عودة يوليسيس
عندما بدأ الليل يحل، دعاهم الفأر إلى الصالة في جوٍّ من الإثارة والغموض. أوقف كل واحد منهم بجانب كومته الصغيرة، ثم بدأ في إلباسهم ما بها من ثيابٍ وعتادٍ استعدادًا لمهمتهم القادمة. كان الفأر جادًّا يتحرَّى الدقة في ارتداء كل قطعةٍ من القطع؛ لذلك استغرق الأمر وقتًا طويلًا. أولًا، كان يوجد حزام يلفه كل حيوان حول خصره، ثم سيف يعلق في جانب كل حزام، ثم قطلسًا على الجانب الآخر ليتوازن الحمل. ثم يأتي زوج من المسدَّسات وهِرَاوة من هِراوت رجال الشرطة وعدد من الأصفاد وبعض الأربطة والضمادات اللاصقة؛ ثم قِرْبة ماء وصندوق طعام. ضحك الغُرير بمرح ثم قال: «ممتاز يا فأرون! هذه التجهيزات تُسعدك ولا تضر بي في الوقت نفسه! لكني سأذهب إلى هناك وسلاحي الوحيد هو هذه العصا.» لكن الفأر قال فقط تعقيبًا على ذلك: «من فضلك يا غُرير! أنت تعرف أني لن أتقبَّل أن تلومني فيما بعد وتقول إني قد نسيتُ شيئًا ما!»
عندما استعدوا جميعًا وتأهبوا، أمسك الغُرير بمصباح مُنطفئ بإحدى كفيه، ثم قبض على عصاه الغليظة بالكف الأخرى وقال: «والآن، اتبعوني! ليكن الخُلد في المقدمة لأني راضٍ عنه وسعيد بفعاله؛ ثم يتبعه الفأر، ثم العُلجوم في المؤخرة. وحذار يا علجم أن تُطلق فمك بالثرثرة كالعادة، وإلا فسأرسلك عائدًا إلى البيت، ولست في ذلك بمازح!»
كان العُلجوم يخاف أن يُخلَّف في المنزل؛ لذلك رضي بهذا المركز المهين الذي وضع فيه دون أن يتفوَّه بكلمة. انطلقت الحيوانات وقادهم الغُرير بطول ضفة النهر لمسافة قصيرة، ثم انعطف فجأة وقفز من فوق الحافة إلى شق في ضفة النهر فوق مستوى المياه بقليل. تبعه الخُلد والفأر في صمت، فقفزوا داخل الشق بنجاح كما شاهدوا الغُرير يفعل، ولكن عندما حان دور العُلجوم، انزلق كما هو متوقع وسقط في المياه، مخلفًا صوت ارتطام عاليًا بالماء وصرخة رعب مدوية. سحبه أصدقاؤه من المياه، وجفَّفوه ودلكوه بسرعة، وهدَّءوا من رَوعِه وأوقفوه على قدميه مجددًا. لكن الغُرير كان قد امتلأ غيظًا وقال له إنه سيُرسله إلى البيت بلا نقاش إذا ما ارتكب إحدى حماقاته هذه مرة أخرى.
وهكذا، دخلوا إلى النفق السري أخيرًا لتبدأ من هناك حملتهم لطرد المحتلين من القصر!
كان ممر النفق مظلمًا ورطبًا وضيقًا وذا ارتفاع منخفِض، فبدأ جسد العُلجوم المسكين يَرتجف، لخوفه مما قد يقابله أمامه من جانب، ولأن ملابسه كانت ما تزال مبتلَّة بالماء من جانب آخر. كان ضوء المصباح أمامه بعيدًا جدًّا، ولم يستطع في هذه الظلمة إلا أن يتأخَّر قليلًا عن رفاقه، ثم سمع صوت الفأر ينادي عليه محذرًا: «تعجَّل يا عُلجوم!» فانتابه الذعر وخاف أن يُخلَّف وحيدًا في هذا الظلام الحالك، فأسرع في مشيه حتى إنه اصطدم بالفأر، الذي اصطدم بدوره بالخُلد الذي دفع الغُرير بدوره، فارتبكوا جميعًا لبضع دقائق. ظن الغُرير أنهم يُهاجَمون من الخلف، وحيث لا مجال داخل ذاك النفق الضيق لاستعمال العصا أو القطلس، سحب مسدسه وكاد أن يطلق النار باتجاه العُلجوم. وعندما اكتشف ما حدث في الحقيقة، استشاط غضبًا وقال: «هذا فراق بيننا وبين ذاك العُلجوم المُزعِج! فهو لن يكمل معنا الرحلة!»
