خاتمة
في أيامنا هذه يُتَّهم العصر الصناعي بأنه يوشك أن يقضي على الحضارة البشرية بأسرها؛ ذلك لأن التقدُّم الآلي والفني الهائل الذي أحرزه الإنسان في هذا العصر، قد صحبه تقدُّم موازٍ في اختراع أجهزة الدمار الشامل، وهي الأجهزة التي تهدِّد الإنسانية كلها بالفناء، وفضلًا عن ذلك فإن التوسُّع الإنتاجي الكبير — الذي هو الصفة المميزة للصناعة الواسعة النطاق — من شأنه أن يولِّد تزاحمًا دائمًا في الأسواق، وبالتالي صراعًا مستمرًّا بين الدول، يرجع إلى رغبة كلٍّ منها في السيطرة على أكبر قدْر ممكن من هذه الأسواق، فتصبح الحرب — في ظل هذا النظام الصناعي — أمرًا محتومًا، ويعمل النظام ذاته على زيادة القدرة التدميرية للجيوش المتحاربة، فتكون نتيجة ذلك كله تدهورًا مستمرًّا للحضارة الإنسانية، يوشك أن يقضي عليها في نهاية الأمر.
ولقد لاحظ كثير من المفكرين ما بين التقدُّم الآلي وبين الحروب من صلةٍ وثيقة، ووجدوا دليلًا على ذلك في أن أكثر الآلات تقدُّمًا وأسبقها في الزمن كانت هي الآلات الحربية، وأن التقدُّم الصناعي يسير في زمن الحرب بخطوات أسرع كثيرًا من سيره في زمن السِّلْم، وليس لأحد أن يشك أبدًا في أن اتساع نطاق الحروب الحديثة كان مرتبطًا باتساع نطاق الصناعة وفنونها؛ أي إن العلاقة بين التقدُّم الآلي وبين الحروب ليست علاقة عارضة، بل إنها تمتد إلى أصول الظاهرتين وجذورهما.
والحق أن الحروب كثيرًا ما كانت تُتَّخَذ علاجًا مؤقتًا لمشاكل النظام الصناعي؛ فالإنتاج الضخم في حاجة إلى استهلاك ضخم، والحرب هي الحل الذي يصلح لضمان مثل هذا الاستهلاك الضخم، وهي التي تنعش الإنتاج الصناعي كلما ألمَّت به العلل، وتحقق التوازن بين الإنتاج المتزايد وبين الاستهلاك، وتضمن الاستفادة من المقدرة المتزايدة للآلة أكبر استفادة ممكنة.
ولكن هل هذا هو «الحل السعيد» لمشاكل النظام الصناعي؟ الذي لا شك فيه أن الحرب بوجه عام خطر على هذا النظام ذاته، بما تأتي به من دمار، وما تجلبه من ضياع للقدرة الإنتاجية للإنسان. ولكن إذا كانت الحروب السابقة كلها تتصف بصفة معينة، فإن الحرب المقبلة — إذا وقعت — تتصف بصفة جديدة تمامًا … إنها ليست دواءً منعشًا لأمراض النظام الصناعي، وإنما هي السُّم القاتل الذي يقضي على المرض حقًّا، ولكن بالقضاء على المريض ذاته! ومن هنا كانت وجهة النظر النفعية والاستغلالية ذاتها تحتِّم ضرورة تجنُّب مثل هذه الحرب، أو بعبارة أخرى: أصبح السلام ضرورة لا بُدَّ منها لاستمرار الحضارة الإنسانية.
على أننا في حديثنا هذا قد وصفنا الحرب بأنها مصاحِبة «للنظام الصناعي» ذاته، فهل يعبِّر هذا الوصف عن الحقيقة تعبيرًا صحيحًا؟ الأمر الذي لا شك فيه أن الحروب تصبح ضرورة لا بُدَّ منها في ظل نُظُمٍ معينة من العلاقات في داخل المجتمع الصناعي، لا في كل أشكال هذا المجتمع بوجه عام. فالتقدم الآلي الضخم يمكن أن يوجَّه وجهة سِلْمية، وعندئذٍ لن يكون لرخاء الإنسانية حدود. والزعم القائل إن الأزمات والحروب وحدها هي التي تحرِّك العقول وتدفعها إلى كشوف جديدة، هو زعم باطل من أساسه، وحتى لو كان لهذا الزعم أصول تاريخية (كما هو الحال في الطاقة الذرية، التي حُلت مشاكلها العملية بضغط الحاجة أثناء الحرب، رغم أن هذه المشاكل كانت معروفة من قبلُ)، فإن هذا لا ينفي أبدًا أن الرغبة في الإفادة السِّلْمية ورفع مستوى البشر دافع قوي للكشف، وإلا لكان في ذلك حكمٌ على الإنسان نفسه بالهمجية والتوحُّش.
أما أن التوسُّع الإنتاجي الهائل لا تستوعبه إلا الحروب بما تقتضيه من استهلاك متواصل، فتلك بالفعل حقيقة، ولكنها لا تصدُق إلا على نظام معين من نظمِ العلاقات الإنتاجية، هو الذي يسوده دافع الربح الفردي بلا حدود. أما حين يكون أساس الإنتاج الاجتماعي هو مراعاة مصالح المجموع، فمن الممكن أن تستوعب كل زيادة تطرأ عليه في رفع مستوى الجماعة ذاتها، دون الحاجة إلى خلق أزمات خاصة.
وبعبارة أخرى: فالنظام الصناعي ذاته ليس ملومًا في ذلك التدهور الحضاري الذي جَلَبَتْه الحروب المتلاحقة، وليس هو الذي يهدِّد الحضارة البشرية بالفناء، وإنما يرجع الشر كله إلى نوع العلاقات الاجتماعية في هذا النظام. ولو نُظِّمَت هذه العلاقات تنظيمًا سليمًا؛ لأصبح من اليسير على الإنسان لا أن يحفظ حضارته من الانهيار فحسب، بل أن يتقدم بها ويبلغ آفاقًا لم يكن يطوف بذهنه أنه سيبلغها في يوم من الأيام.