العصر الصناعي المتقدم
مقدمة
في الفصل السابق أوضحنا العوامل الرئيسية التي تضافرت كلها لتؤدي إلى مرحلة حاسمة جديدة في علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وتحدثنا عن التطوُّرات في ميدان الفكر والعقيدة والعلم، وكيف أنها كانت كلها تشير إلى تغيُّر تالٍ يوشك أن يحدث، وتعين كلها على تحقيقه. هذا التغيُّر الهام، هو التقدُّم الكبير في الميدان الصناعي، واستخدام الآلة في الإنتاج على نطاق واسع.
ولقد كان التطوُّر العلمي الذي تحدثنا عنه في ختام الفصل السابق هو الذي ساعد على تقدُّم الصناعة الآلية، وهيأ الجو الملائم لها؛ ذلك لأن التطوُّر العلمي في أوائل العصر الحديث كان يتجه — كما قلنا — إلى تغليب الكم، وإلى محو الكيفيات من نظرياتنا التي نفسر بها العالم. ومن شأن هذه النظرة الرياضية إلى العالم أن تغرس في النفوس الروح الموضوعية؛ إذ ليس يتسنى للباحث أن يجرِّد الكون من صفاته الكيفية إن كان لا يستطيع أن يجرِّد ذاته من أهوائها وانفعالاتها، وكل ما عليه أن يسجل الصفات الكمية للظواهر بدقة كاملة وحياد تام، فيكون بذلك قد كشف قوانينها؛ أي إن اتخاذ الرياضيات منهجًا مثاليًّا للعلوم كان يؤدي ضرورةً إلى طرح الانفعالات الإنسانية جانبًا، والنظر إلى الأمور بطريقة لا شخصية تمامًا، ويمكن أن يُقال إن هذه الصورة الرياضية، الخالية من الانفعالات، التي تستبقي من التنوع الزاخر للطبيعة هيكلًا مجردًا وعلاقات شكلية كمية بين أجزائها؛ هذه الصورة تلائم الآلية كل الملاءمة. ففي الإنتاج الآلي بدوره يختفي العنصر الشخصي، ويُمْحَى الطابع الإنساني الذي كان يغلب على الإنتاج المنزلي من قبل، وتصبح العلاقات بين عناصر النظام المنتج كلها علاقات شكلية، لا يُحْسَب فيها حساب إلا للمقادير والكميات، ولا أثر للكيفيات الحسية أو الانفعالات الإنسانية فيها.
(١) ما هو «الانقلاب الصناعي»؟
- (أ)
فالرأي الأول — وهو الرأي التقليدي الذي شاع بين الباحثين طويلًا — يؤكد أصحابه أنه قد حدث «انقلاب» حقيقي في تلك الفترة، بمعنى أن الإنتاج قد تغيرت سبله، واتسع نطاقه فجأة دون مقدمات تمهيدية؛ نتيجة لمجموعة من الكشوف المتلاحقة في ميدان الطاقة البخارية بوجه خاص. ومعنى ذلك أنه بعد فترة قصيرة من الزمان تغيَّر وجه الاقتصاد تغيرًا تامًّا، وطرأ تحوُّل لم يكن في وسع أحد من قبل أن يتوقعه.
وأساس هذا التحوُّل هو حلول الصناعة الآلية محل الزراعة، وهذا معناه أن يقف الإنسان من الطبيعة موقفًا إيجابيًّا، بعد أن كان في الزراعة يقف منها موقفًا سلبيًّا؛ فهو يشكل الطبيعة ويحورها، ولا يتلقى إنتاجها مباشرة، بل إن إنتاجها المباشر ليس إلا المادة الأولية التي يُجرِي عليها الإنسان — عن طريق الآلة — أشد التغيُّرات حتى يخضعها تمامًا لأغراضه ومطالبه. ولا شك أن إتمام هذا التحوُّل الهائل من السلبية إلى الإيجابية في فترة قصيرة كهذه ينبغي أن يُعَدَّ «انقلابًا» بالمعنى الصحيح.
