مزيد من مغامرات العُلجوم
كانت الفتحة الأمامية لجُحر الشجرة المجوَّفة باتجاه الشرق؛ لذلك استيقظ العُلجوم في ساعةٍ مبكرة؛ فقد غمرتْه الشمسُ المشرقة بأشعَّتها من جانب ومن جانب آخر زادَت بشدةٍ برودة أصابع قدميه مما جعله يحلم بأنه كان في بيته نائمًا في سريره بغرفته الأنيقة ذات النافذة التي على الطراز التيودوري في ليلة شتوية باردة، وفجأة أخذت ألحفة السرير وأغطيته تتذمَّر وتحتج وتشتكي إليه بأنها لا تستطيع تحمُّل هذا البرد بعد الآن، ثم ركضَت وهبطَت الدرجَ ذاهبةً إلى مدفئة المطبخ لتُدفئ نفسها، وتبعها العُلجوم حافَي القدمين وهو يخطو أميالًا بعد أميال من الممرات ذات البلاط الحجري المثلَّج ويُخاطبها تارة ويتضرَّع إليها تارة أخرى بأن تنظر للأمر بعين العقل. كان على الأرجح سيَستيقِظ قبل ذلك بمدةٍ طويلةٍ لولا أنه قضى عدة أسابيع ينام على سرير من القش على بلاط حجري حتى كاد يَنسى الشعور اللطيف للحاف سميك يُغطي جسده تغطية محكمة حتى الذقن.
اعتدل جالسًا وفرَك عينيه ثم دلَّك أصابع قدميه التي تئنُّ من الألم. تعجَّب لوهلة وتساءل أين هو، وأخذ ينظر حوله يبحث عن الجدار الحجري والنافذة الصغيرة ذات القضبان المألوفة، لكن انتابه شعور مفاجئ بالغبطة ذكَّرَه بكل شيء؛ ذكره بهروبه وبفراره من مُلاحِقيه، وذكره بأحلى وأهم شيء وهو أنه حرٌّ طليق.
حر طليق! كان وقع هاتين الكلمتين والشعور الذي تُضفيانه وحدهما يساوي خمسين لحافًا. شع جسده حرارة من رأسه إلى أخمص قدمَيه عندما تخيَّل العالم الخارجي وما به من مباهج وهو يَنتظره على أحر من الجمر ليقدم في موكب النصر وهو على استعداد لخدمته وتملُّقه، وفي شوق لمساعدته وصُحبتِه، كما كان الحال دومًا في الأيام الخوالي قبل أن يُصيبَه سوء الحظ. نفض جسده وخلَّل بأصابعه بين شعره فأزال أوراق الأشجار الجافة منه. وعندما اكتمل هندامه، خَطا بهمَّةٍ تحت أشعة شمس الصباح الدافئة. كان يرتجف بردًا لكنه كان واثق الخُطا؛ كان يتضوَّر جوعًا لكنه كان مفعمًا بالأمل، وبدَّد نور الشمس الساطع والمشجِّع بعد قسط النوم والراحة كلَّ هلع وذعر انتابه بالأمس.
في ذلك الصباح الصيفي الباكر، ملك العالم كله وآثر به نفسه. كانت الغابة الندية ساكنة وخالية وهو يشق طريقه فيها بحذر، والمروج الخضراء التي أعقبت الأشجار كانت ملكًا له يفعل بها أيما شاء. حتى الطريق، عندما وصَل إليه والوحدة القاتلة مُتفشية في كل مكان، بدا كالكلب الضال الذي يبحث بلهفة عن رفقة، لكن العُلجوم كان يبحث عن كائن يستطيع أن يتكلم ليُخبره بوضوح أي طريق عليه أن يسلك. لا بأس للمرء، الذي يكون ذا قلب طروب وخالي البال ومرتاح الضمير والنقود تملأ جيوبه ولا أحد يفتش البلدة بحثًا عنه ليجرَّه إلى السجن مرة أخرى، أن يتبع الطريق إلى حيث يقوده ويوجهه غير عابئ بالعواقب. أما العُلجوم العملي، فلم يكن كذلك، وكان يودُّ لو يُعاقِب الطريق على صمته وتخاذُله عن نصرته حين كانت كل دقيقة مهمة بالنسبة إليه.
سرعان ما انضمَّت إلى الطريق الريفي المتحفِّظ أخت له صغيرة وخجولة عبارة عن قناة مائية، أخذت بيده وسارت الهوينى بجانبه في ثقة تامة. كانت القناة كأخيها في صمته وسلوكه المتحفِّظ تجاه الغرباء. قال العُلجوم مناجيًا نفسه: «سحقًا لهما! على أي حال، تبقى حقيقة واحدة واضحة كالشمس، وهي أنهما يَبدآن في مكانٍ ما ويَنتهيان في مكان ما. وهذا ما لا يُمكنك تغييره يا عُلجوم يا ولدي!» ثم تابع سيره في صبر بجانب حافة الماء.
من وراء منعطَف للقناة، أتى جواد وحيد يتهادى في مشيتِه وقد طأطأ رأسه كأنه غارق في التفكير. ومن وراء الحبال المعلَّقة في طوقه، امتدَّ حبل طويل مشدود، لكنه كان يَتراخى كلما مشى الحصان. وكان الطرف البعيد من هذا الحبل يقطر ماءً يراه الرائي كأنه لؤلؤ. ترك العُلجوم الحصان يمرُّ ثم وقف منتظرًا ليعرف أي هدية أرسلها له القدر.
انزلق الزورق مُقتربًا منه ومقدمته العريضة تتقدَّم مخلِّفة حراكًا لطيفًا في الماء الراكد. كانت الحافة العليا من جانب الزورق مَطلية بلونٍ زاهٍ وفي مستوى الطريق الترابي، وراكبته الوحيدة امرأة ضخمة بدينة تَعتمِر قلنسوة شمسية من الكتان، وإحدى ذراعيها القويتين تمتدُّ فوق ذراع دفة الزورق.
قالت للعُلجوم وقد أبطأت من الزورق لتُسايره في مشيته: «يا له من صباح جميل، يا سيدتي!»