بدأ العُلجوم بالانتحاب، فوعد الحيوانان الآخران الغُرير بأنهما سيصيران مسئولَين عن تصرُّفاته من الآن فصاعدًا؛ فهدأ الغُرير واستكملوا مسيرتهم. إلا أن الفأر هذه المرة مشى في مؤخرة الموكب، محكمًا قبضته على كتف العُلجوم.
أخذوا يتلمَّسون طريقهم ويجرون أقدامهم بحذر، وآذانهم منتصبة تتسمَّع أخفت الأصوات وأكفُّهم على زناد مسدَّساتهم في استعداد، حتى قال الغُرير: «نحن الآن على مقربة من أن نصل إلى أسفل القصر.»
ثم سمعوا فجأةً صوتًا بعيدًا عنهم لكنه ينبعث من فوق رءوسهم تقريبًا. كان صوت همهمات فوضوية، كأنها أصوات حيوانات تَصيح وتُهلِّل وتضرب الأرض بأقدامِها وتقرع الموائد بأيديها. توترت أعصاب العُلجوم وانتابه الذعر مرة أخرى، لكن الغُرير علق بصوت هادئ: «إنهم فتوات ابن عرس وقد بدءوا الاحتفال!»
بدأ النفق يرتفع شيئًا فشيئًا، فتحسَّسوا طريقهم للأمام مسافة قصيرة وفجأة صدحت الضوضاء مرة أخرى من فوقهم مباشرة، ولكن بصوت أعلى وأوضح. تنامى إلى سمعهم صوت صياح يقول: «مرحى! مرحى! مرحى!» ثم صوت دبيب أقدام صغيرة على الأرض، وصوت الكئوس وهي تهتز من ضرب كفوف صغيرة على الطاولة. قال الغُرير: «إنهم يقضون أوقاتًا سعيدة! لنتابع التقدم!» فأسرعوا يقطعون ما تبقَّى من النفق حتى وصلوا إلى نهايته ليَجدوا أنفسهم يقفون تحت باب سحري مخبَّأ يقود إلى وسط حجرة المئونة.
كانت الضوضاء الصادرة من قاعة الولائم عالية جدًّا حتى إنهم كانوا بمأمن من أن تسمع أصواتهم. قال الغُرير: «الآن يا شباب! كلنا في آنٍ واحد!» فوضع الأربعة أكتافهم معًا ودفعوا الباب السحري دفعة واحدة فرفعوه لأعلى. ساعد بعضُهم بعضًا في الصعود، فوجدوا أنفسهم يقفون في حجرة المئونة يفصلهم باب واحد عن قاعة الولائم حيث يحتفل أعداؤهم الغافلون ويُعربدون.
كانت الضوضاء تصمُّ الآذان بعدما خرجوا من النفق، ولكن بعد برهة خفت صوت التهليل والهتاف والطرق تدريجيًّا شيئًا فشيئًا، وبرز صوت يمكن سماعه يقول: «حسنًا، لن أطيل عليكم في حديثي هذا …» فعلَتْ أصوات التصفيق علوًّا شديدًا، ثم أضاف الصوت: «ولكن قبل أن أجلس في مقعدي لنستأنِف الحفل …» فتجدَّدت أصوات الهتاف والتهليل، ثم أكمل الصوت: «أحب أن أذكر مضيفَنا الكريم والمعطاء؛ السيد عُلجوم. بلا شك، جميعكم تعرفون العُلجوم!» فانفجر الجميع في الضحك. فأضاف الصوت: «إنه العُلجوم الطيب والمتواضع؛ العُلجوم الأمين!» فدوت القاعة بأصوات الضحك وصرخات الاستمتاع.
اصطكت أسنان العُلجوم بعضها ببعض من شدة الغضب، فغمغم قائلًا: «ذروني أُمسك بعنقه!»
قال الغُرير وهو يكبح جماحه بمشقة: «تمالك أعصابك دقيقة أخرى! ليَستعد الجميع!»
ثم راح الصوت يُكمل: «… دعوني أنشد لكم أغنية قصيرة ألفتها بنفسي عن العُلجوم.» فعلَت أصوات الترحيب والتصفيق.
ثم بدأ زعيم فتوات ابن عرس — إذ فمَن يكون غيره — بالإنشاد بصوت حاد جهور ومُزعج قائلًا:
اعتدل الغُرير وانتصب وأحكم كلتا قبضتيه حول عصاه، ثم نظر إلى رفاقه وصاح فيهم قائلًا:
«حان الوقت! اتبعوني!»
ثم دفع الباب ليُفتح على مصراعيه.
رحماكَ يا ألله!
كم مُلئ الهواء بأصوات الصراخ والعواء والصياح والعويل!
