ضفة النهر
ظلَّ الخُلد يعمل طيلة الصباح بجدٍّ واجتهاد ليُنظِّف بيته الصغير بعناية احتفالًا بقُدوم الربيع. بدأ بالمِقَشَّة، ثم بمِنْفضة الغبار؛ ثم نظَّف السلالم والدرَج والكراسي بالفرشاة ودَلوٍ من محلول التبييض حتى امتلأ حلقُه بالتراب ودخل في عينيه أيضًا، ولطَّخت بُقَع محلول التبييض فراءه الأسود، وأُجهدت ذراعاه وأحسَّ بألمٍ في ظهره. كانت تباشير الربيع تَسري في الهواء فوقه وفي الأرض تحته وفي كل مكانٍ حوله، حتى إنها تسلَّلت إلى بيته الصغير البسيط والمُظلِم الذي ساد الاستياء والطموح في أرجائه. ولم يكن من الغريب أنه، فجأةً ودون سابق إنذار، طرح فرشاته أرضًا وقال: «كفى! لقد فاض الكيل وضقتُ ذرعًا بتنظيف الربيع هذا!» ثم ترك مُسرعًا البيت دون أن يتمهَّل ليَرتدي معطفه. كان هناك شيء ما بالأعلى يلحُّ عليه بالنداء، فاتجه إلى النفق الصغير والمُنحدر الذي يقوده إلى الطريق المفروش بالحصى؛ حيث تسكن الحيوانات التي تعيش في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس. أخذ يَحفر ويفرك ثم يزحف ويدفع نفسه إلى الأمام؛ ثم يحفر ويفرك مجددًا بهمة ونشاط ثم يزحف ويدفع نفسه إلى الأمام بكفَّيه الصغيرتين وهو يُتمتِم لنفسه قائلًا: «هيا، اصعد عاليًا! هيا اصعد عاليًا.» حتى وصل أخيرًا. خشخَشَ الحصى على السطح ثم برز أنفه ليُلامس أشعة الشمس. صعد وأخذ يتمرَّغ بين العشب الدافئ للمرج الفسيح.
قال لنفسه: «هذا رائع! هذا أفضل بكثير من التنظيف بمحلول التبْييض!» أحسَّ بدفء الشمس يلفَح فراءه، ونسمات الهواء الرقيقة تداعب جبهته الملتهبة من الحفر؛ وبعد عزلةٍ طويلةٍ عاشها في جحره، اخترقَت زقزقة الطيور السعيدة أذنَيه الكليلتين كالصراخ. كان يقفز على قوائمه الأربع مرة واحدة شاعرًا بمُتعة الحياة وسط نضرة الربيع وبهجتِه دون أن يُنظِّف شيئًا. ظلَّ يسير في طريقه على ذلك المرج حتى وصَل إلى السياج على الجانب الآخر.
قال له أرنب عجوز عند فتحة السياج: «قف مكانك! عليك بدفع ستة بنسات لتحصُل على حق المرور عبر الطريق الخاص!» ارتسمَت فورًا علامات الذهول والاندهاش على وجهه من هذا الخُلد الوَقِح العَجول الذي شقَّ طريقه بعنف عبر السياج وهو يُزعج بصراخه بقية الأرانب الذين خرجوا من جحورهم مسرعين ليروا ما كل هذه الجلبة. كان يصرخ قائلًا: «صوص بصل! صوص بصل!» ثم اختفى قبل أن يُفكر الأرانب كيف يردون عليه ردًّا مناسبًا وأخذوا يتذمَّرون بعضهم من بعض.
«يا لك من غبي! لماذا لم تُخبره؟»؛ «لماذا لم تخبره أنت إذن؟»؛ «كان بإمكانك أن تُذكِّره …» وهكذا استمروا في التناحُر كعادتهم. وبلا شك، كان الأوان قد فات كما هو الحال دائمًا.
كان كل شيء حوله خلابًا حتى إنه لم يُصدِّق عينيه. كان يتنزَّه بهمة ونشاط عبر المروج؛ من مرج إلى آخر ومن هذا الجانب إلى ذاك، مارًّا بالسياجات وعابرًا الأجمات والشجيرات؛ كان يرى في كل مكان حوله الطيورَ تبني أعشاشها، والزهور تتفتَّح براعمها، وأوراق الأشجار تتمايل؛ كان الجميع سعداء ومُنهمِكين في أعمالهم وكل شيء على ما يُرام. وبدلًا من أن يشعر بوخز الضمير وهو يهمس له: «ماذا عن تنظيف البيت بمحلول التبييض؟» كان بطريقةٍ ما يشعر بالبهجة والسرور؛ لأنه هو الفرد الوحيد الذي يتلكَّأ بلا عملٍ وسط كل هؤلاء الكائنات النشيطة. فربما أفضل ما في العطلة ليس هو الراحة في حدِّ ذاتها، بل أن ترى رفاقك من حولك مُنهمِكين في العمل وأنت بلا عمل.