- (ب) وعلى العكس من ذلك تمامًا، يذهب فريق آخر من الباحثين يمثلهم ممفورد Mumford (وهم بلا شك أقلية بالنسبة إلى أصحاب الرأي الأول) إلى أنه ليس ثمَّة انتقال مفاجئ في أي مظهر من المظاهر الحضارية، وأن طرق الإنتاج الصناعي لا تُسْتَثْنَى من هذه القاعدة.١
ويؤكد «ممفورد» أن تطور الصناعة الآلية كان تدريجيًّا، وأنه ليس ثَمَّة ما يدعو إلى الاعتقاد بحدوث أي «انقلاب»، بل إن كل الدلائل تشير إلى أن ما حدث إنما كان تطورًا معتادًا لسوابق ماضية تحكمت في مجرى الإنتاج الاقتصادي، وكان من الممكن توقُّع تفصيلاتها لو دُرِسَت المقدمات السابقة عليها دراسة كافية.
فإذا عرَّفنا الآلة بأنها وسيلة لزيادة قدرة الكائن البشري ودعم موقفه في الحياة أو توفير طاقته أو تنظيم مظاهر الحياة من حوله على نحوٍ يجعلها ملائمة له بقدْر الإمكان؛ أمكن القول إن الإنسان قد استخدم الآلات منذ آلاف السنين. وحتى لو فُهِمَت الآلة بمعناها الخاص الذي يُميَّز من الأداة؛ لأمكن القول إن الانتقال من الأداة إلى الآلة كان تدريجيًّا، وإن استقلال أداة الإنتاج عن البراعة اليدوية للعامل وأداءها العمل آليًّا، قد تم على مراحل متدرجة، ولم يطرأ عليه أي انقلاب مفاجئ.
ويرد «ممفورد» الآلة الصناعية الحديثة إلى أصلٍ آخر غير الأصل المعترف به، وهو الآلة البخارية التي صنعها «وات». فالأصل الحقيقي للآلة الحديثة هو الساعة، وهو اختراع ساهم فيه الكثيرون من أمم مختلفة وفي عصور متفاوتة، حتى وصل إلى صورته الآلية الدقيقة التي ترجع في رأيه إلى القرن العاشر الميلادي، ومن يومها أصبحت الساعة في دقَّتها وكمال تركيبها أنموذجًا ومثلًا أعلى للآلات.
وإذن فأصل الآلية الحديثة يرجع إلى عهدٍ أقدم بكثير من القرن الثامن عشر. والعصر الآلي الحديث لا ينبغي أن يُفْهَم إلا على أنه ناتج عن فترة إعداد طويلة جدًّا، ترجع إلى عناصر تختلف فيما بينها أشد الاختلاف. «والاعتقاد بأن حفنة من المخترعين البريطانيين قد أسمعت العالم فجأة هدير الآلات في القرن الثامن عشر، هو اعتقاد أكثر سذاجة من أن يُرْوَى للأطفال، حتى بوصفه حكاية من حكايات الجن والعفاريت.»٢ - (جـ) أما الرأي الثالث فيقف أصحابه موقفًا وسطًا؛ فهم يؤكدون أن «الانقلابات» بمعنى التغيُّرات أو الانحرافات المفاجئة التي تقطع الاتصال التاريخي، وتُحْدِث تغييرًا كليًّا في مجرى الأمور، لا مجال لها في تاريخ الحياة الاقتصادية. فلا ينبغي أن تُفْهَم كلمة الانقلاب Revolution في هذه الحالة على أنها تقابل التطوُّر Evolution، بل إن كل مرحلة تتطور عن المراحل التي سبقتها، بحيث يكون مجرى التطوُّر الاقتصادي كله حلقة متصلة، وإنما تعني كلمة «الانقلاب» في هذه الحالة مرحلة سريعة مكتسحة من مراحل التطوُّر.٣
وهذا — في الحق — هو الفهْم الصحيح لطبيعة التغيُّر الذي طرأ على الحياة الاقتصادية، وبالتالي على سائر مظاهر الحياة في تلك الفترة. ففي وسعنا أن نقول، مع أنصار التطوُّر التدريجي، إن موقف الإنسان من الطبيعة لم يتغير فجأة من السلبية إلى الإيجابية، وإنما كان الإنسان دائمًا — بمعنًى معين — إيجابيًّا في موقفه هذا. وفي الزراعة ذاتها لا نستطيع أن نَعدَّ الإنسان سلبيًّا تمامًا؛ إذ إنه يستخدم ذهنه على الدوام في تذليل ما يعترضه من صعاب، ولا يقف من الطبيعة موقف المنتظر المترقب ليرى ما تجود به عليه في آخر الأمر، وفي الوقت ذاته كان الإنسان يستخدم أدواتٍ أو آلاتٍ بسيطة، يستعين بها في تأكيد سيطرته الإيجابية على الطبيعة. فإذا كانت المرحلة الصناعية الحديثة تتميز بتحكُّم الإنسان التام في الطبيعة، وبقدرته على تشكيل مادتها على نحوٍ جديد يلائمه؛ فلنذكر أن هذه الصفات كانت تتوافر أيضًا في كثير من المراحل السابقة، ولكن بدرجات متفاوتة.
