مشكلة المادية والروحية
ليس هدفنا في هذا الفصل هو بحث مشكلة المادية والروحية من حيث هي مشكلة فلسفية خالصة، بل إننا نرمي إلى بحثها في المجال الحضاري وحده، وفي الحدود التي يلتزمها هذا الكتاب؛ أعني: ما هو موقف الإنسان من مشكلة المادية والروحية في العصر الصناعي؟ وهل يدفعنا هذا العصر بطبيعته إلى تعديل موقفنا من هذه المشكلة؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فما طبيعة هذا التعديل؟
(١) الرأي التقليدي
ليس مما يدخل في مجال بحثنا أن نتتبع تاريخ العلاقة بين المادة والروح؛ فقد يؤدي بنا ذلك إلى تتبُّع تاريخ المذاهب الدينية والفلسفية بأسرها، ولكن الذي نود أن نشير إليه هو أن الرأي التقليدي الغالب كان يعلي من قدْر الروح أو العقل فوق المادة، وينسب إلى المادة كل النقائص والشرور. ولا شك في أن هذا التمييز كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتمييز الاجتماعي بين طبقتين: طبقة الأحرار وطبقة الأرقاء، أو السادة والعبيد. والطبقة الدنيا هي التي تتولَّى القيام بكل عملٍ له صلة بالمادة من قريب أو بعيد، بينما تحتفظ الطبقة العليا بالمهام الرفيعة، كالتفكير العقلي الخالص عند اليونانيين، أو أداء الشعائر والطقوس الدينية في المجتمعات الشرقية القديمة.
(٢) العمل والمادة
هل العمل نشاط مادي صِرْف؟ أم أنه ينطوي على عنصر روحي بجانب العنصر المادي؟ ظلت كثير من المجتمعات تنظر إلى العمل على أنه نشاط مادي صِرف، فكانت النتيجة أن احتقرت كلَّ ما له صلة بالعمل، وجعلته من المهام التي تؤدَّى «على هامش» المجتمع، بحيث يصبح القيام به مجرَّد أداة ووسيلة تمهِّد السبيل لحياة مترفة يحياها «الأحرار» من الناس. ولكن ينبغي علينا — قبل أن نعرض لطبيعة العلاقة بين المادي والروحي، ونشير إلى الفهْم الذي ينبغي أن يسود بشأن هذه العلاقة — أن نبيِّن إلى أي حدٍّ يمكن أن يُعَدَّ العمل ماديًّا؟ وإلى أي حد يتجاوز حدود المادية بالمعنى الشائع لهذه الكلمة؛ أعني بالمعنى السابق على النقد؟
والأمر الذي ينبغي أن نتنبه إليه هو أن العمل البشري لا يمكن أن يكون نشاطًا ماديًّا خالصًا. فمن الممكن أن يُسمَّى عمل الحيوان في سبيل السعي إلى غذائه أو بناء مسكنه نشاطًا ماديًّا، أما العمل البشري فلا بُدَّ أنه ينطوي على شيء يميزه من عمل الحيوان، أو من أحداث الطبيعة الجامدة. والحق أن كل عمل بشري ينطوي على خطة معينة يضعها الذهن، وعلى تحليل معيَّن للموقف الذي يواجهه الإنسان، ثم محاولة لمواجهة هذا الموقف على خير نحوٍ ممكن. ولو تأملنا أبسط الأعمال البشرية وأقربها إلى الآلية؛ لوجدناها تتضمن قدْرًا من التنظيم العقلي والتوجيه الذهني، ولأدركنا أن من المستحيل أن تُعَدَّ مادية خالصة. فالبنَّاء الذي يرفع قوالب الحجارة، يسير في عمله هذا تبعًا لخطةٍ معينة وضعها ذهنه، يحاول بها أن يوفِّر من طاقته بقدْر ما في وسعه، وأن يضمن إتمام عمله بأقل قدْر يمكن من الخطأ. ولو عهد بهذا العمل ذاته إلى حيوان أعجم لكانت النتيجة مختلفة كل الاختلاف. وإذن ففي كل عمل بشري — مهما كانت بساطته — عنصر ذهني لا يمكن إنكاره. والأعمال التي نقوم بها تتفاوت بطبيعة الحال في مدى اتصالها بعنصر التوجيه الذهني هذا وحاجتها إليه، ولكنه على أية حال ماثل فيها كلها … أو إذا شئت الدقة لقلت إن العمل البشري في موضع التقاء الروحي بالمادي؛ فلا هو بالروحي الصرف، شأنه شأن التأمل الفلسفي المجرد، ولا هو بالمادي الصِّرف، شأنه شأن النشاط الحيواني أو الطبيعي.
