فانهمرت دموعه بقوة كعاصفة صيفية عاتية
مدَّ الفأر كفَّه البنية الصغيرة والنظيفة، وأمسك بالعُلجوم بقوة من مؤخِّرة عنقه، ثم رفعه رفعة شديدة وسحبه إلى الداخل. ارتفع العُلجوم المُشبع بالمياه للأعلى ببطء وشيئًا فشيئًا حتى اعتلى حافة الجحر ووقَف في النهاية في الصالة آمنًا مُعافًى. كان ملطَّخًا بالحشائش والطين والماءُ يَنهمر منه انهمارًا، لكن سعادة الزمن الماضي كانت ترتسم على وجهه وعاد مُفعَمًا بالحيوية والنشاط. لم لا وقد عاد مجددًا إلى النهر وها هو يقف في بيت أحد أصدقائه، وقد انتهى وقت المراوَغات ومحاوَلات الهروب، ويُمكنه الآن أن يخلع عنه ثياب التنكُّر التي لا تليق بمكانته، وتتطلَّب منه جهدًا جهيدًا لإتقان شخصيتها المنتحَلة؟
صاح قائلًا: «أوه يا فأرون! لا تتصوَّر كم خضتُ من المغامرات منذ آخر مرة رأيتُكَ فيها! قاسيتُ الأمرَّين وعانَيت وتألمت لكني تحمَّلتُ كل ذلك بنبل وهمة عالية! ثم أتت عليَّ أوقات الهروب، والتنكُّر، والمراوغات والخديعة، وقد جرى كل ذلك إثر تخطيط حكيم وتنفيذ متقن! رُميتُ في السجن؛ فهربت منه، بلا ريب! وقُذفت في قناة؛ فسبحت حتى الشاطئ، ثم سرقتُ حصانًا وبعتُه بثمن عظيم! احتلتُ على الجميع، وجعلتهم يفعلون تمامًا ما أردتُه منهم! أوه، ما أذكاني من عُلجوم! لم يجانبني الصواب ولو قيد أنملة! هل تعرف كيف كانت مغامرتي الأخيرة؟ انتظر لحظة وسأخبرك …»
قال فأر الماء بنبرة صارمة وجادة: «يا عُلجوم! ستَرتقي ذاك الدرج في الحال وتخلع عنك هذه الخرقة القطنية القديمة التي تبدو كما لو كانت ملكًا لامرأةٍ تَغسل الملابس، ثم ستُنظِّف نفسك جيدًا وترتدي ما يحلو لك من ملابسي. أريدكَ أن تَهبِط وأنت تبدو كسيدٍ محترمٍ إن استطعت؛ فلم تقعْ عيناي قط في حياتي على منظر كمظهَرِك الرث والمُوحِل والقذر! والآن، توقف عن التفاخُر والجدال واذهب في الحال! فلديَّ ما أخبرك به لاحقًا!»
نازعت العُلجوم نفسه في أول الأمر أن يقف ويردَّ بحدة على الفأر؛ فقد فاض كيله من تلقِّي الأوامر منذ أن كان في السجن، وها هي الكرَّة تعاد هنا من جديد، فيما يبدو، وعلى يد فأر! لكنه لمح انعكاس صورته في المرآة المعلقة فوق مشجب القبعات، فرأى قلنسوته السوداء المهترئة تتدلى فوق إحدى عينيه، فبدَّل من رأيه وأسرع لأعلى في تواضُع إلى غرفة الملابس الخاصة بالفأر. هناك، اغتسل اغتسالًا مُتقَنًا من رأسه إلى قدميه، ثم بدَّل ثيابه ووقف دهرًا أمام المرآة يتأمل نفسه وينظر إليها في فخر وسعادة، ويفكر كيف لهؤلاء الحمقى من الناس أن يظنوا خطأً ولو لوهلة أنه امرأة تغسل الملابس.
في الوقت الذي هبط فيه إلى الصالة مرة أخرى، كان الغداء جاهزًا على المائدة، وسر العُلجوم لذلك أيما سرور. فقد مر بالعديد من المواقف الشاقة والمتعِبة، وركض بقوة لمسافات طويلة منذ أن تناول ذاك الفطور الفاخر الذي قدمه له الغجري. قصَّ العُلجوم على مسامع الفأر جميع مغامراته بينما كانا يأكلان، وكان يركز تركيزًا أساسيًّا على حنكته، وبديهته الحاضرة في الظروف الطارئة، ودهائه ومكره في المواقف الصعبة؛ بل جعل الأمر يبدو كما لو كان قد قضى وقتًا طيبًا وسعيدًا. وكلما زاد كلامه وإعجابه بصنيعه، ازداد الفأر ضيقًا وصمتًا.
عندما أفرغ العُلجوم ما بجَعْبَته من كلام عن نفسه وأسكته التعب، ساد الصمت لدقائق، ثم قال الفأر: «استمع إليَّ يا علجم! أنا لا أقصد أن أغمَّك بعد كل ما مررت به حتى الآن، ولكن جديًّا، ألا ترى كيف غدوت حيوانًا أحمقَ وحقيرًا؟ فبلسانك أنت قلتَ إن يديك قد صُفِّدتا وزُجَّ بك إلى السجن فتضورتَ جوعًا، وفررتَ وطاردوك حتى خفتَ على حياتك وأُهنتَ وشُتمت وسُخر منك، ثم قَذَفت بك امرأة في الماء بمهانة وخزْي! أين المتعة في كل ذلك؟ ومن أي من تلك المواقف المشينة أتاك المرح والسرور؟ وكل ذلك بسبب أنك سرقتَ سيارة. أنت تعرف أن السيارات لم تَجلِب عليك سوى المصائب من أول مرة وقعت عيناك عليها. إن كنت تعلم أنك تُصبح مشوَّش الذهن بعد خمس دقائق من وجودك في السيارة فلا تُسيطِر على أفعالك ولا انفعالاتك، كما هي حالك دائمًا، فلماذا تسرق السيارات إذن؟ إن كنت تظن أن الأمر مُثير فاستمتع به حتى يجعلك أعرجَ أو كسيحًا، وإن كنت ترى في الأمر غاية حياتك وهدفها، فأنفق عليه حتى تُفلس وتتسوَّل؛ لكن لماذا تختار أن تكون مجرمًا مُدانًا؟ متى ستُفكِّر بعقلٍ راشدٍ في أصدقائك وتُحاول ألَّا تكون عبئًا عليهم؟ هل تظن أني، على سبيل المثال، أكون سعيدًا حين أسمع، وأنا في طريقي، الحيوانات وهم يقولون إني صديق حيوان مُعتاد الإجرام؟»
كان قلب العُلجوم الطيب والرقيق أحد ميزات شخصيته التي تُذكر له، فلم يكن يُمانع أبدًا أن يوبَّخ من أحد أصدقائه الصدوقين أو أن يعظه أحدهم. وحتى عندما يكون قد حزم أمره بشأن مسألة ما، كان دائمًا لديهِ القدرة على النظر وتأمل الجانب الآخر منها.