ردَّ العُلجوم بأدب وهو يسير بجانبها على الطريق الترابي: «صدقت! إنه صباح جميل يا سيدتي! صباح جميل لهؤلاء الذين لا تحوم المصائب فوق رءوسهم كما تحوم فوق رأسي! فلقد استلمتُ خطابًا من ابنتي المتزوِّجة تستحثُّني فيه للذهاب إليها في أسرع وقت، وها أنا ذا في طريقي إليها. لا أعرف ماذا حدث أو ما الذي سيَحدث، وأخشى ما أخشاه أن تكون قد وقعت في مشكلة كبيرة، أظنُّكِ ستتفهَّمين الأمر إن كنتِ أمًّا مثلي يا سيدتي! خلفتُ عملي بلا راعٍ؛ فأنا كما تلاحظين يا سيدتي أعمل في مجال غسيل الثياب وكيِّها، وتركتُ أطفالي الصغار ولا مولى لهم؛ ولا أعلم يا سيدتي من أطفال على وجه الأرض يُماثلونهم في شغبهم وجلبهم للمتاعب! وقد فقدتُ كل نقودي يا سيدتي وضللتُ طريقي، ولا أطيق أن أفكر في حال ابنتي المتزوجة وما آل إليه مصيرها!»
سألت المرأة التي تقود الزورق: «وأين تعيش ابنتك المتزوِّجة هذه يا سيدتي؟»
رد العُلجوم: «تعيش قرب النهر يا سيدتي! قرب قصر بهيٍّ في مكان بهذا الجوار يُسمى قصر العُلجوم. ربما قد سمعتِ به من قبل يا سيدتي!»
ردت المرأة صاحبة الزورق: «قصر العُلجوم؟ سأمرُّ على ذلك الطريق في رحلتي! فهذه القناة ستَلتقي بالنهر بعد عدة أميال من هنا، قرب قصر العُلجوم. وهناك من السهل عليكِ أن تسيري هذه المسافة. هيا اصعدي إلى الزورق معي وسأُوصِّلك إلى هناك.»
وجهت الزورق قرب الضفة، وتقدم العُلجوم فصعد بخفَّةٍ على متنِه وهو يتفوَّه بعبارات الامتنان والشكر، وجلس في ارتياحٍ شديد ثم قال مُحدثًا نفسه: «ها هو حظ العُلجوم يبرق من جديد ويضعه في المقدمة كالعادة!»
قالت المرأة صاحبة الزورق بأدب وهما ينسابان بالزورق إلى عرض القناة: «إذن، أنتِ تعمَلين في مجال غسيل الملابس يا سيدتي، أليس كذلك؟ يا له من عمل مُثمِر ذاك الذي تعملين. أستميحُكِ عذرًا إن كنتُ قد تماديت في قولي هذا!»
قال العُلجوم بحيوية: «أفضل عمل في البلد كله! عِلية القوم جميعهم يطلبون خدماتي، ولن يُفكِّروا بالذهاب إلى أي شخص آخر حتى ولو دفع لهم مالًا؛ فهم يعرفون جودة خدماتي! فأنا أفهم عملي وأقوم به بدقةٍ وإحكامٍ وأرعاه بنفسي. الغسيل والكي وتنشية الملابس وتجهيز أفضل ثياب السادة ليرتدوها في أمسياتهم. كل شيء يُنفَّذ تحت إشرافي!»
سألتها المرأة بأدب: «ولكن مؤكَّد أنك لا تُنجِزين كل تلك الأعمال بنفسكِ يا سيدتي، أليس كذلك؟»
رد العُلجوم بلطْف: «لديَّ فتيات يساعدنني. عشرون فتاة تقريبًا يقضون جلَّ وقتهم في العمل! ولكنكِ تعرفين طباع الفتيات يا سيدتي! هؤلاء البذيئات الوقِحات الصغيرات؛ هذا ما أدعوهنَّ به دائمًا!»
ردت المرأة صاحبة الزورق بحماس وقالت: «أجل! أنا أيضًا أدعوهنَّ بذلك! ولكن أظن أنك قد قوَّمتِ بناتك؛ هؤلاء الكسولات القذرات، وأرشدتهن إلى الطريق الصحيح! ولكن أتُحبِّين مجال غسيل الملابس؟»
أجاب العُلجوم: «نعم! فأنا شغوفة به حد الجنون. أسعد لحظات حياتي هي حين أغمس ذراعي الاثنتين في حوض الغسيل. وحينها يكون كل شيء سهلًا وبسيطًا! لا عناء مطلقًا، بل متعة حقيقة! أنا أؤكد لكِ ذلك يا سيدتي!»
ردَّت المرأة بتمعن: «أنا محظوظة أني قابلتكِ! ضربة من ضربات الحظ السعيد لكلتَينا!»
سألها العُلجوم في ارتباك: «لماذا؟ ما الذي تقصدينه؟»
ردت المرأة وقالت: «حسن، استمعي إليَّ! أنا أحب غسيل الملابس مثلكِ تمامًا، ولكن في حالتي أنا؛ فسواء أحببتُه أم لا، عليَّ أن أُنجز كل شيء بيدي هاتين، وبالطبع بينما أنا أتنقَّل بالزورق كما أفعل الآن. أما زوجي، فيا له من رجل حقير؛ فهو يتهرَّب من عمله ويدع أمر هذا الزورق لي، فلا أجد وقتًا ولو دقيقة لأهتم بشئوني الخاصة. من المفترض أن يكون معي الآن هنا، إما يقود القارب أو يَعتني بالجواد، ولكن لحسن الحظ أن الجواد لديه ما يكفي من العقل ليَعتنيَ بأمر نفسه. وعِوضًا عن ذلك، انطلق مع الكلب ليرى إن كان بمقدورهما أن يَصطادا أرنبًا للعشاء من مكانٍ ما، وقال إنه سيلحق بي عند الهويس المقبل! قال ذلك وهو يقصد ربما يَلحق بي؛ فأنا لا أثق به عندما يخرج مع ذلك الكلب الذي هو أسوأ منه. ولكن في الوقت الحالي، كيف لي أن أنتهي من غسيل ملابسي؟»
قال العُلجوم وهو يحاول تغيير الموضوع: «انسي أمر غسيل الملابس هذا! وصبِّي كل تركيزكِ على ذلك الأرنب. أكاد أجزم أنه سيكون أرنبًا سمينًا وصغير السن. هل عندك بصل؟»
قالت له المرأة: «لا أقدر على التفكير في أمرٍ سوى غسيل ملابسي! وأتعجب كيف تتحدَّثين عن الأرانب وأمامكِ متعة لا تفوَّت. ستَجدين كومة من ثيابي هناك في ركن من أركان القمرة. فهلا تكرَّمتِ وانتقيتِ قطعة أو قطعتين من الملابس الأساسية ثم تضعينهما في حوض الغسيل بينما نحن في طريقنا؛ ولن أجرؤ أن أصف لسيدة في مثل خبرتكِ أي ثياب أحتاج؛ فبالتأكيد ستتعرَّفين عليهما فور رؤيتهما. وهكذا ستكونين في غاية سعادتكِ وأنتِ تغسلين تلك الملابس كما ذكرت قبلًا، وفي الوقت نفسه تمدِّين يد المساعدة لي. ستَجِدين حوض الغسيل في متناول يدكِ والصابونة وقدرًا من الماء أعلى الموقد، ودلوًا لترفعي به الماء من القناة. هكذا سأطمئن أنكِ تَستمتِعين بوقتكِ بدلًا عن الجلوس بلا عمل وإضاعة الوقت بالتحديق في هذه المناظر الطبيعية والتثاؤب.»