فإذا فُهِمَ العمل على هذا النحو، أمكن وصفه بأنه هو النشاط الإنساني على الحقيقة؛ ذلك لأن الإنسان ليس مجرد حيوان عاقل أو ناطق كما وصفه أرسطو، بل هو أيضًا كائن عامل؛ أعني أن النشاط المميز للإنسان من غيره من الكائنات ليس هو كونه يفكِّر أو يتأمل تأملًا عقليًّا خالصًا، بل هو كونه يعمل؛ أعني كونه يستخدم هذا التفكير في حل مشاكل الواقع الفعلي المحيط به، وفي التغلُّب على الصعاب المادية التي تواجهه والفكر الخالص الذي لا يخرج إلى مجال التنفيذ الفعلي، هو لحظة ضئيلة في حياة الإنسان، لا ينبغي أن تكون هي المميزة له. بل إن ما يمتاز به هو أنه يعمل؛ أعني أنه يطبِّق فكره على العالم الواقعي، ويستخدم ذهنه في حل مشاكل هذا العالم — وتلك بحق هي الصفة المميزة للإنسان، وهي التي تمثِّل المظهر الرئيسي والأهم لنشاطه.
وعندما نقتنع بأن العمل هو الصفة المميزة للإنسان، يمكننا أن نُصْدِر — دون عناء — حكمنا على المجتمعات التي تجاهلت العمل أو عَدَّتْهُ نوعًا أدنى من أنواع نشاط الإنسان. فمثل هذه المجتمعات لم تحتقر العمل وحده، بل إنها في الحق قد احتقرت الإنسان. ففي المجتمع الذي تنحطُّ فيه قيمة العمل، لا بُدَّ أن يكون الإنسان — بوجه عام — قد أُهْدِرَت كرامته، أو لم يُوضع في المرتبة التي يستحقها، وهذه بالفعل هي الظاهرة الملموسة في تلك المجتمعات، والتي يشهد عليها شيوع نظام الرق فيها. وبالاختصار، فالعمل في حاجة إلى الإنسان كله وبجميع عناصره، لا العنصر فيه المادي فحسب. وتبعًا لنظرة كل مجتمع إلى العمل نستطيع أن ندرك نظرته إلى الإنسان.
(٣) من أين نبدأ؟
يحتل الاقتصاد الجانب الأكبر من اهتمام الإنسان في العصر الصناعي، وتلك حقيقة لا ينكرها أحد. وكل ما في الأمر أن بعض المفكرين قد استغلوها في حملتهم على هذا العصر؛ إذ إن الاقتصاد في رأيهم نشاط متعلق بالمادة، وبالتالي يكون العصر الصناعي ذاته عصر اهتمام بالمادة، لا يسمح بأي نوع من أنواع السمو الروحي أو المعنوي للإنسان.
والحق أنه لا سبيل إلى فهْم الاقتصاد على حقيقته إلا إذا أدركنا أنه عملية إنسانية كاملة لا عملية مادية خالصة. فالعقل البشري — كما أوضحنا من قبل — له الدور الأكبر في تشكيل الطبيعة خلال مراحل العمليات الاقتصادية، وبالتالي يكون الارتباط وثيقًا بين النشاط الاقتصادي وبين الجانب المعنوي للإنسان.