ومع أن الفأر كان يتكلَّم بجدية شديدة، ظل العُلجوم يُحدث نفسه متمردًا: «ومع ذلك، كان الأمر ممتعًا! ممتعًا على نحو لا مثيل له!» وأخذ يُصدر بداخله أصواتًا غريبة، وأصواتًا أخرى تشبه أصوات نخير مكتوم، أو تشبه صوت فتح زجاجة مياه غازية، ولكن حينما انتهى الفأر من كلامه، أخذ نفَسًا عميقًا، ثم قال بأدب وتواضُع شديدين: «صدقت يا فأرون! ما تزال حكيمًا ذا رأي صائب كما أنت! نعم، لقد كنتُ أهوجَ متغطرسًا، أرى ذلك بوضوح، لكني من الآن فصاعدًا سأكون العُلجوم الطيب ولن أعود لذلك مرة أخرى. أما شغَفي الشديد بالسيارات، فقد فقدتُه منذ آخر مرة سقطتُ فيها في النهر. في الحقيقة، راودَتْني فجأة، وأنا متعلق بحافة جحرك وألتقط أنفاسي، فكرة عبقرية حقًّا بشأن القوارب البخارية. على رِسْلك! على رسلك! لا تنفعل يا صديقي العزيز ولا تَسْتأْ؛ فالأمر كله لم يتخطَّ كونه فكرة، ولن نطيل الحديث عنها الآن. سنحتسي قهوتنا، ونُدخن غليونًا ونستمتع بحديث هادئ. وبعدها، سأسير بهدوء إلى قصر العُلجوم، وسأرتدي ملابسي وسأنساب في وتيرة الحياة كما في الأيام السالفة. لقد اكتفيتُ من المغامرات، وأريد أن أعيش حياة هادئة ومستقرة ومحترمة؛ حياة أهتمُّ فيها بأملاكي وأعمل على تحسين أحوالها وأشغل بعض وقتي بزراعة أرض صغيرة حول بيتي. ستكون أبواب بيتي مفتوحة دائمًا للأصدقاء لزيارتي وتناول العشاء معًا، وسأبتاع عربة يجرُّها حصان للتنزه وسط الحقول كما اعتدتُ في السابق قبل أن يقضَّ مضجعي وأرغب في القيام بالمغامرات.»
صاح الفأر في دهشة عظيمة: «تسير بهدوء إلى قصر العُلجوم؟ ما الذي تقوله؟ أهذا يعني أنك لم تسمَع بما حدث؟»
قال العُلجوم وقد شحب وجهه: «سمعت بماذا؟ انطق يا فأرون! هيا بسرعة! لا تتركني هكذا! ما الذي لم أسمع به؟»
صرخ الفأر وقال وهو يَضرب الطاولة بقبضته الصغيرة: «أتقول لي إنك لم تسمع أي شيء عن فتوات ابن عرس وأتباعهم من حيوانات القاقم؟»
صاح العُلجوم وقد ارتعدت فرائصه: «ماذا؟ الذين يَسكنون البراري؟ لا، لم أسمع بشأنهم ولو كلمة واحدة. ما الذي فعلوه؟»
فأكمل الفأر كلامه وقال: «… وكيف استولوا على قصر العُلجوم؟»
أناخ العُلجوم مرفقَيه على الطاولة، وأراح ذقنه بين كفيه واغرورقت عيناه وذرفت الدموع فتساقطت على الطاولة الدمعة بعد الأخرى!
ثم غمغم قائلًا: «هيا يا فأرون! أخبرني بكل شيء الآن. لقد مرَّ الجزء الأسوأ. لقد عدت حيوانًا مجددًا ويمكنني تحمل الأمر.»
بدأ الفأر يقص عليه بأناة وبنبرة مثيرة: «عندما حلَّت عليك … تلك … تلك … المصائب! أقصد، عندما اختفيتَ … وقتًا طويلًا بعد ما حدث من سوء تفاهُم حول … حول تلك السيارة … أنت تعرف القصة …»
اكتفى العُلجوم بالإيماء برأسه.
أكمل الفأر وقال: «بالطبع، انتشر ما حدث كالنار في الهشيم. ولم يقف الأمر على طول ضفة النهر فحسب، بل انتشر وذاع إلى أن وصل إلى البراري. انقسمت الحيوانات كعادتها؛ دافع سكان ضفة النهر عن موقفك وقالوا إنك قد ظُلمتَ وإنَّ العدل قد اندثر واختفى من البلاد في أيامنا هذه. ولكن تفوَّهت حيوانات البراري بأشياء فظيعة عنك ووبَّخوك ولاموك على فعالك. ثم أتى وقتٌ خمدت فيه مثل هذه الأحاديث. ثم تمادَوْا من جديد وقالوا إنه قد انتهى أمرك وقُضي عليك هذه المرة ولن تعود ثانية أبدًا، أبدًا!»
أومأ العُلجوم برأسه مرة أخرى محافظًا على صمته.
تابع الفأر حديثه وقال: «هذا غَيْض من فَيْض لتعلم منه طبيعة هؤلاء الوحوش الصغيرة، لكن وقف الخُلد والغُرير لهم بالمرصاد وتابَعا الدفاع عنك في كل الأحوال وكانا يُصران أنك ستعود قريبًا بطريقة أو بأخرى. لم يَعرفا كيف ستعود على وجه التحديد، لكنهما كانا يعتقدان أنك ستعود على نحوٍ ما!»
بدأ العُلجوم يعتدل في جلسته على كرسيه مرة أخرى ويتصنَّع الابتسامة.