ولكن ينبغي علينا أن نقول مع أنصار فكرة الانقلاب المفاجئ إن معدَّل التقدُّم في استخدام الآلات قد بلغ في النصف الأخير من القرن الثامن عشر حدًّا يفوق بكثير كلَّ ما سبقه، وإنَّا لا نستطيع أن نقارن بين ما حدث في هذه الفترة وما حدث في أية فترة سابقة، وبالتالي لا يمكن أن يُعَدَّ هذا التقدُّم مجرَّد «تطور» معتاد.
وإذن فقد طرأ على موقف الإنسان من الطبيعة في الإنتاج تغيُّر حاسم في تلك الفترة، وإذا كان لهذا التطوُّر — شأنه شأن أي تطور آخر — سوابقه الممهدة له؛ فإن إيقاعه بلغ من السرعة والشدة حدًّا لا يُقارَن بأي تطور سابق في هذا المجال.
(٢) الآلة البخارية
كانت الطاقة الرئيسية التي تُسْتَخْدَم في الصناعة والزراعة في العصور الوسطى هي الطاقة المائية والهوائية، والمادة الأساسية التي تُصْنَع منها الآلات والأدوات هي الخشب. وفي منتصف القرن الثامن عشر حدث تحوُّل هام إلى نوع جديد من الطاقة هو الطاقة البخارية، وازدادت بالتالي أهمية الفحم والحديد في الصناعة، وأصبح ازدهار الإنتاج الصناعي متوقفًا على وجودهما بوفرة.
ولقد كانت العيوب المتعددة التي لُوحظت على الطاقات المعروفة من قبل هي التي حفَّزت المخترعين إلى البحث عن مصادر جديدة للطاقة؛ فالطاقة المائية لم يكن من الممكن الاعتماد عليها في كل الأحوال؛ لأنها ترتبط بطبيعة المكان الذي توجد فيه، ومن المستحيل أن نجلب الماء حيث نشاء؛ فحين نعتمد على الماء نضطر إلى أن نجلب الآلة إلى مصدر الطاقة، بينما الواجب أن نجلب مصدر الطاقة إلى الآلة. كذلك الحال في الهواء، الذي كان يخضع لتقلبات الرياح، ولم يكن من الممكن ضمان استقراره على حالٍ واحد. وهكذا كانت الحاجة تدعو إلى كشف نوع جديد من الطاقة بريء من هذه العيوب، بحيث يمكن توليده واستخدامه في أي مكان نريد، وبأية قوة أو نسبة مطلوبة. وكانت هذه الشروط تتوافر في الطاقة البخارية.
فما هي الظروف التي هيأت لكشف هذه الطاقة الجديدة؟
لا يستطيع أحد أن يقول إن قوة البخار لم تُعْرَف إلا في القرن الثامن عشر؛ فهذه القوة معروفة منذ القِدم، وقد أشرنا من قبل إلى العالم السكندري «هيرو» الذي نوَّه بفوائد البخار إذا استُخْدِمَ قوةً محركة، وكان ذلك قبل الشروع في استغلال هذه الطاقة في أغراض الصناعة بقرون طويلة. على أن ظهور الاختراع — كما قلنا — يرتبط بوجود الحاجة الاجتماعية إليه، لا بشخصية المخترِع وحدها. والحق أنه لو لم يكن «وات» قد اخترع الآلة البخارية في القرن الثامن عشر؛ لظهر عبقري آخر يخترعها بدلًا منه؛ فليس للصدفة في التاريخ مجال، وإنما يرجع كل حادث يبدو مفاجئًا إلى أصولٍ ضرورية مهَّدت له.