والحق أن الحياة الاقتصادية السليمة تضع لنفسها هدفًا، هو تحقيق المطالب الحيوية الضرورية للإنسان ثم تجاوزها، والسعي إلى ما هو أعمق منها، وتلك صفة يغفلها الكثير من الكُتَّاب أو يتجاهلونها عن عمد، فتكون نتيجة هذا الإغفال أو التجاهل إصدار أحكام باطلة تمامًا عن طبيعة الحياة الاقتصادية والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. ويمكننا أن نقول — رغم ما يبدو في قولنا هذا من غرابة، إن الهدف الحقيقي للاقتصاد السليم تجاوز الاقتصاد ذاته. فالإنسانية لم تجهد نفسها في الميدان الاقتصادي كل هذا الجهد إلا لكي تتغلب على مشاكله، ولم تهتم بالمادة إلا لكي تتمكن من السيطرة عليها، ولم تهتم بمشكلة العمل إلا لكي تصل إلى حلٍّ يخفف عن الإنسان عناء الإرهاق في العمل.
والذي لا شك فيه أن تحرير الإنسان من عبودية الإرهاق المتواصل والتفكير المستمر في مطالبه الضرورية هدف معنوي رفيع. وكل أنصار «الروحية» ذاتهم يؤكدون أن الصورة العليا للإنسان هي صورة ذلك الذي يستطيع أن ينمِّي مواهبه وقدراته الخاصة، ويجد لنفسه — بعد عناء العمل — من الفراغ ما يسمح له بممارسة هذا النشاط الرفيع. ونحن نسلِّم بذلك، ونضيف إليه هذه المقدمة الواضحة، وهي أن التفرُّغ لتحقيق القيم الإنسانية الرفيعة لا يمكن أن يُتوصَّل إليه إلا إذا لم تَعُد المشاكل اليومية والمطالب الحيوية الضرورية هي الموضوع الرئيسي لاهتمام الإنسان. ومن المحال أن ننتظر إنتاجًا فنيًّا أو فكريًّا رفيعًا، أو تحقيقًا للقيم الروحية السامية، من إنسان يقضي كل دقيقة من وقته باحثًا عن الخبز وحده. أما إذا توافرت هذه المطالب الضرورية، ووصل الإنسان إلى حدٍّ معين من الاكتفاء المادي، فعندئذٍ يمكنه أن يتفرغ لما هو معنوي ولما هو روحي.
ولكن هل وصل الإنسان بالفعل إلى هذا الحد من الاكتفاء؟ الحق أننا إذا شئنا أن نجيب عن هذا السؤال إجابة دقيقة، كان علينا أن نمتدَّ بأنظارنا إلى مختلف الشعوب والطبقات البشرية، وعندئذٍ ستصدمنا تلك الحقيقة الأليمة، ألا وهي أن الغالبية العظمى من الناس لم يتوافر لها ذلك الحد من الاكتفاء المادي الذي يمكِّنها من التفرُّغ لسائر المظاهر الإنسانية الرفيعة لحياتهم، وسنجد أن هذا الهدف لا زال بعيدًا عن التحقيق، وأن البشرية لا زالت في حاجة إلى جهد شاقٍّ ووقتٍ طويل قبل أن تصل إليه.
فماذا يكون موقفنا خلال ذلك الوقت الذي لم نصل فيه بعدُ إلى تحقيق الاكتفاء المادي الضروري للناس؟ لا شك أن المنطق السليم يقتضي منَّا أن نكرِّس كل جهودنا لتحقيق ذلك الهدف؛ أي أن نجعل للمشكلة الاقتصادية الدور الأول في تفكيرنا وفي اهتمامنا، حتى نصل إلى إخضاعها نهائيًّا لإرادتنا، وإلى تحرير الإنسان من عبودية المادة، ومن السعي طوال حياته وراء أدنى حد من المطالب الحيوية، وإغفال الأوجه المعنوية الرفيعة لحياته.
