل الطريق لغير هدف.

تَجنَّب السَّير في شوارع السَّيَّالة الضيقة. يُفضِّل الشوارع الواسعة، فلا يدخلها إلا عند اقترابه من البيت. يمضى — بخطوات متمهلة — في الناحية المقابِلة للكورنيش. عند اقترابه من السَّيَّالة، يميل ناحية شارع التتويج. يُهمِل نواصي الحارات والأزقة في جانب السَّيَّالة، إلى شارع سيدي العجمي فيدخله.

حتى الجالسون على مقهى السوهاجي، في ناصية الشارع، أسفل البيت، لم يَعُد يُعنَى بالتعرُّف إليهم، ولا إلقاء السلام. مجرَّد ملامح متداخلة ومختلطة، يُغلِّفها الضباب، وإن التقط صوتًا مَيَّزه، ربما استعاد صورة صاحب الصوت في مُخيِّلته، ثم واصَل السير.

صعب عليه أن يُوضِّح ما يشعر به، أو أن يشير إلى موضع الألم. لم يَعُد يقتصر على موضع من جسده. ربما تواصَل الصداع قاسيًا، أو اشتد مغَص البطن، أو علا الألم في مواضع من جسده. شمل الألم كل الجسد. ليس ألمًا بالتحديد، لكنه حالة من التوتر والضيق والقَرف واللامبالاة والتحدِّي. لم يَعُد يكترثْ بأحد، ولا بشيء، ولا يأسف على شيء. غاب عنه الإحساس الخاص بالمعاني. وكان يبذل جهدًا في كل حركة، وكل كلمة، حتى الكلمات تخرج من بين شفتيه بصعوبة.

تردَّد على المستشفى الأميري بالشاطبي. ينزل من ترام ٥ في محطة الرَّمْل. يَعبُر الميدان إلى شارع صفية زغلول. يميل من شارع مستشفى كلية الطب. تُطالِعه — في نهاية الشارع — الأبواب الحديدية السوداء. يعرف طريقه — عَبْر الساحة الواسعة — إلى الأقسام الخارجية.

رفع الطبيب يديه في تسليم: الأدوية لا تفيد.

نصح بطبيب في تخصُّص آخَر، ربما يتوصل إلى العِلة، وإلى علاجها.

سأل الطبيب عن الأمراض السابقة، وعن أعراض ربما أحسَّ بها، وإن لم يكن يتصوَّر أنها تعني شيئًا.

دوَّن الطبيب ما قاله، ثم أشار بإصبعه. نزع قميصه. مال الطبيب على صدره العاري. نقَر بإصبعه. استدار، فنقر الطبيب على ظهره. ثم ثبَّت طرَفي السماعة على أذنيه، ووضعها على صدره وظهره.

عاوَد التَّردُّد على المستشفى الأميري، وعيادات الأطباء، ومَعامل التحليل. لم تُظهِر التحليلات ولا الأشعة ما يُقلِق. بدَا الأمر أقسى من الصور التي أظهرتها الأشعة، والمناظير، ونتائج التحليلات.

قال الطبيب: أنت لا تعاني مرضًا عضويًا فأعالجه … لعلها حالَة نفسية.

ونصح: اذهَب إلى طبيب نفسي.

جلس على الكرسي المُواجِه لمكتب الطبيب. وضَع الطبيب النوتة الصغيرة أمامه. أسنَد طرف القلم على فمه. تأمَّلَه بنظرة مُتفحِّصة، واكتفى بهز رأسه وهو ينصت.

تحدَّث عن كل ما يشعر به. اختلطَت الروايات وتشابَكت. لم يتوقف؛ لأن الطبيب لم يُقاطعْه بالسؤال، ولم يُطالِبه بالتوقف.

تناوَل أدوية وصَفها له الطبيب، ولَزم تصرُّفات نصحه بها.

القلق في عَينَي مديحة وتصرُّفاتها، هو الذي قاده إلى الشيخ نجاتي. يَخرُج من تردُّده على الأطباء بالمرض الذي لا بد أنه كامِن في جسده. لم تُفلح الأدوية في علاج ما يعانيه. يشعر بثقل أعضائه، وضِيق روحه في جسده. قلَّ نومه، فكاد ينعدم.

حين خلَّف مبنى إدارة الجامعة بالشاطبي وراءه، كان قد دَسَّ في أوراقه مُذكِّرة تَهبُه الحق في إجازة طويلة. لم تتوصل التحليلات ولا الأشعة إلى مرَض محدَّد، هو يصحو ويعمل ويمشِي ويجلس ويقرأُ وينام ويفعل كل شيء مما يفعله الناس. لكنَّ المعاناة عكسَت كُمونَها في جسمه هزالًا، وفي داخله شعورًا بالتحلُّل. يزداد الألم فلا يقوى على الجلوس في موضعه. يفز واقفًا. يتحرك بعصبية. يمشي خطوات. يدور حول نفسه. يتحسَّس أماكن في جسده. يُظهِر التألُّم يُغمض عينيه، ويُقلِّص ملامح وجهه. انشغاله بالمرض يشغله عن المناقشات مِن حوله، وزحام الطلاب من حوله في إدارة الجامعة يخنقه. الأيدى الممدودة بالأوراق والأسئلة والنداءات والصخب.

قال للإشفاق في عيني مديحة: أمامي سنة أتسلَّم في أثنائها مُرتَّبي كاملًا.

ثم علا صوته بالتساؤل: هل أظل أعاني أكثر من سنة؟!

عندما حاوَل التقاط خيط البداية، التعرُّف إلى بواعث ما يعانيه، بدَت مديحة خارج إطار أحزانه. تكتفي بتأمُّل أحواله، لا تضايقه بملاحظات. يلمح نظراتها المُشفِقة وهي تتابع انكماشه في نفسه.

كان تنفُّسها في أثناء النوم بلا صوت. يصعب التخمين إن كانت نائمة أم لا. يتأمَّل الشعر الناعم المُسدَل على الوسادة، والعينين المغمضتين، والأنفاس الهادئة، والملامح المُنمنمة. يثق أنها تحبه، وأنه يحبها. حدس تصورها بأنه ضاق بنوم الولدين بينهما. أهمَلَت خوفهما الباكي من الحُجرة المجاوِرة. حاول أن يساير تَصوُّرها، ويُقبل عليها بمثل الأيام الماضية، لكن الهاجِس تصاعَد في داخله، لا يفارقه، ينغص عليه حياته.

قالت مديحة: دلتني جارتنا تهاني على شيخ قد تجد عنده الشفاء.

صرخ: هل شكوتُ لك؟ … هل شكوتُ لأحد؟

تكرَّرت فحوص الأطباء، وتكرَّرت الأدوية. حاوَل أن يحيا بالاطمئنان لسلامة الأشعة والتحليلات، لكن الهاجس، العارِض، المرض الذي لا يعرفه، كان يعلو بالصراخ في داخله. عشرات الأسئلة اصطخبت في أعماقه، لكنه عجز عن أن يصوغها في سؤال واحد محدَّد. ظل ذهنه في تشوشه، ورُوحه قلقة، والطمأنينة غائبة عن قلبه. شعر أنه أَسير شبكة جرَّافة، أو طراحة، كتلك الأسماك التي تأسِرها شِباك الصيادين في الساحل. تصاعَد في داخله إحساس بأن حدثًا قاسيًا على وشك أن يحدث، لم يُخمِّن صورته، ولا حدَّد قَسماته. داوَم العزلة عن الناس، والصمت، وحرص على الإقلال من الطعام. يأكل في نصف بطنه، ولا يدقق في اختيار ملابسه. وكان يُطيل تأخير التوجُّه إلى السرير. يتشاغل بالقراءة، أو التأمُّل حتى يقهره التعب، يخشى النوم فتزُوره الكوابيس.

همس لنفسه، وهو يتأمل مقابِر المنارة من نافذة الأوتوبيس: أبوه وعمه يرقدان هنا … هل اقترب موعد رقاده إلى جانبهما؟

– واضح أنه لا فائدة.

ونفث أُف صغيرة: تعبتُ!

أدرَك عجْزَه، وتساوَت أمامه كل الخيارات. أكثرَ من التردُّد على المَقامات والأضرحة، وإن رَفض زيارة ساحر له شهرة في جبل ناعسة. شارَك في حلقات الذِّكر، وفي المَوالد، لم يَعد يطيق البقاء في مكان واحد. ربما تَمشَّى في شوارع الحي، لا يقصد مكانًا محددًا، لكنه يخلي لقدميه طريقهما. يشقيه الإحساس بأنه غريب، أو عابِر سبيل، لا شأن للآخَرين به، ولا شأن له بما حوله. أحسَّ أن حياته تتآكل، وأن ما بَقي لا معنى له. التجأ — مضطرًا — إلى الشيخ نجاتي. لم يعد لديه حيلة.

حبَّب إليه الشيخ الخلوات، وفتح له سبيل المناجاة، وأمَدَّ روحه بمعاني الكلمات. تولَّاه فأغناه عن حِيَل الأطباء التي أدرك فشَلها.

قال الشيخ: إذا عرَف المرءُ نَجْمَه، ووصل إليه حيث يكون … اتصل ماضي حياته بما هو قائم، بملامح الآتي.

وأحاطه بنظرة مُشفِقة: كلما حاولْتَ أن ترى النجم قَبْل أن يتقدم بك العمر … كان ذلك أفضل.

أردَف دون أن يفقد ابتسامته: النجوم يَقلُّ لَمعانُها بتقدُّم العمر.

همس بالسؤال: وبعد الموت؟

– عندما يموت ابن آدم يذوي النجم حالًا ويموت.

وهز سبَّابته في وجهه: إذا أردتَ رؤية نجمك، فاذهب الآن!

كانت تُروِّعه التحوُّلات التي تَطرَأ على الشيخ في جلسته على دكة المُبلِّغ بين صلاتَي المغرب والعشاء، في سيدي نصر الدين. تصفو عيناه، وتَلتمِعان، ويكسو وجهه النور، ويَغمُر النور كل ما حوله. ينعكس على وُجوه المُصلِّين الجالسين في نصف الدائرة أمامه. يُسلِّمون أنفسهم إلى كلماته، يَستغرقون فيها تمامًا، حتى يعلو أذان العشاء، فتعود الملامح إلى مألوفِها، ويَخفِت الصوت.

أدناه من الشيخ هيبة. كان يفصل في الخصومات، ويجيب عن المسائل، وإنْ مال إلى العزلة. يكتفي بالعيش — إلا نادرًا — على كسرات من الخبز. اشتغلَ بالزُّهد والعبادة، وترَك سائر الأشغال كان على وُضوء دائم، وموقِنًا بما عند الله. اقتصرَت حياته على إمامة المُصلِّين، وقراءة الكُتب، وتلاوة القرآن. لا يَفرح بشيء من الدنيا، ولا يأسَف على ما ضاع منها. فاق أئمة مساجد الحي ومَشايخ المسافرخانة في علوم الفقه، والقرآن، والسُّنة، والتفسير. إذا فرغ من أداء الفرائض لا يشتغلُ بنوافل العبادات، وإنما بالفكر وتَجريد النَّفس عن شواغل الدنيا. ربط قلبه في الله بسائر أوقاته وخلواته. صفَّى قلبه مِن الحُجب المانعة لها عَن مطالَعة الغيوب، فتحلَّت نفسُه بنفائس الأسرار والأنوار. لم يكن يُفصح عمَّا اختصَّه الله به من قُوى روحية وكرامات. البَوح يعني مغادَرة الدنيا، أو زوال الهِبة الإلهية. أدخل الله الحكمة في قلبه، فانطلق بها لسانه. ربَّما لِحَقه الوَجْد، وكثُر بكاؤه، في دروس المغرب، على دِكَّة المُبلِّغ.

شغله الأمر.

قال له أبوه: أنتَ ابن بحر.

ارتجفَت عضلة فكه: كيفَ؟

– ولدَتْكَ أمك في بلانس … أصَرَّت على شم الهواء في البحر … وكانت في شهرها الأخير.

وهو يحاول السيطرة على مشاعره: هل كان من الصعب إعادتها إلى الشاطئ؟!

تألَّقَت عَينَا أبيه ببريق باسم: صراخك عَلا قبل أن نصل إلى الشاطئ!

سأل بالفضول: أينَ حصل؟

– بالقرب من جزيرة صغيرة خارج البوغاز.

يتخيل — في جلسته قبالة الجزيرة — ما رواه له أبوه.

ما النَّجم؟ هل هو نجم حقيقي كالنجوم التي تظهر في السماء ليلًا؟

ضاقت عليه الأرض. لم يَعُد جزءًا من العالَم المحيط به. لم يَعُد له به صلة. لا شيء يجتذب انتباهه. لا شهوة في نفسه، ولا حرص على شيء من الدنيا. استوحش من الناس، وانقطع إلى الله يصوم النهار، ويقوم الليل. اقتصرَت حياته على البيت والجامع. يُؤدِّي الصلاة، ويُنصِت إلى عِظات الشيخ. طالَت صُحبته للشيخ نجاتي. يجلس بتأدُّب في حضرة الشيخ. يضع يديه على فخذيه كالجالس في الصلاة. لا يرفع صوته، ولا يسأل إلا إذا أَذن له الشيخ، ولا يَتناول ما يُقدَّم إليه في مجلسه إلا إذا كانت دعوته كأَمْر. عوَّد نفسه على سماع حتى الهمس من حديث الشيخ، وعلى رُؤية ما لا يكاد يبين من إشاراته، ويُلبِّي ما يصدر عن الشيخ في صورة تلميحات، أو أنه يظهر في عينيه، أو ملامح وجهه. صار الشيخ في داخله أغلى من نفسه، يُحبُّه مثل حبه لمديحة والولدين. إذا أشكل عليه شيء زار الشيخ في الجامع. يَقف على باب الحجرة المُطِلَّة على شارع السَّيَّالة حتى يأذن له بالدخول. يثق أن رؤية الشيخ صادقة، وتوقُّعاته لا تَحتمِل الشك، وطاعته واجبة، وأمره لا بد أن ينفذ.

عرف في نفسه — منذ الطفولة — تعطُّشًا إلى درك حقائق الأمور. اعتادت مديحة خَلوَته إلى نفسه، فترات تطول وتقصر، يتفرَّغ فيها تمامًا إلى القراءة والتأمُّل. لا يترك البيت إلا لأداء الصلاة في جامع سيدي أبو العباس، أو في جامع سيدي نصر الدين القريب. ربما سَحب كتابًا من المكتبة الخشبية الصغيرة لَصق جدار صحن أبو العباس، يقرؤُه، ثم يعيده إلى مكانه. قطع حِباله من المكان والزمان، فلا صِلة له بموضع غير الجامع، ولا بأحَد غير مديحة والولدين.

زاد من فُضوله قول الشيخ حين ألَحَّ في سؤاله: لن يغادر النجم مكانه حتى يأتي موعد الرحيل.

الرحيل؟!

احتضنَه بالنظرة المشفقة: رحيلُك … ألن ترحل ذات يوم؟

احتواه شوق عميق لأن ينفض عن نفسه ما تُعانيه من تَشوُّش. داخله العزاء بأنه يذهب بعيدًا عن مديحة والولدين لكي يعود إليهم بعد أن يَسترِد نفسه.

بذل هَمَّه في أن يفهم إشارات الشيخ وتلميحاته. لا يَتكلَّم، ولا يَسترسِل في الكلام، إلا إذا هزَّ الشيخ رأسه دلالة المتابعة. تَيَقَّن أن الشيخ يملك مِن المكاشَفة ما لا يملكه أحد من أئمة جوامع الحي ولا شيوخه، ولا حتى المُتفقِّهين في العِلم من أبنائه. عليه قبل أن يبدأ رحلة التعرُّف إلى النجم، أن يُخضِع نفسه للتصفية، والتجرُّد من العلائق الدنيوية؛ يَشغلها باكتساب الصفات المحمودة؛ كالصَّمت، والعبادة، والزُّهد، والمُجاهَدة، والصبر، والرضا، والشكر، والحياء، والتَّوكل، والشَّوق، والتسليم، والأُنس، والمحاسَبة. شدَّد عليه بأن يقطع علاقته بالدنيا والناس من حوله، يُفرغ قلبه من كل شيء. يقتصر على الفرائض والسُّنن، يجتهد فلا يَخطُر بباله شيء إلا الله سبحانه؛ تَنفتِح المغاليق، وتصل إلى قلبه الأنوار، والأسرار، والإمدادات، والرحمة، والسكينة.

ابتعَد عن الناس، وانصرَف إلى العبادة، استولَى عليه سلطان الحقيقة. حرص، فهو لا يتكلم في حضرة الشيخ إلا إذا سأله، أو دعاه إلى الكلام، ولا يرفع صوته، ولا يَتملمَل. جعلَ الشيخَ أُسوَته، واتِّباعَه شُغلَه الشاغل، والسَّير في طريقه هَدَفه الذي لا يَتحوَّل عنه.

لمَّا أظهر الخوف حين انقطع التيار الكهربي في أبو العباس، وميدان المساجد، قال له الشيخ في لهجة حانية: عوِّد نفسك على الظُّلمة؛ لأنك ستحيا فيها طويلًا.

دارَى قلقه بابتسامة مُستخِفة.

– ما أُعانيه ليس مرَضَ موت.

مسَّد الشيخ ذقنه.

– وهل تكلَّمتُ عن الموت؟

تاقَت نفسُه إلى عالَم الغيب. تحوَّل بأحاديث الشيخ، وما رَوَته أمه، ولقاء النجم المُتسربِل بالغموض، إلى رغبة جيَّاشة في ركوب البحر. شدَّد عليه الشيخ، فلا يمضي إلا بمقدار طاقته الرُّوحية واستعداده، لا يَتطلَّع إلى ما قد يَعجز عن بلوغه، ولا يُرهِق نفسه بما قد يأتي بنقيض نتائجه.

قال الشيخ: أنتَ لا ترحل إلى دُنيا تصيبها، أو امرأة تنكحها، رحيلك للبحث عن إجابات لأسئلة تُشقِيك.

•••

كان دائم التردُّد على المكان. يجلس على الكورنيش الحَجري. يتطلع إلى أُفق البحر. يُحاول أن يقرأ أسراره. يُدلِّي قدميه الحافيتين في الفراغ، يَلْتذُّ برذاذ الأمواج المتطاير. يَرقُب البلانسات والفلايك والطيور، وغازِلي الشِّبَاك وهم يَسُدُّون الثقوب في الغَزل المتآكل. مجرَّد الجلوس بلا عمل، يَهبُه الإحساس بالهدوء والسكينة، لا يشغله ما يجري في الناحية المقابلة من الطريق. يُطيل الوقفة في أيام الشتاء. يختار أوقات النَّوَّات وهُطول الأمطار واصطدام الأمواج بالحواجز الأسمنتية، واندفاعها إلى الناحية المقابِلة. تَعرُوه مشاعر تتمازَج فيها القوة والخوف، والطيور السوداء تَعوِي وتصرخ في السماء التي تُغطِّيها السُّحب المتكاثفة.

ما الذي يخفيه البحر في أعماقه، وأمواجه، وآفاقه المترامية، وغموضه؟

لم يكن قد رأى أعماق البحر. في ذهنه الكثير من حكايات عرائس البحر، والجِنِّيات، والخوارق، والعوالم المسحورة. لم يكُن على ثِقة مما قرَأه وسمعه عن أعماق البحر، وما إذا كان ذلك هو ما حدث بالفعل، أم أنَّه تعبير عن خيال جميل.

الرَّيِّس عبد الحافظ مِعوَّض شيخ الصَّيَّادين، وصَديق أبيه، تحدَّث — ودخان النَّرجيلة يختلط برائحة الأسماك في الحلقة — عن اطمئنان أرواح الموتى للحياة في قيعان البحار، وعن مخلوقات ليست كالتي يراها في الحلقة، ولا في شارع الميدان. مخلوقات تأكل الأسماك والنَّبات والبشر، ومخلوقات تَصعق مَن تلمسه، فلا يَتبقَّى منه حتى الرماد، ومخلوقات تَلتقط شخصًا بكامله، فتبتلعه دون أن تستخدم أنفاسها.

قال أبوه: لماذا هذه المهنة الخطرة؟!

في لهجة تسليم: هذه حياتنا.

صحبه أبوه إلى الأنفوشي وهو صغير، لِيعلِّمه السِّباحة، غلَبه الخوف، فرفَض النُّزول. حتَّى الصفعة التي هَوَى بها أبوه على صدغه لم تُبدِّل رأيه.

قال له أبوه: أنتَ ابن البحر … لكنك لا تحاول ركوبه.

كان يَكتفِي في العلاقة مع البحر بالوقوف، أو الجلوس على الشاطئ، يتأمَّل صيد السِّنارة، وصيد الطَّرَّاحة والجَرَّافة، والنوارس تهبط على الأمواج، تلتقط بمناقيرها الأسماك المتقافِزة، وغَزْل الصيد مَنشور على ظهور القوارب الصغيرة، والهياكل الخشبية للبلانسات في القزق، ١ وصواري البلانسات البعيدة، والتقاء أُفق البحر وأُفق السماء … هل هو النهاية، فلا مرئيات بعدها؟

لمَّا دعاه أبوه ليرافقه في رحلة إلى الجزيرة بعيدًا عن خليج الأنفوشي؛ رفض.

لم يكن يتجاوَز شاطئ البحر إلى داخله. الكورنيش الحجري، أو رمال الشاطئ، هما غاية صِلته بالبحر. كان يخشى المجازَفة والمجهول.

تكرَّر جلوسه على مَقهى الصيادين. قُبالة حلقة السمك. يتأمَّل حركة البيع والشراء، والطَّبَالي، وألواح الثلج، وعربات الفريشة، والأعمدة الرخامية ذات الطراز الروماني، والسَّقف ذي الكَمَرات الحديد، والكراسي ذات القيعان المَجْدولة من الخُوص، وضربات النَّرْد على الطاولة، وصيحات لاعبي الكوتشينة، وروائح البخور والمعسل والتُّمْباك، وصَرير عجلات التِّرام في انحناءة الطريق.

ظَل مشدودًا إلى فكرة الرحلة. تحوَّلت الرغبة الضبابية إلى عزم ثابت لا يستطيع دفْعَه. وُلِد النجم يوم ولادته، لحظة ولادته. البداية الواحدة تمضي إلى النهاية الواحدة. هو قادم من نجمه، ولا بد أن يذهب إليه.

بدَت الطريق وحيدة، لا بد أن يَمضِي فيها كي يعود إلى مديحة والولدين، ويعود إلى نفسه. لم يكن يملك ما يفعله.

تَيقَّن أنه لا يملك إفشاء سِر الرحلة، إلا أن يأمره الشيخ. اكتفَى الشيخ بما قال، لم يُجاوزْه إلى الإذن بأن يخبر مَن حوله باستعدادات الرحلة.

لم يكن ما يطلبه أسرارًا ولا وصايَا. هو يطلب ما يُنقذه ممَّا يُعانيه ويُؤلمه، ويُعينه على حياة أيامه.

