مجرى الحضارة
إذا أردنا أن نتتبع الحضارة خلال الزمان؛ وجدنا نظرياتٍ مختلفة تصوِّر مجراها هذا تارة بأنه تقدُّم، وتارة بأنه تدهور، وتارة أخرى بأنه تكرار؛ لذا لم نشأ أن نطلق على هذا الفصل اسم «تقدُّم الحضارة»؛ لأن كلمة التقدُّم توحي باتجاه صاعد لمجراها، كذلك الحال في كلمة «التطوُّر» التي توحي بنوع خاص من التقدُّم، مستمَد من آراءِ نظريةٍ علميةٍ معينة. لهذا آثرنا أن نعالج هذا الموضوع تحت هذا العنوان المحايد، الذي تعبِّر عنه كلمة «مجرى الحضارة».
وأهم الآراء في هذا الموضوع ثلاثة: رأي يرى أن الحضارة تسير في طريق التدهور التدريجي، وآخر يرى أنها تسير في دورات مقفلة، وتكرِّر نفسها على الدوام، وثالث يرى أن الحضارة تسير نحو التقدُّم، وأنها تتبع مسارًا صاعدًا، فلنتأمل كلًّا من هذه الآراء على حدة.
(١) فكرة تدهور الحضارة
أما الرأي الأول، فيقول أصحابه إن الحضارة سائرة إلى التدهور التدريجي، وتبعًا لهذا الرأي يكون الماضي — بما فيه من حكماء أو أبطال — هو الذي تتمثل فيه كل الفضائل، أما العصر الحاضر، فهو عصر تدهور وانحلال، وهو يزداد انحلالًا على الدوام؛ أي إن الإنسانية قد بلغت في إحدى الفترات الماضية عصرها الذهبي، ثم أخذت تنحدر بالتدريج بعد بلوغ هذه القمة، ولا أمل لها في الخلاص من تدهورها إلا إذا تشبهت بالماضي — وإن كان هذا أملًا يكاد يستحيل تحقيقه.
وهذا الرأي يظهر أولًا في كثير من العقائد الدينية؛ إذ تمجِّد هذه العقائد لحظات وفترات معينة من الماضي تعزو إليها كل الفضائل، وتحمل على حاضر البشر، وتدعوهم إلى التشبُّه بالماضي بقدْر ما في وسعهم. وهذه الفترات الماضية التي تمجِّدها العقائد هي على الأخص فترات ظهور الرسل والأنبياء، واللحظات التي كان لهم فيها أقوى الأثر على الناس.
ونستطيع أن نقول إن قضية الدِّين في كثير من المجتمعات الحديثة ترتبط برأيه هذا في تدهور الإنسان؛ ذلك لأن الإنسان في حياته الحالية لا يود أن يُتَّهَم بالنقص، ولا يستطيع أن يتخلَّى عن نُظُم حياته التي أَلِفَها وارتاح إليها، ليعود إلى نُظُمٍ أخرى يستحيل عليه أن يحققها بعد أن بلغت حياته هذا القدْر من التعقُّد، بل لا يرغب في تحقيقها أصلًا. على أن كثيرًا من المذاهب الدينية تنكِر هذه الحقيقة الواضحة، ولا تعترف بهذا التطوُّر، بل تتشبث بحرفية عقائدها، وتصر على أن تذكِّر الإنسان الحالي بأنه مخطئ على الدوام، طالما أنه لم يعمل على التشبُّه بالماضي المجيد، والتخلُّق بأخلاق السلف الصالح. وهنا تحدث الأزمات، فيزداد التباعد بين رجل الدين وبين الإنسان العادي الحديث؛ إذ يشعر الأخير بأن الأول يكلِّفه ما لا يطيق، وبأنه يطلب إليه التخلي عما أصبح يكوِّن جزءًا أساسيًّا من حياته. ومن هنا اتُّهِمَت كثير من العقائد بأنها تدعو إلى الزهد، وإلى إنكار الحياة بدلًا من السعي إلى مواجهة مشاكلها بروح واقعية مستنيرة.
والمفكِّر الذي ينتمي إلى هذا النمط تراه يكاد ينسى كل مساوئ العهد الذي تعلَّق به، فينسى مثلًا أن كل البناء النظري الشامخ الذي بناه اليونانيون لم يكن ممكنًا لو لم يكن المجتمع اليوناني في أساسه مجتمعَ رق، وأن القدرة على التأمُّل النظري توافرت لأحرار اليونانيين على حساب جهد الأرقاء وكدِّهم، ثم إن مثل هذا المفكر يكاد ينسى أيضًا ذلك الاختلاف الهائل بين حياتنا وحياة هذه المجتمعات القديمة، فيتصور أن خلاص العالم مما هو فيه اليوم من اضطراب لن يتم إلا ببعث نوع من الحضارة مماثل لما كان في العصر الذهبي الغابر.
وفي بعض الأحيان تصطبغ هذه الدعوة بصبغة قومية متطرفة، فيدعو المفكر أو الفنان إلى عصرٍ مزدهر مرَّ به وطنه من قبل، ويؤكد أن البعث الحقيقي إنما يكون عن طريق التشبُّه بهذا الماضي المجيد؛ ومن قبيل ذلك محاولة الفنان «فاجنر» بعثَ الأساطير الألمانية الشائعة في العصور القديمة والوسطى، ودعوته إلى نهضة شاملة للأمة الألمانية تَسْتَوحي فيها روح أساطيرها الغابرة. ولهذا الفريق في مصر أنصار معروفون، هم دعاة «الفرعونية»، الذين يدعون إلى التشبُّه بالأسلوب الفرعوني في معالجة مشاكلنا الحالية.