أكمل الفأر قائلًا: «احتَجَّا بأدلة من التاريخ وقالا إن القانون الجنائي لم يحدث وأن عاقَبَ يومًا، كما عُوقبتَ أنت، على التكلُّم بصراحة ووقاحة، وخاصة لو اقترن هذا بثراء المتَّهم. لذلك عقدا النية على أن يَنقلا أغراضهما إلى قصر العُلجوم، وأن يَبيتا هناك ويُعرِّضاه للتهوية ليكون في أحسن حال عندما تعود مجددًا. لم يَفطِنا إلى ما كان سيحدث، ومع ذلك كانت تساورهما الشكوك وينتابهما القلق من حيوانات البراري. والآن، سأحكي لك أفجع وأقسى جزء في هذه القصة. في ليلة مظلمة — بل حالكة السواد وذات رياح عاصفة ويَنهمِر فيها المطر بشدة — قدمت عصبة من فتوات ابن عرس مدجَّجين بالأسلحة، وتسلَّلوا في صمت عبر ممر القصر الأمامي. وفي نفس الوقت، كانت فرقة مُستميتة من جنود ابن مِقْرض تقتحم حديقة المطبخ وسيطرت على الباحة الخلفية والمطبخ وغرفة الغسيل، بينما احتلت سَرِية مناوِشة من أتباع فتوات ابن عرس يُسمَّون القاقم المستنبت وغرفة البلياردو وسيطرت على النوافذ ذات الطراز الفرنسي المطلَّة على الحديقة، بعد أن وجدت نفسها دون عمل أو مهمَّة.
كان الخُلد والغُرير يجلسان ودفء نيران المدفأة يكتنفهما في غرفة التدخين، يقصان الحكايات، مرتاحَي البال؛ فقد كانت تلك ليلة لا خروج فيها لأي حيوان، عندما اقتحم هؤلاء الأوغاد المتعطشون للدماء الأبواب مُندفعين من كل اتجاه ليُحاصِروهما. قاتَلا هؤلاء المعتدين بكل ما أوتيا من قوة وجسارة، ولكن أكان ذلك كافيًا؟ كانا أعزلَيْن لا سلاح لهما، وقد أخذا على حين غرة، فما الذي يقدر عليه حيوانان في مواجهة المئات؟ فحاصر هؤلاء هذَين المسكينين الوفيين وانهالوا عليهما ضربًا بالعصي ثم طردوهما خارج القصر في ذلك الجو الممطر العاصف، منزلين عليهما شتى الإهانات والسباب دون سبب أو مُبرِّر.»
في تلك اللحظة، انفجر العُلجوم الذي قسا قلبه وانعدمت مشاعره في ضحك نصف مكبوت، لكنه سرعان ما أمسك بزمام نفسه وحاول أن يرسم الوقار والجدية على وجهه.
أكمل الفأر القصة وقال: «ومنذ ذلك الحين وحيوانات البراري تَسكُن قصر العُلجوم وتُواصل معيشتها فيه ببساطة! يستلقون على الأسرَّة نصف النهار ويأكلون طوال الوقت. كما أُخبرت أن المكان تعمه الفوضى حتى إن العين تعاف أن تنظر إليه! إنهم يأكلون طعامك ويحتسون شرابك، ويُطلقون نكاتًا منحطَّة عنك، ويغنون أغانيَ فاحشة حول … حول السجون والقضاة ورجال الشرطة؛ أغانيَ بشعة يذكرون فيها أشخاصًا بعينهم لا يشمُّ منها رائحة المرح. ويخبرون التجار والجميع أنهم قد جاءوا ليمكُثوا في القصر للأبد.»
قال العُلجوم وهو ينهض ويقبض بيده على عصا: «ماذا؟ أقالوا ذلك حقًّا؟ سنرى قريبًا من سيَمكُث للأبد!»
ناداه الفأر وقال: «لا فائدة ترجى من ذهابك يا عُلجوم! ارجع واجلس؛ فهذا أفضل لك؛ فلن تقع إلا في المتاعب!»
لكن العُلجوم كان قد مضى في طريقه ولا أحد يقدر على أن يُثنيه عن قراره. سار بخطوات متلاحِقة سريعة على الطريق وهو يضع عصاه فوق كتفه، ويزبد ويُغمغم بكلمات يحدِّث بها نفسه من شدة الغضب حتى وصل قرب بوابة القصر الأمامية. وحينها برَز من وراء السياج فجأة ابن مِقْرض طويل أصفر اللون حاملًا بندقية.
سأل ابنُ المقرض بحدة: «مَن القادِم هناك؟»
رد العُلجوم بغضب: «يا للعبث! كيف تجرؤ على أن تتحدث إليَّ بهذه الطريقة؟ اخرج إليَّ حالًا وإلا …»
لم ينبس ابن المِقْرض ببنت شفة، وأسند بندقيتَه إلى كتفه واستعدَّ لإطلاق النار، فانبطح العُلجوم على أرض الطريق في حذر، ثم طاخ! سَمع دويَّ صفير طلقة رصاص وهي تمرق الهواء فوق رأسه.
زحف العُلجوم المُرتاع ثم نهض على قدميه وبدأ يعدو بعيدًا بأسرع ما يُمكن لقدميه أن تتتابَعا. وبينما كان يركض هربًا، سمع ضحكات ابن المِقْرَض تتردَّد في الهواء ومعها ضحكات بغيضة قصيرة وأضعف صوتًا تزيد من بشاعة الصوت.
رجع خائبًا حزينًا إلى فأر الماء وأخبره بما حدث.
قال الفأر: «ألم أقلْ لك؟ لا فائدة ترجى من ذلك! فهناك حراس في كل مكان وجميعهم مسلحون. عليك بالانتظار!»
رغم ذلك، كان العُلجوم غير مُستعد لأن يستسلم بهذه السرعة. فأخرج القارب وانطلق مجدفًا أعلى النهر إلى حيث تَنحدِر مقدمة حديقة قصر العُلجوم باتجاه ضفة الماء.
عندما وصل إلى مشارف بيته القديم، أراح مجدافَيه واتَّكأ عليهما وأخذ يفحص الأرض بعينَيه بحذر. كان الجو هادئًا ومسالِمًا والمكان خاليًا من أي حركة. كان يرى مقدمة قصر العُلجوم بالكامل وهي تتلألأ تحت أشعة قرص الشمس الآفل، والحمام يهبط راجعًا مثنى وثلاث إلى أعشاشه الممتدة على سطح القصر. كان يرى الحديقة الغنَّاء تملؤها الزهور، وجدول الماء الذي يقود إلى مرفأ القوارب وذاك الجسر الخشبي الصغير الذي يقطعه. كان كل شيء ساكنًا والمكان خاليًا من أي حركة، على ما يبدو بانتظار عودته. فكَّر في أن يحاول الذهاب إلى مرفأ القوارب أولًا؛ فأخذ يجدِّف بحذرٍ حتى وصل إلى مصبِّ الجدول، ثم ما لبث أن عبر تحت الجسر حتى … طش! سمع صوت اصطدام شديد!