هل هو هاتف حقيقي، نداء عليه أن يلبيه، أو أنها رِبقة سِحر قَيَّدته، فلا يملك التخلُّص منها؟

رافقه إيهاب القباني إلى باب الحجرة ذات السَّقف العالي والأضواء الباهرة. أسلم نفسه لطمأنينة جاوَزت الزمان والمكان، فعزَلَته عن كل شيء.

شدَّد على إيهاب فلم يتحدث إلى مديحة عن الطريق الوحيدة، أفضَت إليها طُرق متعدِّدة، مسدودة. لم يُكلِّم مديحة في نية الرحلة. الخوف — وربما الفضول — يَطرَح الأسئلة: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ … أسئلة لا نهاية لها.

– لا معنى للرحلة إذا صَحبني إليها أحد.

ثم وهو يحاول السيطرة على انفعاله: شَرْط الرحلة أن أسافر بمفردي.

قال إيهاب القباني: ما دامَت هذه طريق الشفاء … دَع لي أمْر إبلاغها.

وتَهدَّج صوتُه بصدق مشاعره: أنا أخوها … وهي تثق بي.

ثم بنبرة ملونة: وبكَ أيضًا.

وقال له الشيخ وهو يُودِّعه: امْضِ في الطريق إلى نهايتها … لا تَعُد قبل أن تلتقي بنجمك!

استطرد الشيخ متذكِّرًا: لا تَخُض البحر بقارب يعجز عن الفهم.

رفع عينيه متسائلًا: هل القارب هو الذي ...؟

ولم يكمل كلامه.

كان واقفًا ينتظر على السَّقَّالة المُوصِّلة إلى البلانسات، واللوتسات، والفلايك، والدناجل. إلى اليسار، المسجد الصغير، ومَعهد الأحياء المائية، وقلعة قايتباي. وإلى اليمين، امتداد البنايات إلى السلسلة في مدَى الأفق، تفرَّقت القوارب مبتعِدة إلى الميناء الشرقية، وإلى خليج الأنفوشي، وبعيدًا إلى ما بعد البوغاز. تتناهى إليه أصوات الواقِفين على اللسان الخشبي الممتد داخل البحر: صيادين، وغازِلي شِبَاك، ونَجَّاري سُفن. وثَمَّة شِبَاك منشورة لِتجِفَّ على حبال ممدودة بين المراكب الراسية على الرمال.

قال له إيهاب القباني: سأصحبك إلى الكابتن.

رمقه بنظرة مُتوجِّسة: من هو؟

– هذا هو اسمه … الكابتن … لا يعرف الناس له اسمًا آخر.

وهَز قبضته في تأكيد: لن يُعِدَّك لهذه الرحلة سواه.

– هل هو من رجال البحر؟

علا صوت القباني بضحكة منفعلة.

– قل هو البحر نفسه.

له قبول احتواه. في حوالي الخامسة والخمسين. قامَة طويلة أقرب إلى النحافة، وبَشرة سمراء اصطبَغت بلون نحاسي، وأنْف حادٍّ مُقوَّس قليلًا. تتخلَّل رأسه شعيرات بيضاء، تُطل من عينيه السوداوين العميقتين نظرة هادئة، ويَعلوهُما حاجبان مثل هلالين صَغيرين، ويتدلَّى شاربٌ رفيع على جانِبَي فمه، وثَمَّة أثر جُرح ممتد من أسفل الذقن إلى العنق. يرتدي قميصًا أسود، ثَنَى أكمامه، فكشَف عن ساعِدَين قويين، وبنطلونًا قصيرًا ينتهي عند الرُّكبتَين، وحِذاءً من الكاوتش. لاحَظ تداخُل سَواد في بياض أسنانه، فخمَّن أنه يُكثر من التدخين. وكان يَدُس يده في جيبه. يخرج ساعة بكتينة. يتأمل الوقت، ثم يعيدها.

– الكابتن؟

– أنا هو.

وأخرج من جيبه مشطًا، تخلَّل به شعره، وأعاده إلى موضعه.

حدَجَه الكابتن بنظرة متأمِّلة: وجه مستطيل أبيض، وإن مال إلى الشُّحوب. عينان واسعتان، يُطِل منهما حُزن. أنفه الصغير لا يتسق مع اتساع عينيه، وغِلظة شفتيه، وثَمَّة شامة بُنِّية أسفل خدِّه، والسِّنَّة الأمامية ناتئة بصورة واضحة.

– لما كلَّمَني إيهاب عنكَ تصوَّرتُك أكبرَ سنًّا مني.

هزَّ رأسه بما يعني عدم الفهم: لماذا؟

وهو يهرُش قفاه، ويحدجه بعينين متأملتين: ما عانَيته يكفي لحياة شيخ.

انتزع ابتسامة فاترة.

– أنا سنبُلة قمح داخلها خواء، وإن ظلَّت القشرة متماسكة.

أغمض عينيه لدلالة التعبير، ثم اتَّجَه إليه بنظرة متسائلة: ماذا تريد أن تتعلَّم؟

– كل شيء … كل شيء عن البحر.

تأمله بنظرة متفحصة.

– كما أرى … لن تُصبِح صيادًا!

في لهجة تقريرية: أريد أن أركب البحر.

انعكست الدهشة في نظرته.

– بحار؟!

أراد أن يروي ما يعانيه، لكنَّ أمْرَ الشيخ أسكته.

– مجرد أن أتعلم الحياة في البحر.

أردف في لهجة باترة: أريد أن أركب البحر.

تأمَّل الكابتن رجلًا عارِيَ الصدر، وضَع شعلة النار بالقرب من فمه، ونفَث. انطلق أمامه لسان من اللهب. قال: تعرف المسافرخانة؟

– أمُرُّ بها أحيانًا.

– اسأل عن قهوة حُودة … تَجدُني بين المغرب والعشاء.

تابع المناقشات، والفِصال، والمساوَمات، والتعاقُد على الشروات، وركوب البحر، وتوقُّعات الحرارة، والبرودة، والأمطار، والرياح، والنَّوَّات، ومناطق الوفرة. اكتفى بالإصغاء فلا يتدخل. ينشغل الرجل في أحاديث لا تنتهي، تشمل كل ما رآه في البر والبحر. يَروي قصص البحَّارة، والرحلات البعيدة، والصيادين الذين غالَبوا تَوالي ارتفاع الأمواج، والنَّوَّات، والأسماك المتوحشة، وحيوانات الماء. يُجيد غَزْل الخيوط بما يجتذب السامعين. يُعيد الحكايات في قَعدات تالية، يُضيف ويَحذِف ويُحوِّر. ينسب بعض الحكايات إلى نفسه، يبين من كلماته وتصرُّفاته أنه قد رأى الكثير، وعاش الكثير من لحظات الانفعال. غرائب، وخوارق، يُقسِم أنه لم يكن يُصدِّقها لولا أنها جرَت معه، ورآها رؤية العين، وعاشها، وعانَى تأثيراتها. وكانت الأمور تستوي في نظره، فهو لا يأسف على شيء.

لم يكن يشعر حتى بوجوده. كان يجيد الحَكْي، ويتكلَّم بنبرة واثقة، فهو يُجبِر الملتَفِّين من حوله على أن يكتفوا بالإنصات والموافَقة. يبدأ بالعبارة التي تَلفِت الانتباه. ربما التقط حادثة ليست هي البِداية لما ينوي روايته. مجرَّد طرف خيط يَصله ببقية الخيوط، بما يدفع إلى المتابَعة. يختار الوقَفات. يثير الأسئلة. يشغله الصمت المُنتَبه والمتابع. وربما دخل المقهى مجموعة بحَّارة، تعلو أصواتهم بِلُغة لا يفهمها، يَتَّجِه إليهم الكابتن باللغة نفسها.

ربما تردَّد — وقت الظهر — على قهوة فاروق. يقوم من جلسته في القهوة إن لمح قدوم جنازة. يرفع إصبعه، ويتلو الشهادتين، ثم يندفع أسفل النعش يُحاول المشارَكة في حمْله؛ ليكسب ثوابًا يشفع له في آخرته، خطوات ويعود. قبل أذان العصر يُلقِي السلام، ويَمضي. يُلقِي السلام، أو يردُّ عليه، أو يهز رأسه ردًّا على هزة رأس مماثِلة. يُلبِّي الدعوات في داخل القهاوي والدكاكين. ربما طال سَيره مع صديق الْتَقى به على الكورنيش، لم يعرف مَن كانوا مَعارف الرجل أو مَن بينه وبينهم صداقة. يُحادِث الجميع كأنهم أصدقاء قُدامى، يُنهي اختلاف المناقشات — إن احتدَّت — بمَثَل يبدو وجهة نظر مناسِبة، وتَصلح للاتفاق. وكان يَشرُد أمام المناقَشات التى تتناول أمورًا دينية، ويكتفي بأداء صلاة الجمعة في أبو العباس.

أدهشه أنَّ الكابتن يستطيع التعرُّف على جنسية بحَّارة السُّفن الأجنبية، أو السُّياح، بِسحَنهم المختلفة، ورَطاناتهم التي ربما تَغيب عنه هو نفسه. الملامِح والتصرفات والإيماءات، حتى تعبيرات اليدين يَبنِي تخمينه بتوقُّعها.

صَحِبه الكابتن بعد أداء صلاة الجمعة إلى متحف الأحياء المائية. تنقَّلَا بين الأحواض الزجاجية، تَسبح فيها أشكال وتكوينات وألوان من الأسماك لا حصر لها.

زار الكابتن في بيته، يُطِل على شارع الدخاخنية المتفرِّع من شارع الميدان. في أسفل دكاكين لبيع الذَّهب، والعطور، والأقمشة، والعطارة، وثَمَّة أصوات مُتصاعدة: نداءات، وصيحات، ودقَّات خافتة. طالَعَه على باب الشقة حلقة من الأصداف والقواقع. وفي المدخل عُلِّقت هياكل مُحنَّطة لأسماك، ولأجساد تُشبه أجساد البشر، واستندَت إلى الجدران رماح، وحِراب. وعلى الجدار لوحة صياد طَرَّاحة يُلقِي شَبَكته، وفي امتداد الجدار، فوق باب الحجرة الوسطى هيكل لسمكة هائلة، لعلها القِرش.

تناهى — من وراء الحجرة المواربة — صيحات أولاد وبنات.

قال لملاحَظَته الصامتة: خِلفتي من ثلاث نساء.

وأطلَق من فمه ضحكة مبتورة.

– أحلَّ الله الزواج من أربع.

كان يَتصوَّر في كلماته سخرية، لكنه أدرك أن الجِدية التي يتحدث بها حقيقية.

لم يسأل الرجل عن وظيفته، وإنْ عرف من كلامه أنه يعمل باليومية في رصيف إصلاح السُّفن. يتكلَّم عن البواخر الهائلة، وعَمليات الترميم والإصلاح، وتحويل البواخر إلى خُردة، ووسائل الإنقاذ، وانتشال السُّفن الغارقة. وفَهِم أنه يجيد تشغيل أنواع المراكب؛ البلانس، واللوتس، واللنش، والفلوكة، ويجيد صيانتها وإصلاحها، وربما ابتكر قطعًا بدلًا من التالفة.

قلَّب الكابتن أمامه ألبومًا هائلًا يحفل بصور المحيطات، والبحار، والحيتان، والدرافيل، وأسماك القرش، والأسماك العادية. حتى أسماك الزينة الصغيرة طالَع صورها.

حين سأله عن عدد الرحلات التي ركب فيها البحر، أغمَض عينيه في محاولة للاستعادة. ثم هزَّ رأسه دلالة عدم التذكر.

دعاه إلى أكلة أم الخلول بالحباش. نصَحه بأن يكثر من تناوُل الاستاكوزا أو الجمبري. قال لابتسامة متخابثة: لا أقصد الجنس … الفائدة الأهم أنها تمدُّك بشجاعة مطلوبة.

استطرد كأنه يوضح ما قال: لن تصحبك إلا الشجاعة في ركوب البحر.

وهرَش ذقنه بطرف إصبعه.

– أُصارحك بأن عمَلي في البحر دفعَني إلى التَّظاهُر بما لا أقوى على احتماله.

وارتعش صوته بالانفعال: لما ماتَت أمي لم أستطِع أن أُظهر حُزني لفَقدِها.

وأرخى جفنيه.

– فكَّرتُ في أن أبكي … لكنني تماسكتُ؛ كنت قد قلتُ للصيادين: إن الرجل الحقيقي لا يبكى مَهما يحدث!

أذهَله ما يعرفه الرجل عن الكثير في السماء، والبحار، والمحيطات، والأعماق، من الأسرار المثيرة. بدَت السماء — في ضوء معرفته — بلا حدود، والبحار بلا أعماق، والأسرار المُغلَقة صفحات في كتاب مفتوح. خُيِّل إليه أن الرجل قاسَ أعماق البحر إلى نهاياتها، وقرأ أسرارها، وتعرَّف إلى كل ما تحويه من أسماك. بدَا على معرفة بكل الجُزر، ومناطق الوفرة والجدب، والشواطئ من الأنفوشي إلى السَّلُّوم.

كلَّمه عن طرق الإبحار، ووسائل الصيد: السِّنَّارة، والكنار، والبُوصة، والشراكة، والطَّرَّاحة، والجَرَّافة، وعن نُذر الأنواء، والأسماك التي تستطيع الطيران، وتتسلَّق الشجر، وتُحدِث الصدمات الكهربائية، وتُؤدِّي شوكاتها إلى الموت، حتى وهي ميتة، حتى الأسماك التافهة: الشرغوش، المغازل، البساريا، السيفوليا، الكحلة. وكلَّمَه عن الحيوانات المائية الهائلة، تبتلع البلانسات والبواخر الكبيرة بمن فوقها. وعن الإسفنج، والطحالب، والقواقع، والأصداف، والقنافذ، والسلاحف. وكان ينصح بطحالب علاجًا للأمراض، وطردًا للديدان، ويُجيد صَحْن الأعشاب وخلْطَها. تتحوَّل إلى مَراهم تُداوي الجروح. ويَجد في الملح غولًا يُدمِّر كلَّ ما يصل إليه. الدُّود يأكلنا بعد الموت، أما الملح فيأكلنا في الحياة. يأكل حتى جدران البيوت، والأثاث، والقضبان الحديدية.

فرَّق — للمرة الأولى — بين مواعيد الأنواء وقُوَّتها. يستمع إلى القول: نَوَّة، فيستدعِي الريح، والمَطر، والبرْد القارص. نَوَّة المكنسة في ١٧ نوفمبر، تستمر خمسة أيام. قاسم في ٥ ديسمبر، تستمر خمسة أيام، الفيضة الصغرى، ٢٠ ديسمبر، تستمر خمسة أيام، عيد الميلاد أو الفيضة الكبرى، ٢٩ ديسمبر، تستمر ١٢ يومًا. الغطاس، ١٩ يناير، تستمر ثلاثة أيام. الكرم، ٢٨ يناير، تستمر سبعة أيام. نَوَّة الشمس الصغيرة، ١٨ فبراير، تستمر ثلاثة أيام. السلوم، ٢ مارس، تستمر يومين. نَوَّة العوة — ما بعدها نَوَّة — ٢٤ مارس، تستمر ستة أيام.

كان الكابتن يملك قرار النزول إلى البحر، أو لُزوم البر، فتظل البلانسات على الشاطئ. يعرف قُوَّة النَّوَّات قبل مجيئها. يطيل تأمُّل السماء، والتَّنصُّت لصوت الهواء والريح. يقول في هدوء: اركبوا البحر.

ربما تُبِين ملامحه عن التأثُّر وهو يقول: لا تركبوا البحر.

ينزل الرجال البحر، أو يَمتنعون عن الصعود إلى البلانسات. كلماته وصايا يجب تنفيذها.

روى إيهاب القباني عن مواجهته لهياج البحر، إن خشي الآخرون التَّصدِّي لتقلُّباته وأحواله.

قال الكابتن: إنه لا يذكر مَن أطلق عليه التسمية للمرة الأولى، لكنها الْتَصقَت به، كأنها اسمُه الحقيقي. حتى في البيت كانوا ينادونه بها. وكانت هي التسمية التي يُقدِّم بها نفسه. عرف أن أباه كان فتوة السَّيَّالة إلى حدودها مع رأس التين، والمنطقة التي تَلِي ميدان أبو العباس. ورث مَهابة أبيه، وإن لم يرث مِهنته. تواصَلت أعوام ركوبه البحر. يسافر إلى المواني والمدن البعيدة. يعود مُحمَّلًا بالحكايات، وبما يُعِين الصيادين على أيامهم. لاحَظ أنه لم يُبدِّل ارتداءه للقميص والبنطلون. يكتفي — في الأيام الباردة — بوضْع ما يشبه الفانلة من قماش قُلوع المركب تحت القميص.

قال الكابتن: إن مياه البحر ليست مجرَّد شيء نستعمله، أو نستمتع برؤيته … إنها حياة.

واتجه إليه بعينين متأملتين: هل تحب البحر؟

ارتبك لمفاجأة السؤال.

– هل هناك مَن لا يحب البحر؟

– أقصد أن يصبح البحر حياتك.

أنْصَت — بالدهشة — لما رواه إيهاب القباني من أن الكابتن أوصى بأن يُدفَن — بعد موته — في مياه البحر؛ البحر بيتُه الحقيقي الذي لا يتصور — حتى بعد الموت — أنه يفارقه، وأن تأكله الأسماك التي يُحبها أفضل من أن تأكله الديدان التي يكرهها.

قرأ في كُتب الجغرافيا العربية، وكُتب الرحلات: «عجائب المخلوقات»، «نُخبة الدهر في عجائب البر والبحر»، «خَريدة العجائب»، «آثار البلاد»، «حديث السندباد القديم»، «سندباد عصري». قرأ حكايات البحارة: أحمد بن ماجد، وملفيل، والسندباد، والنساء المعلَّقات من شعورهن إلى الأشجار، يُردِّدن القول: واق واق … تبارَك الله الخلاق! … إذَا أثار المشهد مَن يُحاول فَصْلَهن، لَفَظْن الأنفاس في الحال. أهمَل الصفحات التي لم يجد فيها ما يهمه، أو لا يفهمه. يتأمَّل ما يجد أنه يفيده في رحلته. تشابَكت المشاهد واختلطَت: أكلة للحوم البشر، يُعلِّقون مَن يقع في أيديهم منكسًا، يُقطِّعونه، ويأكلونه … تِنِّين تَصدُر النار من فيه ودُبره، فتحرِق كل ما تلقاه … حيوانات هائلة الأحجام والأشكال، تضرب المراكب بذيولها، فتُغرقها … حيَّات تبتلع الأفيال، وتبتلع كل ما تُصادفه: البشر، والأسماك، والقوارب الصغيرة بما تحمله … طيور تُغطِّي أسرابها وجْه الشمس، ترفعُ الناس في مناقيرها أو مخالبها … سلاحف ضَخمة، إن لم تُغادر أماكنها، يَتصوَّر مَن يراها أنها جزيرة فوق المياه … براكين تَمُور في الأعماق، تقذف حُمَمها، تبتلع المراكب، والجُزر، والشواطئ.

عرف جواب السؤال: ما سِر فَهْم الكابتن لخصائص الأعشاب، حين لاحَظ تردُّده على دكاكين سوق التُّرْك القريب من بيته. يدخل في مناقشات ودُعابات، ويصرخ صوته بالغضب، ويعلو بالضحكات المُقهقِهة.

ظَل على حرصه بأن يُخفِي باعِث الرحلة في نفسه. اكتفى بأن يُحدِّث الكابتن عن رغبته في الرحلة، وعن الأعراض الغريبة التي لا يدرِي سِرَّها. أخفَى حتى نصائح الشيخ نجاتي. بدَا الكابتن مُحبًّا للحياة، فهو سيرفض فكرة الرحلة — إن عرف باعثها — من الأساس.

انزلق — ببطء — من جانب القارب، حتى لا يتناثر الرذاذ.

تقدَّم في المياه. تَلفَّت نحو الكابتن في وقفَته على الشاطئ لما غطَّت المياه ساقَيه. عاوَد التَّلفُّت عندما غمَرَت المياه بطنه وصدره وعنقه. توقَّف تمامًا، واتَّجَه إلى الكابتن بنظرة متسائلة. أشار إليه الكابتن، دلالة أن يسبح.

دار حول نفسه دورة سريعة. حرَّك ذراعيه وساقيه، بما يُتيح لجسده العوم فوق الماء.

كان يتأمَّل البحر، يُحاوِل تخمين ما يحدُث تحت سطحه، سواء كان هادئًا، أم تعلو أمواجه.

وحك جبهته بظفر إبهامه.

– البحر ليس هو السطح … في الأعماق عالَم لا يقلُّ صَخبًا عن عالَم الأرض.

وقطَّب حاجبيه.

– عدم رؤيتنا لما تَحت الماء لا يعني أنه غير موجود.

ومطَّ صوته ربما لِيؤكد المعنى: البحر صديقنا … نَركَبه، ونصطاد منه، ونسبح فيه … لكن صَداقته غير مضمونة. إنه مثل الأسد الذي اطمأن إليه مُربِّيه، ثم تَبيَّن غدره بعد فوات الأوان.

طالَبَه أن يختبر مِن أمر البحر بنفسه: أحواله، وطُرق الصيد، وصناعة القوارب، وكيفية تَسيِيرها، والغَوص.

افْترَّ فمُه عن ابتسامة مشفِقة، وهو يَلحظ تدلِّي قدميه في الماء.

– ربما وجدَت سمكة شقية في رِجلِك ما يُغري بالعض!

ثم لوَّن صوته بنبرة جادة: لا تنخدع بهدوء البحر … هناك القناديل.

حدَّثه عن الأجسام الهُلامية المتناثرة على امتداد الساحل، تَحرِق الجلد بملامستها له. حتى شِبَاك الصيادين تُمزِّقها.

لم يستطع أن يَتخيَّل ميادين وشوارع وأبنية. رفض تَصوُّر حتى مُدن عرائس البحر والجِنيات، كما في الحكايات التي قرأها، واستَمع إليها. كانت أمُّه قد تحدَّثت عن عرائس البحر، تُغري ضحاياها بالشَّدْو الجميل. يَقترِب مِن حيث جاء الصوت. تَجتذِبه الدَّوامات القاسية إلى أعماق البحر، فلا يعود. حتى حكايات السندباد لَزِمت اليابسة وسطح البحر، ولم تَهبط إلى الأعماق. تحدَّدت صور التَّخيُّل في غابات، وأحراش وصخور وبَراكين وأسماك صغيرة، وهائلة، الحجم.