ولا شك في أن كل هذه المحاولات لا يمكن أن يُنْظَرَ إليها بعين الجد؛ فهي في أساسها محاولات فنية أو أدبية أو أسطورية، ولكني لا أظن أن مفكرًا يعترف بحكم العقل وبقيمته يقصد جديًّا أن الإنسانية قد بلغت أعلى مراحلها في عهدٍ سحيق، وأن كل ما تلا ذلك تدهور وانحلال. والتفسير الوحيد الذي تُعَلَّل به مثل هذه الآراء، هو أن بعض أصحاب الأمزجة الشعرية من المفكرين يتعلقون بعصرٍ ماضٍ، تتبلور حوله أخيلتهم، فيكاد الواحد منهم لا يرى حوله إلا ذلك العصر، ولا يستطيع معالجة مشكلة محيطة به إلا إذا فكَّر في الطريقة التي عُولجت بها في العهد المحبَّب إلى نفسه. غير أن هذه كلها كما قلت محاولات شعرية، وليست لها إلا قيمة الخيال الفني أو الأسطورة!
وأخيرًا يظهر هذا الرأي لدى فئة ثالثة، يحمل أنصارها على اللحظة الحاضرة نتيجة لتقدير سيئ لمجرى التاريخ، ومن أمثلة هؤلاء جان جاك روسو، الذي حمل على المدنية المعاصرة له، وأكد أن الإنسان غير المتمدين كان يتصف بكل الفضائل، وأن الحياة الاجتماعية هي أساس كل الرذائل.
ومع ذلك فقد يكون في وسعنا أن نلتمس لروسو عذرًا في هذا الخطأ، الذي جعله يتصوَّر إمكان وجود حالة غير متمدينة للبشر، ويعتقد أن الاتصال الاجتماعي هو أصل الشرور؛ ذلك لأن روسو كان في الواقع يحمل على العصر الذي عاش فيه، عصر امتداد الإقطاع والاستبداد في فرنسا، وهو العصر الذي قامت الثورة الفرنسية فيما بعد للقضاء عليه. ومن هنا وجد روسو نفسه مسوقًا إلى الحملة على الحياة المدنية بوجه عام؛ إذ كان يرى في كل مظاهرها شرور عصره، وكان يهدف إلى إيقاظ روح السخط على هذا العصر في نفوس الجميع. فإذا فُهم تفكير روسو على هذا النحو أمكن إيجاد مبرر للأخطاء العلمية التي وقع فيها.
(٢) فكرة الدورات الحضارية
الرأي الثاني يصوِّر مجرى الحضارة بأنه يسير في دورات مستقلة وحلقات مقفلة. وأصحاب هذا الرأي لا يقولون بحضارة واحدة بل بحضارات مختلفة، ولا يقصدون بالحضارات مراحلَ مختلفة في الزمان أو في المكان فحسب، بل يؤكدون أن كل حضارة هي كائن حي له قوامه الخاص، وله كيانه الذي يستقل تمامًا عن غيره. وأوضح ممثل لهذا الرأي هو شبنجلر.
وعلى ذلك فكتابة التاريخ بالطريقة المألوفة، وطريقة التقسيم إلى قديم وأوسط وحديث، هي أشبه بطريقة نظر الإنسان إلى الكون في نظام بطليموس الفلكي. فالإنسان الحديث في ذلك المنهج التاريخي هو مركز التاريخ؛ لهذا يقيس العصور كلها تبعًا لموقعه هو، فيسمي البعيد عنه قديمًا، والقريب منه حديثًا، ومَن يدري ماذا يحدث بعد ألف عام مثلًا؟ وماذا يكون الاسم الذي يُطْلَق على عصرنا «الحديث» لو استمر التاريخ يُكْتَب على هذا النحو؟!
والواجب أن يُفْهَم كل عصر تبعًا لمقوماته الخاصة، لا تبعًا لبُعده عنا أو قربه منا، وعندئذٍ سيتضح لنا أن التاريخ البشري ينقسم إلى «حضارات»، لكلٍّ منها حياة فردية خاصة، وطابع مميز تتفرد به عن غيرها؛ أي إنه يسير في دورات مقفلة، تنطوي كلٌّ منها على ذاتها، ولا تتأثر بالباقين في شيء.
ويضرب شبنجلر أمثلة متعددة يوضِّح بها هذه المراحل الضرورية التي تمر بها كل حضارة. فحضارة الغرب مثلًا قد بدأت إقطاعية دينية، ثم بلغت مرحلة الشباب في عصر النهضة، حين ازدهر الفن ازدهارًا رائعًا تحت رعاية الأمراء الأرستقراطيين. ثم يبدأ خريف الحضارة في أوائل العصر الحديث الذي ازدهرت فيه المدارس الفلسفية وتوالت الكشوف الرياضية والطبيعية، كما أصبحت الحياة الاقتصادية تحتل فيه مكانة على أعظم جانب من الأهمية. وأخيرًا يأتي شتاء هذه الحضارة، وقد بدأ منذ القرن التاسع عشر، وفيه تسير هذه الحضارة حتمًا إلى انهيارها التام، بعد أن بلغت أكبر قدْر من التوسُّع، واستنفدت كلَّ ما فيها من إمكانيات، فهذه الفترة من تاريخ الغرب هي أشبه بفترة الانتقال من العصر اليوناني إلى العصر الروماني، وهو الانتقال الذي ينذر بزوال حضارة العالم القديم.