قال العُلجوم وقد ارتعدت أوصاله من الخوف: «إذن، دعيني أوجه الزورق! وبذلك يُمكنكِ أن تتفرَّغي لغسل ثيابكِ بالطريقة التي تفضلينها؛ فأنا قد أفسدها أو أغسلها غسيلًا لا يرضيكِ. فأنا معتادة على غسل ملابس الرجال؛ فهذا هو تخصُّصي المحبب!»
ردَّت المرأة صاحبة الزورق وهي تضحك: «أدعكِ تُوجِّهين القارب؟ يتطلَّب توجيه زورق كهذا توجيهًا جيدًا بعض التدريب، كما أنه عمل رتيب ومُمل، وأنا أريدكِ أن تَستمتِعي بوقتكِ. لا! ستعملين العمل الذي تُحبِّينه وهو الغسيل، وسأبقى أنا هنا أباشر العمل الذي أبرع فيه وهو توجيه الزورق. لا تُحاولي أن تحرميني شرف أن أمنحكِ هذه الهدية الصغيرة!»
وجد العُلجوم نفسه في مأزق. بحث عن مهرب هنا أو هناك، ولكنه رأى الضفة بعيدة جدًّا ليُحاول أن يثب وثبة طائرة، فأذعن لمصيره المحتوم مقطِّبًا جبينه في عبوس. قال لنفسه في يأس: «إن كنتُ لا بدَّ فاعلًا، فأظن أن أي أحمق يُمكنُه غسل الملابس!»
أحضر الحوض والصابونة وجميع ما يحتاجه من القمرة، ثم اختار عدة قطع من الثياب عشوائيًّا وحاول أن يتذكَّر ما رآه في لمحة عارضة ذات مرة عندما نظر خلال نوافذ أماكن الغسيل. ثم جلس وبدأ الغسل.
مرَّت نصف ساعة، وفي كل دقيقةٍ من دقائقها كان العُلجوم يزداد ضيقًا. لا شيء مما في جَعْبته يبدو أنه كان يُرضي تلك الثياب أو يجدي معها. حاول مرة بالملاطفة، ثم لجأ إلى الصفع والضرب واللكم، لكنها كانت تتبسَّم في وجهه من داخل حوض الغسيل سعيدة بحالها القذرة ولم تتغير فيها كسرة واحدة. حاول مرة أو مرتين أن ينظر في قلق من فوق كتفه إلى الخلف باتجاه صاحبة الزورق، لكنها كانت تحدِّق في شيء ما أمامها ومنهمكة في توجيه الزورق. بدأ ظهره يؤلمه ألمًا مبرحًا، ثم لاحظ في رعبٍ أن أنامل كفَّيه بدأت كلها تتجعَّد. كان العُلجوم فخورًا بكفيه قبل الآن. نبست شفتاه كلمات لا يجدر بأن تخرج من فم امرأة تغسل الملابس ولا عُلجوم، ثم انزلقت الصابونة من بين أصابعه للمرة الخمسين.
أفزعه صوت ضحك عالٍ فجعله ينتصب وينظر خلفه. وجد المرأة تميل إلى الخلف وهي تَنفجِر من الضحك حتى دمعتْ عيناها وسالت دموعها على خدَّيْها.
قالت المرأة لاهثة: «كنتُ أراقبكِ طيلة الوقت. ظننتُ أنكِ محتالة بلا شك بعد طريقتكِ المُتعجرِفة التي تحدثتِ بها، ولكن يا لكِ من غسالة ملابس مُذهِلة! أقسم أنكِ لم تغسلي شيئًا في حياتكِ ولو حتى منشفة صحون!»
انفجر العُلجوم واستشاط غضبه الذي كان يكظمه بداخله لمدة طويلة، ففقد السيطرة على نفسه تمامًا.
صاح منفجرًا: «أيتها المرأة السوقية السمينة الوضيعة! كيف تجرؤين على الحديث مع أسيادكِ بهذه الطريقة؟! تظنِّينني غسالة ملابس؟ إذن، آن لكِ أن تعرفي أني أنا العُلجوم! عُلجوم مُبجَّل ذائع الصيت ويحترمه القاصي والداني! ربما أكون موضع شبهاتٍ في الوقت الحالي، ولكن لن أسمح بأن تسخر مني سائقة زورق!»
اقتربت المرأة أكثر وحدَّقت به عن كثب من تحت قلنسوته تحديقًا ثاقبًا، ثم صاحت: «ها أنت ذا! يا إلهي، كيف لي أن أفعل هذا! إنه عُلجوم مقرف وبشع مروِّع! وفي زورقي النظيف والجميل! هذا شيء لا يُمكنني السكوت عليه!»
تخلَّت عن ذراع دَفَّة الزورق لوهلة، ثم امتدَّت يد ضخمة قذرة وقبضت على العُلجوم من إحدى ساقيه الأماميتين، بينما امتدت اليد الأخرى وأمسكت بإحكام بإحدى ساقيه الخلفيَّتين. وهكذا قُلب العالم فجأة رأسًا على عقب، ورأى العُلجوم الزورق كأنما يرفرف برشاقة في السماء وصفير الرياح يدوي في أذنيه، ثم وجد العُلجوم نفسه يطير في الهواء ويدور حول نفسه بسرعة.