ظنَّ وهو يتسكَّع هائمًا بلا هدف أن سعادته قد اكتملت، حتى وصل إلى ضفة نهر فياض. لم يرَ في حياته نهرًا قط، فأخذ هذا الحيوان الأملس المُتلوِّي النشيط يُطارد الأشياء وهو يزقزق فرحًا، ثم يُمسكها وهو يُبقبِق في الماء ثم يتركها وهو يَضحك. ترك نفسه يَنغمِس في الاستمتاع مع أصدقائه الجدد الذين كانوا يُفلتون من قبضته ثم يعود فيُمسكهم مرةً أخرى. كل شيء كان يتلوَّى ويَرتعِش؛ يُضيء ويلمع ويتلألأ؛ يلفُّ ويدور؛ بقبقة وزقزقة. وكان الخُلد فرحًا ومبتهجًا؛ مفتونًا ومسحورًا. وعلى جانب ضفة النهر أخذ يتجوَّل سعيدًا كالصغار، كأنه إلى جوار رجل يُحدِّق فيه مشدوهًا ويستمع إلى ما يقصُّه عليه من أفضل القصص وأكثرها تشويقًا. وعندما تعب في النهاية، جلس على الضِّفَّة بينما كان النهر ما يزال يُبقبِق له بقبقة تحكي أجمل ما في هذا العالم من قصص أُرسلَت من قلب الأرض لتُسرَد على ضفاف هذا النهر المتعطش.
وبينما هو جالس على العشب ينظر إلى عرض النهر، رأى جُحرًا مُعتِمًا على الضفة المقابلة، فتلألأت عيناه. كان الجحر فوق منسوب مياه النهر مباشرة، فأطلَق لخياله العِنان ليحلم كم هو جميل ودافئ هذا الجحر، وكم يَصلُح للسُّكنى من حيوان زاهد ذي رغبات معدودة يصبو إلى بيت صغير وأنيق على ضِفَّة النهر؛ بيت مُرتفِع فلا تصل إليه سيول الفيضانات العاتية، وبعيد فلا تزعجه الضوضاء أو يتراكم فيه الغبار. وبينما هو ما يزال مُحدقًا في الجحر، إذ بشيء صغير ولامع يُومِض في وسطه ثم يَختفي، ثم تلألأ مرةً أخرى كنجمة صغيرة. لا يُمكن أن يكون نجمًا بالطبع في مثل هذا المكان، كما أن هذا الشيء صغير جدًّا وذو بريق وهَّاج ليكون حبحابًا أو حشرة سراج الليل. ثم وهو ما زال محدقًا؛ إذ بهذا الشيء يُومِض له. إذن فهذا الشيء هو عين حيوانٍ ما! ثم ما لبث حتى بدأ وجه صغير بالظهور شيئًا فشيئًا حول تلك العين، تمامًا كإطار حول لوحة مرسومة.
وجه بُني صغير ذو شوارب.
وجه جادٌّ مُستدير، وفي إحدى عينيه نفس الوميض الذي جذب انتباهه في المرة الأولى.
وأذنان صغيرتان متناسقتان، وشعر حريري أثيث.
كان «فأرَ الماء»!
وقف الحيوانان وظل كلٌّ منهما يُحدِّق إلى الآخر في حذر.
قال فأر الماء مُحيِّيًا: «مرحبًا بك أيها الخُلد!»
رد عليه الخُلد التحية وقال: «أهلًا بك أيها الفأر!»
سأله الفأر داعيًا له: «أتودُّ أن تأتي وتزور بيتي؟»
رد الخُلد بحدَّة: «لا عليك! يكفي أننا نتحدَّث.» فهو ما زال جديدًا على النهر ونمطِ الحياة على ضفافه.
لم ينبس الفأر ببنْت شفة، ولكن توقَّفَ وفكَّ حبلًا ما وأخذ يَسحبه، ثم خطا على قارب صغير لم يلحظْه الخُلد. كان مطليًّا بالأزرق من الخارج، أما من الداخل فقد كان أبيض اللون. كان يتسع لحيوانين فقط؛ وعلى الفور أُعجب به الخُلد وتعلَّق به قلبه، مع أنه لم يكن يدري بعدُ فيمَ يُستخدم هذا الشيء.
جدَّف الفأر بمهارة ورشاقة بعرض النهر، ثم مدَّ كفه الأمامية إلى الخُلد الذي خطا بحذرٍ إلى الأسفل باتجاه النهر. قال الفأر: «اتكئ على هذا!» ثم قال: «والآن، تقدَّم إلى الأمام!» وفوجئ الخُلد بنفسه جالسًا في مؤخرة قارب حقيقي، وكان في بهجة عارمة.
دفع الفأر القارب بعيدًا عن الشاطئ، وبينما هو يتناول المجدافين قال الخُلد: «هذا يوم من أفضل الأيام! أتعرف أنني لم أركب قاربًا في حياتي قط؟»
قال الفأر متعجبًا فاغرًا فاه: «حقًّا؟ ألم تركب يومًا … قط! حسنًا، ماذا كنت تفعل في حياتك إذن؟»
سأله الخُلد في خجل: «هل ركوب القوارب مُمتعٌ جدًّا كبقية الأشياء هنا؟» مع أنه كان متهيِّئًا ليَستشعِرَ تلك المتعة عندما اتَّكأ على مقعده، وتفحَّص الوثار والمجدافين ومحبسيهما وكل ما على القارب من تجهيزات جذابة، وأحسَّ بالقارب من تحته يتمايل بخفة.