فحضارة الغرب الحالية — كما يؤكِّد شبنجلر — في فترة تدهور وانحلال. وهذا أمر قد شاءه القدر، فلا يستطيع أحد أن يغيِّر منه شيئًا؛ لأنه مصير محتوم، بل ليس لأحد أن يحزن لهذا المصير؛ لأن الانحلال والتدهور سيحدث سواء رضينا أم أبينا. فالإنسان لا يملك حرية تغيير المصير، وإنما تنحصر حريته كلها في أن يفعل ما هو ضروري، أو في ألا يفعل شيئًا، وسوف تسير الضرورة التاريخية في طريقها غير عابئة بشيء، وعلى مَن يعيش في هذه الفترة من الحضارة أن يحسِن إدراك موقعه، ويعلم أنه ليس هو الذي اختار عصره، ويحاول استغلال طبيعة هذا العصر في الحدود التي يسمح بها، ولكن لا يحق له أن يحاول تعدي هذه الحدود، فالمحاولة في صلة الحالة ثورة طائشة لا تُجْدِي شيئًا.
وهنا قد يتساءل المرء: على أي أساس بنى شبنجلر رأيه اليقيني هذا في تدهور حضارة الغرب الحالية؟ يجيب شبنجلر على ذلك بقوله: إن الفترة الحالية ليست فريدة في التاريخ، وإنما هي مرحلة لها مثيلات سابقة في كل حضارة نضجت إلى آخر حدودها، واستنفدت كل إمكانياتها؛ أي إنه يبرر رأيه هذا بالقول بنوع من الموازاة بين الحضارات في تركيبها الداخلي. فكل الحضارات تمر بهذه المراحل التي عدَّدها، دون أن يطرأ على مجراها أي تغيير. حقًّا إن تفاصيل الحوادث الداخلية ونوعها ومداها يختلف من حضارة إلى أخرى، ولكن المجرى العام واحد في كل الحضارات، والمراحل كلها متوازية بدقة، والسبيل المؤكد لإدراك طبيعة موقفنا الحالي هو أن نقارنه بما حدث في الحضارات السابقة. ويدلل شبنجلر على فكرة الموازاة في التركيب الداخلي للحضارات بأمثلة متعددة: فالحضارة اليونانية القديمة تبدأ هي الأخرى بمرحلة دينية أو أسطورية، عبَّرت عنها الأشعار القديمة تعبيرًا رائعًا. وتلتها مرحلة الصيف في المذاهب الفلسفية التي بلغت قمَّتها عند أفلاطون. ومنذ أرسطو تبدأ مرحلة التحليل العقلي النظري والتوسُّع الاقتصادي، وأخيرًا تنتقل هذه الحضارة إلى العصر الروماني؛ حيث يبدأ التوسُّع وتكوين الإمبراطورية، وفي الوقت ذاته تتجمَّع عناصر الانحلال، حتى يُقْضَى على هذه الحضارة الوثنية بانتصار المسيحية في الغرب. ومثل هذه المراحل بعينها يمكن تتبُّعها في الحضارة العربية وفي الحضارة المصرية القديمة … إلخ. فالمصير المحتوم الذي كُتِبَ على كل حضارة أن تمر به، هو في الوقت ذاته مصير الحضارات الأخرى كلٍّ على حدة.
على أن فكرة الدورات الحضارية، والقول بالاستقلال التام للحضارات كل عن الأخرى، لم تجدْ أنصارًا كثيرين، بل لقد وُجِّهَ إليها أشد النقد وأعنفه. فهي — بجانب ما تنطوي عليه من تناقض داخلي، وما تتصف به من بُعد عن الروح العلمية الصحيحة — تؤدي من الوجهة الواقعية إلى أوخم العواقب.
-
(١)
فلنبدأ نقدنا ببيان الأضرار الواقعية لنظرية شبنجلر هذه. ونحن لا نشك في أن رأيه هذا في حتمية المسار الذي تسير فيه الحضارة، وفي أن الحضارة الغربية تسير في طريق الانحلال والانحدار في عصرها الحالي؛ قد لقي في بداية الأمر رواجًا لدى الكثيرين، وخاصة بعد ما حدث من تطورات في الغرب في الفترة التالية لتنبؤات شبنجلر؛ فقد ظهرت الفاشية في إيطاليا، ومن بعدها النازية في ألمانيا، ثم مزيج من الفاشية والنازية في إسبانيا. وقال الكثيرون إن هذا هو العهد القيصري الدكتاتوري الذي تنبأ به شبنجلر. كذلك قامت حربان طاحنتان في خلال جيل واحد، وبلغ التنافس على الغزو وتكوين الإمبراطوريات أشد درجاته، وهكذا خُيِّلَ إلى الكثيرين أن نظرة شبنجلر الثاقبة قد كشفت الأساس الحقيقي لتطور الحضارة الحديثة، وأن كل شيء سوف يحدث كما توقَّع بالضبط.
كذلك يبدو للكثيرين في الوقت الحالي أن بوادر ظهور حضارة جديدة على أنقاض الحضارة الغربية قد لاحت في الأفق: ألم يَهُدَّ الصراع والتناقض الداخلي كيان الغرب؟ ألم تظهر في العالم الشرقي وفي دول آسيا وأفريقيا التي اضطهدها الغرب طويلًا دول قوية مستقلة، أخذ زمام السيطرة على السياسة العالمية ينتقل إليها بالتدريج، وأخذت تقف من مطامع الغرب موقفًا أصلب، وأصبحت كل الدلائل تدل على أن المستقبل لهذه القوى الناشئة لا للقوى القديمة المتهالكة؟
هكذا تدل ظواهر الأمور على أن تنبؤات شبنجلر صحيحة، ويبدو أنها تقوِّي أمل الشعوب المستضعفة في التحرُّر والنهوض، ولكن لنحذر الاطمئنان إلى مثل هذه الآراء، فإنها تنطوي على أضرارٍ بالغة للشرق والغرب على السواء.