عندما ارتطم بالماء في النهاية مُصدرًا صوتًا عاليًا، تبيَّن له أن الماء بارد جدًّا ولا يُناسبه، ومع ذلك لم تكن برودته كافية لتطفئ نار كبريائه المستعرة أو تخمد حرارة ثورته الغاضبة. صعد إلى سطح الماء وهو يغمغم وعندما أزاح حشائش عدس الماء عن عينيه، كان أول شيء وقع عليه نظره هو تلك المرأة البدينة صاحبة الزورق وهي تنظر إليه من مؤخرة الزورق المنسحب وهي تضحك. حينها أقسم العُلجوم وهو يَسعل ويكاد يختنق أن يردَّ لها الصاع صاعين.
أخذ يَضرب الماء باتجاه الشاطئ، لكن الثوب القطني أعاق جهوده بشدة. وعندما وصل بعد جهد ولمس اليابسة بيديه، كان من الصعب عليه أن يتسلق الضفة المنحدرة دون مساعدة، فارتاح دقيقة أو اثنتين استعاد فيهما أنفاسه ثم تسلق. بعد ذلك، جمع أطراف تنورته المبلَّلة ورفعها لأعلى ثم أخذ في الركض خلف الزورق بكل ما تبقى في قدمَيه من قوة، وشرر الغضب يتطاير من عينَيه وحلقه متعطِّش للانتقام.
كانت صاحبة الزورق ما تزال تضحك عندما وصَل بمحاذاتها. نادت عليه وقالت: «اذهبي وجفِّفي نفسكِ في آلة التجفيف يا غسالة الملابس، ثم اكوي وجهكِ وجعِّديه وحينها ربما تبدين كعُلجوم ذي مظهر حسن!»
لم يتوقف العُلجوم عن الركض ليرد عليها؛ فقد كان يُريد انتقامًا يَشفي غليل صدره، لا انتصارات كلامية تافهة لا قيمة لها مع أنه كان يدور في رأسه جملة أو جملتان يود لو قالهما لها. كان يرى انتقامه الذي أراده أمام عينيه. ركض سريعًا حتى أدرك الجواد، ففكَّ حبل الجر وطرحه ثم قفز قفزة رشيقة اعتلى بها ظهر الجواد وضربه في جانبَيه بقوة ليحثه على العدْو. ترك الطريق الجانبي واتجه إلى الحقول الواسعة ثم قاد حصانه عبر حارة ضيقة متعرجة. ألقى نظرة خلفه فرأى أن الزورق قد رسا على الجانب الآخر للقناة وأخذت المرأة تصيح وتشير بيدَيها بعنف وهي تقول: «توقف! توقف! توقف!» سمعها العُلجوم فقال ضاحكًا: «سمعتُ هذه الأغنية من قبل!» ثم أكمل نكز حصانه ليُكمِل انطلاقته الجامحة.
لم يكن جواد صاحبة الزورق قادرًا على بذْل مجهود مُتواصِل لمدة طويلة، وسرعان ما بدأ عدْوُه يضعف شيئًا فشيئًا حتى صار خببًا، ثم صار الخبب مشيًا خفيفًا، لكن العُلجوم كان راضيًا عن ذلك؛ فقد كان يعرف أنه مهما كانت السرعة، فعلى الأقل هو يتحرَّك، أما الزورق فلا. كان قد استعاد رباطة جأشِه استعادةً شبه كاملة؛ فقد فعل ما كان يَحسبه شيئًا بارعًا. وكان مسرورًا بالتريض تحت الشمس في هدوء، وهو يقود الجواد على طول الطرق الفرعية وممرات الخيل ويُحاول أن يتناسى كم مر من زمن منذ أن تناول آخر وجبة مشبعة، حتى ابتعد عن القناة وترامت وراءه بعيدًا.
كان قد قطع بعض الأميال هو وجواده وأخذ يغشاه النعاس تحت لهيب أشعة الشمس، حين توقف الجواد وحنى رأسه وبدأ يقضم من حشيش الأرض. استيقظ العُلجوم وأخذ يُحاول جاهدًا أن يحافظ على توازنه كي لا يسقط. نظر حوله فوجد نفسه في حقل فسيح تتناثر فيه نباتات ثمرة العليق والجولق على مد بصرِه. وعلى مقربة منه، كانت تقف مقطورة قديمة وبجانبها يجلس غجريٌّ على دلوٍ مقلوب وكان منهمكًا في التدخين والتحديق في العالم الفسيح أمام ناظرَيه. بجانبه، كانت هناك كومةٌ مشتعلة من الأغصان وفوقها قدر حديدي تخرج من فوهته فقاقيع الغليان وبقبقته، وبخار ذو رائحة غريبة ومثيرة. كانت تفوح منه روائح دافئة وغنية ومتنوعة، والتي امتزجَت معًا واختلطَت ثم اندمجَت لتصير في النهاية رائحة واحدة تُبهج الحواس وتُدغدغ المشاعر؛ رائحة ذكية كانت كأنها روح الطبيعة الأم التي تتجسَّد وتظهر لأولادها؛ كأنها إلهة حقة؛ أم تواسيهم وتخفِّف عنهم. أدرك العُلجوم الآن جيدًا أنه لم يَجُع قبل اليوم قط، وما كان يشعر به من جوع خلال أيامه الخوالي كان مجرد إحساس تافه. كان ذاك هو إحساس الجوع الحقيقي بلا شك، وكان عليه أن يسدَّه سريعًا وإلا حاقت المتاعب بأحدٍ ما أو بشيء ما. نظر إلى الغجري نظرة متفحِّصة وتساءل بشرودٍ عمَّا إذا كان من الأسهل أن يُصارعَه أم يداهنه. وهكذا جلس مكانه يشتم ويستنشق عبق الرائحة ويحدِّق بالغجري؛ أما الغجري فقد ظلَّ جالسًا يُدخن وقد أخذ ينظر إليه.