ومن أهم الأسباب التي حتَّمت التوصُّل إلى هذا النوع الجديد من الطاقة، الاهتداء إلى أسواقٍ عالمية جديدة بعد الكشوف الجغرافية وبداية عهد التوسُّع الاستعماري؛ فلم يكن الابتكار الفني والصناعي وحده يكفي لإحداث انقلاب في وسائل الإنتاج، بل إن كل الوسائل المبتكرة تغدو عقيمة إن لم يكن هناك إقبال شديد على الإنتاج الوفير الذي تأتي به هذه الوسائل. ولقد ضمن صناع أوروبا أسواق آسيا وأمريكا — على الأقل — بعد الكشوف الجغرافية التي كانت في حقيقتها تمهيدًا للسيطرة على هذه الأسواق، وبعد قيام تجارة بحرية منتظمة بين أوروبا وأسواقها البعيدة تُصرَّف بها المنتجات الأوروبية، وتُجلب بها المواد الخام إلى البلاد الصناعية.
وإذن فلم يكن من المستغرب أن تكون إنجلترا هي الدولة البادئة بالسير في طريق التصنيع الكامل؛ فقد كانت إنجلترا أوسع الإمبراطوريات في القرن الثامن عشر، وكانت قوَّتها البحرية تضمن لها سيطرة على أبعد الطرق المائية وأطولها. ولكنَّ لهذه الظاهرة تعليلًا آخر قد يبدو غريبًا لأول وهلة، وهو أن إنجلترا أحرزت تقدمًا كبيرًا في الصناعة؛ لأنها كانت من قبلُ متأخرة في هذا المضمار! وتفسير هذه العبارة التي تبدو متناقضة، هو أن البلاد الأوروبية الأخرى — التي تقدَّمت فيها أساليب الإنتاج الصناعي أو اليدوي في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث — كانت تتمسك بتقاليدها المتوارثة في الإنتاج، وكانت تحارب كل أنواع التجديد. أما إنجلترا — التي كانت من أكثر بلاد أوروبا تخلفًا في العصور الوسطى، وكانت تعيش بالفعل على هامش المدنية الأوروبية — فلم يكن فيها تقاليد أو قواعد يحرص صُنَّاعها على المحافظة عليها، ولم تتكوَّن لديهم عاداتٌ ثابتة تعوق الكشوف الجديدة؛ لهذا لم تصادف التجديدات الحديثة عندهم مقاومة كبيرة.
أما الإلحاح المباشر فجاء من جانب الصناعات الموجودة، والتي طرأ عليها من الخلل ما يحتِّم إصلاح أخطائها عن طريق اختراع جديد؛ فقد كانت المياه الجوفية تهدِّد بإغراق مناجم الفحم، وكان من الضروري كشف طريقة لامتصاص هذه المياه، كما أن التوازن بين صناعات الغزل والنسيج كثيرًا ما كان يختل، فتسبق إحداهما الأخرى، ويتحتم على الثانية أن تجاريها، فتصبح الحاجة مُلِحَّة إلى كشفٍ جديد يعيد التوازن بينهما.
ولنُضِف إلى ذلك كله أن الجو في إنجلترا كان ممهدًا للرأسمالية الاقتصادية من أوجهٍ متعددة؛ فبعد انقلاب ١٦٨٨م انتهى عهد تدخُّل الملوك في حقوق التجار وفي نشاطهم، وبدأ عهد سيطر فيه أصحاب المصالح التجارية والممولون على سياسة إنجلترا، فعملوا على تأمين أنفسهم من الضرائب، وأزالوا القيود الجمركية التي كانت تقف في وجه التجارة الداخلية في معظم بلاد أوروبا، كما قام نظامٌ محكم للبنوك أعان الملاك والممولين على ادخار رءوس الأموال اللازمة في الصناعة.