قذفت صخرة ضخمة من الأعلى فاصطدمت ببطن القارب فخرقته. تدفقت المياه بداخله حتى غرق، ووجد العُلجوم نفسه يُصارع للخروج من المياه العميقة. نظر لأعلى، فرأى اثنين من فتوات القاقم يتَّكئان على سور الجسر ويشاهدانه في سعادة غامرة. نادَيا عليه وقالا: «المرة القادمة ستُفلَق رأسك يا علجم!» سبح العُلجوم في سخط إلى الشاطئ بينما أخذ الحيوانان يضحكان ويقهقهان، ثم يتفوَّه أحدهما بكلمة أو بجملة فيبدآن من جديد في الضحك حتى كادا يَهلكان من كثرة الضحك.
عاد العُلجوم لفأر الماء سائرًا على قدميه، وأخذ مرة أخرى يشكو إليه خيبته وتجاربه الفاشلة.
قال الفأر بنبرة ساخرة: «حسنًا، ألم أقل لك؟ اسمعني جيدًا، إذن! انظر ماذا فعلت. أغرقت قاربي المحبَّب، هذا ما فعلته. ومزقتَ ثيابي الجميلة التي أعرتُكَ إياها! يا عُلجوم، أحيانًا أتساءل لماذا أنتَ دونًا عن كل الحيوانات المشاغبة والمزعجة لا يَزال لديك أصدقاء!»
تنبَّه العُلجوم على الفور إلى حماقة أفعاله وخطئها، فاعترف بذنبه وسوء تفكيره، واعتذَر للفأر بشدة لتَسبُّبه في فقدان قاربه وتمزيق ملابسه. ثم ختم كلامه وقال بنبرة الخضوع والاستِسلام المعهودة عنه والتي دائمًا ما تجعل أصدقاءه يَتنازلون عن نقدهم له فيستعيد ودَّهم مرة أخرى: «فأرون! أعترِف أمامك أني كنتُ عُلجومًا جامحًا وعنيدًا! أرجو أن تُصدِّقَني أني من الآن فصاعدًا سأكون متواضعًا ومطيعًا، ولن أقدم على أي فعل إلا بعد أن آخذ بنصيحتك وأحصل على رضاك التام!»
قال الفأر المهذَّب وقد ذهب عنه الغضب: «إن كان ما تقوله صحيحًا، فنصيحتي إليك، أخذًا بالحسبان الوقت المتأخر الذي نحن فيه، هي أن تجلس لتناول العشاء الذي سيكون حاضرًا على الطاولة في غضون دقيقة وأن تتحلَّى بصبر شديد. فأنا واثق بأنَّنا لا نستطيع فعل أي شيء حتى نرى الخُلد والغُرير ونسمع ما لديهما من مستجدَّات الأخبار، ونتداول الأمر ونستمع إلى مشورتهما في هذا الأمر العصيب.»
رد العُلجوم بلامبالاة وقال: «أجل! بالطبع! الخُلد والغُرير. كيف صارت أحوالهما، هذَين الرفيقين العزيزين؟ لقد نسيت أمرهما تمامًا.»
ردَّ الفأر موبخًا: «آن لك أن تسأل عنهما أخيرًا! بينما أنت تقود سياراتك الفارهة عبر الحقول وتمتطي بزهو أحصنتك ذات السلالة النقية وتتناول فطورًا شهيًّا من خيرات الطبيعة، كان هذان المسكينان المُخلصان يُخيمان في العراء، مهما كان الطقس، ويعيشان في شظف بالنهار ويرقدان في عسر ومشقة بالليل؛ يَحميان قصرك، ويحرسان حدودك، وتسهر أعينهما تراقب فتوات ابن عرس وأتباعهم؛ ثم يرسمان الخطط ويدبران المكائد ويَمكران لاستعادة قصرك. أنت لست جديرًا بمثل هذين الصديقين الوفيين يا عُلجوم. أنت بحق لا تستحقهما. يومًا ما، ستندم أشد الندم على عدم تقديرك لهما حق قدرهما بينما كانا لا يزالان صديقَيك؛ لكن حينها سيكون الأوان قد فات.»
بكى العُلجوم وذرفت عيناه دموع الندم بمرارة وقال: «أعرف أنني بهيمة ناكرة للجميل. ائذن لي بأن أخرج وأبحث عنهما في هذه الليلة الباردة المظلمة لأشاطرهما ما يُعانيانه من عناء ونَصبٍ، ولأثبت أني … مهلًا! أنا على يقين أني سمعت خشخشة أطباق تصطكُّ على صينية! أخيرًا حضر العشاء! مرحى! هيا يا فأرون، أسرع بالطعام هيا!»
تذكر الفأر أن العُلجوم المسكين قد اقتات طعام السجن وقتًا طويلًا، ولا بد من طهو كمية وفيرة من الطعام. تبع العُلجوم إلى المائدة، وفي مسعاه النبيل ليُعوِّضه عما مرَّ به من حرمان، حثه على تناول ما يريد من الطعام.
انتهيا من طعامهما ثم عاد كل واحد مرة أخرى منهما إلى مقعده ذي المسندَين، وحينها سمعا طرقًا قويًّا على الباب.
كان العُلجوم قلقًا، لكن الفأر أومأ إليه بإيماءة غامضة لم يفهم معناها ثم اتجه مباشرة إلى الباب وفتحه فدلف السيد غُرير إلى الداخل.
كان مظهره كمظهر حيوان عاش مشرَّدًا لياليَ بعيدًا عن بيته بكل ما فيه من سبل الراحة والرفاهية. كان حذاؤه مغطًّى بالوحل، وكان أشعثَ أغبرَ، ولكن على أي حال، لم يكن الغُرير ذاك الحيوان الأنيق حتى في أفضل أيامه. اقترب من العُلجوم في وقار وصافحه وقال: «أهلًا يا عُلجوم، عودٌ حميد إلى بيتك! يا ويلي! ما هذا الذي أقوله؟ البيت! لا شك أن هذا عود بائس. يا للعُلجوم المسكين!» ثم أولاه ظهره وجلس إلى المائدة وقرَّب مقعده إليها وأخذ يقطع شريحة كبيرة من الفطيرة الباردة ليأكلها.
فزع العُلجوم من هذا الترحيب الفظ والمهدِّد فزعًا شديدًا، لكن الفأر همس إليه وقال: «لا عليك مما قاله، ولا تُحدثه بأي شيء الآن. فهو دائمًا ما يكون لئيمًا وقانطًا عندما يكون جائعًا. لن تمرَّ نصف ساعة إلا وسنرى حيوانًا مختلفًا أمامنا.»