أخرج الغجري غليونه من فمه ثم قال بلا اكتراث: «أتبيعيني ذلك الجواد الذي تملكين؟»
ذُهل العُلجوم وانتابتْه الدهشة من ذلك الطلب. لم يكن يعرف أن الغجر مولعون جدًّا بتجارة الخيل ولا يُفوِّتون أي فرصة لعقد الصفقات، فلم يلحظ أو يُفكر أن مقطورات الغجر كانت دائمة الترحال وتتطلَّب مقدارًا ضخمًا من الجر. لم يخطر بباله من قبل أن يُبادل المال بالحصان، لكن العرض الذي قدمه الغجري بدا أنه قد سهل الطريق ومهَّده أمام الشيئين اللذين أرادهما العُلجوم على نحو ملحٍّ؛ النقود والفطور الشهي المشبع.
قال العُلجوم: «ماذا؟ أتريدني أن أبيعَك جوادي الشاب الجميل؟ كلا، هذا مستحيل! فما الذي سيُرجع الملابس إلى منازل زبائني كل أسبوع؟ هذا إلى جانب أني أحبُّه حبًّا جمًّا وهو متعلِّق بي بشدة.»
رد الغجري: «جرِّبي أن تُحبِّي حمارًا! الكثير من الناس يفعلون ذلك.»
أكمل العُلجوم كلامه وقال: «يبدو أنك لا تُدرك أن حصاني هذا أفضل نوعًا وأنقى سلالةً منكم جميعًا. فهو ذو سلالةٍ ونسب عريقَين جزئيًّا، وهذا هو الجزء الذي لا تراه عيناك بالطبع. حصاني هذا فاز بجائزة أحصنة الهاكني أيضًا في مقتبَل عمره، وهذا قبل أن تراه الآن، ولكن يُمكنك أن ترى ذلك باديًا عليه من أول لمحةٍ إن كنتَ تَعرف ولو أقل القليل عن الأحصنة. لا يا سيدي، لا يُمكنني التفكير في عرضك هذا ولو لوهلة. ولكن فرضًا أني سأبيعُك إياه، فكم تُعطيني مقابل جوادي الكريم الشاب هذا؟»
تفحَّص الغجري الجواد ثم نظر إلى العُلجوم بنظرة متفحصة مماثلة، ثم أمال بصره إلى الجواد مرة أخرى. وقال باقتضاب وهو يُشيح بوجهه مستكملًا تدخين غليونه ومحاولًا أن يحدِّق في الفضاء الرحب المترامي أمامه ليتفادى أي إحراج: «سأُعطيكِ شلنًا لكل رِجْل!»
صاح العُلجوم: «شلنًا لكل رِجْل؟ إذا سمحت، عليَّ أن آخذ وقتي لأحسب المجموع وأرى كم يساوي عرضك هذا.»
تدلى العُلجوم من فوق الجواد وتركه يرعى، ثم دنا من الغجري وجلس بجواره. حسب المجموع على أصابعه ثم قال عندما انتهى: «شلنًا لكل رِجل؟ هذا يعني أربعة شلنات بالضبط. أوه، لا؛ لم يخطر ببالي قطُّ أني سأرضى بأربعة شلنات لقاء جوادي المليح الشاب هذا!»
رد الغجري وقال: «إليكِ قولي إذن. سأزيد السعر إلى خمسة شلنات، وهذا أكثر من قيمة الحيوان بثلاثة شلنات وستة بنسات. هذا هو عرضي الأخير.»
جلَس العُلجوم ودخل في تفكير طويلٍ وعميق؛ فقد كان يتضوَّر جوعًا ومفلسًا لا يملك بنسًا واحدًا، وكان طريقه إلى بيته ما يزال طويلًا، لكنه لم يعرف كم تبقَّى تحديدًا كي يصل إليه، والأعداء يتربصون به من كل جانب. كانت الخمسة شلنات لحيوان في مثل موقفه تبدو كثروةٍ من المال، ولكن من جهة أخرى، كان مبلغًا زهيدًا جدًّا في مقابل حصان. فكر في الأمر مرة أخرى ليجد أن الحصان لم يُكلفه بنسًا واحدًا؛ لذلك أي مبلغ من المال يحصل عليه كان ربحًا صافيًا له. قال أخيرًا بنبرةٍ حازمة: «اسمعني جيدًا أيها الغجري! إليكَ تفاصيل الصفقة، ولتعتبرها كلمتي الأخيرة. ستُعطيني ستة شلنات وستة بنسات نقدًا في يدي، بالإضافة إلى ذلك، ستُقدِّم لي فطورًا ليوم واحد وسآكل حتى تمتلئ بطني من ذلك القدر الحديدي الذي ما فتئ يبعث تلك الروائح التي تدرُّ اللعاب وتفتح الشهية. وفي المقابل، سأُسلِّمك حصاني الشاب النشيط والمفعم بالحياة، وكل ما عليه من لجام وسرج وأحزمة مجانًا. وإن لم يُعجبك عرضي هذا، فأخبرني وسأمضي في طريقي. فأنا أعرف رجلًا على مقربةٍ من هنا لطالَما أراد شراء جوادي هذا.»
غمغم الغجري ممتعضًا وقال إنه لو عقد عدة صفقات مثل هذه، فلسوف يُفلس. ولكن في النهاية رضخ وأخرج كيسًا قماشيًّا قَذِرًا من أعماق جيب سرواله وأعطى العُلجوم ستة شلنات وستة بنسات في كفه. ثم اختفى داخل مقطورته للحظات وعاد بصحن حديدي كبير وملعقة وسكين وشوكة. أمال القدر فتدفَّق سيل من اليخني الساخن الدسم يبقبق في الطبق. كان ذلك هو اليخني الألذ طعمًا في العالم بأسره؛ فكان مطهوًّا من الدجاج وطيور الحجل والديوك البرية والأرانب البرية والداجنة وإناث الطاووس والدجاج الحبشي وشيء آخر أو شيئين. أخذ العُلجوم الصحن في حجره والدموع تكاد تفر من عينيه، فأخذ يأكل ويَلتهم ويحشو معدته، ثم يطلب المزيد والمزيد، ومع ذلك لم يضنَّ الغجري عليه بما طلب. شعر العُلجوم حينها أنه لم يتناول فطورًا بمثل هذه اللذة والطيب في حياته قط.