•••
(٣) نظام المصانع
بعد جيلين أو ثلاثة من اختراع الآلات الجديدة، بدأ نظام المصانع يلوح في الأفق، بعد فترة التحضير الضرورية التي كان لا بُدَّ منها من أجل إعداد طائفة من الصنَّاع المهرة المتخصصين في صيانة الآلات وإصلاحها. وبعد التغلُّب على هذه العقبة الأولى؛ اتضحت ضرورة قيام نظام للمصانع الكبيرة، بعد أن كان الإنتاج الصناعي من قبلُ يعتمد على «الورش» الصغيرة التي يعمل فيها صانع واحد أو عدد محدود من الصنَّاع.
ذلك لأن استخدام الآلات البخارية الجديدة لم يكن ممكنًا في أي مكان، بل كان لا بُدَّ من اختيار موقع لها قريب من مصدر الطاقة البخارية. كما أن هذه الآلات كانت تقتضي دقة وترتيبًا خاصًّا لعمليات الإنتاج؛ فمن المحال في مثل هذه الظروف أن تُترك لكل عامل فردي آلة بخارية يستخدمها في بيته ويديرها بمفرده، وإنما الواجب أنه تُجمع الآلات تحت سقف واحد بجانب مصدر الطاقة، ويأتي العمال إليها.
ومن الناحية المالية، كان ارتفاع تكاليف الآلات يحتِّم جمْع العمال المتفرقين في مكان واحد، وتحت إدارة مركزية واحدة؛ فلم يكن في وسع الصانع المستقل أن يشتري الآلات اللازمة لإنتاجه، بل إنه حتى في الحالات التي كان يستطيع فيها أن يدبِّر المال اللازم لشراء آلة بخارية، سرعان ما كانت تظهر آلة جديدة أحدث منها وأسرع فيتعطل إنتاجه. وإذن فقد كانت مجاراة التطوُّرات المتلاحقة في صناعة الآلات تقتضي تمويلًا ثابتًا لا يقدر عليه إلا مجموعة محددة من الممولين أو من الرأسماليين.
ولكن هؤلاء المنتجين الكبار أنفسهم كانوا من طبقةٍ تختلف عن طبقة النبلاء والإقطاعيين، كانوا رجال أعمال نشأ معظمهم بين صفوف العمال أو الزرَّاع، وأمكنهم أن يشقوا طريقهم من بين هذه الصفوف بفضل الحرص والكفاح الدائم، وعلى يد هؤلاء العصاميين تمَّت معظم التجديدات في ميدان الصناعة، واستُحْدِثَت الطرق الجديدة الرخيصة في الإنتاج، وفُتِحَت أسواق لم تُطْرَق من قبلُ، وكان ذلك العهد عهد منافسة مخيفة، لا تعرف حدودًا ولا قواعد، وتسحق في طريقها كلَّ مَن يتخلَّف عن الركْب، وهذا ما يعلل لنا صفة الصرامة والقسوة التي كان يتسم بها صاحب العمل في تلك الفترة الأولى، وما كان يلجأ إليه من استغلالٍ للعمال، وغش للمشترين في بعض الأحيان، والسعي إلى دفع منافسيه إلى الإفلاس بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة.
وعلى يد هؤلاء المنتجين اتخذت المصانع شكلها الجديد المركز، وساد إنتاجَها نظام جديد يُقسَّم العمل فيه بنظام محدَّد. كما أن تقسيم العمل ذاته، وسير الإنتاج على وتيرة واحدة في كل مرحلة من مراحله، قد مكَّن صاحب العمل من أن يستخدم عددًا غير قليل من العمال غير المهرة، بعد أن أصبحت مهمة العامل أبسط. وبهذا تمكَّن المنتِج من إنقاص مستوى الأجور، والحصول على فائض كبير في إحدى النواحي الرئيسية لنفقاته، ففُتح المجال أمام زيادة التوسُّع في الإنتاج، وأخذت تتحقق الإمكانيات الجديدة التي فتحها استخدام الطاقة البخارية في ميدان الصناعة.