- (١)
الحياة الإنسانية الرفيعة، تقتضي الاهتمام بالجانب المعنوي وبالقيم الروحية.
- (٢)
هذا الجانب المعنوي وهذه القيم الروحية لا يمكن أن تُمارَسَ إلا إذا ضمن الإنسان لنفسه اكتفاءً ماديًّا، ولم يَعُد البحث عن المطالب الضرورية للحياة هو الموضوع الوحيد لاهتمامه.
- (٣)
هذا الاكتفاء المادي، وتحقيق ضرورات الحياة، لم يتحقق للإنسان حتى اليوم، ولا زال بعيدًا عن التحقُّق، مع أنه — كما قلنا — هو الشرط الأساسي لقيام حياة معنوية رفيعة.
- (٤)
الاقتصاد هو النشاط البشري الذي يهتم بتوفير هذا الاكتفاء المادي للإنسان.
- (٥)
إذن فالاهتمام بالحياة الاقتصادية وتركيز نشاطنا عليها أمرٌ يحتمه سعينا إلى الارتفاع بالإنسان معنويًّا، بل هو الشرط الأساسي للسمو الروحي للإنسان.
وبعد هذا التحليل، يمكننا أن نصل إلى فهْمٍ صحيح لمشكلة علاقة النشاط المادي بالنشاط المعنوي في الإنسان؛ ذلك لأن الدعوة إلى الاهتمام بمعالجة المشكلات الاقتصادية والمادية للإنسان قبل غيرها من المشاكل، هذه الدعوة تتبدَّى لنا في ضوء التحليل السابق على أنها دعوة ذات هدف معنوي صرف؛ إذ هي ترمي إلى تخليص الإنسان من قبضة الاهتمام المفرط بضرورات الحياة اليومية، وهو الاهتمام الذي يقضي على كل احتمال لسمو الإنسان، أو سعيه إلى تحقيق أهدافه الروحية.
وإذا شئنا أن نعبِّر تعبيرًا أدق عن العلاقة الحقيقية بين ما هو معنوي أو روحي في الإنسان، لقلنا إن المجالين متداخلان تمامًا، ولا يمكن تصورهما منفصلين، بل إن أية محاولة لإيجاد فصلٍ قاطع بينهما تؤدي إلى تشويه طبيعتهما. فالخطوة الأولى نحو الروحية في الإنسان هي الاهتمام بالمشاكل المادية، وعلينا أن نؤمن بأن تحرُّر الإنسان من سيطرة القوى الطبيعية هو أول مظهر من مظاهر شخصيته الحرة، بينما يُعَدُّ خضوعه لهذه القوى الطبيعية شر أنواع العبودية، والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا التحرُّر من سيطرة المادة عليه هو الاهتمام بالمادة ذاتها، ما دام إخضاع أي شيء لسيطرة الإنسان لا يتم إلا إذا عرف الإنسان أسرار ذلك الشيء. ومن جهة أخرى ففي ضوء التحليل السابق يتضح لنا أن مَن يدعو إلى الترفُّع والسمو عن المادة يهدف بدعوته هذه — عن قصد أو عن غير قصد — إلى أن يظل الإنسان خاضعًا للمادة، ويبقى إلى الأبد عبدًا لها، ما دام «ترفُّعه» المزعوم سيؤدي به إلى أن يظل جاهلًا بأسرارها.