عندما الْتهم العُلجوم ما استطاع من اليخني حتى لم يجد مسلكًا لملعقة أخرى، نهض وودَّع الغجري ثم ودَّع الحصان وداعًا حنونًا، ولما كان الغجري يعرف طرق ضفة النهر جيدًا، وصف له الطريق وأي اتجاه يسلك ثم انطلَق في رحلته مجددًا وهو في أفضل حالاته المزاجية. كان العُلجوم يبدو للناظر حيوانًا مختلفًا تمامًا عما كان قبل ساعة مضت. كانت أشعة الشمس ساطعة وجفت ملابسه المبتلَّة مرة أخرى وامتلأ جيبه بالنقود كسابق عهده. وكان يدنو من بيته وسلامته ويقترب من أصدقائه، والأعظم من ذلك أنه تناول وجبة كبيرة وساخنة ومُغذِّية. وكان يشعر بمدى عظمته وقوته، وحريته وثقته بنفسه.
كان يتفكَّر وهو يَمشي مغتبطًا سعيدًا في مغامراته وهروبه، وكيف كان يتمكَّن دائمًا من العثور على مخرج مهما كانت الظروف حالكة؛ فبدأ غرور نفسه وكبرياؤه يتعاظمان بداخله. ثم قال مناجيًا نفسه وهو يمشي رافعًا ذقنه في الهواء: «نِعمَ العُلجوم أنا! ما أبرعني! أنا بلا شك لا يُضاهيني حيوان في البراعة على وجه الأرض! حبسني أعدائي في سجن محاط بالحراس ويُراقبني الخفر ليلًا ونهارًا؛ فخرجتُ من وسطهم جميعًا بفضل سعة حيلتي وشجاعتي. طاردوني بالقطارات ورجال الشرطة والأسلحة؛ فاختفيتُ من أمامهم ببراعة شديدة وأنا أضحك. لسوء حظي، قُذف بي في قناة من قِبَل امرأة بدينة ولئيمة النفس. فماذا فعلت حيال ذلك؟ سبحت حتى الشاطئ واستوليت على حصانها وامتطيته منطلقًا، ثم بعتُ الحصان بمبلغٍ كبيرٍ وفطورٍ ملكي! نعمَ الحيوان أنا! فأنا العُلجوم الوسيم والناجح والذائع الصِّيت!» انتفخ زهوًا حتى إنه نظَم قصيدة وهو سائر يمدح فيها نفسه وأنشدها بأعلى صوتٍ له مع أنه لا أحد حوله ليستمع إليها. تلك القصيدة التي ربما كانت أكثر القصائد التي نُظمت من بني الحيوان فخرًا وغطرسة.
لم تكن هذه نهاية القصيدة، بل أنشد أبياتًا فيها من الغطرسة ما يندى لها الجبين ويعجز المرء عن كتابتها من فرط غرورها؛ لذا فقد أوردت لكم بعضًا من الأبيات المُعتدِلة.
كان ينشد وهو يَمشي، ويمشي وهو ينشد، وكلما استمر في الإنشاد، انتفخ غروره حتى كاد ينفجر. ولكن سرعان ما سَينهار تفاخُرُه انهيارًا مُروِّعًا.
بعد أن قطع عدة أميال من الممرات الريفية، وصل إلى الطريق السريع. وعندما حط قدمَيه عليه ورأى صفحته البيضاء تمتد أمامه على مرمى البصر، لمح نقطة سوداء تَقترب من بعيد؛ ثم أخذت تقترب أكثر فأكثر حتى صارت كتلة من دخان كثيف، ثم استحالت شيئًا مألوفًا يعرفه، ثم اخترقت أذنيه نغمتان تحذيريتان يعرفهما عن ظهر قلب وبهما من الحلاوة ما بهما.
قال العُلجوم المهتاج: «كأنها هي! إنها الحياة التي أصبو إليها والعالم الشيق الذي غبتُ عنه طويلًا يُطلان من جديد! سأُحيِّي الإخوة الذين يقودون السيارة، وسأَحيكُ لهم أكذوبة من الأكاذيب التي انطلت على الجميع حتى الآن. وبعدها سيَعرضون عليَّ توصيلة بكل تأكيد، وسأسترسل في كلامي معهم، وربما، مع قليل من الحظ الطيب، ينتهي بي المطاف وأنا أقود تلك السيارة إلى قصر العُلجوم! سيَنزل خبر هذه المغامرة كالصاعقة على رأس الغُرير!»
وقف في ثقة على قارعة الطريق ليشير إلى السيارة التي أخذت تتقدم بهدوء وتتباطأ كلما اقتربت من الجهة التي يقف عندها العُلجوم. فجأة، شحب وجه العُلجوم ووقَع قلبُه بين كفيه وبدأت ركبتاه تصطك وترتعش، ثم تلوَّى جسده وانهار وكأن المرض يسري في عظامه. هكذا كان حال ذلك الحيوان التعيس؛ فقد كانت السيارة المقتربة هي ذاتها التي سرقها من باحة نزل الليث الأحمر في ذاك اليوم المشئوم الذي بدأت فيه جميع مصائبه بالانهمار فوق رأسه! وكان راكبوها هم نفس الرجال الذين راقَبَهم أثناء الغداء في غرفة تقديم المشروبات.
خرَّ على ركبتَيه منكمشًا ككَومة رثَّة وبائسة على جانب الطريق وهو يهمس مناجيًا نفسه: «لقد قُطعت كل حبال الأمل وانتهى أمري الآن! سأعود مغلولًا بالقيود ومحاطًا برجال الشرطة! سأرجع إلى السجن مجددًا! وإلى الخبز الجاف والماء مرة أخرى! يا ألله، كم كنتُ غبيًّا أحمقَ! ما الذي كنت أفكر فيه وأنا أمشي مختالًا متكبرًا عبر الحقول، أُنشدُ قصائد الفخر وأحيي الناس في وضح النهار على الطريق السريع، بدل أن أختبئ حتى يسدل الليل عباءته وأنسلَّ إلى بيتي في هدوء عبر الطرق الخلفية؟ ما أسوأ حظك أيها العُلجوم! وما أتعسك من حيوان!»