ولو تتبعنا تاريخ ظهور المصانع الكبيرة؛ لوجدنا أن ظاهرة إنقاص الأجور كان لها أثر كبير في قيام هذه المصانع؛ فالمصانع الكبرى الأولى كانت مصانع الغزْل؛ إذ كان العمال — في العهد السابق — يقاومون بشدة فكرة إنشاء مصانع ضخمة؛ لهذا رأى أصحاب الأعمال أن يطرقوا الطريق الذي يضمن لهم أقل قدْر من المقاومة، فأنشئوا مصانع للغزل يمكنهم فيها استخدام النساء العاملات؛ إذ من المعروف منذ القدم أن الغزْل من شئون النساء، وعندئذٍ ضعفت مقاومة الرجال؛ إذ وجدوا أنفسهم متعطلين، بل إن منافسة النساء لهم جعلتهم يقبلون العمل بشروط أقل. وهكذا امتد إنشاء المصانع الكبيرة إلى النسيج، وذلك بعد أن قاوم العمال ذلك الاتجاه ما استطاعوا، واضطروا في النهاية إلى الرضوخ.
(٤) أحوال العمل
لم تظهر طبقة العمال الأجيرين بظهور نظام المصانع وحده؛ فقد عُرِفَ استخدام العمال لقاء أجر معلوم في الفترات السابقة، ولم يكن استقلال العمال في نظام الحِرف أو في نظام الإنتاج المنزلي إلا استقلالًا صوريًّا في كثير من الأحيان، ومع ذلك فقد كان الصانع في نظام الحِرف أو في النظام المنزلي يعمل أجيرًا لمدة معينة، يُعَدُّ بعدها لكي يصبح صانعًا مستقلًّا في المستقبل. ولكن بانتشار نظام المصانع خُلِقَت طبقة جديدة من العمال يجتمعون في مصنع واحد، ويقاسون نفس المتاعب، ولا يُنْتَظَر لهم أي أمل في المستقبل سوى أن يظلوا محتفظين بعملهم. وقد كان ظهور طبقة الأجيرين الدائمين هذه — التي لم يُعْرَف لها نظير من قبل — أهم نتائج التحوُّل الكبير الذي طرأ على الإنتاج الصناعي.
أما كيف ظهرت هذه الطبقة الجديدة، فنحن نعلم أن أفرادها — من الرجال بوجه خاص — كانوا في أول الأمر يُعرِضون عن الالتحاق بالمصانع؛ لما فيها من عملٍ مرهق وأجر قليل، وكان أمام العامل في أول الأمر نوع من الاختيار بين العمل في المصنع والعمل في ورشته القديمة الصغيرة؛ لهذا لجأ أصحاب العمل في أوائل ذلك العهد إلى مصادر أخرى متعددة يستمدون منها العاملين، ومن أهم هذه المصادر: الأطفال الفقراء الذين كانت تورِّدهم الملاجئ بكثرة، والنساء اللاتي كن يمثلن نسبة غير قليلة من مجموع العاملين بالمصانع في ذلك الحين. على أن الصناعة الآلية سرعان ما اكتسحت الورش الصغيرة، ولم يكن في وسع هذه الورش أن تجاري سرعة إنتاج المصانع أو انخفاض أسعار منتجاتها، فلم يجد الصنَّاع بدًّا من الالتحاق بالمصانع الكبيرة، كما انضم إليها كثير من الفلاحين الذين تركوا مهنتهم الأصلية واشتركوا في الحروب النابوليونية، ولم يجدوا عملًا بعد عودتهم منها.
- (أ)
فمن حيث سن العمل، كان تشغيل الأطفال ظاهرة عامة، وكان من بينهم أطفال في الخامسة من عمرهم. ورغم أنه قد صدر في عام ١٨٣٣م قانون يحرِّم العمل على الأطفال الذين هم دون التاسعة؛ فإن عدد هؤلاء الأطفال ظل كبيرًا حتى بعد صدور القانون. ومن أسباب هذه البداية المبكرة في سن العمل: جشع المنتجين لقلة ما يتقاضاه الصغار من أجور، وجهل الأهالي واعتقادهم بأن نشأة الطفل دون عمل تعودِّه الكسل، فضلًا عن الفقر المدقع، وعدم وجود مدارس يقضي فيها أبناء العمال فترة حداثتهم في تعليم مفيد لا يرهقهم.