فبالنسبة إلى الغرب، استُغِلَّت آراء شبنجلر في تدعيم نفوذ العهود الاستبدادية وخاصة العهد النازي؛ إذ إن هذه الآراء قد جعلت النازية تبدو ضرورة لا مفر منها، ووجد دعاة النظام الجديد في ذلك خير سند لدعواهم، وخير مؤيد «لرسالتهم»، ويكفي أن هذه الآراء كانت تحض على السلبية والاستسلام بإزاء الطغيان؛ فما دام الإنسان لا يستطيع حيال التطوُّر الضروري شيئًا، فعليه أن يقبل كل ما يحدث ويحاول أن يهيِّئ نفسه للتسليم بما قُدِّرَ له، ويدخل ضمن ذلك بطبيعة الحال كل أنواع المظالم التي عاناها المجتمع الغربي على يدي النازيين والفاشيين. ومن هنا أمكن القول إن آراء شبنجلر كانت في صالح الطبقة الطاغية المستغِلة في المجتمع، وضد مصالح الطبقة المضطهدة التي تسعى إلى التحرُّر من مظالم الاستغلال.
أما بالنسبة إلى الشرق، فليس هذا هو نوع الحضارة التي نود أن نبينها؛ فلم يقل أحد إن نهضة الشرق ستقوم على أنقاض الغرب، وتبدأ بعد انهياره، وإنما يحاول الشرق أن ينتزع من الغرب اعترافًا بكيانه وباستقلاله، وأن يحمله على التعايش معه دون أن يقضي أحدهما على الآخر، وكل المستنيرين من دعاة النهضة الآسيوية الإفريقية لا يزعمون أنهم سيقضون على الغرب ولا يودون ذلك، ولا يجدون لهم مصلحة فيه، بل يؤكدون أن بلادهم سوف تحتل مكانتها في العالم مع غيرها من البلاد دون تشاحن أو تضارب.
وإذن فعلامَ يدل تنبؤ شبنجلر هذا بانهيار الغرب؟ إنه الروح التوسُّعية الاستعمارية وقد كشفت عن نفسها، وأحست بقرب انهيارها، فالذي سينهار بالفعل ليس هو الغرب ذاته، وإنما هو سياسة خاصة ظلَّ الغرب يسير عليها، ولا بُدَّ أن ينتهي عهدها، فليست حضارة الغرب بأسرها هي التي ستنهار، وإنما الذي سينهار هو أطماع المستغلين في الغرب وجشعهم الذي لا يقف عند حد، وعندما يتخلَّص العالم من هذا الكابوس الثقيل — أعني الاستغلال والاستعمار — فسوف يتسع المجال للجميع — الشرق والغرب معًا — للعيش في سلام، دون أن يعمل أحدهما على تحطيم الآخر ليرث تركته.
-
(٢)
ونظرية شبنجلر في دورات الحضارة تبعُد كل البعد عن الروح العلمية الصحيحة؛ فقوله بالدورات المقفلة التي تتبع كلٌّ منها مسارًا يوازي الأخرى بالضبط، هذا القول ينطوي بلا شك على الاعتقاد بنوع من الحتمية الخفية التي تتحكم في سير التاريخ، دون أن نعرف مصدرها الحقيقي. ولا شك في أن القارئ اليقظ لكتابات شبنجلر سوف يتساءل: ما هي القوة التي تجعل كل حضارة تسير في طريق معلوم، تنمو فيه وتزدهر، ثم تذوي بالتدريج حتى تنطفئ؟ لا بُدَّ أن في الكون قوة معينة هي التي جعلت لكل الحضارات مثل هذا المسار المنتظم الذي لا تحيد عنه. فإذا طالبنا شبنجلر بتحديد هذه القوة، فلن تجد لديه جوابًا شافيًا.
ولقد كانت فكرة الدورات هذه تعبِّر عن تأثُّر شبنجلر بفلسفة نيتشه، وبفكرة العود الأبدي عنده بوجه خاص.٢ ولكن على الرغم من أن نيتشه قد عرض فكرة العود الأبدي على أنها عقيدة ينبغي الإيمان بها نظرًا لما تنطوي عليه — في رأيه — من معانٍ سامية فإنه قد حاول مع ذلك أن يأتي لها ببراهين علمية، وأن يجد لها من النظريات العلمية السائدة مؤيدًا، وجاء شبنجلر فنقل الفكرة ذاتها إلى مجال التاريخ البشري، وبدلًا من أن تصبح الدورات كونية شاملة كما كانت عند نيتشه، أصبحت حضارية مرتبطة بعصرٍ معين ومجتمع معين من المجتمعات البشرية، ولكنه لم يحاول أن يجعل لها أي أساس علمي يمكن الاعتماد عليه، بل اكتفى بأن قررها فحسب.وعلى حين يبني نيتشه رأيه في العود الأبدي على تفسير شامل لفكرة العلية، فإن شبنجلر يستبدل بفكرة العلية فكرة المصير Destiny. فالمصير هو القوة المتحكمة في سير المجتمع والحضارة، أما العلية فهي فكرة تنتمي إلى مجال العلوم الطبيعية، وتسمح لنا بالتنبؤ بما سيحدث في ذلك المجال، بينما لا تصلح للتطبيق في مجال العلوم الاجتماعية.ولكن ما هو هذا «المصير» الذي يتحدث عنه؟ إن هذا اللفظ ليس في حقيقة الأمر إلا تعبيرًا عن الغموض والخفاء، والعجز عن التفسير، وعلى حين ترتبط فكرة العلية بالروح العلمية السليمة، ويجد كثير من المفكرين لها تطبيقات في الميدان الاجتماعي ذاته، يرفضها شبنجلر ويكشف في رفضه عن تغلغل النزعة اللاعقلية في تفكيره. فالقول إن «مصير» الحضارات يقضي بأن يدب فيها الانحلال في النهاية، هذا القول ليس تفسيرًا علميًّا على الإطلاق، وإنما هو تنبؤ صوفي لا يستند إلى أساس.