اقتربت السيارة المرعبة ببطء أكثر فأكثر، حتى سمعها وهي تقف قريبًا منه. نزل منها رجلان وسارا باتجاه كومة البؤس والشقاء المرتعشة التي ترقد على الطريق، ثم قال أحدهما: «يا رحيم! ما أتعس ما أراه! إنها امرأة عجوز وفقيرة تعمل غسالة للملابس على ما يبدو وقد فقدت وعيَها وسقطت على الطريق! ربما تأثَّرتْ هذه المرأة المسكينة بقيظ النهار، أو أنها لم تُدخِل لقمة في جوفها اليوم. لنحملها إلى السيارة ونوصلها إلى أقرب قرية، حيث سنجد هناك من يعرفها بلا شك!»
حمل الرجلان العُلجوم بحنوٍّ إلى السيارة ووضَعا خلفه وسائد ناعمة ليستند عليها، ثم تابعا طريقهما.
عندما سمعهما العُلجوم يتحدَّثان بلطْف وإشفاق، واطمئنَّ أنهما لم يتعرَّفا عليه، بدأت شجاعته تحيا وتنشط مرة أخرى. ففتح عينًا واحدة بحرص ثم تبعها بالثانية.
قال أحد الرجلين: «انظر! إنها تتحسَّن وحالها أفضل الآن؛ فالهواء المنعش يرد لها صحتها. كيف تشعرين الآن يا سيدتي؟»
رد العُلجوم بصوت خافت: «أنا بحال أفضل الآن! شكرًا جزيلًا لك يا سيدي!» قال الرجل: «هذا جيد. لا تبذُلي أي مجهود الآن وارتاحي! والأهم من ذلك، لا تُحاولي الكلام!»
رد العُلجوم: «لن أفعل! كنت فقط أتساءل إن كان بإمكاني الجلوس في المقعد الأمامي هناك بجانب السائق؛ حيث أستنشق الهواء المنعش ليملأ رئتي، وحينها ستتحسَّن حالتي عما قريب!»
قال الرجل المهذب: «يا لكِ من امرأة ذكية جدًّا! بالتأكيد يمكنكِ ذلك!» وهكذا ساعدا العُلجوم برفْق ليَجلس بجانب السائق في المقعد الأمامي، ثم تابَعا طريقهما.
حينها استردَّ العُلجوم نفسه تقريبًا. اعتدل في جِلسته وأخذ يُطالع ما حولَه وهو يُحاول أن يسكت الرعشات ويخمد لهفته وشوقه القديم الذي ثار وهاج حتى غشاه وسيطر عليه سيطرة تامة.
حدث نفسه وقال: «إنه القدر! لم إذن السعي والمجاهَدة؟» ثم حول ناظريه إلى السائق بجواره.
قال له: «رجاء يا سيدي! أتمنى لو تعطف عليَّ وتسمح لي بمحاولة قيادة السيارة لمسافةٍ قصيرة. ظللتُ أراقبك بدقة، ويبدو الأمر سهلًا وممتعًا. وحينها سأتباهى بين أصدقائي وأخبرهم أني قد قدتُ سيارةً في يوم من الأيام!»
ضحك السائق من طلبها هذا ضحكًا شديدًا، حتى تساءل السيد المهذب بالخلف عما أضحكه. وعندما أخبره قال لحسنِ حظ العُلجوم وسعادته: «أحسنتِ يا سيدتي! تُعجبُني روحكِ هذه. دعْها تحاول إذن ولكن راقبها واعتنِ بها؛ فلن تُسبِّب أي ضرر!»
تسلَّق العُلجوم المقعد الذي أخلاه السائق وتكوَّم فيه وأمسك بالمِقْوَد في يديه، ثم استمع بتواضُع مُصطنَع إلى الإرشادات التي أُعطيَت له وبعدها بدأ يحرك السيارة ولكن ببطء وحرص في بداية الأمر؛ فقد عزم في قرارة نفسه أن يكون عاقلًا وحكيمًا.
صفَّق الرجلان في الخلف وهتفا في استحسانٍ وسمعهما العُلجوم وهما يقولان: «كيف تقود بتلك البراعة؟! تخيَّل أن تقود امرأة غسالة للملابس سيارة بمثل هذه البراعة، ومن أول محاولة!»
زاد العُلجوم السرعة قليلًا؛ ثم انطلق أسرع فأسرع.
سمع السيدان يَصيحان وهما يحذرانه: «احذري أيتها المرأة!» أغضب هذا التحذير العُلجوم، فبدأ يفقد السيطرة على نفسه.
حاول السائق أن يتدخَّل ولكن العُلجوم ثبته في مكانه على كرسيه بأحد مرفقَيه ثم انطلق بأقصى سرعة مُمكنة. أسكر عقله الضعيف الهواء المندفع الذي يرتطم بوجهه، وصوتُ دندنة المحركات، وقفزات السيارة الخفيفة من تحته. ثم صاح باستهتار: «غسالة الملابس! ها ها! أنا العُلجوم! سارق السيارات ومحطِّم أسوار السجون! أنا العُلجوم الذي دائمًا ما يجد مخرجًا وينجو! اجلسوا دون حركة وستعلمون كيف هي القيادة بحق؛ فأنتم بصحبة العُلجوم البارع الذائع الصِّيت الذي لا يَهاب شيئًا أبدًا!»
صرخُوا جميعًا صرخة رعب وانتفضُوا من أماكنهم ووثبوا عليه. ثم صاحوا: «اقبضوا عليه! اقبضوا على ذلك الحيوان الشرِّير الذي سرق سيارتنا! شُدُّوا وثاقه وقيِّدوه بالأغلال، ثم اقتادوه إلى أقرب قسم للشرطة! فليَسقُطِ العُلجوم المتهور والخطير!»
وا أسفاه! كان عليهم أن يُفكِّروا مليًّا وأن يتصرَّفوا بحكمةٍ أكثر؛ كان عليهم أن يوقفوا السيارة أولًا بطريقةٍ ما قبل أن يُهاجموا العُلجوم. فبنصف استدارة للمقود، كان العُلجوم قد جعل السيارة تصطدم بسياج الشجيرات القصير الذي يحفُّ جانب الطريق. قفزت السيارة قفزةً عالية، ثم هبطت مصطدمةً بالأرض اصطدامًا عنيفًا لتحطَّ السيارة وسط وحْل بركة الخيل اللزج وعجلاتها تمخض فيه بلا طائل.