حين دفع إليه الكابتن بالكراسة الصغيرة، ساعَده على قراءة مُفرداتها الخطُّ الواضح المشكول، ربما لِيعفيه من عناء القراءة الخاطئة. كل مُفرَدة لها ما يقابلها من لغة، سِيم البحَّارة والصيادين: مدخل الميناء = البوغاز … الحبل = لبان … ربط أطراف الحبال = صَبْرَصَه … الصاري الكبير = جراندي … أحد صواري السفينة = ميزان … الصاري القريب لمُقدِّمة المركب = تراكيت … العُود الخشبي لربط الشراع = قاريه … قطعة الخشب لدفع المركب في المياه الضحلة = المدرة … أسفل السفينة الغاطس في الماء = قرينه … قطعة معدنية تُثبَّت في حافة سور القارب، وتستخدم لتثبيت المجداف = الرِّكاب، أو الجاليه … طرف المرساة الخطافية الشكل = تِرْناق … إنزال المرساة إلى أعماق الماء = فوندا … سد شقوق ألواح المركب = قلفط … جسم عائم في الماء لإرشاد المراكب = شمندورة … الإبحار من نقطة ما والعودة إليها = بولطة … عودة المركب إلى الوراء = سيَّه … مُلامسة المركب للشاطئ = التراكي … البرواز الخشبي، أو مِن الحبال، أو الفِلِّين، تُبطَّن به أرصفة الرَّسْو لحماية السفينة من الاحتكاك المباشِر بالرصيف الخرساني = الفندر، التَّكَّاية … المياه الغريقة = الدشور … اليمين السنجق … الشمال = السقالة … اسحب = بيرة … امسك = أجانتا … الدَّفة = الضمان … سطح السفينة = كاورته … مُقدَّم السفينة = البروة … مؤخرة السفينة = الآش … عجلة القيادة = دومان … أداة توجيه السفينة = دَفَّة … عمود نقْل الحركة من الماكينة الرئيسية إلى الرفَّاص = عمود الرَّفَّاص … الهلب = المخطاف … الآخر أو النهاية = ألاباندا … أحد جانبي السفينة = لابنده … يمين للآخر = سنجق ألاباندا … القارب الصغير = فلوكة أو كوتر … القارب الصغير السريع = كيك … القارب البخاري = لنش … القارب الشراعي الكبير، يُستخدَم خاصة في صيد السردين = لوتسو … القارب مسحوب الطرفين = ويلر … المركب الكبير بالأشرعة والآلة = البلانس … ثُقوب الشِّباك = الماجة … السمك الكبير = العفر … السمك الصغير = الدور … طَي الشراع وربطه = استنجه … إرخاء حبل حتى لا ينشر الشراع = لَلْسَكه … خفض شيء ما في السفينة = مانيه … حواجز صد الأمواج = مولص … ارتداد المركب، أو تغيير اتجاهه، أو سحبه = هاله … استعداد المركب للإبحار = ألسطه … الأمر برفع شيء = إيصا … الإذن بمخالطة أهل المركب لأهل الشاطئ = براتيكة … الاستفادة من الريح المواتية = بُوجي … الاستفادة من الريح المعاكسة = قورصه … السير بالسفينة الشراعية في خط متعرِّج = التبليط … فِراش معلَّق كالأرجوحة = همك … فراش يرقد فيه البحار = يَطَق … حاجز من قماش الخيام = ورده صوله … رئيس الملَّاحين، أو الملَّاح المكلَّف بتشغيل الأشرعة = يلكنجي.

قرأ عن الطائر الهائل، يهبط على راكب السفينة. يأخذُه بين مخالِبه، ويطير إلى حيث لا يدري أحد، وربما رمى به على إحدى الجُزر المتناثرة في البحر.

حذَّره الكابتن من حيَّات البحر؛ إذا تَنبَّهَت إلى تردُّده، أو خوفه، تقافَزت عليه، فلا تتركه إلا بعد أن تُحيل جسده ثقوبًا. وتحدَّث عن حية إذا سبَقت نظْرتُها نَظْرته، ماتَ من فوره. وحذَّره من سلاحف بحرية تُجيد الاختفاء والتسلل. إذا تأكَّدَت من ركوب البحر بمفرده، أحاطَت به تنهشه، لا تُبقي حتى العظام.

عرف الكثير من حكايات البحر، والمواني، وعرائس البحر، والصيادين، والأسماك المتوحِّشة، وتقلُّبات الأحوال، والدَّمار الذي تُسبِّبه النَّوَّات، لكنَّ البحر ظَل — في باله — غامضًا، مُحاطًا بالرهبة والغموض والرُّؤى الباهتة.

•••

قال الكابتن وهو يَتفحَّص السمانة بين أصابعه: هذا نوع من السمان تكفي نفخة فم لإسقاطه.

ومط شفته السفلى: لكن طعمه أقل حلاوة.

كان قد تَنبَّه إلى ارتطام السمانة بالقارب المقلوب؛ مد يده فتناولها.

– لم تُحاول أن تهرب!

كان قوس قُزَح يَعلو السماء الصافية فيما عدَا نُتَفًا من السحب البيضاء، المتناثرة، وتكسُّرات الأمواج تترامى على الصخور القريبة، وجُحور حفَرتْها الكابوريا، وقناديل ميتة، وبقايا أعشاب وطحالب، والطيور تَلمَع كالومضات السريعة فوق المياه. تَلتقط الأسماك وتعلو، وثَمة فلوكة تَجُر الطَّراحة في عومِها المتباطئ.

تعلَّم كيف يحتفظ بالقارب سليمًا، أيًّا تَكن الرياح والأنواء التي تواجهه. التأكُّد من سلامة مُعِدَّات المركب، ومعرفة حركة الرياح والتيارات، ومواعيد النَّوَّات، والاطمئنان إلى سلامة البوصلة ليعرف إلى أين يذهب. تعلَّم كيف يَنزل من القارب في الأرض الضحلة. يجذبه بحبل إلى الشاطئ، ثم يربط الحبل بوتد مغروس في الأرض. وتعلَّم كيف يقيس عمق المياه بالتحديق فيها، طَفْو الأعشاب والطحالب، وحركة أسراب السمك، وتَبايُن الألوان بين الشفافية وكثافة الزُّرقة. عرف حركة المَد والجَزْر، ودورات هجرة السمك، وردود أفعالها، وتأثير التيارات، وتَقلُّبات الأمواج عليها، وانعكاسات الأعماق في اختلاف ألوان السطح بين سماوي، وأزرق فاتح، وأزرق داكِن. كل لون يُبين عن اختلاف العمق، ونوع القاع، وما يَضمُّه من أسماك، وأعشاب، وطحالب، وأماكن التجمُّعات والوفرة والجدب. تعلَّم كيف يُمسك بالدَّفة، وكيف يُديرها. حذَّره من أنه إذا تاهَ بالقارب فقد يَمضي إلى حيث لا يعرف أحد، ولا يعرِف هو نفسه.

حتى نَشْر الشِّراع وطَيُّه، تعلَّمه. حين يبدأُ رحلته لن يركَب سوى لنش، لكنَّ الرجل حرص على تَعليمه كل ما يتصل بالبحر؛ لأن ذلك هو ما طلبه.

صرخ بالألم، في اليوم الأول، لتقلُّص في سمانة السَّاق. حرَّك السَّاق ومُشط القدم وهو يَتأوَّه. فقَد القُدرة على السِّباحة. انتزعه الرجل من الماء، ودلَّك سمانة السَّاق بسرعة، حتى اختفى التَّقلُّص.

كانت تعرو ركبتيه — في بدايات التعلُّم — رعشة، تَهتزَّان فلا يقوَى على إسكاتهما، تَخذلانه، وتَهوِيان به إلى أسفل. يَكتُم الصرخة في فمه، ويبذُل جهدًا للسيطرة على جسده، ويتمنَّى الخلاص من الموقف على أي نحو.

أبْدَى ملاحَظة، فاعتبرها الكابتن أمرًا مألوفًا: ميل القارب إلى الجانب. تعلو المياه إلى حافته، فيبدو كأنه يغرق.

ألِف السِّباحة، ومَجال الرؤية: أُفق المياه اللامتناهي، والبلانسات المتناثرة، والشَّريط الرمادي الساحلي يبين — عند اقترابه من الشاطئ — من البيوت المتلاصِقة في امتداد الطريق، من انحناءة الطريق إلى سراي رأس التين، إلى انحناءته في دوران الترام.

أذهلَته السَّمكة الكبيرة، تَلتهِم ما يصادفها من أسماك صغيرة، ثم تُواصل العوم.

قال له الكابتن: هذه هي الحياة … الكل يأكل الكل … حتى تأكلنا الأرض في النهاية!

لمَّح بما رواه الشيخ نجاتي. لم يَجد في كل مَن تحدَّث إليهم مَن سعى إلى رؤية النَّجم. أبْدَوا عدَم الفهم، فأمسك عن الإفاضة. ما رواه الرَّجل سِر خصَّه به. سِرُّه الذي يخصه. الشيخ وسيط بين مصدر السِّر وبينه.

حذَّره الشيخ نجاتي من توحُّش النجم. إذا جاء، فمن الصعب أن نَتنبَّأ بما يحمله.

هزَّ رأسه بما يعني الفهم.

– أنا أمتلك عِناد أمواج البحر.

كان الكابتن يعرف اتِّجاه القارب دون بوصلة. ينظر إلى موضع الشمس، وحرَكة الأمواج. ثم يُشير إلى الاتجاه الصحيح.

قال لملاحظته المتسائلة: هذه خبرة عُمْر … هل تحتاج إلى بوصلة للسير في بيتك؟!

وتهدَّج صوته بصدق مشاعره: البحر عندي ليس كذلك. ليس مجرَّد مياه وسماء ومَراكب وأسماك. أنا أسأله وأُناقشه … وأتعلَّم منه.

وألقى برأسه إلى الوراء مُغمض العينين.

– البحر موجود من قبل أن تنشأ الأرض … والبحر يصل إلى كل مكان، ويحتاج إليه كل البشر … وأسراره — حتى الآن — لا نهاية لها!

وأحاط جبهته بأصابعه.

– أودَعتُ رأسي أسرارًا كثيرة، ثم أغلقتُ عليها، وقذفتُ بالمفتاح في البحر.

ثم في لهجة تأكيد: تستطيع أن تتعلَّم الكثير من البحر.

ورفَّت على شفتيه ابتسامة.

– قبل أن أعتزل ركوب البحر، كنتُ أتمنى أن أموت في الغميق البعيد.

وهز رأسه.

– كنت سأدفن في المياه حسب القوانين.

وتداخلَت في صوته بحة: السَّمك أفضل من الدود.

تَمتَم بما يشبه الهمس: أطال الله عمرك.

اتَّجه إليه بعينين متأمِّلَتين.

– تحب البحر؟

قال: طبعًا.

– ينبغي أن تخشاه أيضًا … لا تكرهه … وإنما تخشاه.

أضافَ في لهجة مشاركة: البحر مثل الأب، نُحبُّه ونخشاه.

•••

اختار الصباح موعدًا للصيد. أشعة الشمس تميل على سطح الماء، فيسهل تَبيُّن الأعماق القريبة.

قال الكابتن: أنتَ لا تستطيع أن تصيد السمك من الطبق.

وعبَّر بيديه: لا بد أن تُلقِي بالسِّنَّارة في الماء لتصيد السمك.

وتعكَّرت نبرات صوته: الصيد حِرفة الفقراء وهِواية الأغنياء.

استطرد في مرَح متكلَّف: الصياد المحترِف يشغله أن يمتلئ الغَلق ليكسب من بيع الشروة … الهاوي ربَّما أعاد الأسماك التي اصطادها إلى الماء ثانية.

انتزع ابتسامة هيئة.

– أنا لا هذا ولا ذاك … أنا أتعلَّم.

هزَّ رأسه مُؤمِّنًا.

– صيد السمك غِيَّة.

وطرْقَع بإصبعين.

– لكنه عِلم وفَن كذلك.

وحدجه بنظرة طويلة، كمَن يتأمَّل وقْع كلامه.

– سبُّوبة الصيد لا تعنيك … لكن الغِيَّة تطلب الحب … لم يسأل إن كان هناك باعة لأدوات الصيد غير دكان وكالة الليمون. امتلأت بالأجولة وعُلب الكرتون والقَصبَات والسِّنَّارات، واندلَقت على الرصيف مجموعات الدوبارة، والخيوط النايلون، والحبال، وغمَّازات الفِلِّين، وتَقَّالات الرصاص والإسفنج، وبراميل القطران.

في المَرَّة الأولى، اشترى البوصة والسِّنارة والطُّعم، ثم اقتصر ما يشتريه — فيما بعد — على الطُّعم وحْده. علَّمه الكابتن كيف يُحسِن اختيار الخيوط، فلا تَنقطِع وهي ترتفع بالسمكة. لكل منطقة أنواع من الأسماك، ولكل نوع خيط يُستخدَم لصيدها.

قال الكابتن: الآن، نبدأ الصيد.

وأردَف في لهجة مهونة: صيد السِّنارة لا يحتاج للابتعاد عن الشاطئ.

نثَر قِطعًا من الطُّعم في الماء. راقَب اندفاع الأسماك نحوها، تندفع، تلتقِط الطُّعم وهو يهبط إلى القاع، أو وهو يَعوم على السطح. يَستخدِم الأسماك الحية والمَيِّتة والجمبري الصغير، أو الطُّعم الصناعي، أو العَجِين. ربما تُقطَّع السمكة المتوسِّطة الحجم قطعًا صغيرة. يُغطي السِّنارة بالطُّعم، فلا يظهر جزء من السِّنارة يبعد السمكة عنها.

ترَك الخيط ينساب بين إصبعيه، وطوَّح البوصة بقوة. اتَّسعَت دوائر الماء فوْر سقوطها.

كان يَرقُب أسراب السَّمك وهي تلتهم الطُّعم المتناثر في الماء، يطفو على السطح، أو تلتقطه الأسماك وهو يهبط إلى القاع. يصبر على اهتزاز البوصة في يده. يُخفق في اجتذاب السِّنارة. يظل في جلسته حتى يطمئن إلى ما عَلق بالسِّنارة، فيجتذبها. السمكة لا تحاول التقاط الطُّعم بمجرد رؤيتها له. تَعرِف الحذَر. بالذات في سكون سطح البحر، ربما انقَضَّت على الطُّعم إذا تحرَّك الموج. لم يَعُد السطح حصيرة. ربما لاعبَت الطُّعم مثلما يُلاعِب القط الفأر، تُناوِشه، تترُكه، وتعود إليه، قبل أن تُقدِم على التهامه. إذا بدت السمكة — من شدة جذْبِها — كبيرة، عليه أن يُرخي الخيط لها، فلا تجذب الصياد نفسه، أو تُمزِّق الخيط.

قال الكابتن: صيد السمك ليس سهلًا كما يبدو.

وتَنبَّه لذبابة على أنفه. ذبَّها بيده، وأردف: يُعلِّمك الصبر أفضل مما يُطعِمك السمك.

ثم في لهجة ذات معنًى: تحتاج إلى صبر كثير في رحلتك.

تأمَّل السمكة وهي تنتفِض في السِّنارة، وهي تهتز في المشَنَّة، ثم تهدأ حركَة الزعانف واختلاجة الخياشيم، وانطفاء تألُّق العين. لم يفلح الماء العالق بجسمها في إخفاء سكون الموت الذي ران عليها.

أبدَت مديحة فرَحها للأسماك التي حمَلها في الغلق الصغير: هذه أجمل أكلة؛ لأنها من مَجايِب يدك.

همس بالتساؤل: هل يُنفِق على البيت شخص آخر؟!

– الأسماك التي اصطادَتْها سنارتك معناها أجمل.

وزَمَّت شفتيها باسمة.

– ليتك تكتفي بالصيد … فهو مُجلِب للبركة!

لم يُكلِّمها في أنه دَبَّر — في نفسه — السفر.

قال الشيخ: صيد السمك حلال.

وجرَت أصابعه على حبات المسبحة: الحرام هو الميتة، والدم، ولحم الخنزير.

أَلِف طبائع السمك في تعامُله مع الطُّعم. ثَمَّة مَن تقترب من السِّنارة المدلاة، وتَبتعد، ومن تدور حوله دورات متتالية، ثم تنشغل بما لم يَتبيَّنه، أو تبتلعها سمكة كبيرة، ومَن تندفع نحو الطُّعم المُغري، فيجتذبها. وكان يضايقه أن الطُّعم لا يلتقط سوى الأسماك الصغيرة. يشعر كأن السِّنارة قد التقطت صيدًا؛ يجذب البوصة إلى أعلى، يُطلِق أُف مغتاظة لرؤية السمكة الصغيرة وهي تُحاول الإفلات من السِّنارة العالقة بفمها.

تعَلَّم الحرص بالممارَسة. لا تُحدِث اهتزازات ولا دوَّامات ولا أصواتًا تخيف الأسماك، وتدفعها إلى الفرار. مجرَّد الدوامة الصغيرة التي يُحدِثها سقوط السِّنارة الحاملة للطعم. يَظل في جلسة الصبر، حتى تهتز السِّنارة في يده، فيجذبها. تعلَّم كيف يُمسك السمكة: يضغط على عينيها بسبابته وإبهامه، أو يشل حركتها بإمساك الخياشيم.

أحس — ذات صباح — بارتعاشة خفيفة، كأنها اهتزاز الصدمة الكهربية.

قال الكابتن: إنها من السمك الرعاش.

ثَمَّة جسم — لا يعرفه — علق بالسِّنارة. مالَت البوصة في يده؛ تشبَّث بنهايتها، وجذب الخيط. زادت البوصة في ميلها، أخذت هيئة القوس. ثَمَّة ما هو أقوى من سمكة عادية، قاوَم جَذْبَته بإمساك حافة القارب بأصابع مُتقلِّصة، وشَد السِّنارة باليد الأخرى. لجأ إلى قوة اليدين، وجذب.

قاوَم الجسم مندفعًا نحو القاع، اضطر — لكي ينجو بنفسه — أن يترك البوصة كلها، فغاصَت في الماء، لم يَعُد بيده شيء، ونجَا بحياته.

عرَف مواسم الصيد: البُوري في أغسطس وأكتوبر … السبارس من أوائل أغسطس إلى آخر سبتمبر … السردين في سبتمبر وأكتوبر … الشرغوش والكحلة من أول مايو حتى أواخر نوفمبر … الموزة من منتصف يونيو حتى منتصف سبتمبر … البطاطا في يوليو وأغسطس … الكابوريا من يوليو حتى آخر سبتمبر.

عرف أن أردَأَ مواسم الصيد في مارس وإبريل ومايو. هذا هو موسم التلقيح، تزهد فيه الأسماك الطعام.

•••

لم يكن يخاف من البحر، لا من النَّوَّات، ولا الأعماق، ولا التيارات، ولا الدوامات المتلاحِقة. وكان على دراية بمواعيد المد والجزر، وبالتيارات البحرية. يُخمِّن التوقُّعات من ملاحَظة الظواهر المُبكِّرة: تَغيُّر اتجاه الرياح، تكثُّف السُّحب الداكنة، صراخ الطيور وتحليقها في فوضى. تعلَّم متى يظهر الطير، ومتى يختفي. شقشقة العصافير تتعالَى في الفجر، وعند الغروب. حركة الغربان والصقور والنوارس والبط تزداد في تلك اللحظات. هجرة الطيور تتجه في الشتاء مِن الشمال إلى الجنوب، ثم تعكس الرحلة في أول الصيف.

لم يكن الرجل يضع الغزل في البلانس قبل أن يُلقي نظرة عليها. يطمئن إلى اتساع الثقوب، أو ضِيقها، خُلوها من التمزُّقات. يأذن بنقلها إلى البلانس واستعمالها، أو وضْعها بين أيدي غازِلي الشِّبَاك في شاطئ الأنفوشي، يَرتُقون الثقوب والمواضع المُتهرِّئة. يلصق أذنه بقاع البلانس، يتنَصَّت إلى أصوات الأسماك، ويُخمِّن حركتها، قبل أن يُلقي أمْره بإلقاء الجرافة في الماء.

قال الكابتن: أنا لا أتعلم الحياة من الكُتب، وإنما أتعلَّمها من الحياة نفسها.

ورشق نظرة ثابتة في عينيه.

– علَّمني البحر الكثير. من المهم أن تتعلم من البحر أنتَ أيضًا.

الصيف هو أنسب الأوقات لصيد المياس. يُلقي الرجال الجَرَّافة في الميناء الشرقية. ينشرون الشبكة على المدى الأوسع، الحلقة الأوسع. يسحبون الحبال المتصلة بالشَّبكة بعد أن تستقر إلى آخر ما يأذن لها الفِلِّين المحيط بها، فتظل أطرافها عالقة بالماء. كل رجل يسلم طرف الغزل إلى جاره. يسلمه إلى ثالث. كل جذبة تسحب الجرافة مسافة إلى الشاطئ. وكان يتابع موظَّفي مصلحة المواني والمصايد، يُفتشون على الشِّباك ومدى صلاحيتها، البلانس وملاءمته للصيد. يتأكَّدون من وجود اللوحة، ورخصة ركوب البحر.

كان يلتصق بالواقفين في دائرة غير مكتملة حول الجَرَّافة الملقاة على الشاطئ. يُقلِّبها الرجال، فتمتلئ الطاولات بما كانت تحمله من تموُّجات الفضة. أنواع مختلفة من السمك: بوري، ومرجان، وقراميط، ومحرات، وشجري، وبربوني، ومياس، ودنيس، وموزة خضراء. تنفذ الأحجام الصغيرة، البساريا من الثقوب، وتتساقط الكبيرة في تقافُزها إلى الأرض.

حرصت مديحة — ومعها مدحت ويسري — أن تقف على الكورنيش الحجري وهو يشارك الرجال نشْر الجرافة، وسحبها. ارتدى زِي الصيادين: الصديري المخطط بصفوف الأزرار المتوازية، والسروال الواسع، وعلى رأسه طاقية بيضاء من التيل.

دهمه خجل لما ضمَّت أصابعها على شفتيها، وقذفَت إليه بقُبلة تلفَّت حوله ليعرف إن كان قد رآها أحد.

عادَا إلى البيت في تناهي أذان العصر من أبو العباس. قالت وهي تتأمَّل انسحاب ظلال الأصيل على الجدران: صيد السِّنارة أسهل.

أشاح بيده.

– يا دوب يملأ بطنًا في أكلة واحدة.

وتكلف ابتسامة متوددة.

– عَملُ الجماعة أجلَبُ للرزق.

ركب — للمرة الأولى — بلانسًا للصيد في عِز الليل … ضوء اللمبات حول السفينة يحتذب أسراب السمك.

كان الكابتن يَعيب على الصيَّادين أنهم يُضيِّقون ثقوب الغَزْل، تصطاد أمهات الأسماك، لا تنفذ منها حتى البسارية الصغيرة.

قال: نحن نصيد الأسماك لنأكلها، لا لنسلك بها أسناننا.

ولاح في عينيه كدَر.

– توسيع ثقوب الغزل يعني الحصول على أسماك تُوضع على موائد الطعام.

وانعكس انفعاله الغاضب في ارتجافة أهدابه.

– لو ظَلُّوا على طريقتهم في الصيد؛ فسيخلو البحر من السمك.