رد عليه فأر الماء بجديةٍ وهو يميل إلى الأمام ليضرب صفحة الماء بمجدافَيه وقال: «مُمتع؟ إنه الشيء الوحيد المُمتِع! صدِّقني يا صديقي الصغير، لا يوجد شيءٌ على الإطلاق يُعادل ولو نصف ما ستَحظى به من متعةٍ عندما تتنزَّه وتقضي وقتك في أحد القوارب.» ثم أضاف على نحو حالم: «تقضي … وقتك … في … أحد … القوارب؛ تقضي …»
صرخ الخُلد محذرًا: «انظر أمامك أيها الفأر!»
كان الأوان قد فات؛ اصطدم القارب بجانب الضفة بكامل قوَّته، وهوى المجدِّفُ الحالم والمرِح واقعًا على ظهره في قعر القارب وقدَماه معلقتان في الهواء.
أكمل ما كان يقوله برباطة جأش، وقد عدل من وضع جسمه وارتسمَت على وجهه ضحكة جميلة: «… وقتك في أحد القوارب، أو تعبث وأنت تقود واحدًا.» ثم قال: «في القارب أو خارجه، لا يهمُّ! لا شيء يهمُّ مطلقًا، وهنا يَكمن سحر الأمر وجاذبيته. سواء أذهبتَ بالقارب بعيدًا أم لا؛ سواء أوصلت إلى وجهتِكَ أم وصلتَ إلى مكان آخر أم لم تَصِل إلى أي مكان إطلاقًا؛ فأنت دائمًا مشغول، وفي الوقت ذاته، أنت لا تفعل شيئًا بعينه. وإذا وجدت شيئًا بعينه لِتَفعله وانتهَيت منه، فستجد حتمًا شيئًا آخر بانتظارك إذا أردت، ولكن لا أنصحُك بهذا. ما رأيك إذن، إن كنت متعطِّلًا هذا الصباح وليس لديك أي مُهامَّ تؤدِّيها، أن نذهب معًا في رحلة عبر النهر ونحظى بوقتٍ رائع؟»
هز الخُلد أصابعَه من فرط السعادة، وانشرح صدره، وأخَذ نفسًا عميقًا مُلئ رضًا وسكينة، ومال بجسده إلى الخلف في غبطة ليَحتضنه الوثار الناعم وقال: «يا له من يوم بهيج! لنَنطلقْ في الحال!»
قال الفأر: «تمسَّك جيدًا للحظات، إذن!» لف حبل القارب على وتدٍ في المكان الذي يرسو القارب فيه، وصعد إلى جُحره بالأعلى، وبعد برهةٍ ظهر مرةً أخرى يَمشي مُتثاقلًا وهو يحمل سلة غداء مصنوعة من الخوص زاخرة بالطعام.
أشار إلى الخُلد وهو يضع السلة في القارب: «ضع هذه بين قدميك.» ثم فك الحبل وتناول المجدافين مرةً أخرى.
سأل الخُلد وعيناه تلمعان في فضول: «ما الذي بداخلها؟»
رد الفأر عليه في اقتضاب وقال: «بها لحم دجاج بارد.» ثم أكمل قائلًا في نفَس واحد: «لسان حيواني بارد، ولحم خنزير بارد، ولحمٌ بقري بارد، وسلطة خيار مخلل، وخبز فرنسي … وشطائر بيض ورشاد، ولحمٌ معلَّب، وجِعَة زنجبيل وعصير ليمون ومياه غازيَّة …»
قال الخُلد وقد غمرتْه السعادة: «كفى! كفى! هذا كثير جدًّا!»
رد الفأر متسائلًا بجدية: «أتظنُّ ذلك حقًّا؟ فهذا هو ما أحمله عادة من مئونة لتلك النزهات القصيرة، وتُخبرني الحيوانات دائمًا أنني حيوان شحيح ولا أُحضِّر للنزهة تحضيرًا كافيًا.»
لم يعِ الخُلد كلمةً واحدة مما كان الفأر يقوله. وبينما كان ذهنه مُنصرفًا إلى تلك الحياة الجديدة التي طرَق بابها للتوِّ وفُتح له، وهائمًا ثملًا بذلك البريق وبأشعة الشمس، وخرير الماء والروائح والأصوات من حوله، وضع إحدى كفَّيْه في الماء وراقبها وهي تَخترق صفحات المياه وانغمس في أحلام يقَظة طويلة. أما فأر الماء على ما كان فيه من شيم الأصدقاء الصالحين الأوفياء، فقد استمر في التجديف ولم يُزعج صديقه.
علَّق الفأر بعد أن مضت نصف ساعة تقريبًا: «تُعجبني ثيابك كثيرًا أيها الشاب. سوف أشتري لي حُلَّةً سوداء أنيقة من القطيفة يومًا ما عندما أملك المال الكافي.»