وجَد العُلجوم نفسه يطير عاليًا في الهواء كأنه طائرُ سنونو يُحلِّق بجناحيه في السماء. أحب العُلجوم هذا الوضع، وبدأ يتساءل عمَّا إذا كان سيظلُّ على هذا الحال حتى ينمو له جناحان ويَنبت لهما ريش ليتحوَّل إلى العُلجوم الطائر، حين ارتطم على ظهره بالأرض ارتطامًا شديدًا على عشب ناعم وكثيف لمرج من المروج. اعتدل جالسًا فرأى من مكانه السيارة غارقة في البركة يغمرها الماء تقريبًا؛ والسيدان والسائق مُثقَلون بمعاطفهم الطويلة وكانوا يتخبطون في الماء بلا حول لهم ولا قوة.
نهَض على قدميه في عجل ثم أخذ يركض باتجاه الحقول ركضًا سريعًا قدر استطاعته وهو يندفع بين سياجات الشجيرات ويقفز فوق مصارف المياه ويجتاز الأراضي حتى أرهقه التعب وتقطَّعت أنفاسه، فاضطرَّ إلى أن يُخفف من سرعته ويمشي مشيًا مُتمهِّلًا. وعندما استرد أنفاسه بعض الشيء، وبدأ يفكر في هدوء، أخذ يضحك ضحكًا خفيفًا، ثم ما لبث أن زاد الضحك فصار قهقهة واستمرَّ على ذلك حتى خارت قواه فجلس في ظل سياج من الشجيرات. ثم صاح في نشوة وإعجاب بالنفس: «لا أُصدق! ها هو العُلجوم مرةً أخرى! ها هو، تمامًا كعهدي به، يتربع على القمة! من الذي غرر بهم وجعلهم يُوصلونه؟ من الذي استطاع بحيلته أن يجلس في المقعد الأمامي بحجة الهواء المنعش؟ من الذي أقنعهم بأن يسمحوا له بالقيادة ليرى إن كان يستطيع أم لا؟ من الذي أوقَعَ بهم وأرداهم في بركة الخيل؟ مَن الذي فرَّ سالمًا غانمًا وهو يطير في سعادة وسرور؟ من الذي ترك وراءه هؤلاء المسافرين الجبناء المتعصِّبين والناقمين وسط الوحل حيث يجدر بهم أن يكونوا؟ الإجابة، بلا ذرة شك، هي العُلجوم. العُلجوم البارع؛ العُلجوم العظيم؛ العُلجوم الماهر!»
ثم بدأ ينظم قصيدة أخرى ويُنشدها بصوت عالٍ مُرتفِع:
دفعه صوت ضوضاء خافت انبعث من مكان قصي خلف ظهره، أن يلتفت وينظر. رحماكَ يا ألله! يا للأسى! يا للشقاء!
كان يرى على بُعد حقلين منه رجلَي شرطة ضخمَي الجسد من شرطة الريف وسائقًا يَرتدي جُرْمُوقًا جلديًّا، وثلاثتهم يركضون باتجاهه بأقصى ما لديهم من سرعة!
قفز العُلجوم المسكين وانطلق يعدو هاربًا بسرعة وقلبه يكاد يخلع من مكانه من الفزع. قال لاهثًا وهو يركض: «يا إلهي! يا لي من أحمق! يا لي من حيوان مُتغطرِس وطائش! عدتُ مجددًا إلى التبختُر والصياح وإنشاد القصائد والثرثرة! يا إلهي! يا إلهي! يا إلهي!»
نظر بطرف عينه إلى الخلف فرأى ما أفزعه؛ فقد كانوا يقتربون منه. أخذ يركض ويركض بقوة، وما فتئ ينظر خلفه فيرى أنهم ما يزالون يقتربون منه أكثر فأكثر. بذل ما بوسعه، لكنه كان حيوانًا بدينًا ذا أرجل قصيرة، ووجد أنهم لا يزالون يقتربون منه. كان يمكنه الآن سماع وقع أقدامهم خلف ظهره، فكفَّ عن الانتباه لأي اتجاه يذهب أو أي طريق يسلك. كان يحاول الفرار منهم إلى أي مكان وبأي ثمن فرارًا أهوجَ وهو ينظر من فوق كتفه إلى أعدائه الذين أوشكوا على الظفر به. ولكن فجأة، انهارت الأرض من تحت قدميه. تمسَّكت أصابعه بالهواء، ثم هوى؛ طش! وجد نفسه يغوص بجسده حتى منبت شعر رأسه في ماء عميق غائر؛ ماء متدفِّق يدفعه بتيار عرم لا يقدر أن يُصارعه. فعرف أنه قد سقط في النهر وهو يركض مذعورًا خائفًا!
صعد إلى السطح وحاول أن يتشبَّث بالحشائش وعيدان البوص النابتة على حافة النهر أسفل ضفة النهر، لكن التيار كان غاشمًا قويًّا حتى إنه كاد أن يَقتلع تلك الحشائش والعيدان. لهث العُلجوم العاجز وقال: «يا ألله! تبًّا لي لو سرقتُ سيارة أخرى! بئسًا لي لو أنشدت قصيدة فخر أخرى!» ثم غمرتْه المياه لكنه طفا على السطح مرة أخرى يُبقبق ويشهق ويلهث. تنبَّه بعد ذلك أنه يقترب من جحر كبير مظلم على جانب الضفة فوق رأسه مباشرة. وعندما حمله التيار بجانبه، مدَّ كفه لأعلى وتمسَّك بحافة الجحر. ثم ببطء ومشقَّة، أخذ يرفع نفسه من الماء حتى استطاع أن يُريح مرفقَيه على حافة الجحر. ظل على حاله هذا بضع دقائق، تتابعت فيها زفراته ولهثاته؛ فقد كان التعب قد أنْهَكَه واستنزف طاقته.
وبينما هو يلهث ويملأ رئتَيه بالهواء ويحدِّق في الجحر المظلم الذي أمامه، أخذ شيء صغير ولامع يومض ويتلألأ في عمق الجحر ويتحرَّك باتجاهه. وكلما اقترب أكثر، ظهرت ملامح وجهه شيئًا فشيئًا حتى اكتملت، فكان وجهًا مألوفًا!
كان وجهًا بُنيًّا وصغيرًا وذا شوارب.
كان وجهًا جادًّا ومستديرًا ذا أذنين صغيرتين ويكسوه شعر حريري.
كان وجه فأر الماء!