وكان يرفض الصعق بالديناميت؛ تظل تِيلتُه الطويلة على اشتعالها حتى تصل القاع، تتأثَّر بانفجاره صخور القاع وكهوفه وشِعابه وكل ما يحيا في المنطقة التي يَمتدُّ إليها تأثيره. ربما امتد التأثير إلى البلانسات فوق سطح الماء.

انفجارات الديناميت تتصاعد مكتومة من القاع، تُحرِّك الأمواج لثوانٍ في مساحة تَتَّسع، ثم تذوي وتختفي، ثم تطفو الأسماك الميتة على السطح. كل الأسماك في منطقة الانفجار تموت، وتطفو على السطح. ينشر الرجال الشبكة على أوسع مساحة. تغترف الأسماك الميتة، الطافية، وما لم تتأثر بانفجارات القاع. ربما دلَّى الرجال أعلى أجسادهم، يَلتقطون الأسماك الطافية براحات الأيدي، ويُلقون بها في المِشَنَّات.

قال الكابتن: نحن صيادون … وعمَلُنا صيد السمك.

لاحَظ أن ملامح السَّمك لم تكن مثلما كانت عليه عند صيدها بالسِّنارة، أو بالجَرَّافة التي تستغني عن الديناميت. ثَمَّة تقطيع وتورُّم وانبثاق دم وجحوظ أعين.

كان يعرف أن الصيد بالديناميت ممنوع. ما أذهله أن الرجل أهمل المنع في كلماته. مستقبل البحر هو ما يزعجه.

– لو أن الكل لجئُوا إلى الصيد بالديناميت، فلن يكون اليوم الذي يخلو فيه البحر من الأسماك بعيدًا.

وعلا صوته بالتأثر: أنا أرفض حكاية أحْيِنِي اليوم وأمِتْني غدًا … فلأحيا اليوم وغدًا، وليحيا الناس أيضًا.

بدَا الكابتن متأثِّرًا وهو يَروِي ما حدث للصياد عيد الرشيدي؛ ألقَى إصبع الديناميت ذا الفتيل المُضاد للماء. لم يفطن إلى قِصَر الفتيل، فاحترق بسرعة، وانفجر قبل أن يبتعد البلانس. استحالت المياه فوهة بركان. علَت الأمواج من تحت البلانس وحوله، واشتعلَت بالغليان. تخلَّلت الثقوب البلانس، وتكسَّرت الألواح في جانبيه، وغمرته المياه. انتتر الرجل إلى قلب الماء الساخن. أطلق صرخة وحيدة، ثم اختفَى.

لم يكن الكابتن يلجأ إلى بوصلة، فهو يعرف الاتجاه من مجرَّد النظر إلى الشمس. يضع يده على جبهته، ويزوي ما بين عينيه، ويرنو ناحية الشمس. لا يطيل النظر، إنما هي التفاتة سريعة، ثم يخفض يده وعينيه، ويحدِّد الاتجاه الذي يمضي فيه البلانس، فلا يخطئ في التنبؤ بحالة الجو، ولا حركة الموج، ولا مواعيد هبوب الرياح والنَّوَّات. وكان يفاجئ الصيادين باكتشاف مناطق صيد، ربَّما لا تبعد عن الإسكندرية، لكن فترات الغياب عنها — لجدبها — تطول، فيشير بالعودة إلى المواضع القديمة.

أدهشته مصارحة الرجل له بأنه يركب البحر منذ أعوام بعيدة دون أن ينزل المياه. يكرَه السباحة، وإن أجادها. لا يسلم جسده إلا إلى مياه الحمام في البيت.

تساءل وهو يتابع عمليات تفريغ طبالي الأسماك إلى عربات النقل، تمضي بها إلى الحلقة: كيف يُنقذ نفسه لو أدرك أنه نسي السباحة والبلانس يواجه الغرق؟!

عرف أنه سيكون بمفرده، عندما ينطلق به القارب في اتجاه نجْمِه. اختار الطَّراحة في صيده. يحيط الشبكة بالحبال. يصل الحبال بحبل طويل، يجُر به الشبكة من مكانه في القارب، أو الأرض التي قد يستقر فوقها. يحدس معنى ثِقل الطَّراحة وهو يسحبها من الماء. انفلات السمك من الثقوب الواسعة، الممزَّقة. أهمل النصيحة المحذِّرة: أنت لا تحسن إلقاء الشبكة، فيهرب السمك! تعلَّم كيف يَرتُق الغَزل إن تهرَّأت الشِّباك، أو ثُقِبت. يرفو قماش الشراع إن مزَّقته الرياح. يصل الحبال، فتظل تعمل أطول فترة. يُرتِّب الآلات والمُعدات، فلا يضلُّ الطريق إليها وقت الحاجة. يُخزِّن الطعام حتَّى لا تفسده الحرارة وتَوالِي الأيام.

حين ارتدى بدلة الغوص للمرة الأولى، خَشِي أن تُقيِّد حركته، أو تهبط به إلى القاع، ارتداها، نزعها، ثم أعاد ارتداءها، ووضع نظارة الغطس، والزعانف، دسَّ الزعانف في الماء، وحرَّك قدميه داخلها، حتى أخذَتا وضعهما. وأمسك ببندقية الصيد، وسِكين الغطس.

قال الكابتن: هل سبق لك العوم في مياه عذبة؟

في نبرة تسليم: أنا سكندري وإن كنت لم أنزل البحر.

– عمومًا … السِّباحة في البحر أيسر من السباحة في النهر؛ مياه البحر أقل كثافة من الماء العذب.

أشار إلى ما حمله على جسده، وفي يده: إن غُصت … لن أستخدم كل هذه الأشياء.

قال الكابتن: أنتَ ترتدي بدلة التدريب … قبل أن تبدأ المباراة.

نصحَه بأن يجيد السباحة أولًا. الغوص لا يحتاج إلى مهارة عالية. بالذات إذا كانت المياه مالحة، ضحلة. يطفو فيها المرء دون مجهود. لكن ماذا لو أنه فقد إحدى الزعنفتين؟ … لا بد أن يعود بدونها. لا بد أن يُجيد السباحة. حذَّره من نفاد الأوكسجين. إذا لاحظ توقُّف المؤشِّر، أو اقترابه من نقطة الصفر، فإن عليه أن يسرع بهزِّه.

قال الكابتن: من الأفضل ألا يغطس الشخص بمفرده … وجود زميل يساعد على المواجَهة في لحظة الخطر.

أردف كالمتذكِّر: لكن الشيخ — كما قلت لي — نصح بأن تمضي إلى الرحلة بمفردك.

قبل أن يضع النظارة، التقطها الكابتن بطرفي إصبعيه.

– النظارة التي تُفيد غيرك قد لا تفيدك.

وأشار بإصبعيه إلى جانبي وجهه.

– وجهك طويل، ولا بد أن تكون النظارة مُثبَّتة على الوجنتين جيدًا حتى لا يتسرب الماء إلى العينين.

تأمَّل النظارة. ساعده في تثبيتها على وجنتيه. قال: خذ شهيقًا.

التقط نفسًا عميقًا. أشار الكابتن، فأغلَق أنفه وفمه.

قال الرجل: عندما تغوص، تحمِل في صدرك كل ما تختزنه من أوكسجين.

ثم وهو يُكوِّر يده: حاوِل ألا تفقده بسرعة.

عاود الكابتن التقاط النظارة بطرفي إصبعيه. تأمَّلها. قال: هذا البخار يعني أن النظارة ثبتَت على وجهك جيدًا.

وسرَتْ في صوته رنة تحذير: ستلحظ أن كل شيء تحت الماء يزداد حجمه بالنظارة حوالي الثلث.

وخالَط صوتَه المحذِّر حُنوٌّ واضح: لا بد أن يكون الشنوركل ٢ أيضًا في مكانه الصحيح أمام أذنك؛ حتى لا يدخل الماء إلى النظارة.

استلَّ الكابتن السكين من الجراب الجلدي. استخلص مَحارة ملتصقة بتجويف داخل الصخرة الصغيرة.

لاحَظ أن الرجل يستخدم السكين في استخلاص المحارات من قواقعها وصدفاتها.

مرة وحيدة أخطأَ استخلاص المحارة، فلامس السكين بطن يده. انبجست قطرات من الدم. امتصها بشفتيه، ثم امتد بالسكين إلى المحارة يعيد استخلاصها.

وهو يربت صدره بيده: هذا درس تعلمناه من المصادفة … يجب أن نحذر ونحن نستخدم السكين.

ونصحه باستخدام قفاز من المطاط، ليحمي أصابعه من خدوش الصخور.

هوَّن الكابتن من شعوره — عند الغطس — بضغط على جبهته وعينيه وأذنيه. قال: هذه ملاحظات البداية.

ثم غاب الإحساس بالضغط.

تسرَّب الماء من الشنوركل. ابتلع — غصبًا عنه — كمية منه، لم يَعُد — فيما بعدُ — يتنفَّس. كان يحبس الماء عند فمه.

الغوص بالقرب من السطح يتيح له رؤية الأسماك. آلاف الأسماك المتباينة الأشكال والألوان. أشعة الشمس تنفذ من خلال الأمواج الهادئة. تضيء جوانب المكان. حتى الرمال والأعشاب والطحالب والصخور والكهوف والثقوب، تبدو واضحة في ضوء الشمس. تعرَّف إلى أسماك لم يكن رآها من قبل، تسكن الكهوف، والشقوق العميقة بين الصخور. وثَمة ومَضات فوسفورية تلتمِع في الظُّلمة الشفيفة.

تعلَّم كيف يواجه انقباض عضلات القدَم أو الساق. يبسط العضلة ويقبضها في توالٍ. ربما امتدَّت إليها أصابعه بالتدليك حتى يزول الانقباض. تعلَّم كيف يواجه تقلُّص الأصابع والساعد وعضلات البطن وعضلات خلف الساق.

يعطي الإشارة للكابتن الذي يمسك بالحبل المتدلِّي من سطح القارب. يجذبه الكابتن بسرعة إلى سطح الماء. وكان إذا شعر بضيق في تنفسه، صعد إلى السطح. تأكَّد من خلال النفخ بالشنوركل أن المياه خرجت كلها قبل تنفُّسه. يستعيد نصيحة الكابتن بألَّا يحاول التنفس، وبقايا ماء في الشنوركل: الاختناق هو ما ستواجهه لو أنك أهمَلْت وجود الماء. وكان يأذن — إذا أرهقه ضغط النظارة — كمَا علَّمه الكابتن — بتسرُّب هواء في النظارة، يقابل الضغط داخلها. ويتوقَّف عن الغوص إذا وخزَته آلامُ الأذن. ربما — كما حذره الكابتن — واجه الإغماء.

أذهلَه الغضب الذي أخلَى له الكابتن ملامحه، لما صعد إلى السطح.

– لا تستسلم لغواية البقاء تحت الماء.

قال: لم أشعر باختناق، ولا إلى حاجة للهواء.

رماه بنظرة مُؤنِّبة.

– الغوص ليس نزولًا إلى الأعماق فقط … لكنه صعود إلى السطح أيضًا … مسافتان لا مسافة واحدة.

ووشى صوته بتفاخر: زمان … كنتُ أغوص إلى أعماق البحر في عِز الظهر، ويظل غوصي حتى يحل الظلام.

روى انزعاجه لرؤية سمكة هائلة الحجم، تلتقط الأسماك الصغيرة، وتُواصل السَّير، كأن ما حدث جزء من تنفُّسها.

قال الكابتن وهو يضحك: كل الأسماك تجد طريقها إلى موائدنا في النهاية.

جرَّب استجابة جسده للحياة في الماء، التيارات والأمواج وضغط الماء. عرَف كيف يحبس أنفاسه وهو يغطس في الماء، ودُون أدوات غطْس، أطول مدة ممكنة، ثم يصعد لالتقاط الأنفاس ويغوص، ويصعد، ويعاود المحاولة. يُكرِّر الشهيق والزفير. يحتفظ بالأوكسجين في صدره أطول مدة، ثم يطرده. يعاود المحاولة، ثم يعيدها. ثم يَمتصُّ أكبر ما يستطيع من أوكسجين، ويغوص. عرف كيف يُقلِّل الجهد في الأعماق، حتى لا ينفد الأوكسجين بأسرع مما هو متوقع.

قال الكابتن: لا تأخذ كمية زائدة من الهواء قبل الغطس … ربما يؤدِّي ذلك إلى الإغماء.

واستعاد لهجته المحذرة: حاذِر أيضًا من استنشاق الهواء تحت الماء.

ثم وهو يهز رأسه: أنت لن تَجِد هواء … وإنما سيقتحم الماء أنفك وفمك ورئتيك … وهذا أخطر؛ لأن معناه …

وعبَّر بيديه عن معنى الموت.

قلَّب الزعانف المطاط بين يديه.

– هذه الزعانف ستكسبك ثقة في السباحة والغوص … أنت بها سمكة داخل البحر.

وقال في حَسْم، وإن ظلت لهجته على ودها: المهم ألا تكون الزعانف واسعة حتى لا تكره الغوص.

تعلَّم كيفية استخدام قناع الغطس، نظَّارة البحر، الشنوركل، الزعانف، بندقية الصيد، السكين، البدلة، حزام الأثقال. يراجع ما في الحقيبة القماش. يُثبِّت السكين في الجراب المتدلِّي من الحزام، ويدسُّ قدميه في الزعنفتين، ويصل أنبوبة التنفس بحزام القناع.

أَلِف رؤية أعلام الغطس الزرقاء. العلم يشير إلى وجود غطاس — تحت الماء — بالقرب منه. يحرص، فلا تقترب يده من الجحور والكهوف والفجوات. ربما عضَّته سمكة كبيرة، أو ثعبان أجَاد اتخاذ لون المكان. أفلح في تُبيُّن ثعابين البحر، حتى وهي تكسو جلدها بلون مداخل الكهوف. حذَّره الرجل من أسماك هائلة الحجم، تفد من بحار بعيدة. إذا تركها المرء واصلَت طريقها. أما إذا حاوَل النظر إليها، فإنها تهاجمه. وكان يحرص — في صعوده إلى البلانس — على النظر إلى أعلى، فلا يصطدم رأسه بأسفل البلانس.

صعد بقوقعة كانت ملتصقة في الصخور. أجهدَه انتزاعها.

قال الكابتن: هذا بلح البحر.

وابتسمت عيناه.

– بلح الملوك.

وتنهَّد.

– الكيلو منه بالثمن الفلاني.

وزَمَّ شفتيه، فبدَت الكرمشة فوق الشفة العليا.

– أهم شيء أنك تحسن استخدام السكين.

ابتسم الكابتن لدهشته وهو يصعد إلى السطح، بيده زجاجات وعبوات بداخلها. تصوَّر أنها — كما تقول الحواديت — تحمل رسالة من أرض بعيدة. فضَّها الكابتن على أحجبة وقصاصات وطلاسم وأسماء من بحري، ومن أحياء ومدن أخرى.

– البحر طاهر … لكن الناس يصرون على توسيخه.

وهز رأسه دلالة الاستياء.

– هذه أعمال للتربيط، والتفريق، وتحقيق المراد.

يستريح عقب كل مرة يغطس فيها. ربما ظَل نصف ساعة مسترخيًا على ظهر البلانس قبل أن يعاود الغطس. حذَّره الرجل من النزول المتوالي. الإجهاد ليس هو النتيجة الوحيدة المتوقَّعة. ربما عانَى أمراضًا تُصيب القلب، أو الرئتين، أو الجسد كله.

قال: ماذا لو أنِّي نزلتُ إلى عمق أكبر؟

قال الكابتن: لا شيء … كلما عَلَت طبقات الماء، زال ضوء النهار حتى يتلاشى.

أردف بنبرة محايدة: لن تجد بعد مائتي متر إلا الظلام!

اختلَط كل شيء حوله، وتداخَل، وتغيَّر. أحس بأنه محاصَر في دوامة عاتية من المشاعر الصاخبة، بما يشبه الاختناق يضغط على صدره. عاودَتْه — كومَضات لحظات اليأس والسأم والرغبة في الموت. فكر في أن يغطس في المياه، يكتم أنفاسه داخلها فلا يصعد، لكن أوامر الرجل الحادَّة، المتوالية، كانت تعيده إلى نفسه.

قال للإشفاق في عيني مديحة: عندما تتحقق الحياة بالخوف فلا بأس.

قالت مديحة: أشعر أن قلبي يقف … لا أسترد أنفاسي حتى تصعد.

حذَّره الرجل من أن الخبرات البحرية لا تُكتَسب بالصيد وحده، ولا بالغوص في الأعماق. البحر عالَم آخر، دنيا أخرى، لها جغرافيتها وتضاريسها وحياتها.

اتجه إلى أفق البحر.

– ربما تبدأ الرحلة وتنتهي دون أن تحتاج إلى الغطس.

وأومأ برأسه مؤمِّنًا.

– وربما تضطر إلى الغطس فتكسب السلامة.

حين روى للشيخ ما تحقَّق له من قدرة على الغوص إلى أعماق لم يتصوَّر أنه بلغها، قال له الشيخ في لهجة ذات دلالة: أنت لن تعرف البحر إلا إذا سبَحْت فيه.

وحدَّق فيه بعينين تفتشان عن معنًى مفتقَد.

– المهم أن تصل في غوصك إلى الجوهر.

أصاخ سمعه لِتَرامي صوت مُحرِّك لنش في مكان بعيد. تلفَّت حوله، يتأكد من أن أحدًا لا يتبعه. لن تكتمل الرحلة إلا إذا كان بمفرده. ذلك ما ألحَّ به الشيخ نجاتي، وعليه أن ينفذه. زوَّد القارب بكل ما قد يحتاجه في رحلة لا يدرِي عدد أيامها. أطعمة لا يتغير مذاقها بطول الوقت، وجَراكن مملوءة بالماء العذْب، وأقفاص فاكهة، وعصائر، وموقد للطهي، وسكين لا تصدأ من ملوحة البحر، وخيط، وإبر، ودبابيس، ونظارة مكبرة، وبطانية، وعلب أدوية، وحبوب ملح، وحبوب «درامامين» لدوار البحر، وأمصال ضد التسمم، ومَراهِم لعلاج التَّسلُّخ والحروق، وكمية من الكُتب، وطوق نجاة، وسُترة نجاة، ومصباح ببطارية، ومُعدات لإصلاح القارب: القادوم، والمنشار اليدوي، والبلطة، والمِثقاب، والإزميل، وحديدة القَلْفطة. حتى السلاسل والخُطَّاف الحديدي، والدلو لرفع المياه المتسرِّبة إلى القارب.

أنهى كلَّ خطوات الرحلة، قبل أن يُكلِّم مديحة عن طبيب شهير يعالج مثل حالته، فلا شأن للرحلة بما يعانيه. لجأ بعينيه إلى إيهاب القباني، فطمأنها.

ترك الكابتن لنفسه اختيار القارب الذي سيُبحر عليه: بلانس، لنش، لوتسو، فلوكة، دنجل.

قال الكابتن: أنت تريد قاربًا تركب به البحر، فلا شأن لك بنوعه … هو قارب وسأوصي المعلم رحيم أن يجعله من ذلك كله.

حدَّثه الكابتن عن خبرة المعلم رحيم القديمة في صناعة السفن، مهنته التي ورثها عن أبيه، عن جده. كل العائلة تعمل في صناعة المراكب: البلانسات، والفلايك، والدناجل، والكوترات، واللوتسات.

قال الكابتن: أفضل أن تركب البحر على القارب.

داخلَته رَبكة التجربة الأولى.

– أليس اللانش أسرع؟

حدَجه بطرف عينه.

– فإذا لم تُحسِن إصلاح أعطاله؟

فوت الملاحظة.

– أي قارب تفضل؟

– البلانس يحتاج إلى جماعة.

وتلاعَب بقطعة حبل في يده.

– والفلوكة لا تصلح للغميق.

واستطرد كالمتنبِّه: أقترح أن تصنع «لوتسو» … يمكن أن تقوده بمفردك، وأطال النظر إليه، كأنه يتأكد من فهمه لما يقوله: الفلايك، واللواتس … تعملان بالشراع … وبالمجاديف أيضًا.

تأمَّل عملية التصنيع في القزق. دقَّق في التعرُّف إلى المواد التي يُصنَع منها القارب. أشجار اللبخ المقطوعة، وبلوطات الأخشاب، مكوَّمة على رمال الشاطئ، وحبال الكتان، وعلب البويات والقار في الصناديق المفتوحة. تأكَّد من عدم إصابة الخشب بالسوس. طرَقه بقادوم صغير، يتعرَّف على الأجزاء الصلبة والأجزاء الجوفاء. صحب الكابتن إلى «المخرطة»، يتأكَّد من أن الخشب الذي تقطعه هو الذي اختاره. وضَع نصائح الكابتن في باله. تابَع المعلم رحيم وهو يضع هيكل القارب على قاعدة خشبية، ثم وهو يضع أول جزء من القارب: المارينا الممتدَّة بطول القارب، تحيط بها بقية الأجزاء. أفاده تَوالِي الخطوات في التعرَّف إلى أجزاء القارب: الصاري، القلع، الدَّفة، القاعدة، المقدمة، المؤخرة. الألواح الخشبية تتجاور، تلتصق. القلافطي يسد ما بين الألواح من الشقوق والثغرات، الألواح تتلاصق، وتُسَد الفجوات بالكارينا والمعجون، ثم تُطلَى، وتُجرَى فيها عمليات الحِدادة والسَّمكرة، وتُجَهَّز بالأدوات.

بدَا القارب وهو يتأمله في هيئته الكلية، الأخيرة، صغيرًا، ولا يقوى على ركوب البحر. هذا القارب هو — منذ نزوله في الماء — رفيق رحلته، رفيق حياته. يمضي إلى نهاية الرحلة، فيرى النجم أو يغرق القارب، فيغرق معه.

قال: أين الشراع؟

– لا موضع له في القوارب الحديثة.

وحدَّق فيه بنظرة مباشرة.

– حل الموتور بدلًا منه.

ابتلع إحساسًا بالخيبة.

– لكن هذه اﻟ… أخشاب تخلو من الموتور أيضًا؟!

– إنه قارب وليس مجرَّد أخشاب.

لم يستطع السيطرة على انفعاله.

– إنه لا يصلح للوصول إلى صخرة الأنفوشي.

وأردف في كلمات متلكئة: أريد مركبًا كبيرًا يصمد للأمواج العالية.

قال الكابتن: ثِق أنَّ المراكب الصغيرة تثبت لهياج البحر أكثر من غيرها.

ثم في هيئة الذي اتخذ قرارًا: ترحَل بمفردك … وهذا القارب يكفي.

– يكفي والبحر حصيرة … فإن جاءت النَّوَّة؟!

– النَّوَّة تُغرق المراكب الصغيرة والكبيرة.

ثم في صوت باتر: توكَّل على الله.

سأل المعلمُ رحيم: ما الاسم الذي ستختاره للقارب؟

– أي اسم.