(٤) حضارتنا «الروحية» في الشرق
ماذا يكون موقفنا في الشرق إزاء هذا التعديل الذي جَلَبَتْه الحضارة الصناعية الحديثة على العلاقة بين المادة والروح؟ إننا — نحن أهل الشرق — قد وُصِفْنَا طويلًا بأننا «روحانيون». وكان المقصود من هذا الوصف هو أننا «نترفَّع» عن المادة، ونعلي من قدْر الوجه المعنوي من حياة الإنسان، ولا نعبأ كثيرًا بالمشاكل اليومية «الجزئية» بقدْر ما نهتم بالعموميات والروحانيات.
ولكن ماذا يكون حكمنا على هذا الوصف في ضوء ما قلناه عن التداخل بين المادية والروحية؟ الحق أن حضارتنا في الشرق سوف تظل متخلِّفة عن ركب الحضارة العالمية طالما ظللنا متمسكين بوهم «الروحانية» هذا. وليس معنى قولي هذا الحط من قدْر القيم الروحية أو الاستخفاف بها، بل ينبغي أن يُفْهَمَ هذا القول في ضوء الفكرة التي عرضناها من قبل، والتي أكدنا فيها أن السبيل الأول إلى العلو بالمعاني الروحية في الإنسان، هو اهتمامه بمشاكله المادية وسعيه إلى حلها.
والحق أن بيننا — في الشرق — وبين الاكتفاء المادي والحصول على ضرورات الحياة ذاتها الكثير. ولا زالت المشكلة الرئيسية عندنا هي ضمان الحد الأدنى من مطالب الحياة لمجموع الناس. وفي مثل هذه الحالة يكون من العبث أن يُقال لنا إن مشاكلنا تُحَلُّ عن طريق التمسُّك ﺑ «الروحانية». فمن المحال أن ننتظر سموًّا أخلاقيًّا من شخص جائع، ومن المحال أن ننتظر إنتاجًا فكريًّا من مريض هزيل. والخطوة المنطقية الأولى هي أن نبدأ بإزالة هذا الشبح المخيف، شبح الجوع والفقر والحاجة والقلق والخوف من المستقبل، وبعد ذلك — وليس مطلقًا قبل ذلك — يمكننا أن ننتظر ارتفاعًا في الجانب المعنوي من حياتنا.
على أن هذا الهدف الأول — أعني تحقيق حدٍّ معيَّن من الاكتفاء المادي للناس — يحتاج إلى جهودٍ مضنية وإلى وقت طويل؛ فذلك الهدف لا زال بعيدًا كل البعد عن التحقيق، ولا زالت دونه عقبات وصعاب جمة، تقتضي منَّا أن نكرِّس حياتنا كلها متفرغين له، وفي هذا التفرُّغ سنكون حقًّا مهتمين ﺑ «المادة»، ولكن من أجل غرضٍ يعلو على المادة، وسنكون مهتمين ﺑ «الاقتصاد»، ولكن من أجل هدفٍ يتجاوز الاقتصاد.
أما هذه الأصوات التي ترتفع بين حين وآخر، ومن المؤسف أنها ليست كلها أصواتًا دخيلة علينا، بل إن كثيرًا منها يصدر عن مواطنينا، وعن أشخاص يُفترض أنهم من كبار مفكرينا، أما هذه الأصوات، فإن دعوتها تهدف — عن وعي أو دون وعي — إلى إعاقة تقدمنا، فنظل إلى الأبد عاجزين عن الارتقاء ماديًّا ومعنويًّا في الآن نفسه. أَجَلْ، فالحضارة المعنوية السليمة لا تقوم إلا على أساسٍ من الرخاء المادي، وإذا ضاع هذا الأساس، استحال أن تظهر بيننا القيم الروحية أو تحتل المكانة التي نريدها أن تحتلها؛ أي إننا في حالة «الترفُّع» المزعوم عن المادة نفقد العنصرين معًا، وتضيع معنوياتنا مثلما نُحْرَم من مادياتنا.