- (ب)
أما من حيث ساعات العمل، فقد كان يوم العمل يتراوح بين ١٦ و١٨ ساعة، دون عطلة أسبوعية في معظم الأحيان. وقد صدر في عام ١٨٠٢م قانون يحدد ساعات العمل باثنتي عشرة يوميًّا غير أوقات الطعام، ولكن المنتجين كانوا يتفننون في إطالة هذه المدة فيحتجون بأي تعطُّل في يومٍ من الأيام؛ ليزيدوا أوقات العمل في الأيام الأخرى، بل لقد عُرِفَت حالات كان أصحاب العمل فيها يؤخِّرون الساعات مساءً ليختلسوا من العمال بعض العمل الزائد دون أجر.
- (جـ)
ومن المعروف أن الأجور قد انخفضت انخفاضًا كبيرًا بعد انتشار الآلية في الصناعة. ولقد أشرنا من قبلُ إلى أثر منافسة النساء والأطفال في خفض أجور الرجال، ونذكر الآن أن النظام الآلي ذاته كان يؤدي — في ذلك الحين — إلى هذه النتيجة السيئة؛ فالتقدم العلمي كان عندئذٍ سيفًا مسلَّطًا على رقاب العمال، يدفعهم إلى أن يقبلوا أقل الأجور؛ إذ إن ظهور اختراع جديد كان يصحبه الاستغناء عن عدد من العمال، وبالتالي انتشار البطالة. والبطالة سلاح قوي في يد صاحب العمل لخفض الأجر؛ إذ إن ازدياد العرض على الطلب بين العمال يضعف من قدرتهم على المساومة، بل على المقاومة ما دام هناك جيش دائم من العاطلين يقبل العمل بشروط أقل.
ومما له دلالته الكبرى في هذا الصدد، أن كثيرًا من الكشوف الجديدة في ميدان الصناعة لم تكن تُطَبَّق إلا بعد إضراب العمال أو تذمرهم؛ فالكشف الجديد كان عندئذٍ وسيلة للتهديد، يظل صاحب العمل محتفظًا بها حتى تحين فرصة استخدامها حين يتمرَّد العمال، فتكون نتيجة استخدامها توفير عدد منهم، وخضوع الباقين بعد أن اتعظوا بمصير زملائهم.
ولنُضِفْ إلى ذلك أن استغناء المصانع الآلية عن المهارة في العمل، وإمكان تعلُّم الآلات في وقت بسيط، وعدم الحاجة إلى خبرة طويلة في التدرب عليها؛ قد أضعف قدرة العامل في المطالبة بمزيد من الأجر؛ إذ كان يشعر أن غيره يمكن أن يحلَّ محله في أي وقت، دون أن يتخلف سير العمل ذاته على الإطلاق.
- (د)
أما من الناحية الصحية؛ فقد كان طول ساعات العمل وقلة الأجور وسوء التغذية من أكبر العوامل التي أتلفت صحة العمال. وهكذا كان العمال الفقراء يتكاثرون عندئذٍ كالذباب، ويبلغون سنَّ النضج الصناعي في العاشرة أو الثانية عشرة، ويقضون حياتهم في المغازل أو المناجم الجديدة، ثم يموتون بعد حياة قصيرة رخيصة. ويكفي أن نعلم أن متوسط أعمار العمال كان في تلك الفترة يقل بمقدار عشرين عامًا عن متوسط أعمار الطبقة المتوسطة.