قال الخُلد وهو يتمالك نفسه بجهد مُلاحَظ: «أستميحُك عذرًا! لا بدَّ وأنك قد ظننت بي أني وقح وغير مهذَّب؛ ولكني جديدُ عهدٍ بكلِّ ما حولي من هذه الأشياء. إذن … هذا … ما يُسمى … نهرًا!»
صحَّح الفأر جملته وقال: «يُسمَّى النهر!»
«وأنتَ تعيش على ضفة النهر إذن؟ يا لها من حياة رغدة بهيجة!»
ردَّ الفأر: «أعيش بجواره ومعه وعليه وفيه! فهو لي كالأخ والأخت والخالة والصديق، ومنه آكُل وأرتوي، وهو (بطبيعة الحال) مَسبَحي! هو عالَمي فلا أبغي له بدلًا؛ ما ليس فيه من أشياء لا قيمة في امتلاكها؛ وما لا يعرفه من أخبار لا فائدة من تحصيلها. يا ألله! أتذكَّر دائمًا أوقاتي معه؛ سواء أكانت في الشتاء أم في الصيف، في الربيع أم في الخريف، كان لكلِّ وقتٍ متعتُه وإثارته. أتذكَّر عندما تحدث الفيضانات في شهر فبراير، وتغمر قبوي وسردابي المياه التي لا جدوى منها بالنسبة إليَّ، وتمر المياه البُنية بجانب نافذتي المفضَّلة في غرفة النوم؛ أو عندما تَنحسِر المياه تدريجيًّا وتترك بقعًا من الطين رائحتها كرائحة كعكة الخوخ؛ وتسد الحشائش والقش مجرى القنوات، وحينها أتجوَّل دون أن تبتلَّ أقدامي في معظم أنحاء قاع النهر لأجد طعامًا طازجًا وأشياء أوقعَها الناس المُهمِلون من قواربهم.»
تجرَّأ الخُلد وسأله: «ولكن ألَا تجد هذا مملًّا أحيانًا؟ أنت والنهر فقط دون أن يوجد أحدٌ لتُحادِثَه؟»
«لا يوجد أحد لأُحادثه … حسنًا! لن أقسو عليك.» رد عليه الفأر بحِلم ورِفق، وأضاف: «أنت جديد على هذه المنطقة، وبالتأكيد لا تعرف. هذه الضفة مكتظَّة بالسكان في هذه الأيام اكتظاظًا دفَع الكثير منهم لأن يَنتقِلوا إلى مكان آخر كليًّا. وا أسفاه! الضفة التي تراها الآن لا تُشبه أبدًا ما كانت عليه في الماضي. إن ثعالب الماء وطيور الرفراف وطيور الغطاس الصغيرة ودجاجات الماء يسعون جميعًا طوال الوقت في الأنحاء، ودائمًا يطلبون منك أن تُسديَ إليهم صنيعًا؛ كما لو أني ليس لديَّ ما أهتمُّ به من شئون خاصة.»
سأل الخُلد وهو يُشير بكفِّه باتجاه غابة بعيدة أحاطتْ بظلالها المروج المائية لإحدى ضفَّتَي النهر: «ما الذي يُوجد هناك؟»
رد الفأر باقتضاب: «هناك؟ تلك هي البراري. ونحن لا نتردَّد عليها كثيرًا؛ فنحن حيوانات تسكن ضفاف الأنهار.»
قال الخُلد ببعض الاضطراب: «أليس … أليس سكان تلك البراري لُطَفاء جدًّا؟»
رد الفأر: «حسنًا! دعْني أرى. السناجب لطيفة، وبعض الأرانب وليس جميعهم؛ فالأرانب جماعة مُختلِطة. ثم هناك، بالطبع، حيوان الغُرير الذي يعيش في وسط البراري. وهو لن يعيش في أي مكان آخر حتى ولو دفعوا له ليَفعل ذلك. يا لهذا الغُرير العجوز المسكين! لا أحد يتعامل «معه»!» ثمَّ أضاف مؤكدًا: «ويجب عليهم ألَّا يفعلوا ذلك.»
سأل الخُلد: «لماذا؟ مَن يُمكن أن يتعامَلَ معه إذن؟»
شرح له الفأر في تردُّد قائلًا: «بالتأكيد، هناك … حيوانات أخرى!» ثم قال: «هناك حيوانات ابن عِرْس والقاقم والثعالب وغيرهم الكثير. جميعهم لطفاء نوعًا ما؛ فأنا شخصيًّا على علاقة طيبة بهم، فنحن نمضي اليوم معًا عندما نتقابَل، لكنهم يهربون أحيانًا ولا يوجد من يُنكر عليهم هذا الأمر؛ لذلك لا يُمكنك أن تَثق بهم، وهذه حقيقة معروفة.»
كان الخُلد يعرف جيدًا أنه ليس من آداب الحديث بين الحيوانات أن يخوض في الحديث عن مشكلة يتوقَّع حدوثها أو حتى يُشير إليها؛ لذلك كف عن الكلام في الموضوع.