وكثيرًا ما يدَّعي كُتَّاب يفترض أنهم نابهون، أن ما ينقصنا في مرحلتنا الحالية من الحياة هو الأخلاق أو هو القيم الروحية. فإذا شئنا أن نرد على هذا الزعم، قلنا أولًا إن رأيهم هذا يناقض الرأي السابق، القائل إن الشرق مهْد «الروحية»، وأنه لا يفتقر إلى أي نقص في هذا المجال، بل إن كلَّ ما عليه هو أن يحافظ على تراثه الروحي. أي إن حماة «الروح» يتناقضون فيما بينهم تناقضًا صريحًا. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فلا شك في أن البدء بهذا الحل الذي يدعون إليه إنما هو «وضعٌ للعربة قبل الحصان» كما يقول التعبير الشائع. فكلُّ ما نشاهده حولنا من انحراف ومن نزوع إلى الشذوذ أو الإجرام لا يُحَلُّ عن طريق الوعظ الأخلاقي والإرشاد الروحي، بل يُحَلُّ أولًا وأساسًا باقتلاع جذور الشر؛ أعني الحاجة المادية وعدم القدرة على تلبية المطالب الضرورية للحياة. وكل حل غير ذلك عبثٌ لا طائل تحته. فنحن إذن لسنا مفتقرين إلى المبادئ الأخلاقية، وليست مشكلتنا الحضارية في مرحلتنا الحالية هي فقدان القيم الروحية، بل إن هذا النقص في حقيقته نتيجة وليس سببًا؛ أعني أنه نتيجة لافتقارنا إلى ضرورات الحياة، وليس هو علة ما نعانيه في هذه الحياة من متاعب.
•••
هذه الكلمات — عن حضارتنا «الروحية» في الشرق — أراها ضرورية بوجه خاص في الفترة الحالية من تاريخنا ومن تاريخ العالم؛ ذلك لأن خدعة «الروحانية» لم تَعُد تقتصر علينا نحن فحسب، بل لقد امتدت في الوقت الحالي إلى المسرح العالمي ذاته، وأصبحت واحدة من كبريات «الأساطير» التي تتعلَّق بها أوهام الكثيرين في مرحلة التحوُّل الحاسمة التي نعيش فيها.
ومن الغريب حقًّا أن تجد أشد الناس تعلقًا بالماديات بأحط معاني هذه الكلمة لا بمعانيها السليمة، هم الذين يدَّعون الدفاع عن القيم الروحية، وأن يبلغ هذا الادعاء ذروته في المجتمعات التي لا يحرِّكها إلا دافع الربح، ولا تنظر إلى بقية الأمم إلا على أنها وسائل تُسْتَغَل في تحقيق المآرب الخاصة للمسيطرين على هذه المجتمعات. هذا الانقلاب في الموازين، وهذه المغالطة الكبرى لم تصبح ممكنة إلا بفضل الخدعة القديمة التي وقعت فيها الإنسانية زمنًا طويلًا، والتي جعلت الناس يعتقدون أن بين الوجه المادي والوجه المعنوي لنشاط الإنسان تضادًّا أساسيًّا، وأن الاهتمام بأحدهما يستبعد الاهتمام بالآخر، فكانت النتيجة أن وُصفت كل محاولة لتنظيم المجتمع البشري على أسسٍ تكفل تحقيق ضروراته بأنها «مادية»، ولم يَدْرِ أصحاب هذا الوصف (أو ربما درَوا ولكنهم تغافلوا) أن الخطوة الأولى نحو كل بناء روحي سليم ينبغي أن تكون السيطرة على المادة، والتخلُّص من إلحاح مشاكلها بفهْم أسرارها وإخضاعها لتحكُّم الإنسان. وهذه الحقيقة ذاتها لم تُطرح على بساط البحث إلا بعد أن أُثيرت بصورة مُلِحَّة في العصر الصناعي الحديث، ولم يكن من الممكن حلُّها على أسسٍ سليمة إلا في ظل حضارة صناعية.