وهكذا انتظرا في صمت، ثم سَمعا صوت طرق آخر على الباب لكنه طرق هين. أومأ الفأر للعُلجوم ثم ذهب باتجاه الباب ورجع والخُلد وراءه يتبعه. كان الخُلد مُهترئ الثياب ومتسخًا، وبعض أجزاء القش والتبن تتخلَّل فراءه.
صاح الخُلد ووجهُه يتلألأ في سعادة: «مرحى! ها هو العُلجوم العجوز قد عاد! سررت بعودتك مجددًا يا عُلجوم!» ثم بدأ يطوف حوله راقصًا في سعادة وقال: «لم نتوقع قطُّ أن تعود بهذه السرعة! يبدو أنك قد تمكَّنت من الهروب أيها العُلجوم البارع والذكي والحازق!»
ذُعر الفأر وتنبَّه، فجذب الخُلد من مرفقه؛ لكن الأوان قد فات. كان العُلجوم قد انتفَخَ غرورًا وتغطرسًا إثر ذلك المديح.
ثم قال: «أنا بارع؟ لا، أبدًا! أنا لستُ بارعًا في نظر أصدقائي. لقد هربتُ من أعتى سجون إنجلترا، هذا كل شيء! وركبت على متن قطار وفررت من خلاله، هذا كل شيء! وتنكَّرتُ وقطعت الريف بطوله وأنا أخدع وأحتال على جميع من أقابله، هذا حقًّا هو كل شيء! كفَّ عن هذا! ما أنا إلا حيوان أحمق وغبي! سأقص عليك مغامرة قصيرة أو مغامرتين يا خُلد، واحكم بنفسِك بعدها!»
قال الخُلد وهو يخطو باتجاه مائدة العشاء: «حسن، حسن! أرجو منك أن تحكي لي وأنا آكل، فأنا لم أضع في بطني لقمة منذ الفطور! يا ألله! يبدو طعامًا شهيًّا!» ثم جلس وبدأ يأكل اللحم البقري البارد والمخلَّل بنهم.
وقف العُلجوم على سجادة المدفأة مباعدًا ما بين قدميه، ووضع كفه في جيب سرواله، فأخرج حفنة من النقود الفضية، ثم صاح وهو يعرضها: «انظر لهذا! إنه ليس مبلغًا زهيدًا لقاء بضع دقائق من العمل، أليس كذلك؟ وكيف تظن أني قد كسبتُ هذا المال يا خُلد؟ من بيع الأحصنة! هذه هي الطريقة التي كسبتُ بها هذا المال!»
ردَّ الخُلد وقد اعتمل الشوق والإثارة في نفسه: «واصل حديثك يا عُلجوم!»
قال الفأر: «اصمت من فضلك يا عُلجوم! وأنت، يا خُلد، لا تحثَّه وتُشجعه على الاستمرار، وأنت تعرفه جيدًا. وأخبرنا رجاءً، بأسرع وقت، ما هو وضعنا الحالي، وما الذي يجب علينا فعله وقد عاد العُلجوم بين أظهرنا أخيرًا!»
رد الخُلد في كدر: «الوضع الحالي على أسوأ ما يكون. أما ما الذي يجب علينا فعله، فليباركني الله إن عرفته! أنا والغُرير كنا نراقب المكان عن كثب ليلًا ونهارًا، ودائمًا الوضع كما هو. الحراس منتشرون في كل مكان، يصوِّبون البنادق إلى صدرَينا، ويقذفون الحجارة فوق رأسينا. دائمًا هناك حيوان يَحرس المكان، وعندما يرانا، يا ألله! لا تدري كيف يضحك ويسخر منا! وهذا أكثر ما يُضايقني!»
قال الفأر وهو يفكر مليًّا: «هذا وضع صعب للغاية! لكن أظن أني أرى الآن في أعماق عقلي ما الذي يجب على العُلجوم أن يفعله. سأخبركم. عليه أن …»
صاح الخُلد والطعام يملأ فاه: «لا! لا يجب عليه! لن يفعل شيئًا مما تُفكر فيه! أنت لا تفهم الأمر فهمًا جيدًا. الشيء الوحيد الذي عليه فعله هو …»
قال العُلجوم بصوت عالٍ ومُفعَم بالحماس: «حسن، أيًّا كان ما هو فلن أفعله! فأنا لن أتلقَّى الأوامر منكم يا رفاقي! إنه بيتي الذي نتحدَّث بشأنه، وأنا أعرف تمامًا ما الذي عليَّ أن أفعله وسأُخبركم به. أنا …»
في هذه اللحظة، كان ثلاثتهم يتكلَّمون في آن واحد بأعلى صوت لهم. كانت الضوضاء تصم الآذان، حينها ارتفع صوت حاد وجاف فوق أصواتهم وقال: «ليصمت الجميع في الحال!» فسكت الجميع على الفور.
كان ذلك هو الغُرير الذي أنهى لتوِّه فطيرته، واستدار في كرسيه وأخذ ينظر إليهم بوجه متجهِّم. وعندما رأى أنه قد حاز على انتباههم وأنهم كانوا بلا شكٍّ يتلهفون لسماع ما سيقوله لهم، التفت راجعًا إلى الطاولة ومد يده وأخذ الجبنة. كان مقدار الاحترام الذي فرضه هذا الحيوان المبهر ذو الطبيعة الرصينة عظيمًا حتى إنهم لم يَنبِسوا ببنت شفة حتى انتهى من طعامه ونفض الفتات من على ركبتيه. تململ العُلجوم بشدة، لكن الفأر أجلسه في مكانه مُسيطرًا عليه بحزم.
عندما انتهى الغُرير من طعامه، نهض من مقعده ثم وقف بجانب المدفأة وهو يفكر تفكيرًا عميقًا. وفي النهاية تكلم.
قال بصرامة: «أيها العُلجوم! أيها الحيوان التافه الطائش والمزعج! ألست خجلًا من نفسك؟ ماذا تظن والدك، صديقي القديم، كان سيقول إن كان بيننا الليلة وعرف كل ما اقترفتْه يداك؟»
في ذلك الوقت كان العُلجوم منقلبًا على الأريكة، ورجلاه في الهواء فوق رأسه، وقد أخذ يشهق ويبكي نادمًا أسفًا.
حينها أكمل الغُرير بنبرة أكثر عطفًا: «لا عليك! لا بأس! كُفَّ عن البكاء. لندع ما مضى وراء ظهورنا ولنحاول أن نبدأ صفحة جديدة. ومع ذلك، ما قاله الخُلد صحيح تمامًا. حيوانات القاقم تحرس المكان كله شِبرًا شبرًا، وهم يحرسون المكان كأفضل حراس في العالم. لا طائل من التفكير بمهاجمة المكان؛ فهم أقوى منا بكثير!»