وسأل سؤالًا آخر: «وماذا يَقبع خلف تلك البراري؟ حيث كل شيء أزرق وقاتم ويرى الواحد منَّا ما يُشبه التلال أو شيئًا دون ذلك، ويرى دخانًا كأنه دخان القرى، أم إنه سحابٌ مارٌّ في السماء؟»
ردَّ الفأر: «خلف تلك البراري يوجد العالَم الفسيح. وهذا شيءٌ وجوده لا يهمُّني أنا ولا أنت مُطلَقًا. لم أذهب إلى هناك قط، ولن أذهب أبدًا، وكذلك أنت إن كنت ذا عقل رشيد. رجاءً، لا تذكر ذلك المكان مرة أخرى. أما الآن، فها قد وصلنا أخيرًا إلى الماء الراكد حيث سنَتناول غداءنا.»
ابتعدا عن تيار النهر ليَجدا نفسَيهما داخل ما بدا للوهلة الأولى كبُحيرة صغيرة محاطة باليابسة من كل اتجاه. كانت الأرض المُعشَوشِبة تَنحدِر على كلا الجانبين، وجذور الأشجار البُنية والمتعرِّجة تبرق من تحت صفحة المياه الهادئة، بينما كان أمامها الكتف الفضِّي لأحد السدود المائية الصغيرة ذات الزَّبد الرابي، بالتوازي مع ساقية دوَّارة لا تكلُّ ولا تملُّ، والتي تَقبع وراءها طاحونة ذات سقف مسنَّم، يملأْنَ الهواء بصوت عذب لخرير ماء مريح وهادئ، ما زال يسمع معه أصوات حديث ضاحك تعلو بين الفينة والأخرى. كان المنظر بديعًا جدًّا حتى إن الخُلد لم يتمالك نفسه ورفع قائمَتَيه الأماميَّتين في الهواء وأخذ يقول لاهثًا في بهجة: «يا لَلجمال! يا للجمال! يا للجمال!»
دفع الفأر القارب ليَرسو على ضفة النهر وربطه، ثم ساعد الخُلد الأخرق الذي لم يعتدْ حياة النهر بعدُ على الهبوط منه بأمان، ثم أخرج سلة الغداء. توسَّل إليه الخُلد أن يُسديَ إليه معروفًا بأن يتركه يفرغ محتويات السلة كلها بنفسه، ولم يُعارض الفأر وتركه يُشبع رغبته، واستَلقى على العُشب ومدَّد جسده في استرخاء بينما كان صديقه المتحمِّس قد أخرج وبسط مفرش المائدة، ثم أخرج كل ما في السلة من أصناف مخبأة صنفًا صِنفًا، وأعدَّ محتوياتها في ترتيبٍ مناسب وهو ما يزال يقول لاهثًا: «يا لَلجمال! يا للجمال!» كلما أخرج صنفًا جديدًا. وعندما جهزت المائدة، قال الفأر: «والآن، مدَّ يديك والتهم ما طاب لك، يا صديقي!» وكان الخُلد سعيدًا بإطاعة أمرِه؛ فقد بدأ تنظيف الربيع مبكرًا جدًّا هذا الصباح، كما يفعل الجميع عادة، ولم يتوقَّف ليدخل جوفه أي لقمة أو يَروي حلقه برشفة من أي شيء، بل ومرَّ منذ ذلك بالعديد من المواقف والأحداث المُثيرة حتى إنه يبدو له الآن كما لو مرَّ عليه أيامٌ طوال.
عندما أوشكَ أثر الجوع أن يذهب عنهما وتَنكسِر شوكته، واستطاع الخُلد أن يصرف عينيه قليلًا لتتجوَّلا بعيدًا عن مفرش المائدة، سأله الفأر على الفور: «إلامَ تنظر؟»
رد الخُلد: «أنا أُراقب تلك الفقاقيع التي تطفو غادية على صفحة الماء؛ فهذا الأمر يبعث في نفسي السرور والبهجة.»
رد الفأر: «آها! فقاقيع؟» وأخذ يُزقزق في مرَحٍ وعلى نحو مُبهِج.
برز خطمٌ لامع عريض فوق حافة الضفة، ثم سحب ثعلب الماء نفسه ونفض المياه عن مِعطَفه.
ثم قال معلقًا وهو يتَّجه صوب الطعام: «يا لهؤلاء الشحاذين الجَشِعين! لماذا لم تَدعُني إلى مائدتِك، يا فأرون؟»
رد الفأر قائلًا: «كانت نزهة دون سابق إعداد أو تخطيط، ولكن دعْني أُعرِّفك على صديقي الخُلد.»
قال ثعلب الماء: «يسرُّني بالتأكيد لقاؤك!» وهكذا صار الحيوانان صديقَين من فورهما.
أكمل ثعلب الماء ما كان يتذمَّر منه وقال: «الضجة والفوضى في كل مكان! وكأن حيوانات العالم أجمع قد اتَّفقوا على التنزُّه اليوم على ضفتَيِ النهر، فجئت إلى هذه المياه الراكدة لأنعم ببعض الهدوء والسكينة، لكني وجدتُكما هنا أيضًا! أعتذر عن ذلك، لم أعنِ ذلك مطلقًا. أنتما بالطبع تفهمان قصدي.»