والخطر الأكبر لهذه القدرية الغالبة على تفكير شبنجلر، هو أنها تسد الطريق أمام الإنسانية إذا شاءت أن تبني مستقبلها بأيديها، وتوجهه في الوجهة التي تريدها. فكل ما يتسنى لنا أن نفعله هو أن نستغل مصيرنا خير استغلال ممكن؛ أي أن نتصرف في الحدود التي تسمح بها الحتمية الخفية المتحكمة في حضارتنا، والتي قضت علينا أن نمر بمرحلة معينة فيها، لا نستطيع أن نغيرها أو نخالفها، ومثل هذا التقييد للقوى الخالقة للإنسان يتمشَّى — بلا شك — مع العقليات التي تعادي التقدُّم والتطوُّر، ولكن لا يمكن أن يقبله مَن يؤمن بقدرة الإنسان، وبأن العلم هو الأساس الوحيد الذي يفكِّر تبعًا له، والذي يعتمد عليه في العلو بحياته وبمجتمعه.
-
(٣)
وفي آراء شبنجلر تناقض داخلي واضح؛ فهو قد بدأ بأن أكد ضرورة النسبية، ونقد النظرة الموحدة إلى التاريخ البشري، ومن أجل هذه النسبية كان قوله بالحضارات المقفلة، وهو القول الذي يعتقد أنه يجنبنا خطأ الحكم على الحضارات كلها من منظورنا الحالي.
ولكن هل خضع تفكير شبنجلر نفسه لقاعدة النسبية هذه حين عرض علينا نظريته في الدورات التاريخية؟ لا شك أن مَن يمكنه تأمُّل التاريخ البشري في هذه اللمحة الواحدة، فيرى فيه دورات حضارية تستقل كلٌّ منها عن الأخريات، وإن كانت تتشابه كلها في الاتجاه العام الذي تسير فيه؛ من يستطيع تأمل التاريخ على هذا النحو ينبغي أن يكون ذا بصيرة شاملة مطلقة، تعلو على حدود الزمان وقيود المكان؛ أي إن تفكيره هو ذاته كان أول تفكير خرج على مبدأ النسبية كما وضعه، وكان يكفيه — لو أراد أن يكون متسقًا مع نفسه — أن يؤكد ضرورة مراعاة الطبيعة الخاصة لكل مجتمع حين نصدر عليه أحكامًا، وألا نتأمل التاريخ من خلال منظورنا الخاص، بل نمتنع عن إصدار الأحكام المطلقة عليه؛ كان هو يكفيه، ولكنه لم يشأ أن يقف عند هذا الحد، بل أصدر هو ذاته حكمًا مطلقًا على مجرى الحضارات بوجه عام.
-
(٤)
وأخيرًا فالنظرة الواقعية إلى التاريخ تؤكد لنا استحالة القول بالانفصال التام بين الحضارات؛ فواقع التاريخ ذاته يثبت حدوث تداخل بين مراحل الحضارة، ويؤكد لنا أن كثيرًا من مظاهر الحضارات قد حدث فيه تقدم لا شك فيه، يسير في خط واحد مستقيم منذ أبعد العصور حتى عصرنا الحالي. وسوف نعالج موضوع التقدُّم هذا بمزيد من التفصيل في القسم التالي مباشرة.
(٣) فكرة تقدُّم الحضارة
الرأي الثالث هو القائل بأن مجرى الحضارة يسير نحو التقدُّم التدريجي، فهو يماثل الأول في اعتقاده بأن الحضارة تسير في خط واحد، وبأن الحضارات ليست دورات مقفلة تنفصل كلٌّ منها عن الأخرى، غير أن هذا الخط الواحد يسير في نظر أنصار فكرة التقدُّم إلى أعلى دوامًا، وقيمته في النهاية، لا في فترة ماضية كما كان يقول أنصار فكرة التدهور. غير أن هذه النهاية لا تُبلغ مطلقًا، وهكذا تظل الحضارة البشرية في حركة دائمة إلى أعلى.
لقد ظهرت فكرة التقدُّم في أوروبا في القرن الثامن عشر، في عصر التنوير والإيمان بالعقل، ومثل هذا الإيمان تصحبه دائمًا نزعة تفاؤلية، تتميز بالاعتقاد بقدرة الإنسان على العلو بذاته، دون أن يحول شيء دون تقدُّمه؛ لذا كان الرأي السائد في أذهان المفكرين والمثقفين عامة — إذا استثنينا مفكرًا مثل روسو — هو أن الإنسان يغدو بالتدريج أكثر تعقلًا وإنسانية وأرفع خلقًا وأكرم طباعًا، وأن البشرية لم تبلغ قطُّ ما بلغته في عصرهم، وأن اليوم أرفع في سُلَّم الرقي من الأمس، وغدًا سيكون أرفع من اليوم.
وكان لظهور نظرية التطوُّر في القرن التاسع عشر أثره القوي في دعم موقف أنصار فكرة التقدُّم؛ فهذه النظرية كانت ترسم لتاريخ الحياة كلها صورة تتمثل فيها الحياة صاعدة إلى أعلى دائمًا فتنتقل من الأبسط إلى الأعقد، ومن الأدنى إلى الأرقى.