قال العُلجوم في نُواحٍ وهو يبكي على وسائد الأريكة: «أهكذا ينتهي الأمر إذن؟! سأذهب وأتطوع جنديًّا في الجيش ولن أرى قصري العزيز أبدًا مرة أخرى!»
قال الغُرير: «طِب نفسًا يا عُلجوم ولا تقنط! فهناك العديد من الطرق التي نستردُّ بها مكانًا دون اللجوء إلى القوة والعنف. وأنا لم أبتَّ في الأمر بكلمة أخيرة بعد. سأُخبرك الآن بسر عظيم.»
اعتدل العُلجوم ببطء وجفَّف عينيه من دموعهما. فقد كانت الأسرار تأسر لبَّه لأنه لا يستطيع أن يحافظ على أي منها، وقد كان يستمتع بالإثارة المنكرة التي يشعر بها عندما يذهب لحيوان آخر ويُفشي له الأسرار التي قطع الوعود ألَّا يُفشيها.
قال الغُرير بنبرة مثيرة: «هناك … نفق … تحت الأرض، بدايته عند ضفة النهر؛ قريبًا من هنا، يأخذ السائر فيه إلى قلب قصر العُلجوم!»
رد العُلجوم بعبث وقال: «كُفَّ عن هرائك هذا يا غُرير! أكنت تستمع إلى تلك الخرافات التي تتردَّد على الحانات في هذه الأنحاء؟ أنا أعرف جيدًا كل بوصة في قصر العُلجوم؛ سواء داخله أو خارجه. لا يوجد مثل هذا النفق، أنا أؤكد لك!»
قال الغُرير بغلظة: «يا صديقي الصغير، أبوك الذي كان حيوانًا فاضلًا — على نحو أكبر بكثير من بعض الحيوانات التي أعرفها — كان صديقًا مُقرَّبًا مني، ولقد أخبرني بالكثير والكثير مما كان لا يتصوَّر أن يخبرك به في يوم من الأيام. أبوك اكتشف هذا النفق — فهو لم يَحفره بنفسه بالتأكيد، بل كان محفورًا قبل أن يولد هو بمئات السنين — فأصلحه ونظفه. كان يظن أن مثل هذا النفق قد يكون مفيدًا يومًا ما في ساعات المصائب والأخطار. وأراني إياه ثم قال لي: «إياك أن يعرف ولدي شيئًا عن هذا النفق! فهو ولد صالح، لكنه طائش وذو شخصية متقلِّبة ولا يستطيع أن يكبح جماح لسانه. أما إذا كان في مأزق أو ورطة وكان هذا النفق عونًا له، فلا بأس أن تُخبره به، لكن لا تخبره أي شيء عنه قبل ذلك أبدًا».»
نظر الحيوانان الآخران إلى العُلجوم ليَريا كيف سيتلقَّى الصدمة. كان في البداية يميل للعبوس، لكن سرعان ما تهلَّلت أساريره فرَحًا، فعاد ذاك العُلجوم الذي عهداه.
ثم قال: «حسن، حسن! ربما أكون ثرثارًا بعض الشيء. فحيوان محبوب وذائع الصِّيت مثلي، يلتفُّ أصدقاؤه حوله طيلة الوقت، فنمرح جميعًا وتلمع أعيننا من الإثارة ونحكي القصص الطريفة، وحينها يَنساب لساني بالقيل والقال. عندي ملَكة المحاوَرة والحكي، ونصحني بعضهم بأن أعقد صالونًا، أيًّا كان طبيعته. لا عليكم من كل هذا. تابع حديثك يا غُرير، كيف سيُساعدنا ذلك النفق الذي تحدَّثتَ عنه؟»
أكمل الغُرير: «نما إلى علمي مؤخرًا شيءٌ أو شيئان. كلفتُ ثعلب الماء أن يتنكر في زي منظِّف للمداخن ثم يذهب إلى الباب الخلفي للقصر وفرش التنظيف على كتفه سائلًا عن عمل. ستكون هناك مأدبة كبيرة ليلة غد، احتفالًا بيوم مولد أحدٍ ما؛ أظنه زعيم فتوات ابن عرس — وسيكون كل الفتوات مجتمعين في قاعة الولائم، يأكلون ويشربون ويضحكون ببالٍ مرتاح ولا تساورهم أي شكوك، ولا يحملون أي أسلحة من أي نوع معهم؛ لا بنادق ولا سيوف ولا عصي!»
علق الفأر على كلامه وقال: «لكن الحراس لن يُغادِروا أماكنهم كما اعتادوا!»
رد الغُرير وقال: «هذا صحيح، وهذا ما أرمي إليه؛ ففتوات ابن عرس سيضعون ثقتهم الكاملة في الحراس اليقظين والمدرَّبين. وهنا تأتي فائدة النفق. فهذا النفق النافع يمتد حتى يصل إلى أسفل حجرة المئونة بجانب قاعة الولائم!»
قال العُلجوم: «آها! ذلك اللوح الخشبي الذي يُصدر صريرًا في حجرة المئونة! الآن فهمت!»
صاح الخُلد: «علينا إذن أن نتسلَّل خفية إلى داخل حجرة المئونة …»
علا صوت الفأر في حماس: «… مسلَّحين بالمسدسات والسيوف والعصي …»
قال الغُرير: «… ثم نهجم عليهم.»
صرَخ العُلجوم في نشوة وهو يدور ويدور في الغرفة ويقفز فوق مقاعدها: «… ونُوسعهم ضربًا! ونوسعهم ضربًا! ونوسعهم ضربًا!»
قال الغُرير وقد استعاد أسلوبه الجاف المعتاد في الحديث: «حسنًا إذن! ها هي خطتنا قد اكتملت ووضحت معالمها، ولا يتبقَّى شيء للنقاش فيه أو الشجار حوله. فليذهبْ كلٌّ منكم إلى مضجعه حالًا؛ فالوقت قد تأخَّر جدًّا. وسنتدبَّر كل الترتيبات الضرورية في صباح الغد.»