سمعوا وراءهم صوت خشخشة عند سياج شُجيرات والتي كانت ما تزال مكسوةً بأوراق السنة الماضية الكثيفة، وكانت هناك رأس مخططة على كتفين عاليتين تسترق النظر وتتلصَّص عليهم.
صاح الفأر: «تعالَ، أيها الغُرير العجوز!»
تقدم الغُرير نحوهم خطوة أو خطوتين ثم نخَر وقال: «ها! تجمُّع!» ثم ولاهم ظهره واختفَى عن الأنظار.
علَّق الفأر المُحبَط وقال: «هكذا هو دائمًا ذلك الغُرير! إنه ببساطة يكره المجتمع! ولن نراه مجددًا لبقية يومِنا هذا. والآن أخبرنا، من يتنزَّه على ضفتي النهر؟»
رد ثعلب الماء: «خُذ عندك. خرج العُلجوم ليتنزَّه في زورقه الجديد؛ لابسًا ثيابًا جديدة وكل شيء آخر كان جديدًا أيضًا!»
نظر الحيوانان أحدهما إلى الآخر ثم انخرَطا في الضحك.
قال الفأر: «بدأ الأمر بقارب شراعي، ثم ملَّ وضجر وانتقل إلى القارب المسطح. لا شيء كان يُسعدُه إلا دفْع ذلك القارب بالمجداف كل يوم طيلة النهار، وتلك الفوضى اللطيفة التي كان يُخلِّفها وراءه. أما السنة الفائتة فقد انشغل بالمنزل العائم واضطررنا جميعًا أن نذهب إليه ونمكُث معه في منزله العائم وأن نتظاهَر بأنه يروق لنا، حتى إنه كان يُخطط لأن يقضي ما تبقَّى من حياته فيه. ولكن أيما شيء شغف به، ما يلبث إلا أن يملَّ منه ويتركه لينشغل بشيء آخر جديد، هكذا هو حاله دائمًا.»
أشار ثعلب الماء وقال وهو مُمعن في التفكير: «لكنه عُلجوم صالح كذلك، يَعيبه عدم الثبات، خاصة في القارب.»
ومن موقعهم الذي كانوا جلوسًا فيه، كان يُمكنهم أن يلمحوا تيار النهر الرئيسي الذي كان يمرُّ بجوار الجزيرة التي كانوا عليها، حيث ظهر زورق فجأة وفيه حيوان قصير ذو جسم سمين، يُجدف تجديفًا سيئًا يُخضخِضُ مياه النهر من حوله، ويترنَّح يمنة ويسرة ترنُّحًا شديدًا، ولكنه يفعل ذلك باجتهادٍ وتفانٍ. وقف الفأر وهتف مُحيِّيًا ذلك الحيوان الذي تبيَّن أنه العُلجوم، ولكن العُلجوم رد عليه بأن حرك رأسه ثمَّ أكمل التجديف في همةٍ ونشاط.
قال الفأر وقد همَّ بالجلوس مرة أخرى: «سيَنقلِب الزورق به إذا استمر في الترنُّح هكذا لدقيقةٍ أخرى.»
ضحك ثعلب الماء ضحكةً خافتةً وقال: «هذا صحيح، سيَنقلِب بلا شك!» ثم أكمل: «هل أخبرتكم يومًا عن تلك القصة الشائقة عما دار بين العُلجوم وحارس هويس النهر؟ لقد حدث الأمر هكذا: كان العُلجوم …»
انحرفت ذبابة نوار شاردة في تزعزع بعرض تيار النهر، وكانت تترنَّح كأنها قد ثملت من الدماء التي تضخُّ في عروق ذباب النوار اليافع الذي خرج لتوِّه إلى الحياة. أثارت حركتها عبابًا على سطح المياه. ثم هوووب! اختفت الذبابة عن الأنظار.
وبالمثل، اختفى ثعلب الماء هو الآخر.
نظر الخُلد لأسفل وطَنينُ الصوت ما زال في أذنيه، ولكن كانت الأرض التي بسط نفسه عليها خاويةً من أي أحد بجواره. ولم يرَ ثعلب الماء ولا حتى على الأفق البعيد.
ولكن كانت هناك مرة أخرى فقاقيع تُبقبِق على سطح مياه النهر.
همهم الفأر هُنيهة، وتذكر الخُلد آداب التعامل بين الحيوانات، وأنه لا يجوز مطلقًا التعليق على الاختفاء المُفاجئ للأصدقاء في أي لحظة، سواء أكان ذلك بسببٍ أم دون سبب.
قال الفأر: «حسنًا، حسنًا! أظن أنه يجب علينا أن نتجهَّز للرحيل. ولكني أتساءل؛ من منا يا تُرى سينال متعة لملمة وحزم سلة الغداء؟» لم يبدُ عليه الحماس ليحظى بتلك المُتعة وهو يتساءل.