– مُهِم ألا يتكرر … ألا يكون في البحر قارب آخر بنفس الاسم.

– هذا لا يشغلني … اختر له أي اسم.

– فليكن اسمه «رحلة».

أطلقَت مديحة صيحة خوف لرؤية القارب: هل هذا ما ستركبُ به البحر؟

– ردَّ الكابتن على ملاحظتي بأن السفينة الصغيرة أقوى على تحمل الأمواج العالية من السفن الكبيرة.

وشَتْ ملامحها بعدم فهم. عاودَتْ إطلاق صيحتها الخائفة: كيف؟

وهو يداري انقباضًا يخنقه بيدين غير مرئيتين: هذا عمَلُهم … وهم يعرفون أكثر منَّا.

قالت بلهجة فاهمة: لماذا لا تعود إلى الأطباء وتترك هذه الرحلة؟

أدرَك أنها عرفَت ما حرص على إخفائه.

– بذلَ الأطباء كل علمهم … لم يبقَ إلا رحمة الله!

همسَت دعوات الشيخ نجاتي برحلة طيبة. لم يُحذِّره من النظر لما حوله، وإنْ نصحه بألَّا يطمئن إلى ما قد يطفو فوق المياه من أسماك وأعشاب قبل أن تلامسه يده، وطالَبه بأن ينشغل بفكرة الرحلة، واتجاهها، ولا يكلم أحدًا في طريقه، لا يكلم حتى نفسه بصوت يسمعه.

رافَق الكابتن إلى صانِعي الأشرعة في مينا البصل. حدَّق، وتأمَّل، وتفحَّص مَتانة القماش بإصبعيه، فلا يبحر بشراع رديء. اشترى الحبال من دكان وكالة الليمون.

اطمأن إلى البوصلة، وصحة الاتجاهات. تأكَّد من موضع المجدافين في مقبضيهما. ضرب بهما الماء. تأكَّد من استجابتهما لحركة الذراعين، وانطلَق. تظاهَر بعدم ملاحظة الأعلام وقِطع القماش الملونة التي علَت القارب. لم يسألْ إن كان ذلك ما طلبه الكابتن من المعلم رحيم، أم أنه تقليد يرافق نزول القوارب للمرة الأولى في الماء.

كانت هذه هي المرة الأولى التي يَقود فيها القارب بمفرده ناحية الجزيرة. استقرَّ في أعماقه طلَب النجم الذي أطال التعلُّم حتى يجده. لم يَعُد يفعل ما يفعله تلبية لنصائح الشيخ، وإنما هو تلبية لنداء سماوي لا يقوَى على رده. لا شيء يمنعه من الوصول إلى ما خرج للقائه. عليه أن يواجه كل ما يراه، كل من يلتقي به، وحيدًا، أعزل، إلا من بندقية الغوص والسكين.

فضل الصباح الباكر موعدًا لبدء الرحلة، حتى تسهل له الرؤية أطول فترة ممكنة.

كان آخر رؤيته لمديحة والولدين، وقفتهم على الجانب الأيسر للميناء الشرقية. يُلوِّحون بأيديهم، والقارب يمضي بين البلانسات، والفلايك، واللانشات، والدناجل، واللوتسات الواقفة، المتناثرة. واصل تجديفه، وهو يعاود الالتفات وراءه، حتى بدَا الوقوف نقطة، والكورنيش خطًّا رماديًّا في نهاية الأفق.

اتجه إلى أفق البحر، وواصل التجديف.

•••

جال حوله بنظرة متطلِّعة، يُحدِّد موضع القارب في المياه المترامية. غابت عن أنفه رائحة البحر. حل — بدلًا منها — تداخُل الرائحة المميَّزة باختلاط الملح واليود والأعشاب والطحالب.

كانت عيناه مُعلَّقَتين بخيط لا يراه، وإن تيقَّن أنه موجود هناك، في نهاية الأفق.

أوضح له الكابتن كل ما ينبغي تَعلُّمه. قال: احرص على قوة الملاحَظة لكل ما حولك. حتى ما قد يبدو طبيعيًّا، ربما ليس كذلك، وقال: الملَّاح الحقيقي هو الذي يُقدِّر قوة الخصم، ويضع له ألف حساب. وحين تواجه الخصم بمفردك فهو الخصم. وقال: إن التقَيتَ بما يخيفك فواجهه. تغلَّب على خوفك فيظهر خوفه.

أدرَك أن في داخل الكابتن قوًى هائلة، تُملِي عليه كلماته وتصرفاته. لم يَعُد البحر ذلك الغامض المثير الذي يكتفي بتأمله في جلسته على الكورنيش الحجري. تعلم كيف يواجه النَّوَّات والعواصف والرياح وارتفاع الأمواج جبالًا صغيرة، متوالية، والأسماك المتوَحِّشة، أو الخطرة.

أدرَك أنه تلقَّى كل الدروس، وعرف ما ينبغي معرفته. حتى التعبيرات التي ربما لن يجد مَن يستخدمها معه، حرص على تعلمها: سيه: عودة المركب إلى الوراء … الشمندورة: جسم عائم في الماء لإرشاد السفن إلى أماكن الرَّسو، أو للتحذير من الأماكن الخطرة … قورصة: الإبحار ضد الريح، الإفادة من الريح المعاكسة، فوق الريح … لسكة: إرخاء حبل لمنع نشر الشراع … ماينه: خفض شيء في السفينة … مولص: حواجز وأرصفة صد الأمواج … هالة: ارتداد المركب، أو تغيير اتجاهه، أو جره، أو سحبه.

دارَى قلقه بابتسامة مهونة.

– هل يمكن أن أصحب مديحة والولدين معي؟

قال الكابتن: هذه رحلتك بمفردك … وكما أشار الشيخ: لا أحد يرافقك.

عزَّى نفسه بأنه كان يَحيا الوحدة قبل أن يبدأ الرحلة. اعتادها، فهي لا تثيره ولا تضايقه.

ظلَّت الريح ثابتة، والأمواج هادئة. ثَمة بواخر وبلانسات تَمرُّ من بعيد، تطلق صفاراتها، أو ترسل إشارة تحية، وتُواصل سَيْرها وكانت الأسماك تَتقافَز فوق المياه حول القارب. وسمكة هائلة الحجم تفتح فكَّين متسعين، تعض كل ما حولها، أو تنهشه، وتبتلع الأسماك الصغيرة. وأسماك تهاجم الأسماك الأخرى، تعضها، أو تبتلعها. تخلِّف وراءها بُقعًا من الدم.

أزمع أن يجعل علامات الطريق: الجزر، والبواخر العابرة، والشمندورات، والصخور الناتئة. فكَّر في أن يضع علامة يهتدِي بها. ربَّما القارب عاد من حيث أتى … لكن المياه امتدَّت في كل الآفاق لا جُزر صغيرة ولا كبيرة، ولا حُطام سُفن، ولا شيء يدل على مكان.

لاحَظ أن ارتفاع الأمواج في قلب البحر لم يَعد مثلما كان عليه بالقرب من الشاطئ. كان يُحدِّث نفسه بما تعلَّمه من الرجل: البراني، ريح الشمال الشرقي … البورة، هواء كالنسيم في يوم ساكن … الشرش، ريح الشمال الغربي … الطياب، ريح الشمال … الشلوق، ريح الجنوب الشرقي … الغليني، جو هادئ، ساكن الهواء والموج … العدل، جو معتدل … شرد، جو الصاخب … الفُرتينة، عاصفة بحرية … لِبِش، ريح تهب من الجنوب الغربي … المِرِّيسي، ريح دافئة تهب من الجنوب … المَلاظة، موجة عالية، تُهدِّد البلانسات … المَلْتم، ريح طيبة من الشمال.

قال الكابتن: إذا اتَّبعتَ نصائحي، فكُن مطمئنًا. أنا لن أتركك عندما تُفرِّق الرحلة بيني وبينك. سأكون معك — بنصائحي — حيث تذهب.

ها هو ذا يوشك — في النهاية — أن يلتقي بما جاء للقائه. يتطلَّع إلى نَفثات البحر المتصاعدة من المياه، غلالة شفيفة تتراقص من ورائها المرئِيَّات بملامح غير واضحة. في داخله يَقين بأنه سوف يلتقي بالنجم. يَشعر أن ذلك النجم الذي يبحث عنه في مكان ما، هناك، فوق الجزيرة الصخرية، أو بالقرب منها، أو يعلو وحيدًا. ترَك الشيخ لحدسه وسيلةَ التعرُّف إليه. الدم يحن في المثل الشعبي، والنجم هو الدم واللحم والذات والبدء والمنتهى. تحفَّز لرؤيته، لمواجهته. أخفق في تصوُّر ملامحه، وما إذا كان نجمًا عاديًّا كما تدل التسمية، أم إنه كائن حي، قد لا يكون من البشر، لكنه يفكر، ويتحرك، ويتكلم، ويصمت.

أعدَّ نفسه ليُنصت إلى ما يقوله النجم. يتذكر كل حرف وكلمة وجملة. حتى ما قد يعجز عن فهمه، يطبعه في ذاكرته، ويستعيده متأملًا.

•••

ظلَّ مشدودًا أمام الأفق الرحيب، الممتَد بلا انتهاء.

كان يُعد نفسه للرحلة، دون أن يشعر بالخوف.

لم يَعُد يشغله هدف الرحلة. هي هدف في ذاتها. لا صلة لها بما قبل ولا بَعد. أهمل كل التفصيلات والجزئيات والمعاني. الانطلاق بالقارب يَحمل البداية والنهاية، والإجابة عن الأسئلة التي ربما لم تَطرَح نفسها.

لمَّا واجه أفق البحر — قبل أن ينطلق القارب — اقتحمه الخوف. خوف مفاجئ، غامض، اعتصر نفسه، وثَمَّة أبخرة تصاعَدَت إلى صدره، وشيء — لا يدرك كنهه — ينتزع من داخله. يُناوشه الشعور بأنه أُجبِر على الرحيل إلى جهة لا يعرفها، وإن كان الهدف هو رؤية النجم.

أين يجد النجم؟ في أي مكان يظهر له ويعرفه؟ يبدو النجم نجمًا، أو متحولًا في هيئة تَغِيب عن تصوره؟ وهل يفلح في تَبيُّن الهيئة المتحوِّلة؟ وما تصرُّفه إن تَيقَّن مما رأى؟ هل يسأل، أو يعفيه النجم، فيرد — من نفسه — عن أسئلة تشغله؟

اختفى الخط الرمادي في امتداد الساحل، وغابت رائحة الأرض. التَّوالي الرتيب للأمواج يعمِّق الصمت، ومن شعوره بالوحدة.

جلس على طرف السرير. هو سريره حتى انتقل من شارع رأس التين إلى بيته في شارع سيدي العجمي لم تُبدِّل أمه تسمية الحجرة بعد رحيله، فهي حجرته. يستلقي على السرير، ويستعيد ذكريات، في أوقات زياراته المتباعدة.

الانفعال أوقَفها على باب الحجرة، لا تدخل ولا تحاول الجلوس. أضاف القلقُ إلى عمرها. اكتفَت بِلمِّ شعرها الأبيض في إيشارب أسود. وجهُها مالَ إلى الشحوب، وازدادت التجاعيد في الجبهة وحول العينين والفم، والتَّرهُّل ظهر في خدَّيها، ورموش عينيها دائمَتَي الارتجاف، وثَمَّة زُغب خفيف فوق شفتها، وبُقع سوداء تَغطِّي ظهر كفِّها. دائمة المسح على جبهتها كأنها تمسح عرقًا. يغلب التمهُّل والبطء في حركاتها وإيماءاتها، وتطيل حديثها بفترات صمت، للبحث عن كلمات محدَّدة، أو للشرود.

– هذه نصيحة الشيخ بعد أن عجز الأطباء عن مداواتي.

تحيَّر الدمع في عينيها.

– لا أتصوَّر ابتعادك عني.

ثم في نبرة متوسِّلة: هل نسيتَ أني أحيا بمفردي بعد موت أبيك؟

– تُشعرينَنِي بالذَّنْب؛ لأني أقصر في زيارتك.

– يكفي أن أَشعر بأنكَ إلى جواري … أبقاك الله لأولادك!

فاجأها بالسؤال: أين وُلِدتُ؟

حدجته بنظرة متسائلة: ماذا تقصد؟

– أقصد … أين وُلِدتُ؟

غالبَت التردُّد: ما شأنك بهذا؟

– هذا شأني جدًّا.

أعاد السؤال: أين وُلِدتُ؟

ثم وهو يهرش ذقنه بطرف إصبعه في حيرة: هل كان أبي يُداعبني حين قال إني وُلِدت على جزيرة؟

– ما قاله أبوك صحيح … ولدتُك في جزيرة بَعد الأنفوشي.

وأغمضَت عينيها تحاول التذكر.

– كان البحر حصيرة … تنزَّهْت مع أبيك في الجزيرة … ثم فاجأني ألَم الولادة؟

أخلَى وجهه للدهشة.

– تركبين البحر وأنت على الآخر؟!

– هذا ما حدث.

وواجهته بنظرة متوجِّسة.

– لماذا تسأل؟

سكت — بالعجز — أمام الْتِماع الدمع في عينيها.

نَسِي — بتوالي الأيام — معاناة دوار البحر.

أَلِف اختلاف تكوينات السُّحب، وتَبدُّل المياه من الأزرق إلى الأخضر إلى تداخُل ألوان تعكس — فيما قدر — لون السماء، صافية، أو مُحمَّلة بسُحب بيضاء متناثرة، أو سُحب داكنة. إذا واجهه الضباب، أبطأ من سير القارب، وربما أوقفه تمامًا. فإذا غَيَّرت الرياح اتجاهها، أو عَلت الأمواج، أدَار الدفة، وواصل السير.

فاجأَتْه كثرة الأسماك بما لم يتصور. آلاف الأسماك تتلاصق في مجموعات هائلة، كأنها قطع متداخلة، تُبطئ، وتُسرع، وتتوقف، والأسماك الطيارة تتقافز حول القارب. اجتذَبه انقضاض الطيور على الأسماك المتقافزة. تهبط وتعلو، تلمَع كالومضات السريعة فوق المياه، تدور في نصف دائرة، ثم تعاود انقضاضها.

النجوم مبثوثة في السماء لهدف. علَّمه الكابتن كيف يهتدي بها. يَمضي في الطريق الصواب، ويعود عن الطريق التي تذهب إلى المجهول.

أزمَع أن يقضي الليل دون محاولة لاستخدام المجدافين، ثم يواصل الرحلة. يصحو، فيجد سمَكات على ظهر القارب. يَشويها على المقلاة، ويعتبرها وجبة الغداء. يتنفس الهواء المشبع برائحة الملح واليود والأعشاب.

حاوَل أن يُميِّز بين أنواع الطير مما قرأه، ومما رواه له الكابتن من الطيور التي كانت تحوم فوق القارب وحوله، تضرب بأجنحتها، وتُطلق الصيحات. أشكال وتكوينات تَطير وتتقافز فوق الماء، وتلتهم الأسماك التي تتطاير على السطح. وحوَّمَت مجموعات من الغربان فوق القارب. هبطَت أعداد منها، استقرَّت على جوانب القارب، وعلى الشراع والصاري. تَنعق، أو تلتقط بمناقيرها ما لا يَتبيَّنه، أو تقذف بفضلاتها.

تناهَت أصوات بعيدة، تَفيض بالعذوبة والإغراء، كأنها الشدو الجميل. خمَّن أنها لعروس بحر، جنية بحر، تسحَره حتى يرتمي في حضنها. تمضي به إلى الأعماق. أيًّا كانت احتمالات النهاية، فإنهم لا يعودون، تُودي العروس بهم.

روى له الرَّيِّس عبد الحافظ مِعوَّض عن عرائس البحر، جِنِّيات البحر. يُغنِّين بأصوات جميلة، ويَعزِفن على آلات موسيقية مسحورة، ويَجتذِبن المسافرين بأغنياتهن. ربما لُذْنَ بالجُزر المهجورة، يَستلقِين على الرمال، يَجلِسن على الصخور، يَتجوَّلنَ داخلها، يُقِمن كهوفًا يَلجأْن إليها في أوقات متقارِبة، ومتباعدة. الرحلة تَمضي إلى جزيرة خالية. كيف يكون تصرُّفه لو أنه التقى فيها بجنيات البحر؟ هل يُصدِّق ما رواه الرَّيِّس عن اختطاف الجنِّيَّات للبشر، الرجال من البشر، من فوق الأمواج، أو من الشاطئ؟ ينزلن بهم إلى قاع البحر. يتزوجون من بنات الماء. يأتي الأبناء مخلوقات خرافية، نصفها الأعلى جسم امرأة، ونصفها الأسفل لسمكة.

روى له الرَّيِّس عن اجتذاب عرائس البحر لراكِبي السفن، والمُقيمِين في الجُزر المتناثرة، والذين ينزلون إلى البحر. يَبعَث بهن الجن الأكبر في محيطات العالم وبحاره، فيَفتِنون مَن يركب المياه. يتسلَّل غناؤهن إلى آذانهم، أو يُصدِرون أصواتًا كالغناء. يقع مَن تغويهم في هواها، يُسلِّمون أنفسهم إلى أسْرِها، لا يملكون الفكاك من النداء المُوحَى. تأخذُهم إلى حيث لا يدري أحد. وربما صحِبَته واحدة إلى جزيرة بعيدة، فتكلِّفه أن يستمتع بها. ليست عروس البحر التى شاهدها في متحف الأحياء المائية، ولا العروس التي رسمَتْها في خياله روايات الصيادين في الحلقة، وعلى مقاهي السَّيَّالة. ليست الوجه الجميل والجسد الأنثوي والساقين المُدغمَتَين في ذيل سمكة. تظهر في هيئات وأشكال لا نهاية لتحوُّراتها. تُحرِّك الريح، وتُذلِّل الأمواج، وتُخضِع الكائنات لإرادتها. وثَمة عرائس تَقتصِر مناداتها على صوتها الداخلي، لكن الاستجابة تنتقل إلى داخل المرء الذي تَعنيه بالنداء دون أن يقوى على الرفض.

هذا عملها: تغوي راكبي البحر، تجتذبهم، تهبط بهم إلى أعماق البحر، إلى حيث لا يعودون. تَروِي الحكايات عن الحياة الهانئة التي تمتَّعوا بها في الأعماق: القصور المسحورة، والذهب، والكنوز التي لا تَخطر ببال. لكن الذين تُغيِّبهم الجنيات في البحر لا يعودون. ثَمَّة عروس ترفُض معاشَرة البشر، تكتفي بالإغواء فلا يظفر بها أحد. تَظل الجنيات في مواقع لا يتبيَّنُها أحد. تعلو أصواتهن بالغناء، يَنطِقن بكلمات السحر التي تُخضِع الأمواج والسحب والأمطار والرياح والنَّوَّات والأسماك المتوحشة، يأمُرْن فتتوالى الأمواج، تَثور، تَعلو، يغوص القارب إلى أعمق الأعماق فلا يظهر ثانية. يَهَبْن الأعماق مَن تجتذبه الغواية.

قال الرَّيِّس: إن المسافر لا يستطيع أن يُفرِّق بين عرائس البحر والجنيات. ربما تقَمَّصت الجنيات هيئة عرائس البحر، مثلما يُفلِحن في تَقمُّص هيئات الكثير من البشر والحيوان والطير والنبات. الجنية تتبدَّل وتتحوَّر كأنها الشيطان. تبدو صيادًا في قارب، أو سمكة جسدها من ألوان الطيف، أو طائرًا يصدر أصواتًا كالشدو الجميل، أو أعشاب بحر تسبح فوق الماء.

تتحوَّل الجنية، تتبدَّل، تتحوَّر، تأخذ أشكالًا. لا تعود إلى هيئتها نصف إنسان، ونصف سمكة، إلا بعد أن تُلامِس الجسد الذي تحوَّلت لاجتذابه. قبل أن يفيق من ارتباك الصدمة، تكون قد اجتذبَته. مضَت به إلى المجهول، فلا يعود.

هل يُصدِّق رواية الاختطاف إلى القاع؟ أو يُضطَر إلى خوض معركة تغيب نتائجها؟ أو تعود إلى البحر بصوت اقتراب القارب من الجزيرة، فينتهي الأمر؟

هل الجنية — كما وصفها الرَّيِّس عبد الحافظ — ذات جمال ليس في نساء العالَمِين. الشَّعر الناعم المُسدَل على الجسد البضِّ الأملس، والنَّهدان المتكوِّران، تُضفي عليهما قطرات الماء ألَقًا؟ … هل هي؟ كما وصفها الرجل، أو أنها — كما شاهد في متحف الأحياء المائية — أقربُ إلى جسد متداخِل التَّكوين والملامح: رأس صغير، يخلو من الشعر، وعينان ضيِّقتان، تُناقضان حجم الوجه، وأنف أفطس، وشَفتان غليظتان مُتدلِّيتان، وثَديان صغيران يهبطان — بانحراف — إلى الإبطين، وجلد أسود مجعَّد، ويكسو الجسدَ شعْر خشن؟

عندما علا القمر، لم يلتفِت إليه. حذَّره الكابتن من اجتذاب ضوء القمر لإرادته، فتجتذبه الجنية إلى مملكتها في أعماق البحر. تُفضِّل الجنيات الليالي القمرية لاختيار الضحايا، يُخضِعن ضوء القمر، فيسلب المسافر عقله.

أزمع أن يُصِم أذنيه، فلا يجتذبه النداء، لا تجتذبه الأصوات المترنِّمة. حتى لو كانت العروس عروسًا حقيقية، فإنه ترك بحري للقاء نَجْمه، لا يشغله ما يثنيه أو يعطله. لتكن كل العرائس جنيات، ولتظل الجنيات — مَهما تتحوَّر وتتشكل — في حقيقتها التي يجب أن يخافها، وليواصل التجديف نحو المعنى الذي يشغله. عليه أن يَمضي إذا أراد أن يبلغ الجزيرة، لا يهب انتباهه لمشهد، ولا لصوت. تتطلع نظراته إلى ما وراء الأفق، يُفتِّش عن المجهول والأسرار التي تُلقي بظلالها على الكائنات من حوله. يظل يُجدِّف حتى يصل بالقارب إلى حيث يوجد نجم، إلى حيث يجد الإجابة عمَّا يشغله من أسئلة. يعرف أن الرحلة بعيدة، لكنها بدَت له — وهو يضرب بالمجدافين — أبعَد من تقديره. بدَت بعيدة للغاية، كأنها حلم يصعب الإمساك به.

كان يطيل التأمُّل إلى كل نجم. يتصوَّر أنه هو. يثق أنه هو نجم ملتَمِع أو شاحب الضوء. حتى النجم ذي الذيل يظل يتابعه بدعوات متلاحِقة. يُهمل قول الشيخ نجاتي: إن النجم قد يتحوَّر في غَيْر صورته. تتلاحَق الكلمات من أعماقه. استغاثات وابتهالات ودعوات. ربما قال — باللهفة — كلمات مندفعة، وغير مترابطة.