وأُضيف إلى عنصر الدمار الصحي هذا عنصر آخر جديد، هو ما تسببه طريقة الإنتاج الآلي للعامل من إرهاق عصبي ونفسي؛ فلم يكن في وسع كثير من العمال تحمُّل ضغط العمل الآلي، بل كانت أعصابهم تنهار ويتحطمون جسميًّا ومعنويًّا في سنوات قلائل، ثم يُلْقَى بهم جانبًا وكأنهم مادة تالفة. ولقد بلغ هذا التوتر العصبي قمَّته في الطرق الحديثة في الصناعة، مثل طريقة «فورد» في صناعة السيارات؛ حيث يمر هيكل السيارة بواسطة رصيف متحرك على صفين من العمال، يجب على كلٍّ منهم أن يركِّب جزءًا خاصًّا في ذلك الهيكل حين يمر عليه، وتتوالى صفوف السيارات عليه، وهو يقوم في كلٍّ منها بنفس العمل، وهكذا تتحدد سرعة العامل بحركة الرصيف، الذي يمكن أن يزيد صاحب العمل من سرعته على الدوام، وعلى العامل أن يجاري هذه السرعة، وإلا كان ملزمًا بالانسحاب، وبالفعل ينسحب كثير من العمال لعجز أعصابهم عن تحمُّل هذا الضغط. وليس معنى قولنا هذا أن العامل في الفترة الأولى من العصر الصناعي الحديث كان عليه أن يتحمَّل مثل هذا الضغط على أعصابه، وإنما كانت هناك أنواع أخرى من الضغط لا تقل عن هذه، وخاصة إذا وضعنا في حسباننا حداثة عهد الناس بالحياة الصناعية الجديدة، وتعودهم العمل الهادئ البطيء في الفترة السابقة.
- (هـ)
أما من الناحية المعنوية؛ فقد انعدمت الصلة الوثيقة بين صاحب العمل وبين العامل، وحلَّت محل العلاقة الشخصية التي كانت تربطهما في العصر المنزلي علاقة لا شخصية لا يعود فيها العامل إلا واحدًا من الآلاف الذين يعملون في المصنع، ولا يُنْظَر إليه إلا على أنه وحدة منتجة ينبغي الاحتفاظ بها بأقل التكاليف الممكنة.
والحق أن القيمة الإنسانية قد أُهْدِرَت في ذلك العصر على نحوٍ قلَّ أن نجد له في التاريخ مثيلًا؛ فالإنسان لم يكن يُعامَل إلا على أنه وسيلة، ولا تُصان حقوقه إلا بالقدْر الذي يسمح له بالاستمرار في إنتاجه، وفيما عدا ذلك، فقد كانت الكائنات البشرية تُعامَل بنفس القسوة التي تُعامَل بها الأشياء الطبيعية الجامدة، ولم يكن يُنْظَر إلى العامل إلا على أنه موْرِد يُسْتَغَل ويُستفاد منه، حتى إذا ما استُهْلِكَت قواه نُبِذَ نَبْذَ النواة.
ولم يكن للقيمة الشخصية أي دور في الإنتاج في ذلك الحين؛ فالعلاقة الوحيدة بين العامل وصاحب العمل هي علاقة مقدار معيَّن من الإنتاج يقدِّمه الأول، وأجر معين يقدمه الثاني، وفي هذه الحدود وحدها كان يتم الاتصال بينهما، فإذا أحس أحد العمال بالرغبة في تحقيق استقلاله الشخصي، وثار على عبودية الآلة، فلن يجد له مفرًّا منها رغم ذلك؛ إذ كان أصحاب المصانع يعملون على احتكار الأرض بدورها، فتُسَد كل السبل أمام العامل الثائر.
وهكذا كانت أحوال العمل في ذلك الحين تقتل أية موهبة شخصية أو معنوية لدى العامل، وترغمه على الاستسلام لعمله الممل، أيًّا ما كانت الشروط التي تُفرض عليه.
•••
وكان من الواضح أن أية محاولة فردية للتمرد على هذا النظام تخفق حتمًا أمام قوة أصحاب العمل ونفوذهم ومالهم، وبالتدريج تولَّد في نفوس العمال — نتيجة للظروف السيئة التي يعانونها جميعًا — وعيٌ بموقفهم في المجتمع الصناعي الحديث، وإحساس بضرورة تكتلهم حتى يصبح كفاحهم من أجل تحقيق مطالبهم مثمرًا، وأخذوا يكوِّنون بالتدريج «طبقة» شاعرة بذاتها، محددة الأهداف، تحس بالتعارض القوي بين مطالبها وبين مصالح أصحاب الأعمال. وكان ظهور هذه الطبقة المميزة الشاعرة بذاتها أهم النتائج التي ولَّدها النظام الصناعي الحديث؛ إذ إن التطوُّرات التاريخية التالية — من سياسية واجتماعية وثقافية — قد تأثرت دائمًا — بطريق مباشر أو غير مباشر — بجهود هذه الطبقة ونضالها.