على أن الربط بين فكرة التقدُّم ونظرية التطوُّر قد أضر بفكرة التقدُّم ذاتها؛ ذلك لأن نظرية التطوُّر — في صيغتها العلمية الخالصة — لا تنطوي بالضرورة على القول بأن تطور الحياة يحقق تقدمًا على الدوام؛ فقد لا يكون الإنسان أصلح كائن أنتجه التطوُّر؛ أعني قد لا تكون له القيمة العليا بالنسبة إلى سائر الكائنات، وهذا أمر يؤكده بالفعل كثير من المفكرين، الذين يرون أن كل ما امتاز به الإنسان من عقل لم يَعُد عليه إلا بالضرر، ولم يعوِّده إلا الشر والميل إلى التدمير. ومن هنا شكَّ البعض في أن يكون العقل أعظم نواتج الطبيعة، ونحن لا نرمي إلى أن نوافق أصحاب هذا الرأي على فكرتهم هذه عن قيمة العقل، وإنما نود أن نشير إلى أن من الممكن — من الوجهة المنطقية الخالصة — أن يُنظر إلى الإنسان على أنه ليس أرفع مراحل التطوُّر وأعظمها قيمة؛ أي إن نظرية التطوُّر ينبغي أن تنفصل عن النتائج التقويمية التي تُسْتَخْلَص منها عادةً، فإذا لم يكن سير التطوُّر في الطبيعة يتجه بالضرورة إلى مزيد من التقدُّم، ففي هذه الحالة تنهار فكرة التقدُّم في التاريخ البشري بدورها، ما دام مصيرها مرتبطًا بمصير التطوُّر.
ومن جهة أخرى يجوز لنا أن نتساءل: على أي أساس يشبَّه تطور التاريخ بتطور الكائنات الحية في الطبيعة، ويُنْظَر إلى العملية التاريخية على أنها مجرد امتداد للعملية الطبيعية البيولوجية؟ الحق أنه حتى لو ثبت وجود قانون ضروري للتقدُّم الطبيعي، فليس هناك ما يدعو إلى نقل هذا القانون إلى مجال التاريخ؛ إذ إن ما يسري على الطبيعة لا يسري بالضرورة على التاريخ البشري الواعي.
لهذه الأسباب بدأ الشك يتطرق إلى الأذهان في أوائل القرن العشرين حول صحة الاعتقاد بالتقدُّم، وأخذت فكرة النسبية تَحُل بالتدريج محل التطوُّرية، وبدأ يسود الاعتقاد بأن كل حضارة يجب أن يُحْكَمَ عليها من خلال مقوماتها الخاصة، وأن الخطأ أن نقارن بين الحضارات على أساس مطلق؛ إذ إن الأساس المطلق يكون دائمًا مستمدًّا من نظرتنا الخاصة إلى الحياة؛ أي من حضارتنا التي نعيش فيها.
وهكذا وقف كلٌّ من الرأيين بإزاء الآخر وقد ارتكز على حججٍ قوية: الرأي القائل بالتقدُّم المطرد، والرأي القائل بالنسبية.
- (١) فهناك أمثلة واضحة تدل على أن الحضارة — أو بعض مظاهرها على الأقل — تتقدَّم باطراد. فلنتأمل مثلًا تطور الصنعة الآلية في العالم؛ فالتقدم الحالي لم يصبح ممكنًا إلا بعد جمع كشوف المراحل السابقة للحضارة والمزج بينها، وكثير من المخترعات الحديثة لها أصول قديمة؛ فالورق والبوصلة قد عرفهما العرب، بل عرفهما الصينيون، كذلك الحال في ملح البارود، والجبر قد توصَّل إليه العرب، وربما الهنود أيضًا. كذلك كان للعرب فضل البدء بأبحاث الكيمياء وعلم وظائف الأعضاء، بينما ترجع الهندسة والميكانيكا في أصلها إلى اليونان القدماء، بل إن فكرة الآلة البخارية ترجع إلى عالِم سكندري كبير، اسمه «هيرو Hero» الذي أدت ترجمة مؤلفاته في القرن السادس عشر إلى لَفْتِ أنظار العلماء والفنيين إلى هذا المصدر الهام من مصادر الطاقة. وبالاختصار فإن أهم الكشوف التي أدت إلى تغيير مجرى حياة الإنسان الحديث لم تكن راجعة إلى غريزة غامضة كامنة في نفس الإنسان الغربي الحديث، تدفعه إلى المعرفة والكشف كما ظن شبنجلر، بل إن الرياح قد دفعت بذورها إلى الغرب من حضارات أخرى.٣
وإذن، ففي مجال التقدُّم الصناعي والقدرة على استخدام الآلات — وهو مجال عظيم الأهمية؛ إذ إنه يمثِّل القدرة الإنتاجية التي تمكِّن الإنسان من السيطرة على الطبيعة — حدث تقدُّم لا شك فيه، واستفادت كل مرحلة حضارية من المراحل السابقة عليها، ولم يظهر فيه أي تغيُّر حاسم بصورة مفاجئة، بل كان كل تجديد راجعًا إلى أصول سابقة مهَّدت له، ولم يتحقق التطوُّر إلا عن طريق المزج بين الأفكار التي سبقتها في نفس المجال.
- (٢)
ومن جهة أخرى، ففي وسعنا أن نقول إن التقدُّم التاريخي ليس إلا اسمًا آخر للنشاط البشري خلال الزمان؛ أي من حيث هو سلسلة متعاقبة من الأفعال التي ينشأ كل فعل فيها عن الفعل السابق؛ ذلك لأن الصفة المميزة للفعل الإنساني هي أنه قابل للتداول من فرد إلى آخر. فالقدرة على الاتصال وتبادل التجارِب هي التي ميزت الإنسان عن الحيوان، وهي أوضح مظاهر معقولية الإنسان، وفي الوقت ذاته أقوى أسباب تقدمه؛ إذ إن ما منع سائر أنواع الحيوان من التقدُّم هو أن التجرِبة الضئيلة التي يكتسبها الفرد الواحد منهم تظل حبيسة في نفسه، دون أن يستفيد منها الآخرون، أما الإنسان فهو إذ ينقل تجاربه إلى غيره على الدوام، ويكتسب أيضًا تجارب الغير، يستطيع أن يواجه الحياة عندئذٍ مزودًا بخبرات أجيال ومجتمعات متعددة. وقدرة البشر على تبادل تجاربهم وخبراتهم تحتِّم أن يكون كل فعل جديد تقدُّمًا بالنسبة إلى القديم، ما دام الجديد مبنيًّا على تجاربَ أوسعَ من تلك التي ينبني عليه القديم.