لمح نورسًا يُحلِّق في الأفق، ثم حوَّمَت فوق رأسه أسراب من الطير، تَحوَّلت إلى غمائم بيضاء، أو سوداء، صغيرة، مُتحرِّكة تنطلق في المدى، وتداخلَت بين الأسماك ثعابين بحرية، وعَلَتِ المياه أعشابٌ برية خضراء.

أدرك أنه قد اقترب من الجزيرة، وأن موعد رَسْو القارب قد حان. النورس — كما تعلم — يطير على امتداد السواحل، والثعابين والأعشاب البرية تحيا في الأرض الضحلة، بالقرب من الشاطئ.

•••

دارت عيناه في التقاء الأرض والبحر والسماء. امتدت المياه ذات الزُّرقة الداكنة من كل الجهات على اتساع الأفق. أصاخ السمع لكل ما يترامى من أصوات، حتى تقافُز الأسماك الصغيرة فوق المياه، ورفرفة أجنحة الطيور الصغيرة من فوقه. ثَمَّة ضوء خافِت يميل إلى الحمرة، بدأ تصاعده، وانعكس على الموج.

حذَّره الكابتن من أن يصطدم القارب بصخرة تغمرها المياه؛ يتحول إلى مجرَّد قِطَع من الأخشاب. وربما لا يحسن السباحة، فيفقد حياته. وربما نهشته الأسماك المتوحشة.

واصَل الاقتراب، حتى تبين تضاريس الجزيرة. تَداخل الصخر والرمل والتراب وقطع الحجارة الصغيرة، تَحوطُها الأعشاب، فتبدو إطارًا من اللون الأخضر. وثَمَّة طحالب تنمو متناثرة فوق سطح المياه، وتلمع تحت الشمس.

قذف بالهلب على الشاطئ. جذب الحبل، فتأكد من تثبيته.

لم يرَ في الجزيرة الصغيرة سوى كومة من الصخور والحجارة المتداخلة بالطحالب وأعشاب البحر. قيل إنها كانت موضعًا لمدفن ولِيٍّ، دفنَه أصحابه حيث مات، وحيث كان يخلو إلى نفسه وسط البحر. اختلفَت الروايات فلم يَتفِق اثنان في رواية واحدة. قيل إن الصيت ظهر له بالكرامات والمكاشَفات. لمَّا ضاق بأفعال الناس، مدَّ بِساطًا على الماء. مشى عليه حتى وصل إلى الجزيرة. رفَع البساط بطلاسم وأدعية، ثم أقام في الجزيرة، وإن ظَل يمشي على الماء بين الأنفوشي والجزيرة دون أن تَبتلَّ قدماه. تجلَّت كراماته حين بدأ النور المنبعث من الجزيرة يهدي المراكب العابرة. وكانت ظُلَّة من الطير تُحلِّق دائمًا فوق موضعه بالجزيرة، في أثناء صعود الشمس إلى منتصف السماء. فإذا أتتِ النَّوَّة دعا ربه، فهدأَت، وعاد سطح البحر حصيرة. وكان يشاهد مكة من موضعه، ويتعرف إلى الطائفين من حولها. ضاقت الدائرة الواسعة المحيطة بكوخ أقامه لنفسه وسط الجزيرة، بعشرات الباحِثين عن النَّصَفة والبُرْء والمَدد. يَنثُر المال في طريق الفقراء والمُعوِزين. يَلْقَونه، فيقضون حاجاتهم ويشكرون الله. يَعظهم، ويتلو آيات القرآن، ويهمس بتوقُّعات المستقبل، ويقوم بأفعال يعجز عنها الإنس والجان. وقيل إنه اشتهر بقدرته على قضاء الحوائج، وحل المشكلات، ونُصرة المظلومين والغَلابة، وفَكِّ المربوطين، وعلاج المَمسوسين والمَلبوسين والمسحور لهم من الجان. وقيل إنه كان يَشفي النسوة من العُقم، ويَشفي الأطفال مما يصيبهم من أمراض، يُحرِّك أصابعه فوق موضع العلة، أو يُدلِّك الجزء المريض براحة يده. دقائق، تَسري فيها الطاقة الروحية من اليد الطاهرة إلى حيث الألم، فيتم الشفاء بإذن الله. وكانت النساء من أهل بَحري يَحرِصن على نزول المولود في قطعة قماش مِمَّا يستخدمه الشيخ، فهو أجلب للبركة. وكان يأتي بالفاكهة في غير أوانها لمن يُلحُّ عليهن الوحم. ورُوي أن ابن الفريش حسونة غراب غَرِق وهو يسبح في مياه الأنفوشي. هدَّت المصيبةُ الأب المكلوم. رأى الشيخ الحادثة مصادَفة. أشار إلى موضع خلْف قلعة قايتباي. فاجأ الولد أباه باستناده إلى جدار القلعة المُطل على البحر. وكان إذا نفد ما عنده من طعام، مد يده إلى الهواء، يلتقط ما تهديه له السماء، ويأكل حتى يشبع. وكان يطوي الأرض، ويمشي على الماء، ويظهر في أكثر من مكان في وقت واحد، يتشكَّل حتى يملأ أركان خلوات مريديه وحياة المؤمنين بمكاشفاته وكراماته، ويُكاشِف الناس بمواقف حدثت — أو ستحدث — لهم. وكان في بِنْصَره خاتم، إذا دلكه حضرت الملائكة والجان والأرواح والطيور والزواحف والشياطين، يضع نفسه في خدمتها. وكان يطعم الطير من يده، ويكلمها بلغتها، وينادي على الأسماك بأسماء أنواعها، فتعلو إلى السطح، وتسبح ناحيته. يأمر الأسماك، فتسمع له وتطيع، ويُسخِّرها لتنقل رسائله إلى أتباعه في الناحية المقابلة للجزيرة. ويمد يده في الهواء، فتعود بطير لا يُبدي مقاومة حين يكبر، ثم يجري على عنقه بسكين. ويشر إلى الأسماك، فتقفز في الشِّباك إن لم تُسعِف الطَّراحة الصياد بما يطلبه. وكانت تقوم على خدمته ثلاث من عرائس البحر، يَتناوَبْن الخروج من الماء. وقيل إنه أشفق على ترسة مقلوبة على ظهرها، حتى يأتي موعد ذبحها. همس فوقها بكلمات، فانقلبت، وجرَت بما لا يتوقعه الناس من سلحفاة، حتى اختفَت. وقيل إنه لمح لصًّا يتسلَّل إلى كوخه، ورآه اللص، فاندفع نحوه يقصد قتله. نظر إليه الشيخ، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل. شهق الرجل، وسكنت حركته، ونزلَت كواسر الطير على الجُثَّة تنهش لحْمَها فلم تُبْقِ منها حتى العظام. وقيل إن مُصلِّيًا في ياقوت العرش أنكر ولاية الشيخ؛ سلبه الشيخ كل ما حفظه من شعائر الدِّين وكلماته. لم يَعُد يعرف صلاة ولا صيامًا ولا آيات قرآن أو أدعية وابتهالات. تمسَّح الرجل بمقام الشيخ مستغيثًا. تناهى الصوت من داخل الضريح: أنكرتَ ولايتنا، فطمَسْنا ذاكرتك ثم عفا عنه.

أطال النظر فيما يحيط به: السماء، والبحر، والخلاء، والصخور، والكهوف، والأشجار، والأعشاب، والنباتات البرية، والطحالب العائمة، والأفق: أين ولَدتْه أمه؟

مد الطائر منقاره فبدَا كرمح. دسَّه في الماء، وصعد بسمكة كبيرة تلعلط.

ليست الطيور مجرَّد غمائم بيضاء أو سوداء، متحرِّكة، تنطلق في المدى. عرَف الخصائص التي يتميَّز بها طائر عن آخر: الحجم، والجناحين، والذيل، وملامح الوجه، والمنقار. أفلح في تمييز الكثير من الطيور بأصواتها. يُنصِت إلى الصوت، فيخمِّن نوع الطائر … لم يقنعه نفي الرجل لما كان قد استقر في يقينه: طيور النورس تُجسِّد الغرقَى أو القتلَى. ظل يعتبر صيد النورس شُؤمًا.

انقطعَت الصلة بينه وبين الحياة من حوله، بين الجزيرة والبحر المترامي الآفاق. لا صُحف ولا إذاعة ولا تليفزيون، ولا حتى مَن يحدثه عن الأحوال في البَر. أدرك أن صيد السِّنارة علَّمه الصمت كانت الساعات تمضي دون أن يتبادَل الكلام مع أي إنسان، وهو — منذ بدأ رحلته — لا يكلم حتى نفسه. ساعات تَعلُّم صيد السِّنارة علَّمَته الصبر، وعلَّمَته الصمت.

أَلِف تكسُّر الأمواج على شاطئ الجزيرة على شريط الرمال، تكشِف شفافية المياه عن القاع، تناثَرت فيه الحصى والأصداف الصغيرة والأعشاب.

لجأ إلى كل ما تعلَّمه: صاد بالسِّنارة، وألقَى الجَرَّافة، والطَّرَّاحة، وغاصَ إلى مسافة من الجزيرة الصخرية يبحث عن مأكولات بحرية. ينزع ثيابه تمامًا، ويغطس. ترك في بحري بدلة الغطس، وأدوات الغطس. أدرك أنه لن يستطيع الغوص بها. في باله قول الكابتن: ليس السمك وحده هو ما نأخذه من البحر … هناك الكثير من الحيوانات المائية، والأعشاب، والطحالب، والمحاريات، والإسفنج. وقال الكابتن: كل ما في البحار يجد ما يأكله، المهم ألا يكون هو ما يُؤْكَل. حفَر بئرًا في الجانب الشرقي. تألَّق في داخله الماء العذب. جعل همه أن يَروي زراعة نبتَت بالقرب من البئر أخذَ بيض الطير من الأعشاش. أعدَّه على النار، وأكله، وهمس: الله أكبر، ثم جرى بالسكين على أعناق طيور كثيرة، وأكلها مشوية.

تأمَّل البيضة الدائرية، المستطيلة، نقَرها، فوشى داخلها بالحياة.

قال له الكابتن: هذه هي الحياة في البحر … الكائنات تأكل بعضها.

مط شفتيه: هذا ما يحدث في الأرض أيضًا.

كان يستطيع رؤية القاع في الأجزاء الضَّحلة. يبدو الحصى بألوان متباينة. أفلح — بعد أن أخفق مرَّات كثيرة — في صيد السمك بيديه العاريتين. لا سنارة، ولا طَرَّاحة، ولا جَرَّافة. كلَّما أسرعَت اليدان بالغوص، وبالصعود، أفلَحتَا في صيد سمكة، ثم يدفع يديه لتصعدَا بسمكة أخرى.

لم يكن يغطس إلا إذا دلَّته شواهد على وجود الأسماك. يعثر عليها داخل الجحور والمغارات، أسماك من كل الأنواع والأحجام … حتى الأسماك الهائلة الحجم كان ينالها بالتصويب المتقن من البندقية، أو الحَرْبة.

طالتْ لحيته — بتوالي الأيام — فبلغَت صدْرَه. أزمع أن يهمل مضايقتها له. اكتفى بثوبين، يرتدي أحدهما، ويغسل الآخر. وينتظره حتى يَجفَّ. اعتاد التَّنقُّل والبحث عن الطعام. لم يَعُد طعامه مشكلة. فهو يحصل عليه من البحر، ومن الأشجار، ومن النباتات البرية، ومما زرعت يداه. يمضي إلى داخل الجزيرة، يصطاد الأرانب، والدجاج، والبط البري. يُحاوِل تسلُّق النخيل والأشجار والْتِقاط الثمار من أعلاها، يجمع الحطب، وفروع الأشجار والأعشاب الجافَّة، يُوقِد فيها النيران، يطهو عليها طعامه، أو يشوي الأسماك، أو يُعِد مشروبات ساخنة. وانشغل بصناعة السلال.

أهمل النزول إلى المياه لبرودتها القاسية. مدَّ قدميه في المياه المثلجة، ثم سحبَها، ولم يعاود المحاوَلة. أهمل الصيد. اعتمد على ما أثمرَتْه قطعة الأرض.

كانت الأمواج تعلو، وتتوالى، وتندفع. تتكسَّر على صخور الجزيرة وشعابها. وكان الطقس باردًا، نفخ يديه بفمه، ضرب الأرض بقدميه، تَقرْفَص بين أشجار صغيرة، متجاوِرة. أحس أنه ينتفض من البرد، وأسنانه تَصطكُّ، وأطرافه تتجمد.

كانت أُمُّه تحرص — في الشتاء — أن يدُسَّ قدميه في جورب وترى في ذلك تدفئة للجسد كله. لفَّ حول قدميه فوطة كبيرة، لكن البرودة ظلَّت تنخر جسده. غطَّى كتفيه وظهره ببطانية، ووضع رأسه بين ركبتيه، وضَمَّ ساقه بذراعيه، وتعمَّد هز جسده، وضرب قدميه في الأرض، يحاول أن يدفئ نفسه بنفسه.

واجه الخطر. دافَع عن نفسه من أذى الطيور المتوحِّشة والزواحف والحشرات. تنقَّل بين الشقوق والكهوف والفجوات بين الصخور. حاذَر الصخور المسننة، المُدبَّبة، كسكاكين. اختار كهفًا صغيرًا، يقضي فيه الليل، يدخل إليه على يديه وركبتيه. المدى من حوله طبقات من الظلام والرُّؤى المتخيَّلة، وهدير الأمواج يترامى وهي تصطدم بصخور الشاطئ. يُرهِف سمعه، يحاول أن يتبيَّن الفرق بين هدير أمواج البحر، والأصوات العابرة التي ربَّما يلجأ إلى مصادرها.

وكان يلجأ إلى مَقام الولي إذا همَّه أمر، أو حزَبه ما كدَّره، يكلمه كأنه يراه. يأخذ منه ويعطي. يُبلغه بالرأي الصواب حين يزوره في نومه.

•••

ترامَى صوت لم يكن أَلِفه منذ نزل الجزيرة.

ثَمَّة شيء صغير في الأفق، ظل يكبر، توقَّع أن يكون باخرة.

رأى — من موضعه — باخِرة هائلة الحجم. لم يتحقَّق من نوعها، وما إذا كانت بارجة حربية، أم باخرة ركاب، أم ناقلة بترول. واصلَت سَيْرها — عن بُعد — حتى تحوَّلَت إلى نقطة في الأفق، ثم اختفَت تمامًا.

فكَّر في وسيلة اجتذاب: يُشعِل النيران، أو يرفع قطعة قماش أو يُصدِر أصواتًا عالية. كتَم الرغبة في داخله، تَنبَّه إلى أنه لجأ إلى الجزيرة باختياره، لم يدفعه أحد.

بدَت الرحلة مَنفذًا وحيدًا، مضى من خلاله لينعم بالأسرار المقدَّسة، والعبارات، والإشارات، والألفاظ، والمجاهَدات، واللطائف الروحانية. آلاف الطيور الصغيرة، السوداء، الصارخة، الزاعقة، غمَر الضوء أجنحتها، تُحلِّق في السماء الصافية الزُّرقة، تملأ جو الجزيرة بالصخب. لا يذكر أنَّه رآها من قبل. تختلف عمَّا قرأ عنه في أحجامها، وألوانها، والأصوات التي تصدر عنها. تقترب، فَتلقِي ظلالها على المياه، تندفع نحو القارب في مياه بلا آفاق، ثم تذوب — في اقترابها — كلَا شيء، تختفي كَسَراب.

ثَمَّة طائر وحيد، الْتَمع كوَمْض البرق، وإن لم يصدر صوتًا. صفع الفراغ من حوله بجناحيه الكبيرين، ثم حلَّق في الأفق. انطلق، رفَّ بجناحيه في السماء، ثم مال وانحدر نحو الماء، وعاد. ألقى ظلالًا سريعة على صفحة الماء، كأنَّه يرافق القارب، أعاد نشْر جناحيه، وعلا فوق الأمواج، وعلا. مضى في نصف دائرة، ثم اندفع ثانية — كأنه يَنوي ملامسة الأمواج، أو يَنوي الغطس. هو لا يبتعد عنه حتى يعود إليه.

استدار الطائر هابطًا.

توقَّع أن يغوص في البحر، لكنَّه ما لبث أن طار فوق المياه، فكاد يلامسها. تناثَرت على السطح — في ابتعاده — دوَّامات صغيرة، متجاوِرة.

خُيِّل إليه أنه يعرف هذا الطائر، وأنه رآه من قبل.

أين؟ ومتى؟

ربما كان هو الذي أَلِف وقوفه على إفريز الشُّرفة المُطِلة على تقاطعات الشوارع، يهدل كحمامة، يتقافز على الإفريز الحديدي.

يقترب، فيستقبله بشعور الألفة. يتأمَّل تَمازُج ألوان الجناحين، والعينين الحادَّتِي النظرات، والمنقار الدائم الحركة، كأنه يتكلم بلغة هو — بالقطع — لا يعرفها.

قال له الشيخ نجاتي: ربما يتجسد النَّجم في هيئة سمكة أو طائر.

همس لنفسه: هل يكون هذا الطائر هو نجمه الذي خرج للبحث عنه؟

ألزمناه طائره في عنقه. هل المَعنِي هو ذلك الطائر، النجم الذي يرافقه منذ الميلاد إلى الممات؟

حاوَل أن يتوصَّل إلى معنى يُرشده لِما يبحث عنه: حركة الطائر، الخطوط المستقيمة، والمتعَرِّجة، الانطلاق إلى أعلى، والهبوط إلى أسفل، الأشكال والتكوينات التي يرسمها الطائر، دورانه في دائرة المدَى. يمسك باللحظة التي تُعينه على الوصول إلى ما خرج للقائه.

تمنَّى أن يتلقَّى السر الذي خرج في رحلته القاسية لمعرفته.

لكن الطائر بدَا مجهدًا، ذاويًا، يطير بصعوبة، أو لا يقوى على الطيران.

قال لنفسه وهو يواجه بالعجز معاناة الطائر: هل أجَّل بدْء الرحلة حتى نفدَ وقتها؟

طوى الطائر جناحيه الكبيرين — فجأة — ودَسَّ عنقه بين كتفيه بدَا أنه يعاني ما لا قِبَل له على تَحمُّله، وأنَّه يوشِك على السقوط … مضى الطائر قريبًا من سطح الماء. صار جزءًا من امتدادات الفراغ. تلاشَى في داخله.

ساد الصمت، والغموض، والرُّؤى التي ترفض البوح.

تناهَت أصوات من أعماق البحر، لا يَدرِي مصدرها على وجه التحديد. تصاعَد في داخله هاتف: آنَ أوان الرحيل.

عرف — كأمر لا يستطيع رَدَّه — أن عليه أن يهجر الاستقرار، ويكمل الرحلة التي لا يدري كيف ولا أين تنتهي.

بدَا ما يفعله تلبية لهاتف، وصية، نداء مجهول، أمرًا لا يعرف مصدره، فيلتقِي بالنجم، الطائر، السمكة، المجهول الذي سَيهبُه سِر حياته.

اقتحمَه خوف من المتوقَّع، لا يُخمِّن ملامحه، ولا حتى صورته الكلية. خوف يُلِح بأنَّ شيئًا يوشك أن يحدث، شيئًا لا يقوى على دفعه.

لكن النداء في داخله ظلَّ أقوى مِن تمنِّي المُضي في الرحلة وصحَت — في داخله — أشياء كان قد تصوَّر أنها ماتَت.

•••

التفتَ وراءه.

تضاءلَت الجزيرة، وشَحبت. تحوَّلَت إلى نقطة صغيرة، اختفَت تمامًا. عاد احتواء المياه للقارب من كل الجهات. لم يَعُد يسمع إلا هدير الأمواج. كان قد أعاد مَلء الجراكن بالماء العذْب، وملأ القارب بالفاكهة والخضر.

لم يُسفر الأفق عن نهاية، أو حتى ملامح للنهاية. اشتدَّت سخونة الهواء. حتى هبَّات الهواء كانت لافحة. استحالَت الشمس قُبَّة عريضة من البياض المتوهِّج، تفح سخونة لاهبة. البُخار المتصاعِد يُحيل الأفق سرابًا.

حاوَل أن يجتاز النهار بأيَّة وسيلة، لا يجهد نفسه في التجديف، ولا مُحاوَلة الإسراع. همه أن يفر من القيظ والشمس اللاهبة. لو أن الكابتن كان معه في القارب يمسك بالدَّفَّة، لكن الشيخ طالَبه بأن تمضي رحلته إلى منتهاها، دون رفيق.

قال الشيخ نجاتي: لا أحد يذهب مع آخَرِين … كل واحد يذهب بمفرده.

رأى الكثير من الأسماك التي لم يُحدِّثه الرجل عنها، ولا يعرف أسماءها. ربما اجتذب عينيه ومضات سريعة كلمحات البرق. يُخمِّن أنها الأسماك الفوسفورية.

أفلَح في تجنُّب التيارات الصاخبة، المَوَّارة، فلا تَقذِف القارب إلى موضع ليس هو الذي يمضي إليه. حذَّره الكابتن من التيارات البحرية المجهولة، المفاجئة. تدفَع القارب إلى شاطئ صخري، فتُحطِّمه.

تَبيَّن — في الأفق — نقاطًا متناثرة، بعيدة، كأنها تطفو على سطح الماء. تراءى ما بدَا كأنَّه جُزر صخرية، أو رءوس جبال أنه على وشك الوصول إلى الأرض، لكنَّ المسافة خدعته ظَل القارِب يشق الأمواج.

هل تكون هذه الصخرة البعيدة هي حَجر المغناطيس الذي قرأ عنه في الحكايات؟ … يجتذبه القارب ناحيته حتى يلتصق به، فتتفكك أجزاؤه، وتغرق.

مر زمان دون أن يلمح جزيرة، ولا سَفينة من أي نوع، لا صغيرة ولا هائلة الحجم. شَعر أنه وحيد في هذا البحر المترامي.

أحسَّ بالتعب من طول الرحلة، ومن التجديف، ومن توقُّع ما تغيب ملامَحه. الآفاق المترامية من كل الجهات حاصَرتْه. فقد الأمل فيما وراء الوراء. قهَره الشعور بالوحدة والعُزلة والحياة في سجن.

امتدادات الآفاق مِن حوله، تحوَّلَت إلى أسوار غير مرئية. يصعب عليه عبورها.

علا صوته — دون تدبر بالغناء، كمَن يطرد شيئًا من داخل نفسه، أو لا يتبينه. لم يتدبَّر الكلمات ولا الألحان ولا المعاني. غنَّى ما أسعفته به ذاكرته. مجرَّد أن يدفع الوحدة عن نفسه، ويدفع الوحشة.

•••

جاء الليل.