استجاب بالطبع العُلجوم وانصرف مطيعًا إلى النوم مع الآخرين — إذ لم يكن من الغباء بحيث يرفض أمر الغُرير — رغم أنه كان يشعر بإثارة شديدة تجعله لا يتوق للنوم، لكن يومه كان طويلًا مكتظًّا بالأحداث والوقائع، ومفارش السرير وألحفته كانت لطيفة ومشجعة ومريحة جدًّا بعد أن كان ينام على قشٍّ منثور بكمية غير كافية على بلاط حجري لزنزانة تكثر فيها تيارات الهواء. لم تلبث رأسه أن استراحت على وسادته لثوانٍ معدودة إلا وغطَّ سعيدًا في نوم عميق. بطبيعة الحال، كان نومه مليئًا بالأحلام. حلم بالطرق وهي تفر منه حين كان في أمسِّ الحاجة إليها؛ وبالقنوات المائية وهي تُطارده وتقبض عليه، وبزورق شق طريقه مبحرًا إلى داخل قاعة الولائم وهو يحمل غسيل الأسبوع في الوقت الذي كان يُقيم فيه مأدبة عشاء. ثم راوده حلم بأنه كان وحيدًا داخل النفق السري وهو يسير فيه إلى الأمام، لكن النفق التف وانبعج ثم تشابك وارتج حتى وجد العُلجوم نفسه في نهايته، ثم وجد نفسه بطريقة ما في النهاية داخل قصر العُلجوم آمنًا منتصرًا وجميع أصدقائه يلتفون حوله ويؤكدون بصدق أنه كان حيوانًا بارعًا.
نام حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي، وعندما هبط نازلًا، وجد الحيوانات الأخرى قد انتهت من فطورها منذ مدة. كان الخُلد قد انسلَّ إلى الخارج ذاهبًا إلى مكانٍ ما بمفرده دون أن يُخبِر أي أحد بوجهته. وكان الغُرير جالسًا في مقعد ذي مسندَين يقرأ الصحيفة ولا يبدو عليه القلق مطلقًا حول ما سيجري من أحداث في هذه الليلة. أما الفأر، فعلى النقيض، فكان يَذرع الغرفة جيئة وذهابًا بهمة ونشاط ويداه تحملان الأسلحة من كل نوع، والتي كان يقسمها على الأرض إلى أربعة أكوام وهو يهمس بحماسٍ بينما يوزع الأسلحة: «ها هو سيف للفأر؛ وسيف للخلد؛ وسيف للعُلجوم؛ وسيف للغُرير! ها هو مسدَّس للفأر؛ ومسدس للخلد؛ ومسدس للعُلجوم؛ ومسدس للغُرير!» ثم استمر على هذا الوضع في إيقاع منتظم، بينما أخذت تلك الأكوام الأربعة تكبر شيئًا فشيئًا.
قال الغُرير وهو ينظر من فوق طرف صحيفتِه إلى ذاك الحيوان الصغير المنهمك: «عمل رائع جدًّا يا فأر. أنا لا ألومك على شيء؛ لكني أؤكد لك أننا لن نحتاج إلى المسدَّسات أو السيوف إن اجتزنا خط حيوانات القاقم هؤلاء وبنادقهم الملعونة. فنحن الأربعة عندما ندخل قاعة الولائم ويحمل كلٌّ منا عصًا سنُطهِّر الأرض منهم في غضون خمس دقائق. كنت لأقوم بتلك المهمَّة وحدي، لولا أني لم أرد حرمانكم يا رفاقي من أن تحظَوا ببعض المرح!»
قال الفأر متفكرًا وهو يُلمِّع ماسورة مسدس بكم قميصِه ثم ينظر إليها متمعنًا: «لا بأس بأخذ الحذر والاحتياط!»
عندما أنهى العُلجوم فطوره، حمل عصًا غليظة بيدَيه وأخذ يُلوح بها بقوة كأنما يهاجم حيوانات من وحي خياله، ثم صاح: «سأُريهم درسًا في عاقبة الاستيلاء على بيتي! سأريهم درسًا، سأريهم درسًا!»
قال الفأر في صدمةٍ كبيرة: «لا تقلْ «سأُريهم درسًا» يا عُلجوم، فهذا ليس فصيحًا!»
تساءل الغُرير بنبرة غلبت عليها الحدة: «لماذا تَنتقد العُلجوم دائمًا؟ ما خطب لغته وفصاحته؟ هذه هي اللغة التي أتحدَّث بها أنا، وما دمت أستحسنها، فيجب أن تَستحسنها أنت أيضًا!»
رد الفأر بتواضع: «أنا آسف جدًّا. كنت أظن أن الصحيح هو «سأُلقِّنهم درسًا» لا «سأريهم درسًا»!»
رد الغُرير: «ولكننا لا نريد أن نلقنهم درسًا! نُريد أن نريهم الدرس! سنريهم الدرس، سنُريهم الدرس! بل سنريهم إياه عمليًّا أيضًا!»
قال الفأر: «أوه، حسن! قلها بأي طريقة أحببت.» كان الأمر قد اختلط عليه وتشوَّش ذهنه، فانزوى إلى ركن من الأركان حيث سُمع وهو يُتمتم: «سأريهم، سألقنهم، سألقنهم، سأريهم!» إلى أن طلب منه الغُرير أن يكف عما يتفوَّه به.
في ذلك الوقت، هرول الخُلد مندفعًا إلى الغرفة، وكان جليًّا أنه فخور بنفسه وراضٍ عنها، ثم استهل الحديث من فوره وقال: «لقد كنت أحظى بمرح جم! لقد جعلت حيوانات القاقم تَستشيط غضبًا!»
قال الفأر بقلق: «أرجو أنك كنت حريصًا جدًّا ولم تتهوَّر يا خُلد!»
قال الخُلد بثقة: «أنا أيضًا أرجو ذلك! خطرت الفكرة ببالي عندما دخلت إلى المطبخ لأرى إن كان فطور العُلجوم قد حُفظ بحيث يبقى ساخنًا حين يتناوله. فوجدت الثياب، التي أتى فيها العُلجوم إلى البيت البارحة والتي تعود لتلك المرأة العجوز التي تعمل في غسل الملابس، معلَّقة على حاملة مناشف أمام النار. فارتديتها واعتمرت القلنسوة أيضًا ولففت الشال حول عنقي ثم انطلقت إلى قصر العُلجوم في جرأة شديدة. كان الحراس بالطبع يطوِّقون المكان ويحرسونه ويحملون بنادقهم وجملتهم المعهودة «من القادم هناك؟» وبقية هذه الأمور التافهة. قلت لهم بأدب جم: «صباح الخير أيها السادة! هل لديكم أي ملابس متَّسخة ترغبون في غسلها اليوم؟» فنظروا إليَّ بتكبُّرٍ وقسوةٍ وغطرسةٍ ثم قالوا: «اغربي عن هنا يا غسالة الملابس! نحن لا نَغسل ملابسنا أثناء الخدمة.» فقلت: «ولا في أي وقت آخر!» ها ها ها! ألم يكن ذلك مضحكًا، يا عُلجوم؟»
قال العُلجوم بتعالٍ صارخ: «يا لك من حيوان تافه وبائس!» في الحقيقة، كان العُلجوم قد شعر بغيرة شديدة من الخُلد لما فعلَه لتوِّه. فقد كان سيرغب في خوض هذا الموقف بنفسه، لو كان قد فكَّر فيه أولًا، بدل أن يغط في النوم ويستغرق فيه طويلًا!