فلنفرض أن شخصين يعيشان في جيلين متتاليين: ب ثم أ. ولنفرض أنه قد سبقت هذه الأجيال أجيال أخرى هي ﺟ، د، ﻫ … فالجيل ب يكتسب خبرات ﺟ، د، ﻫ، والجيل أ يكتسب هذه الخبرات ذاتها، مضافًا إليها خبرات ب. وهكذا يكون التطوُّر الزمني — بالنسبة إلى أفعال الإنسان — مقترنًا بالتقدُّم، ما دام كل فعل جديد هو آخر حلقة في سلسلة من التجارِب والخبرات التي تزداد امتدادًا وعمقًا بمضي الزمان. وعلى هذا الأساس يمكن أن يُقال إن التاريخ البشري يسير بطبيعته إلى التقدُّم.
- (٣)
ولفكرة التقدُّم مبرر آخَر غائي؛ ذلك لأن الاعتقاد بالتقدُّم يبعث في الإنسان ثقة بنفسه وإيمانًا بقدرته على تذليل ما يعترضه من صعاب، ومثل هذه الثقة وحدها قد تكون مبررًا كافيًا لنشر فكرة التقدُّم بغضِّ النظر عن الأسس الواقعية لهذه الفكرة. ولقد رأينا من قبل ما يبعثه الاعتقاد بالدورات الحضارية في الإنسان من شعور باليأس وإيمان بالقدَر وإحساس بالعجز أمام القوى الخفية التي ترتفع بالحضارة حينًا وتهبط بها حينًا آخر، وهو شعور يكفي وحده لجعل هذه الفكرة منفِّرة.
والحق أن النتائج التي تعود على البشرية من إحدى الأفكار، ينبغي أن تكون ضمن العوامل التي يُحْسَب لها حساب في تقرير قيمة هذه الفكرة، بشرط أن يكون لها في الواقع أساس، وألا تكون نابعة عن الخيال المحض. والذي لا شك فيه أن البشرية لو آمنت بالتقدُّم فسوف تحرِز على الدوام مزيدًا من النجاح، ويكفي أن هذه الفكرة تدفع الإنسان إلى العمل الدائم، ولا تضع أمامه العراقيل مقدمًا، بل تجعله يؤمن بأن عمله سوف يعود عليه وعلى أقرانه بالخير، ولن يضيع شيء من جهده هباءً.
هذه حجج أنصار التقدُّم، فبِمَ يرد عليهم النسبيون؟
إنهم يؤكدون أن فكرة التقدُّم بعيدة عن الروح العلمية الصحيحة؛ إذ إنها تنطوي على الاعتقاد بوجود مقياس مطلق تُقاس به الحضارة طوال تاريخها، وهذا المقياس مُسْتَمَد من طريقة تفكيرنا، وقد عممناه نحن على كل الفترات السابقة؛ ذلك لأنني لا أستطيع أن أحكم على التاريخ بأنه قد تقدَّم إلا إذا كنت أراه سائرًا في خط مستقيم، ومتجهًا نحوي في موقعي الحالي، وعندئذٍ فقط يصبح هذا الموقع الحالي هو قمة التاريخ.
فللاعتقاد بالنسبية أساس علمي سليم، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن كثيرًا من الأحكام العامة التي تُطْلَق على التاريخ البشري بأسره هي في واقع الأمر أحكام متأثرة بالظروف التي تحيط بمن يصدرها. ولا شك في أن الموضوعية الكاملة في هذا المجال عسيرة التحقيق؛ إذ إننا نميل دائمًا إلى التفكير في الأمور من خلال منظورنا الخاص، ولكن الروح العلمية الصحيحة تقتضي منَّا أن نحاول التجرد من ذاتيتنا بقدر الإمكان، وأن نلتزم في إصدار أحكامنا على فترة حضارية معينة، ظروف تلك الفترة ذاتها، والسياق الداخلي لنظمها الخاصة.
وإذن؛ ففي نفس المجال الذي اعتقد فيه أنصار التقدُّم أن البشرية أحرزت أعظم نجاح لها، وسارت في خط صاعد مستقيم — أعني في مجال الصنعة الفنية — نجد أننا لو تأملنا النتائج العملية لهذا التقدُّم الظاهري لوجدناها بالفعل تأخرًا ظهرت آثاره في مستوى حياة الناس، فانحدرت هذه الحياة في عمومها إلى مستوًى أحط مما كانت عليه قبل قرون عدة.
فنحن إذن بإزاء رأيين يقوم كلٌّ منهما على حجج قوية، ويتعارض كلٌّ منهما مع الآخر، ولكن في وسعنا رغم ذلك أن نجد سبيلًا إلى التوفيق بينهما، وأن نهتدي — تبعًا لذلك — إلى الصورة الصحيحة التي ينبغي أن نصوِّر بها مجرى الحضارة.