ازداد سواد السُّحب. تكاثَفَت الظلال، حتى انعدمَت الرؤية. سادت الظُّلمة. غَشِيت عيناه فهو لا يرى شيئًا. ليس حوله من كل الجهات سوى الأمواج الصاخبة من حوله، لا يَبِين منها سوى هدير اصطدامها بالصخور الصغيرة، المتناثرة في المياه. الظُّلمة المتكاثفة، لا يرى فيها بُقعة ضوء، ولا يتعرَّف إلى موضع الملامسة، ولا حتى إلى تقاطيع جسده.

حاوَل أن يسترشد بالنجوم، ثم أزمَع أن يتوقف إلى صباح اليوم التالي. الرؤية في ضوء النهار أفضل من الرؤية في الليل.

لم يَعُد يُفرِّق — بتأثير الظلمة الداكنة — بين الليل والنهار، ولا يَعرِف توالِي الأيام. هي لحظة ساكنة، مُمتدَّة، يغيب فيها التوقُّع وإن أَلِف أصوات الليل.

حين أراق القمر ضوءه، تشاغَل بِعَدِّ النجوم، وتأمل الطحالب الطافية فوق المياه والأسماك المتقافِزة. علَّمه الكابتن كيف يُحدِّد مكانه في قلْب المياه، بالتطلُّع إلى النجوم. كل نجم يشر إلى ناحية. الشمس تُشرق على كل الدنيا. تشير إلى الليل، وإلى النهار. تَحرُّك النجوم في السماء يرتبط بالأبراج الفلكية، وبحركة المد والجزر، والعواصف، والنَّوَّات، وخطوط الطول، وخطوط العرض، وقوة الرياح، وتغير اتجاهاتها، وسكونها.

يدرك أنه ربما لا يجد طائره. لكنَّ الدافع للبحث عنه تَملَّكه تمامًا. تاقَ إلى السِّر الذي يُعرِّفه حقائق كثيرة.

لو أن الطائر تَكلَّم.

يعرف أنه طائر، ولا يستطيع كلام البشر. لكنه طائره هو. عليه أن يوضح ما غمض، ويُفِّسر المعاني، ويشير إلى الدلالات، ويُملِي الفعل الآتي.

•••

صحَا على الْتِقاء السماء بالأرض. الآفاق لا نهاية لها.

فرَغَت الجراكن من الماء العذب. استخدم مياه الأمطار. يَضَع الأواني الفارغة وسط القارب. تتلقَّى القطرات المنهمرة، حتى تمتلئ، فيفرغها في الجراكن.

أشرقت الشمس وغربت، وظهرَت النجوم واختفَت، وتخلَّى القمر عن استدارته، ثم عاد إليها. طوَى مراحل ومخاوِف ومَهالك وأيَّام راحة، وأيام تَعَب، وعانَى الحر والصقيع.

ترامَت أصوات بعيدة، متداخِلة، غير مُستبِينة المعالِم. وَمَض الأفق ببروق متوالية، كأنها الشُّهب المتطايرة. ثم تَبِين في الظلمة المتكاثِفة أعْيُن مُلتمِعة ببريق غريب، ربَّما أربع أعين تَرميه بنظرات كلَهَب النار.

ليس حوله إلا امتدادات الأمواج — بلا نهاية — من كل الجوانب، لا شمال ولا جنوب، ولا شرق أو غرب، القارب بُقعة في مساحات من المياه التي امتزج فيها الأزرق بالأخضر، وثَمَّة فلوكة بعيدة، طافية، خالية، يحركها التيار.

سيطر عليه إحساس بالخوف من آفاق المياه المترامية. قَهره الإحساس بالعزلة، والوحدة، والضآلة، في اتِّساع الآفاق حوله من كل الجوانب. إنه حُر في الفراغ المُطلَق. مقيَّد في الفراغ نفسه، غَنَّى ليداري الخوف، ارتفع صوتُه بكلمات غير مترابطة، ومُدغَمة، مجرَّد أن يطرد الإحساس بالعزلة.

ميَّز شيئًا في الأفق: باخرة، أو غمامة سوداء، أو طائرًا كبير الحجم؟

سرى — في المياه الساكنة — اضطراب خفيف. خمَّن أن شيئًا ما حرَّك المياه في الناحية المُقابِلة، وراء الأعشاب النامية في قلب البحر. تأرجَح القارب، غاصت مُقدِّمته في الموج، وعَلَت.

تدافَعت الأمواج إلى القارب، تعلو به وتهبط، دفعَته التيَّارات إلى الأمام، وإلى الخلف. ترامَى من أسفل صوت كالهَسِيس، أو كالخشخشة. انتَتَر من الماء — فجأة — جسم كالتِّرسة. قفز عاليًا، ثم عاوَد الغوص.

خمَّن أنه غاص تحت القارب ليقلبه. غاب التوقُّع، وما يستطيع أن يفعله. حدَّثه الكابتن عن المخلوقات الغريبة التي تحيا في أعماق البحر: تعلَّم السباحة والصيد وقيادة القارب، لكن تفصيلات الصورة، التكوينات والملامح والألوان والظلال، ظَلَّت غائبة.

علَت الريح بما يشبه الزَّمْجَرة القاسية، تخيفه، وتدفعه إلى التَّلفُّت. استعاد ما تعلَّمه من الرجل عن نَفضات الشعير، تأتي بلا نذر، ولا مواعيد محددة. تحوَّلَت الأمواج إلى جبال صغيرة، لم يَدرِ كيف يواجهها.

فكَّر في أن يرفع على جانب القارب فانلة داخلية. لونها الأبيض استغاثة للسفن العابرة. هذا ما نصحه به الكابتن إذا واجَه ما يدفعه إلى طلب الإنقاذ. أهمل الفكرة لرؤية الأمواج المتلاطمة وحْدَها — بلا آفاق من كل الجهات.

ما يحدث في المياه كأنه فَوَران، غلَيان. علَت الفقاقيع السطح. تصاعدت سُخونة لفحَت وجهه.

ظنَّه — لضخامته — غيمة مثقلة، عابرة، ألقَت بظلها الداكن على سطح الماء. لكنه بدَا جسمًا هائلًا غريبًا. اقترب، واقترب، الجناحان يرتفعان وينخفضان في رَتابة بطيئة.

هوى الطائر الضخم، لطَم المياه بجناحه، فَعَلَت كالنافورات.

اصطدَمت رأسه بمقدمة القارب. مسحت يده — بعفوية — انبجاس الدم. وشَت به القطرات المتساقطة على وجهه.

اندفعَت ملايين الطيور. أحجام صغيرة وكبيرة وألوان مختلفة. طيور لم يَرَ مثلها من قبل. لا يَعرِف من أين — ولا كيف — أتَت حوَّمَت فوق القارب، فوق رأسه. طارَت من حوله. تقافَزت علَى حواف القارب. اقتربت. حطَّت على رأسه وكتفيه وصدره، عجز عن دفعها، وإن لم يشعر بتألُّم من توالِي نَقرِها لجسده.

بدَا كما لو أنَّ نَوَّة قادمة، نذرها زَفِيف الريح، وتعالِي الأمواج. ثارَت الأمواج بلا توقُّع. حفظ مواعيد النَّوَّات، وحركة المَد والجَزْر، لكن الأمواج ارتفعَت بالنَّوَّة المفاجئة — هل هي نوة، أو هبة ريح وقتية؟ فدفعَت القارب بعيدًا.

قال الكابتن: لو أن كل النَّوَّات أعطَت إنذارًا فلن يَغرق أحد.

فاجأه ضياع البوصلة. اختطفَتْها الأمواج. خشِي أن يكون القارب قد بدأ الدوران في مساحة دائرية، فهو يبعد عن الشواطئ، ولا يَتَّجه إلى الأمام.

فكر في أن يقفز إلى الماء، لكنَّه فطن — بارتفاع الأمواج وفورانها — إلى سخف الفكرة.

لم يَعُد بوسعه التراجع.

أدرك أنه لن يستطيع العوم مترًا واحدًا. نَسي كل ما تعلمه. المواجَهة لن تُجدي، وسيخسر المعركة إن خاضها.

تلَفَّت، يبحث عن فرصة للهرب، ملاذ يحتمي به.

أسكَت تردُّدَه إصرارٌ بأن يقتحم لُجَّة البحر مَهمَا تَعْلُ أمواجه.

قال الشيخ نجاتي: السعي إلى لقاء النجم هو الرحلة الوحيدة التي يجب على المرء — حين تبدو مشكلاته بلا حل — أن ينطلق فيها.

ساعات الصباح. الشمس على يمينه، فهو الشرق إذن، والقارب يمضي نحو الشمال، والجنوب في أسفل.

تكثَّف الصمت، وتشمَّم أنفه رائحة غريبة، كأنها العدم.

لجأ إلى المجدافين، أودعهما كل ما لديه من قوة، يضرب بهما تلاطُم الأمواج.

انفرجَت المياه عن كتلة هائلة، انتترت في الفراغ.

راقب — في ذهول — دورة الجسم البطيئة، الهادئة، وانزلاقه على الماء. نفث من أنفه ما يشبه السُّحب الصغيرة، المتلاحقة. تداخلَت الألوان في البشرة الملساء. تحوَّل الأبيض إلى أسود، وتحوَّل الأحمر إلى أزرق، وحلَّ الأصفر حتى هزمه الأخضر.

تبدَّل الشكل الهلامي، فاكتسَب ملامح إنسانية: عينين وأنفًا وشفتين. تَحصَّن بالمعوِّذَتين وآية الكرسي والأدعية، لكن المجهول ظلَّ على تَبدُّله حتى أطلق صيحة للهيئة التي استقرَّ فيها، كأنه يرى نفسه في المرآة. هاتان العينان هما عيناي، والأنف، والشفتان. حتى خصلة الشعر البيضاء في مقدمة رأسه. حتى النُّدبة البُنِّية تحت الأنف، وإن زاد الشعر الأبيض في الفُودَين، وأحاطت التجاعيد بالعينين وحول الفم.

غالَب تأهُّبَه للتصدِّي. لم يكن الفعل فعله، لكن القوة المسيطِرة، الآمِرة، نَبعَت من داخله، تُلزِمه بالسَّكِينة، مفتوح العينين، صامتًا، جامد الأنفاس، لا يتحرك … ينظر إلى الجسم الهائل، يتصوَّر أن يقترب منه.

تحرَّكَت الشفتان. بدَت الكلمات واضحة، رائقة: أنت لا تملك من الأمر شيئًا.

ثُم في نبرة حاسمة: إذا وجدْتَ ما يخيف، فاقذف بنفسك في الماء.

ظَلَّت الأمواج على صخَبها وفوَرانها. تردَّد في قذْف نفسه. تذكَّر قول الكابتن: إن اشتدَّت الريح، فامض معها.

علَت موجة هائلة، لم يستطع مقاومتها ولا دفْعَها. أزمَع أن يظل في مكانِه، لكن المَوجَة اجتذبَت القارب. طوَّحَت به إلى بعيد تنَبَّه — في لحظة — أنه يقاوِم الموج أكثر مما يعوم. يتحرَّك في موضعه، ولا ينطلق إلى الأمام.

•••

مَضت أزمان وهو على حاله. جرَفت الأمواج القارب. ابتعد عن الجزيرة تمامًا. انفسح البحر أمامه أمواجًا متتالية. لم يَعُد إلا الأمواج في كل الآفاق.

أدركَ أنَّ ما تعلَّمه من الرجل كان أقل مما ينبغي. عرَف كل شيء، أكثر حتى مما عرفه من الرجل. تمنَّى لو أن الزمن عاد إلى البداية. ربما تغيَّرَت أشياء كثيرة.

لم يقتصر هبوب الريح على جهة ما، لكنه شمل كل الجهات، صفير الريح يُخلخِل الهواء من حوله، يحرِّكه، يعلو بالأمواج والقارب، أمواج عالية يهتز لها القارب، حاصَرتْه في توالي مَدِّها. تعالَى صوت الرعد، وومَض وهَج البَرق، ثم هَطل المطر كالسيل لم تَعُد له سيطرة على القارب؛ فالأمواج تَعلو به وتهبط. تقلَّصت يداه على المجدافين. يعرف أنه إذا سقط في البحر، فلا بد أن يغرق القارب. عانَى ضغط الريح على ساعديه، حتى لا تنتزع الأمواج المجدافين.

أحس في امتدادات الأمواج العالية، المتوالية، كأن القارب تحوَّل إلى قبر، وأنه وحيد؛ لا بشر، ولا طير، ولا أصوات. استُلَّت الأصوات من كل شيء، حل سكون عميق، مُبهَم، حافل بالأسرار. تخلَّل السكون حتى الأعشاب والطحالب التي تطفو على سطح المياه. غاب الصوت الذي يُحْدِثه تقافُز الأسماك فوق الموج، حتى الهواء سكَن، حتى الطيور كأنها لزِمَت أعشاشها، والطائر الذي ظَل يحوم من فوقه، اختفى.

أين ذهب الطائر الذي كان يُحلِّق وحيدًا في الأفق؟ هل مات؟ وهل كان هو نجمه؟ وهل أومأ موته — إن حدث — بالسِّر والإشارة والمعنى؟

حين ظهر الطائر، تمنَّى أن يعرف منه السر، لكنه اختفى.

مضى الطائر دون أن يَهبَه السر الذي طلبه من الرحلة.

حاوَل أن يستعيد الملامح التي ربَّما أشار إليها الشيخ نجاتي في أحاديثه. ما تخلَّل الكلمات مما لم يفطن إليه، أو أهمله. نتوء صخري في المياه، أو نجم، أو بقعة مزدحمة بالسمك، أو خالية منه، سفينة غارقة، إشارة يهتدي بها. يمضي بالقارب حتى يجد ما انطلق للقائه.

اختفى الوميض، والعلامة، والإيماءة، والإشارة.

هل يظل تائهًا بين الأمواج، أو يظهر ما يأمله، ما يَشِي بالخروج من المأزق؟

•••

همس كالمتسائل: هل سبقني الشيخ نجاتي إلى موضع النجم؟

تمشَّى معه تحت ظل شجرة نهايته لا تَبِين.

قال الشيخ: هل التقيتَ بنجمك؟

– أظن أني رأيتُه … لكنه بدَا كالومضات السريعة، ثم اختفى.

– في لحظة رؤيتك له كان يُودِّعك.

أظهر الدهشة.

– لم أكن التقيتُ به حتى أُودِّعه.

– كان يرافقك — كما رَويتُ لك — منذ ولادتك.

– أنتَ أمرتَني أن أبحث عنه.

افتَرَّ فمه عن ابتسامة مشفقة.

– لماذا تصوَّرت أنه يبعد عن ذاتك؟

تبدَّلَت نبرة صوته: هل انتهت الرحلة؟ … هل أعود؟

– رحلتُك بدأت في شروق الشمس، وتنتهي في غروبها.

– لم تغرب الشمس بَعد.

– إن لك شمسك الخاصة، وهي تغرب في موعدها تمامًا.

أذهلَتْه الكلمات، وتلَفَّت في طبقات الظلام المتكاثفة من حوله يبحث عن أصداء الصوت الغائب.

هُيِّئ له أنه يشاهد أرواحًا، ويسمع أصواتًا مُنغَّمة كالتراتيل، أو الأغنيات، وثَمة شيء لا يَتبيَّنه يتولَّد داخل نفسه.

•••

بدت المرئيات كحلم، أو كابوس. اهتزَّت الجزيرة كأنها تتحرَّك، كأنها تدخل في قلب المياه، أو أن البحر يبتلعها. هدر الرعد، وتوالَت البروق، وسقطَت السيول. علَت الأمواج مُحمَّلة بالحصى والطحالب والأعشاب والرمال. تشقَّقَت الصخور، وتفتَّتَت. وانحدَرت، وانبثَقَت البراكين. اختلَطَت الصواعق، والعواصف، والشُّهب، والنيازك، والنجوم المتساقطة. اصطدم كل شيء بكل شيء. تعالَت النيران، وشاعَت الحرائق والشظايا والدخان. تسلَّل الغبار إلى عينيه وأذنيه وأنفه. تخلل شعره، وصبغ وجهه، واختفَت المرئيات في سحابات الغبار المتكاثفة.

غابت الإشارات، لا بداية ولا نهاية، لا أرض ولا سماء، لا بحر ولا شاطئ. تبدَّلَت التضاريس والأماكن، وتداخَل كل شيء في كل شيء.

ثم رانت الظُّلمة والصمت.

حاول أن يستدعي صورًا ربَّما كانت موجودة في حياته. ظلَّت صفحة الذهن بيضاء. نَسي كل شيء، وكل إنسان. لم تكن مديحة مِن بين مَن التقى بهم. ظلَّت تُرافِقه إلى هبوب العاصفة التي طيَّرت القارب، وقذَفتْ به في داخل الأمواج وحيدًا، غابت الملامح والأسماء عن ذاكرته. كأنَّ بابًا أُغلِق على حياته الماضية. فَرضَت اللحظة نفسها، مقطوعة الصلة بما مضى، وإن ألحَّت بالخوف من الآتي. لم يَعُد يقوى حتى على الصراخ.

•••

وَجد القارب مقلوبًا فوق شجرة. أدرَك أن النَّوَّة — التي أطاحت بكل شيء — قذفَت بالقارب بين فروع الشجرة الهائلة. وثَمَّة قِطَع من الخشب طافية فوق المياه. خمَّن أنها بقايا مركب أغرقَتْها النَّوَّة. مسح الموضع بنظرة سريعة. بدَا أن الأمواج طوَّحَت بالأخشاب من بعيد. تَسلَّق الشجرة، ونزل بالقارب. لجأ إلى البلطة والمنشار والقادوم حتى هيَّأه — ثانية — لمواصَلة الرحلة.

ظَل القارب في انطلاقه، حتى تحوَّل الجسم الغريب إلى نقطة ذابَت في الأفق.

أوغَل القارب في الزمان والمكان. امتدَّت البداية، فغابت النهاية. تَشوَّشَت الأوقات. اختلَط الماضي في الحاضر، وغاب الحاضر في رؤى الماضي. ذابَت اللحظة في اللانهائية والمُطلَق.

سكنَت الريح، وصلح أمر البحر. هدأت الأمواج. هدأ كل شيء. تحوَّلت المياه إلى حصيرة، سطح أمْلَس، ساكن، علت الشمس وسط السماء، فعرف أن النهار انتصف. اتَّسعَت السماء — فجأة — فبدَت بلا أُفق، كأنها نقطة التقاء الأرض بالسماء.

أقبل من حيث لا يَدري سِرب هائل الحجم من الطيور المتداخلة الأحجام والألوان. أعداد لا حصر لها، شكَّلت غيمة فوق البحر، بدَّلت لون المياه.

انقلبَت الطيور حول نفسها في دورات متتالية. اتَّجهَت ناحية، وعادت.

قال لنفسه: حيث يطير الطائر، فهو قريب من الأرض.

أدرك أن الأرض قريبة. لم يستطع تخمين موقِعَها على وجه التحديد، لكن الطيور المُحلِّقة وشَت بقُربها.

الآفاق من حوله مُمتدَّة، مترامية، لا بشر، ولا ظل، ولا صوت. زَبَد المياه يلتمِع تحت انسكابات الشمس.

التمَع الأفق بوميض. أشرقَت الشمس عَفِيَّة، وأشرقت، وأشرقت؛ غمرَته بحرارتها العارمة، خلَت السماء من السُّحب تمامًا، وإن غابت الزرقة. اصطبغَت المرئيات بألوان الطيف، ثم غابت الألوان، فلم يَعُد إلا اللون الأحمر. بدَت الشمس أكثر حمرة، أقرب إلى قُرص هائل من الدم. تَحوَّلت إلى امتزاج ألوان الطَّيف، تمدَّدَت، واستطالت. نَفَث الهواء الساكن قِطعًا من اللهب الذي يُحَس ولا يُرَى، وإن دخلت المرئيات — بالحرارة القاسية — في ضَباب متكاثِف تصاعدت الشمس من الماء ببخار مُلتهِب. لم يَعد ثَمة عاصم من الشمس اللاهبة في امتداد الأمواج من حوله، احتوت كل شيء بسخونة قاسية، سيول من الحرارة تتدفَّق على كل شيء، تَنسكِب على الأمواج، وعلى القارب، وعلى رأسه. نوافذ متجاوِرة، تُطلُّ منها نيران مشتعلة. أتون من الجحيم. اشتعلَت المياه بالسخونة الحارِقة. فارَت من حوله كمَراجل، أو قُدور، مُتلاصِقة. لم تَعُد الأسماك تتقافَز فوق المياه؛ ظلَّت في الأعماق الباردة، ولاذت الطيور السوداء بأماكن مجهولة، وتحوَّلت الصخور الناتئة من المياه إلى قطع فَحْم شديدة السواد.

شَعر بأنفاس بشرية قريبة منه، اقتحمت أنفه، تكاد تلامس وجهه. ازدحمت الأجساد وتلاصَقت، يَنزُّ منها العرق وانتفاضات الخوف، وغَمْغمَت الأفواه بما لم يَتبيَّنه. دعوات وابتهالات وهمهمات وأنفاس ورائحة أجساد لا ظلال لها. أعداد لا حصر لها، لا يراها، وإن كان يشعر بِلفْح أنفاسها ممتزجًا بلفحات الشمس الحارقة. خَنقَه زحام الأجساد، ضغَط عليه، واستمع إلى هَمهَمات، حدَس أنَّها لهجات لم يفهمها. كل شيء فوهة بركان، تَغيب في تصاعُد سخونته حتى المرئيات.

هل هو وحْدَه الذي لا يرى الأجساد التي تَبُث أنفاسها؟ هل تراه أعين الآخَرين؟

زاد الوهَج. استحال جذوة نار، واستحالت الجذوة شمسًا هائلة، مشتعِلة. تَولَّدت من الشمس اللاهبة شموس صغيرة أشد توقُّدًا، تَنفُث صَهدًا، لهبًا، نارًا حامية. تكاثرت، وتجاوَرت، وتلاصَقت. استحالَت شمسًا كبيرة بمساحة السماء كلها. تداخلَت في السماء. جاوَزت أشعتها معنى الأشعة، فَهِي ألسنة من النيران، خيوط نارية لا نهاية لها، أسياخ من الحديد المُحمَّى، قطع من شظايا الزجاج. علَت رائحة غريبة، كأنها الشواء، أو اللحم المُحترِق.

تفَصَّد العَرق من مَسامِّ الجلد. بلَّل شعر رأسه وجسده، عَلِق برموشه. اقتحم الوهَج جفنيه فأغلقهما، ثم نَتَر — بعفوية — العَرق العالق بالرموش. انهمَرت حبَّات العَرق على وجهه وعُنقه وكتفيه، خيوطًا ساخنة تَسلَّلت إلى عينيه وأنفه وأذنيه وفمه. أحسَّ أن نخاع عظامه احترق، ذاب. أين الأم ومديحة والولدان والشيخ نجاتي والكابتن؟ أين ذهب الجميع؟ لم يَعُد يشغله إلا نفسه، اللحظة التي هو فيها. انطمست الرؤى والأحلام والذكريات.

تاقَ لسُكنى الظلال.