صاح الخُلد: «رجاءً دعني أقوم بذلك.» وبالطبع تركه الفأر يفعل ذلك.
لم يكن حزم ولملمة سلة الغداء ممتعًا كما كانت متعة إفراغ محتوياتها. في الحقيقة، ليس في حزم السلة أي متعة مُطلقًا، ولكن الخُلد كان عازمًا على الاستمتاع بكل شيء، مع أنه عندما أنهى جمع الحقيبة وأحكم رباطها، لمح طبقًا يَلمع على العشب؛ وعندما وضعه في الحقيبة وأنهى حزمها مجدَّدًا، لفت الفأر نظره إلى شوكة على الأرض ينبغي لأي كائن أن يُلاحظها، ثم كان قِدْر صلصة الخردل ما يزال هناك خارج السلة دون أن يَدريَ عنه شيئًا. وبطريقة أو بأخرى، انتهت أخيرًا لملمة محتويات السلة دون أن يفقد الكثير من هدوء الأعصاب.
كانت شمس ما بعد الظهيرة توشك على الزوال بينما كان الفأر يجدِّف بتمهُّل باتجاه المنزل في مزاجٍ حالم ويُتمتم ببعض أبيات الشعر ليُسلِّيَ نفسه ولا يُولي الخُلد الكثير من الاهتمام. كان الخُلد متخمًا بعد طعام الغداء ويشعر بالرضا التام وبالاعتزاز، وكان يشعر بالارتياح في ذلك القارب (هكذا ظن)، لكن بدأ يحسُّ ببعض الضجر، فقال للفأر: «فأرون، رجاءً «أريد» أن أجدف الآن!»
هز الفأر رأسه ورسم ابتسامة على فمه وقال: «ليس بعدُ، يا صديقي الصغير! انتظر حتى تتلقَّى بعض الدروس؛ فالأمر ليس هينًا كما يبدو.»
هدأ الخُلد لدقيقة أو اثنتين، ثم انتابه إحساسٌ مُتزايد بالغيرة من الفأر وهو يُجدِّف بقوة وبيسر في الوقت ذاته، ثم تعاظم كبرياؤه وأخذ يوسوس له بأنه يقدر على التجديف بمهارةٍ مثله. قفز من مكانه وقبض على المجدافين على حين غِرَّة من الفأر الذي كان يتأمل ثنايا صفحة المياه ويُدندن أبيات شعر حتى إنه فزعَ مما فعله الخُلد وسقط من مقعده إلى الخلف وقدماه مُعلَّقتان في الهواء للمرة الثانية، بينما استولى الخُلد المبتهج بهذا الانتصار على مقعده وجذب المجدافين بثِقَة عالية.
صرخ الفأر من مكانه في قعر القارب وقال: «توقَّف، أيها الأبله! لن تستطيع التجديف! سيَنقلِب القارب بنا!»
أرجع الخُلد المجدافين إلى الوراء في زهوٍ ورشاقة ثم دفعهما دفعة عظيمة باتجاه الماء، لكنه أخطأ صفحة الماء ولم يصبْ قطرةً منها فطارت قدماه للأعلى فوق رأسه ووجد نفسه مُلقًى فوق جسد الفأر المنبطح. كان مفزوعًا فزعًا شديدًا، فأمسك بجانب القارب، ثم في اللحظة التالية؛ طرااش!
انقلب القارب، ووجَد نفسه يُصارع مياه النهر.
يا إلهي! كم كانت مياه النهر باردة! وكم كان إحساس البلل حاضرًا بشدة والمياه تغمره وتهمس ألحانَها في أذنه كلما نزل لأسفل شيئًا فشيئًا! وكم كانت أشعة الشمس ساطعة ودافئة كلما اقترب صاعدًا إلى السطح وهو يسعل ويُبقبِق! وكم اسودَّت الدنيا في عينيه عندما وجد نفسه يغرق مجددًا! ثم قبضت كفٌّ ذات عزم على مؤخر عنقه وسحبته للأعلى. لقد كانت كفَّ الفأر، وكان من الواضح أنه يَضحك؛ كان الخُلد يشعر بذلك من خلال ذراع الفأر ومن خلال كفِّه المُمسكة برقبته من الخلف.
أمسك الفأر بأحد المجدافين وأزاحه تحت ذراع الخُلد؛ ثم أزاح المجداف الثاني تحت ذراعه الأخرى ثم بدأ يَسبح خلفه وهو يدفع هذا الحيوان الذي لا حول له ولا قوة إلى الشاطئ. وعندما وصَلا إليه، سحبه خارج المياه ووضعه على الضفة حيث كان كتلة بؤس رخوة ومغطاة بالطين.
قال الفأر عندما فرك جسد الخُلد قليلًا ليُدفئه وجفَّف جسده من بعض البلل: «والآن أيها الشاب! هرولْ جَيْئة وذهابًا بأقصى ما لديك في ذلك الممر حتى تشعر بالدفء ويذهب عنك البلل، بينما أنا سأنزل في الماء لأنتشل سلة الغداء من قاع النهر.»