فكلُّ ما قال به أنصار النسبية من حجج لا يهدم فكرة التقدُّم، وإنما يدفعنا فقط إلى تعديلها. ونحن لا ننكر أن كثيرًا من الفترات المتأخرة تكون بالفعل أدنى في سُلَّم التقدُّم من فترات سابقة عليها، والحياة في العصر الصناعي أقوى دليل على ذاك، ولكن الحق أن هذا التأخُّر لا يرجع إلى طبيعة العصر ذاته، بقدْر ما يرجع إلى طريقة تنظيم العلاقات الاجتماعية. ففي ذلك الوقت كُشفت قوًى ووسائل جديدة للسيطرة على الطبيعة، كان من الممكن أن تؤدي بذاتها إلى تحقيق مزيد من الرخاء للإنسان لو نُظِّمَت العلاقات الاجتماعية فيها تنظيمًا سليمًا. ولكن الذي حدث أن هذه العلاقات لم تُنَظَّم، أو تأخَّر تنظيمها كثيرًا، فكانت النتيجة أن ازداد مستوى الإنسان تأخرًا بالقياس إلى مستواه السابق، ولكنه حين يصل إلى التنظيم السليم الذي يتمشَّى مع طبيعة الكشوف التي توصَّل إليها — وهو لا بُدَّ واصل إلى هذا التنظيم — فعندئذٍ سيتضح التقدُّم الحقيقي جليًّا؛ أي إن ما يبدو من تأخُّر في بعض فترات التاريخ هو في واقع الأمر إعداد وتحضير يسبق التقدُّم الحقيقي الذي سيظهر أثره حينما تستعيد البشرية التوازن بين جميع عناصر حياتها؛ ذلك لأن الاعتقاد بالتقدُّم لا ينبغي أن يصحبه اعتقاد بأن هذا التقدُّم آلي يسير في خط مستقيم بطريقة مطردة؛ ففي التاريخ نكسات كثيرة، وفيه أيضًا فترات تمهيد يبدو فيها معدل التقدُّم بطيئًا، أو تبدو الحضارة راجعة إلى الوراء، ولكن تراكم العوامل التي توقَّفت حينًا عن السير يجعلها تقفز بعد فترة الإعداد البطيء هذه إلى الأمام مرة واحدة، وعندئذٍ يظهر التقدُّم جليًّا.
وعلى هذا النحو يتم التوفيق بين الفكرتين؛ فإذا خلَّصنا فكرة النسبية من الشوائب التي اختلطت بها — عند شبنجلر — من اعتقاد بالحتمية والقدرية الخفية، ومن تأكيد للانفصال التام بين الحضارات، أمكن أن نقترب من فكرة التقدُّم بعد أن يُنْزَعَ عنها الطابع الآلي الذي يجعل من التقدُّم عملية ضرورية تتم بنظام مطرد لا تخلف فيه.
فإذا اتخذت الفكرتان هذا الطابع الجديد؛ أمكن التوفيق بينهما بطريقة ديالكتيكية؛ فكل حضارة تسير تبعًا لمنطقها الداخلي دون أن تتدخَّل فيها قوًى خارجية، وتتقدَّم حينًا ثم تطرأ عليها عوامل التخلف، ويبدو أنها بدأت تعود إلى الوراء، ولكنها لا تلبث أن تستجمع قواها وتنظم حياتها من جديد، لتبدأ في السير مرة أخرى، ولكن في مستوًى أعلى من المستوى السابق؛ أعني أنه قد تكون هناك دورات نسبية، ولكنها ليست مقفلة، بل إن كل مرحلة تؤدي إلى المرحلة التالية التي تستفيد بالضرورة من التجرِبة الماضية، وتواصل طريقها في مستوًى أعلى، فإذا حدث أن توقفت بفعل عوامل لا تستطيع التغلب عليها، عادت بعد ذلك إلى السير في طريقها بعد أن تكون قد توقفت فترة من الزمن استجمعت فيها قواها للتغلُّب على هذه العقبات.
وفي ضوء هذه النظرة إلى مجرى الحضارة يمكننا أن نعالج مشكلة مصير الحضارة الغربية؛ فهذه الحضارة منهارة حتمًا في رأي شبنجلر؛ إذ إن محاولتها السيطرة على العالم والتوسُّع على حساب غيرها، ستؤدي إلى ثورة شعوب تنتمي إلى حضارات أخرى عليها، فيبدأ عهد هذه الشعوب ويأفل نجم شعوب الغرب. ولو طبَّقنا الرأي الذي عرضناه من قبل؛ لأمكننا أن نقول إن حضارة الغرب قد تأخرت في الوقت الحالي تأخرًا لا شك فيه، وذلك بعد محاولتها السيطرة على العالم بأكمله سيطرة استعمارية. ولكن من الضروري أن يصل الغرب ذاته — عن طريق ثورة داخلية فيه، تبعث بالعناصر المستنيرة إلى الأمام، وتضع في يدها زمام الأمور، وفي الوقت ذاته، عن طريق مقاومة الشعوب المستغلة لأطماعه الحالية — إلى إدراك ضرورة التخلي عن سياسة الاستغلال، فيعيش ويدع غيره يعيش. على هذا النحو وحده يمكن أن ينقذ الغرب حضارته؛ لأن شعوبه ستكون هي المستفيدة في نهاية الأمر، فضلًا عن استفادة سائر شعوب العالم، وعندئذٍ لن تضيع الحضارة الغربية ولن تنهار، بل ستكون قد تجنبت أخطاءها، وعرفت كيف تسير في طريق التقدُّم الحقيقي.
أما الحل الآخر — الذي تقوم فيه حضارة أخرى على أنقاض الحضارة الغربية — فلن يتحقق إلا عن طريق حرب شاملة، ومثل هذه الحرب يُحتمل أن تقضي على حضارة البشر بوجه عام، لا على الغرب وحده.
فالتقدُّم الحقيقي إذن ليس هو ذلك الذي يتحقق آليًّا، ويسير في خط واحد، وإنما هو التقدُّم الذي يجمع بين المتناقضات في مركَّب أعلى منها، ويتم عن طريق المزج بين عناصر متنافرة تصل إلى مرحلة التآلف، ومثل هذا التقدُّم لا يتعارض على الإطلاق مع القول بالنسبية ولا مع الروح العلمية الصحيحة.