•••

توالت غلالات زرقاء، شَفِيفة، يَبِين من ورائها الضياء الساطع. تصاعدَت منها جزيرة لم يَتحدَّث له الشيخ، ولا الرجل عنها، ولا توقَّعها في رحلته. تصل سقَّالة بينها وبين صخرة ناتئة في البحر تنبثق في ضوء الشمس، وإن خلَت الأشعة من الحرارة اللاهبة، فهي مجرَّد ضوء رائق، صافٍ.

مال بالقارب حتى حاذاها، ونزل.

أول مرة يترك القارب منذ زمن لا يتذكره. بدَت السقالة — مع طولها — رفيعة. بالكاد وضَع قدمًا أمام الأخرى، وسار في خطوات متباطئة.

لم يَهتزَّ في وقفته على السقالة الرفيعة، ولا خافَ السقوط في البحر. حل في نفسه اطمئنان وسَكينة.

صافَح أنفاسه تمازج روائح الكافور، والمِسك، والعنبر، والزعفران، والطِّيب.

قبل أن يبدو النزول على الجزيرة مجرَّد قفزة، يتعرَّف بَعدَها إلى الأرض التي تغطَّت بالغابات والأحراش، فأخفَتْ ما غاب عن تصوُّره، ظهر ما لم تقَع عليه عيناه من قبل.

أعاد النظر للتثبُّت مما رآه.

مع أنه توقَّع البشر داخل الجزيرة، فإن وقْفَة العجوز في أول المنحدَر إلى البحر أذهلَتْه. ظَل البشر يَحيَون في ذاكرته وحْدَها، حتى طَمَس الحلم، الكابوس، كل الملامح والقَسَمات والأصوات التي أَلِفها.

لم تَشِ قَسماتُه بِسنٍّ مُحدَّدة. بدَا وجهه متألِّقًا، وتكوينه الجسدي سابحًا في الضياء. كأنَّه يقف في هالة من النور، وأن المكان يُشرق من نوره. يَضع على رأسه عمامة، ويرتدي سروالًا من الجوخ الأبيض، وشملة حمراء، وصديريًّا، ويدُسُّ قدميه في بُلْغة كالتي يرتديها المَغاربة.

غلبت اللهفة على صوته: هل أنت من أهل الجزيرة؟

افترَّتْ شفَتَا العجوز عن بسمة حانية.

– ما أعرفُه أني لست من أهل البحر.

وسأل في لهجة إشفاق: مُتعَب؟

تَنهَّد.

– كانت الرحلة طويلة.

ثم وهو يضع راحتيه — بتلقائية — على رأسه: أقسَى ما فيها أشعة الشمس الحارقة.

لكنك في النهاية وصلْتَ إلى هنا.

وخالط صوته حنو واضح: حمدًا لله على السلامة.

فاجأه الشيخ بأنه الْتَقى به في موالد أولياء الحي، وفي صلاة الجمعة داخل أبو العباس، وفي الأذكار بالقرب من الباب المُطِل على الميناء الشرقية، وفي سيره — في غبشة الفجر — لأداء الصلاة في مسجد سيدي نصر الدين.

بدَت ملامح الشيخ مألوفة، وإن لم يتذكَّر أين رآه، ولا متى.

تنَحَّى له الشيخ، فأدرك أنه يستطيع أن يَمضي إلى داخل الجزيرة.

رأى نفسه في دنيا غير الدنيا. ما لم يكن يَتصوَّر أن يشاهده. الأرض مَكسوَّة بالنمارق، والأشجار مُحمَّلة بأنواع الثمار، وألوان الأزهار والرياحين، وبالنباتات الدانية قطوف ثمارها. خُيِّل إليه أنها تتمايل راقصة على أنغام سماوية، لم تألَفْها أذناه، ولا أنصتَ إليها من قبل، تَخلَّلت مَسامَّ جسده. حرَّكت مشاعره بالنشوة، وألوان الطيف تتماوج في تكوينات لا حد لبهائها.

قبل أن تميل به الطريق، أحسَّ بالعطش. مال إلى شجرة لها عينَا ماء. أسنَد فمه إلى راحته، وشرب. أحسَّ كأنه اغتسل، كأنه تَطهَّر. كل الذي عاناه أخَذ في التلاشي. لم يَعُد في داخله ضِيق ولا ألَم ولا قلَق. وثَمَّة غِناء طيور يتناهَى مِن داخِل الغابة القريبة، متداخِلًا، كأنها تُؤدِّي لحنًا فرضَتْه العفوية.

أحس — وهو يمشي — كأن قدميه لا تلامسان الأرض، وأنه يطير.

•••

همس لنفسه: هذَا هو الضياء.

اغتسلَت عيناه بأشعة الشمس. لم تَعُد الشمس اللاهبة، وإنما تَحوَّلت إلى قبَس أضاء الموجودات. تدفَّق الضياء. تداخَل الضياء في الضياء، فتألَّقَت المرئيات بما لم يَتصوَّر أنه سيُطالعه. النور فوقه وأمامه وحوله، ساطعًا، قويًّا، كما لم يُرَ من قبل. لا نهاية لآفاقه، ولا يبين مصدُره. لا سماء له، ولا أرض، ولا ضفاف. هو يضيء، ويُعانق، ويحتوي. طالَعَه ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعَت، ولا خطَر على قلب بَشَر. استغرقه الضياء الشامل، ضياء مَسكون بقداسة نورانية، علوية، لم يسبق له رؤيته، ولا تَصوَّر أنه بكل هذا الجمال. استقبلَ الفيوض، والوميض، والأنوار، والتَّجلِّيات، والمعارِف، والأحوال، والكرامات، والأسرار الرَّبانِيَّة. خشَع الجلال والسكون. تصاعدَت النشوة. تَوحَّد مع الكائنات، ذابَ فيها، وذابَت فيه. لم يَعُد هو هو، وإنما أصبح قطرة في البحر الهائل، نجمة في ملايين النجوم، ذَرَّة رمل في صحراء لا متناهية. لم يَعُد الجزء، لكنه الجزء ملتحمًا في الكل.

طالَت وقفَتُه ذاهلًا ومسحورًا. غابة خضراء تَغِيب مساحتها في امتداد البصر. أدغال متكاثفة، غريبة الأشكال، من النخيل والأشجار المتدَلِّية الثمار والأغصان المتشابكة والنباتات التي بلا حصر، غابة مُتَّصِلة من الأوراق الخضراء، بحر بلا أفق من الخضرة.

بَهرَته الصُّفرة الجميلة التي كسَت سيقان الأشجار. لا تُشبه الأشجار التي شاهدها في حياته. لا يَكاد يسير من تحت شجرة حتى تسقط عليه ثمارها. ثمار أصغر من الرُّمَّان، وأكبر من التفاح. شَعَر لتذوقها بحلاوة العسل. وثَمَّة أشجار تدلَّى من فروعها ما يُشبه الأجراس، تُلامِسها النسائم فتحرِّكها في هسيس كأنه الموسيقى. تَفيَّأ ظِلال الأشجار الممتدة إلى غير نهاية، وتَشمَّم الزهور التي لم يَتعرَّف إلى مثل جمالها، ولا إلى أضَوعَ من روائحها الذكية النفاذة.

الأرض شديدة البياض، وثَمَّة غلالات شفيفة، تحوَّلَت بها المرئيات إلى أطياف. المروج، والحدائق، والآكام: الورد، والبنفسج، والنرجس، والزنبق، والسوسن، وشقائق النعمان، وآلاف النباتات الغريبة التي لم تَسبِق له رؤيتها، والأشجار المتباينة الأطوال والأحجام، تدلَّت منها ثمار عجيبة. أنواع من الطير — بكل ألوان الطيف — تُحلِّق في السماء الصافية الزُّرقة. ثَمَّة الكثير من الغزلان، والظِّباء، والبَجع، والطواويس. الأرض مَكسوَّة بالنمارق والأحجار الكريمة، والأشجار مُحمَّلة بالفاكهة الدانية قطوفها. خرير المياه من المنحدَرات يَعزف ألحانًا كضوء القمر، ودِفء أشعة الشمس، والجو معتدل، لا هو حَر ولا برد، والضوء سافِر مع أنَّ عينيه لم تريَا الشمس ولا القمر. جدران القصور — معظم البنايات قصور — صفراء، مُلتمِعة بما يَضوَى. وثَمَّة غُرف من زجاج، يُرى ظاهرها من باطنها، ويُرى باطنها من ظاهرها، والأبواب مفتوحة، يصدر من جوانبها ضوء غير مرئي، وتتضوَّع روائح الزعفران والعَنبر والقَرنفُل والصَّندَل والعُود والفُل والياسمين.

الناس أشرقَت ألوانهم، وصَفَت وجوههم، وجَرَت عليهم نضرة النعيم. المئات من الفتيات، تَتضوَّع من أجسادهن رائحة المسك، يرتدين ثيابًا من الحرير خضراء اللون. التفَّت الفتيات حوله. ثَمَّة مَن وضَعت الطست أمامه، ومن أمسكَت بالإبريق، ومن حمَلت المِنشفة تَناوبْن صَبَّ الماء في الطست، حتى انتهى من وضوئه، وجفَّف جسده بالمنشفة.

كان المرض قد ذهب. ذَوت الآلام في جسده، وتلاشَت، وصَفَا الذهن، وتصاعَدت من داخله موسيقى عُلوية، غائبة المصدر استقامت الألحان، وعَلت. تداخلَت الأصوات المنشدة، وتدفَّقَت في المدى ألوان الطيف، وتماوَجت رقصات تُحلِّق في الفضاء الشفيف، وتَضوَّعت روائح العنبر والمسك والكافور، علَت، وامتدَّت، فلَفَّ أريجها كل شيء.

تمازجت في نفسه مشاعر الهيبة والخوف والإجلال والتعظيم. بدَا المشهد أكبر مما يستطيع تحمُّلَه، ولا الوقوف أمامه. ثَمَّة صوت، ربما انبثق مِن داخله، يَستحثه على السجود في موضعه.

علا الإيقاع، وتصاعدت الأغنيات المُرتَوِية من ينابيع السماء … أنصتَ إلى لغة الإشارة والحكمة والألغاز والأحلام والسِّحر والرُّؤى المدهشة.

أحس أنه أمام لحظة ميلاد، تولَّدَت نُشوة لم يَدْرِ مبعثها، ظهَر الوهَج في الأفق، واخترق الظُّلمة قبَس، وتألَّق الأرجوان. استغرق في النور، تلاشَى فيه. فاض الحنين، وتسرْبَلت الأشياء بالشجن، أحس بحب جارف لكل ما في الكون. خطَر له أن يطلق صيحة فرح، لكنه تماسك.

ثَمَّة أطياف ضبابية الملامح، ساحرة، تحرَّكت من حوله. تحيط بنور لم يسبق له رؤيته، وإن لم يُؤذِ شدة إبهاره نظره، محملًا بالإشراق واليقين.

سار محفوفًا بمئات الفتيات، يرتدين ثيابًا بيضًا، ينشدن أغنيات وينثرن الأزهار.

كادت نفسه تضيق عن تصوُّر ما يراه، لولا أنه هو ما يراه بالفعل.

ومَضَتْ، في السماء الصافية، وُجوهٌ يعرفها. استعادَت أحداث الأعوام الاثنين والثلاثين نفسها أمامه. القَسَمات والملامح والتكوينات والألوان والظلال. توالَت الرُّؤى متشابكة. عشرات الوجوه، مئات الوجوه، آلاف الوجوه، توالَت في الذهن متقاطعة، ومختلطة، تُومِض، ثم تختفي. قال الطبيب: أنتَ لا تعاني مرضًا عُضويًّا فأعالجه، وقال الشيخ نجاتي: إذا أردت رؤية نَجمك، فاذهب الآن، وقال الشيخ: رحيلك للبحث عن أسئلة تُشقيك، وقال الشيخ: كنتَ تعلم أن رحلتك قد تكون بلا عودة. وتأمَّل السمكة وهي تنتفض في السِّنارة، وأنْصَت إلى حكايات عرائس البحر والجنيات والخوارق والعوالم المسحورة، وتعلَّم أسماء السُّفن والأسماك وأدوات الغوص والصيد، ولجأَ إلى ولِيِّ الجزيرة، يكلمه كأنه يراه، واستقَرَّ الخوف في داخله، لا يعرف بواعثه، ولا كيف يتخلَّص منه، وأجهَدَته الأشباح والأرواح الشريرة والأصوات الهامسة والنداءات التي لا يَدرِي مصدرها، والسِّحَن التي تظهر ثم تختفي، ووقف على باب الشيخ حتى أذن له بالدخول، وعرف ما لم يكن يعرفه عن السماء والبحار والمحيطات والأعماق والأسرار المثيرة، وقالت أمه: ما قاله أبوك صحيح، ولدْتُك في جزيرة بَعْد الأنفوشي، وتوسَّلت مديحة: لماذا لا تعود إلى الأطباء وتترك هذه الرحلة؟ ولوَّحت له في وقفتها على الشاطئ، وترامت الأمواج بلا نهاية في كل الجوانب، وتداخل كل شيء في كل شيء، وتلاغطت الأصوات بما لم يعد يضايقه.

تَبيَّن في الملامح الهلامية، المتصاعدة من ضباب شفيف مَلامح أمه، وأبيه، والشيخ نجاتي، ومديحة، والولدين، والكابتن، وأصدقاء مَضَت أزمان دون أن يلتقي بهم.

حدَّق فيها، وتأمَّل، وتعرَّف إلى ما كان قد نسيه.

استغرق في الوجد. أحسَّ بالأُنس والرضا، وبحب عميق لكل ما نَظرَتْه عيناه.

حلَّ الصفاء والسكينة والطمأنينة، وتجلَّت الحقائق بلا حجاب.

أقام في حجرة لم يرَ مثلها في حياته. ما بداخلها يظهر من الخارج، وما بخارجها يظهر من الداخل.

فرغَت الفتيات له. لم يُعْنَ بإحصائهن. أغدَقْن عليه الحب والحنان والتعاطُف. غَنَّين بما لم يكن استمع إليه من ألحان تمازجت فيها الأغنيات ومواويل العذوبة والجمال. يُصغي مُغمِض العينين، أو يُردِّد ما يستمع إليه حين يتكرر. تعالَت ترانيم العشق، وآهات النشوة، وصيحات الوجد. دلَّكْن جسده بِزيْت من خلاصة الأعشاب والزهور، رَوَينَ له الحكايات. شَغَلْن الأوقات بالأحاجي والفوازير والألغاز.

تعرَّف — كما لم يتعرَّف من قبل — إلى السماء، والنجوم، والشمس، والقمر، والبحر، والنهر، والجبل، والسُّحب، والطير، والحيوان، وقطر الندى، والريح، والنسائم الهادئة، والبركات، والفيوضات، والأنوار. بدا كل شيء كأنه حلم جميل لا يريد أن يصحو منه.

سما، وشَفَت روحه. عرف النشوة والارتقاء، وملذات الحقيقة.

•••

اختلفت الحياة في الجزيرة عن الحياة في بحري.

اعتاد الجلوس إلى الجميلات والأصدقاء، أو تناوُل الطعام في ظل شجرة، أو على شاطئ نهر، أو فوق تلٍّ مرتفِع يُطلُّ على المدى.

لم تَعُد تشغله سوى اللحظة، وحدها، مقطوعة الصلة بما قبلُ، وبما بعدُ، ولم يَعُد يشغله التذكُّر. الهناءة قائمة في امتدادات اللحظة، والنعيم لا ينقطع. رُؤَى المستقبل أيضًا لم تَعُد تشغله. كل ما يَفد إلى ذهنه يتحقَّق، فلا تُربِكه التوقُّعات. شاهد الأشجار الغريبة، والثمار التي لم تُلامِسها يده من قبل. أذهَله أن الأيدي تلتقط ما في الشجر من ثمار، لكن الأشجار تظل مُثمِرة كأنها لم تُمَس، والنخيل جذوعها حمراء اللون، ورُطَبها أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وألْيَن من الزُّبد. تَيقَّن أن كل ما يحياه من نعيم، إنما هو من بركات الشيخ. تَمتَّع بكل شيء. قُدِّمت له الفواكه والنُّقْل والخمر. لم يكن قد تَذوَّق الخَمر في حياته. بدَت له لذيذة المذاق.

فكَّر في أن يزرع. يرقُب البذرة حتى تنمو، وتكبر، وتصبح ثمرة … لكن البذور نمَت، وحان حصادها. الخضر والفاكهة دائمة، لا شأن لها بتبدُّل فصول. أكل الطعام في غير أوانه. ألوان بلا حصر من الطعام والشراب. جاءته الأشياء لمجرَّد أنها خطرَت في باله. يَشتهي السماع والرؤية والطعام، فيتَيسَّر ما يشتهيه. يأتيه الطعام بمجرَّد تَشهِّيه له. يُقدِّمه له ناس الجزيرة في أطباق من الصيني الفاخر، ومن الذهب والفضة، أو يتعالَى نداء البائع باسم الطعام، فيشتريه. لم يَعُد يشغله ما يأكله، وإنْ تحدَّد طعامه في اللحوم والأسماك والطيور. الطعام سهل الهضم، فهو يتناوله في أوقات متقاربة، والماء شديد البياض، وله حلاوة. احتسى شرابًا يدير الرأس، ويُمتِّع النفس. لاحَظ أنهم يضعون الشراب — غير مختلط — في إناء واحد، ماء وخمر ولبن وعسل. لا يمل الشرب، ولا الشراب ينفد، ولا يتغير مَذاق لسانه بَتغيُّر ما يشرب. ذُهِل لرؤية نفسه في الصينية اللامعة. لم يَعُد هو هو. غاب تَعَب المرض، ومعاناة الرحلة لم تُجعد ملامحه. ذهب تورُّم جفنيه، والهالات السوداء تحت العينين، وشُحوب الوجنتين. سَرى الدم في بَشرَته، وومضَت عيناه ببريق، وبدَا أشد صحة وشبابًا.

تكرَّر جلوسه إلى شيخ ذي هيبة، يتلو وراءه آيات القرآن. ألِف الجلوس إلى جيران، يتسامرون، ويتضاحكون، ويَتقبَّل هداياهم ومواهبهم. يتذاكرون كيف كانت الحياة في المدن البعيدة، وكيف مَضَت بهم السفن الكبيرة والصغيرة، إلى الجزيرة التي كأنَّها السحر، لم تُرهقهم المسافات الهائلة. كأنها لمح البصر.

التقى بمن كان يعرفهم ويعرفونه في بحري. أكثروا من الأسئلة عن أحوال الناس في بحري، كيف هي؟ وتحدَّثوا عن ميادين وشوارع وبيوت وجوامع ومقاهٍ وأسواق. نقلَته الأحاديث إلى الأماكن التي غيَّبَتها الأزمان، تراقَصت من حوله عرائس البحر، لم يَعُد يخشى اجتذاب غنائهن له، اعتاد الشَّدْو، والأغنِيَّات الجميلة، والأهازيج المترنمة، وتمازج القيثارات، والأعواد، والكمنجات، والطبول، والدفوف، والصاجات. وكان يتمايل مع الألحان دلالة النشوة.

قالت له المرأة: أتنَام ولك مثلي؟

كالومضة، بدَت المرأة كأنها مديحة.

هل هي مديحة؟

اختلط الزمان، فلم يَعُد يتذكره، وإن لم تَتغيَّر ملامحها عمَّا انطبع في ذهنه.

قالت إنها ظلت تنتظر حتى استبطأت قدومه. اشتاقَت إليه كما تشتاق المرأة إلى زوجها الغائب.

– مرَّت الأيام بطيئة وأنا أترقَّب قدومك.

لم يُخفِ دهشته: هل تعرفِينني؟

– رسمْتُ ملامحك في ذهني.

أضافت وهي تتأمله: لم تتغَيَّر عمَّا رسمتُه لها.

وابتسمَت عيناها.

– إنما كنتَ عند زوجتك دخيلًا يوشك أن يفارق إلينا.

تجلس إليه وهي في غاية زينتها، وتطْيِيبها لجسدها. لا أجمل منها، ولا أحسن منظرًا. عيناها شديدتَا السواد والبياض. تنبعث من فمها رائحة المسك. خضَبَت يديها وقدميها بالحنَّاء، وتطيَّبت بالبخور والعطور. الأساور في ساعديها، والخلاخيل في ساقيها، لها رنين، وعَلَّقت في أذنيها قُرطَين كأنهما شمسان صغيرتان، ورصَّعت أناملها بخواتم ذهبية، ذات رءوس من فصوص الياقوت.

بدَت له المرأة أول مَن عرف من نساء. يشعر أن عِناقه لها مثل عمره في بَحري. إذا فرغ من نكاحها، أسرع إلى الماء البارد، يغمس فيه جسده، لتزول عنه حرارة جسدها، وإن شَعر بتجدُّد صِحَّته فوْرَ أن ينهض من فوقها. في داخله قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع. وكانت المرأة تُغنِّي له بأحسن صوت، تنتقل أصابعها برشاقة — فوق أوتار العود، وتُغنِّي، تجيد الانتقال من مقام إلى مقام، ومن نغم إلى آخر، وخفْض صوتها ورفْعَه، وإحداث بَحَّة فيه تزيد من شَجنِه وطَرَبه. تبدو الأنغام نغمًا وحيدًا، جميلًا، متصلًا. تتمايل وهي تغني، وتهتز، كأنها ترقص في مكانها.

يذهب إلى جيرانه البعيدين على جواد — لا يذكر متى تَعلَّم ركوبه — يَقضي أوقاته، ويعود. إذا أحس بالتعب، حمَله رجال على محفة، يمضون به إلى الجهة التي يريدها في الجزيرة.

لاحَظ أنه لم تَصِله أنباء موت ولا موتى، ولا رأى جنازة في الطريق، ولا وَصَله — ذات لحظة — بكاء أو عويل.

أدرك أنه لن يعود ثانية إلى بحري: أبو العباس، والبوصيري، وياقوت العرش، ونصر الدين، والسَّيَّالة، وشارع سيدي العجمي، وميدان الأئمة، والموالد، وحلقات الذِّكر، وسوق العيد، وتسابيح الفجر، والميناء الشرقية، والكورنيش، وخليج الأنفوشي، وضوء الفنار، وقلعة قايتباي، وسراي رأس التين، وفُرن حبيب، والمسافرخانة، والحجَّاري، والموازيني، وشارع الميدان، وزنقة الستات، وسوق الخيط، وصيد السِّنارة، والطَّرَّاحة، والجَرَّافة، وحلقة السمك، ونداءات الباعة، وابتهالات الصوفية، وتشابُك الأذان في جوامع الحي … ذلك كله يُصبح ذكرى. تَبهَتُ الملامح تَذوي من الذاكرة، حتى تغيب تمامًا.

محمد جبريل
مصر الجديدة، ٢٦ / ٩ / ١٩٩٩م
١  القزق: وِرَش المراكب.
٢  الشنوركل = أنبوبة التنفس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