أطاعه الخُلد البائس، وجسده مبلَّل من الخارج، والخجل يَملؤه من الداخل، وهرولَ في ذلك الممر حتى شعر بأن جسده قد جف، بينما نزل الفأر في الماء مجددًا وأنقذ القارب وعدله ثم أحكم ربطه، وجمع محتوياته الطافية ووضعها على الشاطئ الواحدة تلو الأخرى. ثم نزل في الماء مرة أخيرة لينقذ سلة الغداء واستطاع ذلك بنجاح وعانى أشد العناء حتى يسحبها إلى الضفة.
وعندما صار كل شيء في مكانه وعلى استعداد للانطلاق مرة أخرى، تقدم الخُلد ببطء وهو مغتم وجلس في مقعده في مؤخر القارب. وبعد أن شرعا مستكملين رحلتهما، قال بصوت خفيض ومنكسر يشوبه الحزن: «فأرون، يا صديقي المعطاء الكريم! أنا نادم أشد الندم على سلوكي الطائش والجاحد لمعروفك. ولا أجد في قلبي سوى الحزن والأسف عندما أفكر كيف كنت سأفقد سلة الغداء الرائعة الجمال تلك. بلا شك، لقد كنت شديد الحمق، وأنا أعترف بذلك. فهلا غفرتَ لي وغضضتَ طرفك عما حدث، ولا تدعه يُعكِّر صفونا السالف؟»
رد الفأر عليه في مرح وقال: «لا عليك يا صديقي، بارك الله فيك! هل يضير بعض البلل فأر الماء؟ إنني، في معظم الأيام، أقضي جلَّ وقتي في الماء وقليل منه على اليابسة. لا تشغل بالك وتفكر في الأمر أكثر من ذلك. المهم، ما رأيك في الاقتراح التالي؟ أنا أظن أنه من الأفضل لك أن تأتيَ وتقضيَ بعض الوقت معي في بيتي. هو بيت بسيط لا فخامة فيه ولا ترف — كما هو الحال بالنسبة إلى بيت العُلجوم — ولكنك لم ترَه بعد. سأُحاول توفير كل سبل الراحة لك، وسأُعلِّمك التجديف والسباحة حتى تصبح بسرعة بارعًا في التعامل مع الماء كأيِّ واحد مِنا.»
تأثر الخُلد بشدة بكلام الفأر ولطفه في التعامل، حتى إن لسانه قد عُقد، فلم يستطع له ردًّا، ولم يتمالك نفسه إلا وهو يمسح بظهر كفِّه دمعة أو دمعتين ذرفتهما عيناه. جال الفأر بنظره بعيدًا بدافع العطْف والأدب، وارتفعَت معنويات الخُلد مرة أخرى حتى إنه كان قادرًا على أن يردَّ ردًّا لاذعًا على دجاجتَي ماءٍ كانتا تَضحكان في سخرية من مظهره المبلَّل والموحل.
عندما وصَلا إلى البيت، أشعل الفأر نارًا متوهجة للتدفئة في الردهة، وأجلس الخُلد على كرسي ذي مسندَين أمامها، ثم ذهب ليحضر له رداء نوم وخفًّا، وأخذ يقصُّ عليه قصصًا عن النهر حتى موعد العشاء. كانت قصصًا مُثيرة جدًّا بالنسبة إلى حيوان يَسكن في باطن الأرض كالخُلد. كانت القصص تدور حول السدود الصغيرة والفيضانات المفاجئة وسمك الكراكي القافز، والبواخر التي تَقذف القنينات الزجاجية؛ كانت هناك قنينات زجاجية بالفعل آتية من تلك البواخر؛ لذلك يظن أنها من قذفتها على الأرجح. كما كانت القصص تدور حول مالك الحزين، ذلك الطائر الذي كان يَنتقي من يتحدث إليه بعناية، وحول مغامرات البالوعات والمجاري، ورحلات الصيد الليلية مع ثعلب الماء أو التنزُّه بعيدًا في البراري مع الغُرير. كان طعام العشاء وجبة مرحة، ولكن لم يَمضِ من الوقت الكثير حتى كان الخُلد الناعس بشدة يُقاد إلى الطابق العلوي بيد مُضيفِه الشفوق إلى أفضل غرفة نوم حيث سرعان ما أراح رأسه على وسادةٍ في طمأنينة وسلام عظيمَين، وهو يعلم أن النهر؛ ذلك الصديق الذي اكتشفه حديثًا، كان يجري على حافة نافذة غرفته.
كان هذا اليوم واحدًا من أيام مُتماثلة كثر مرَّت على الخُلد الذي تحرَّر من باطن الأرض، وكان كل يوم أطول من سابقه ومليئًا بالرغبة والولع بينما كانت تباشير فصل الصيف تدنو شيئًا فشيئًا. تعلَّم السباحة والتجديف وانفتح على المياه الجارية وما بها من مرح وسرور، ونقلت عيدان البوص إلى أذنيه، على فترات، شيئًا مما كانت الرياح تَهمِس به باستمرار وهي تتخلَّلها.