أكمل الخُلد: «ارتبك بعض حيوانات القاقم هؤلاء ارتباكًا واضحًا، وقال الرقيب الذي كان يرأسهم باقتضاب: «ارحلي الآن، أيتها المرأة الطيبة، ارحلي! ولا تُعطلي جنودي عن عملهم وتجعليهم يُثرثرون أثناء خدمتهم!» فقلت: «أرحل؟ لست أنا من سيرحل في وقت قريب جدًّا».»
قال الفأر في حيرة وذعر: «كيف سمحت لنفسك بأن تفعل هذا، يا خلدود؟»
خفض الغُرير صحيفته.
أكمل الخُلد قائلًا: «فرأيت آذانهم وقد انتصبَت وأخذوا ينظرون بعضهم إلى بعض، فقال لهم الرقيب: «لا تُولوها أي اهتمام؛ فهي لا تعرف ما الذي تتحدث عنه».»
فقلت له: «حقًّا؟ أتظنُّني لا أعرف؟ إذن دعني أخبرك بهذا. ابنتي تغسل ثياب السيد غُرير، وهذا سيُخبرك هل أنا حقًّا أعرف ما الذي أتحدث عنه أم لا! وستعرف الحقيقة في القريب العاجل! هذه الليلة، سيُهاجم قصر العُلجوم من جهة إسطبل الخيل مائة من حيوانات الغُرير المتعطِّشين للدماء والمدجَّجين بالبنادق. أما في الحديقة، فستُنزل ستة قوارب آتية عبر النهر جيشًا من الفئران جميعهم يحملون المسدسات والقطالس، بينما ستقتحم فرقة منتقاة من العلاجيم تدعى «البواسل» أو «الموت أو المجد»، البستان ليَدهسوا أي شيء أمامهم طالبين الثأر والانتقام. بعدها، بعد أن تفرغ منكم هذه الجيوش، لن يكون هناك الكثير منكم على قيد الحياة ليغسلوا ملابسهم، إلا أن تُخلوا المكان وتهربوا بينما الفرصة سانحة أمامكم!» ثم ركضتُ هاربًا، وعندما تواريت عن الأنظار، اختبأت ثم عدت متسلِّلًا عبر قناة تصريف المياه واسترقت النظر عبر السياج لأرى ما يفعلون. كانوا جميعًا في أشد الارتباك والقلق والانفعال، يركضون في شتى الاتجاهات في الوقت ذاته ويتساقطون بعضهم فوق بعض وجميعهم يُعطي الأوامر للجميع ولا يستمع أي أحد للآخر. أما الرقيب فأخذ يرسل فرق حيوانات القاقم إلى أجزاء بعيدة من الأرض، ثم يرسل فرقًا أخرى في إثرهم ليُعيدوهم مرة أخرى. ثم سمعتهم وهم يُحدِّثون بعضهم بعضًا: «تلك هي طبيعة فتوات ابن عرس؛ يجلسون في راحة وهناء داخل قاعة الولائم، يَحتفلون ويأكلون ويُغنُّون ويستمتعون بكل ألوان المرح والمتعة، بينما نحن مأمورون بأن نحرس المكان في البرد والظلمة. وفي نهاية المطاف نُمزَّق إلى أشلاء على يد حيوانات الغُرير المتعطشة لدمائنا!»
صرخ العُلجوم وقال: «يا لك من أبله عديم الفائدة يا خلد! لقد أفسدت كل شيء!»
قال الغُرير بنبرته الجافة والهادئة: «يا خلد، أرى أنك تَمتلك رغم صغر حجم جسمك عقلًا أذكى كثيرًا مما لدى حيوانات أخرى ممن لديها أجسام كبيرة. لقد أحسنتَ صنعًا، وبدأتُ أتطلَّع إليك بآمال كبيرة. ما أحسن صنيعك يا خلد! وما أبرعك!»
امتلأ قلب العُلجوم غيرة، وخاصة أنه لم يستطع على الإطلاق إدراك ما الذي يُعدُّ براعة وذكاءً فيما فعله الخُلد، ولكن من حسن حظه أن جاء وقت الغداء، قبل أن ينفجر أو يُفصح عن مشاعره أمام الغُرير فيتعرض للانتقاد من جانبه.
كانت وجبة الغداء بسيطة لكنها مشبعة؛ لحم خنزير مقدَّد وفول أخضر مع مكرونة بالبشاميل. وعندما انتهوا من طعامهم، اضطجع الغُرير على مقعد ذي مسندَين ثم قال: «حسن، أمامنا عمل شاق الليلة، ومن المرجَّح أننا سنُنهيه في وقت متأخِّر من الليل؛ لذلك سأحظى بقيلولة قصيرة بينما الفرصة سانحة.» ثم سحب منديلًا على وجهه وسرعان ما غطَّ في النوم.
انهمك الفأر المتشوق والمُجدُّ في تحضيراته مرة أخرى على الفور، وأخذ يقفز بين أكوامه الأربعة وهو يُتمتِم: «ها هو حزام للفأر؛ وحزام للخلد؛ وحزام للعُلجوم؛ وحزام للغُرير!» واستمر على هذا المنوال مع كل التجهيزات التي بحوزته، والتي بدَتْ أنها لا نهاية لها. أمسك الخُلد بيد العُلجوم وقاده إلى الخارج في الهواء الطلق وأجلسه على كرسي من الخوص وطلَب منه أن يخبرَه بجميع مغامراته من البداية حتى النهاية، وهذا أمر كان العُلجوم على استعداد تام لفعله. كان الخُلد مستمعًا جيدًا، وانطلق العُلجوم يعبر عن نفسه كيفما شاء دون أحد يراجع جمله أو ينتقده انتقادًا حادًّا. في واقع الأمر، كان معظم ما قصَّه على الخُلد من أحداث يُصنف تحت باب «ما كان سيحدث لو أني فكرت في الأمر في الوقت المناسب، وليس بعد ذلك بعشر دقائق.» بلا شك، تعدُّ هذه المغامرات هي دائمًا أفضل المغامرات وأكثرها حيوية! ولكن لم لا تكون هذه المغامرات هي الحقيقة، بدل تلك الأشياء غير الملائمة التي تحدث في أرض الواقع؟