تخيَّل معي كيف انتفضت فتوات ابن عرس، فاختبأ بعضُهم تحت الطاولات، واندفع البقية بجنون تجاه النوافذ! تخيَّل معي كيف اندفعت حيوانات ابن مِقْرَض مذعورة إلى المدفأة ليَفروا بأنفسهم فحشروا جميعًا في المدخنة فلم يخرج منهم أحد! تخيَّل معي كيف قلبت الطاولات والمقاعد رأسًا على عقب، وتناثر حطام الكئوس والأواني الصينية على الأرض، في تلك اللحظة التي اقتحم فيها أبطالنا الأربعة المكان وشرر الغضب يَتطاير من أعينهم، فامتلأت القاعة هلعًا وذُعرًا! كان صوت العَصا الغليظة بيد الغُرير القوي الذي انتصب شعر شاربه يطنُّ وهو يخترق طبقات الهواء؛ بينما كان الخُلد، بلونه القاتم ووجهه الشرس، يُلوِّح بعصاه ويصيح بصيحة المعارك البشعة خاصته: «خووولدود! خووولدود!» أما الفأر فقد كان باسلًا مستميتًا في القتال وحزامه مدجج بتشكيلة من الأسلحة من كل نوع وعصر. والعُلجوم قد جن من فرط الإثارة واهتاج من أثر كبريائه المحطَّمة، فانتفخ حتى تضاعف حجمه، فأخذ يقفز في الهواء وهو يُصدر نقيق الضفادع الذي اقشعرَّت منه أجسادهم حتى النخاع، ثم صاح وقال: «عُلجوم خرج يَنشد المتع! سأريهم كيف هي المتعة الحقيقة!» ثم أسرع باتجاه زعيم فتوات ابن عرس. كانوا أربعة حيوانات عددًا، ولكنهم كانوا في أعين حيوانات ابن عرس المذعورة كأن القاعة امتلأت بجيش من الحيوانات الضخمة الرهيبة؛ حيوانات رمادية وسوداء وبنية وصفراء، جميعهم يُلوحون ويضربون بعصيٍّ غليظة، ففروا في كل مكان وهم يصيحون رعبًا وفزعًا؛ خرجوا من النوافذ وتسلَّقوا المدخنة، ولم يتركوا مهربًا إلا وتوجهوا إليه لينفذوا بجلودهم من ضرب تلك العصي المبرح.
سرعان ما انتهت المعركة في غضون خمس دقائق؛ فقد جاب الأصدقاء الأربعة القاعة طولًا وعرضًا وهم يقطفون بعصيِّهم كل رأس بارزة حتى طهروها. وكان صياح فتوات ابن عرس التي تفرُّ عبر الباحة، يصل إلى مسامعهم عبر النوافذ المحطمة ولكن ما لبث أن بدأ يخفتُ شيئًا فشيئًا، أما على الأرض فقد كانت عشرات من أجساد الأعداء ممدَّدة وقد خارت قواها، وكان الخُلد منهمكًا في تصفيد أياديهم. هدأ الغُرير واستراح مستندًا على عصاه ومسح عرق جبينه بعد قتال شاق ومرهق.
ثم قال: «يا خُلد! أنت أمهر رجالي وأفضلهم! اذهب إلى الخارج وابحث عن الحراس من حيوانات القاقم ثم انظر ماذا يفعلون. فأنا أظن أنهم لن يُزعجونا الليلة أبدًا، والفضل لك في هذا!»
اختفى الخُلد سريعًا عبر نافذة، وأمر الغُرير الحيوانين الآخرين بأن يُقيما إحدى الطاولات على أرجلها مرة أخرى وأن يلتقطا بعض الملاعق وشوكات الطعام والأطباق والكئوس من ذلك الحطام على الأرض، ثم يبحثا عن أي شيء يصلح لطعام العشاء. ثم قال بنبرته المعتادة في الحديث: «أنا أتضور جوعًا وأريد أن آكل! هيا يا عُلجوم! أرني همتك وابحث بنشاط وحيوية عن طعام! ها نحن قد استعدْنا لك منزلك، ولا نجد منك أي عرفان بصنيعنا هذا، ولا حتى برغيف من الخبز!»
شعر العُلجوم بالإساءة أن الغُرير لم يُطْرِه كما أطرى الخُلدَ وأثنى عليه بأنه أمهر الرجال وأفضلهم وكيف حارب ببسالة وشجاعة؛ فقد كان العُلجوم فخورًا بصنيعه وكيف ذهب إلى زعيم الفتوات وأرسله بضربة واحدة من عصاه طائرًا فوق الطاولات؛ لكنه أخذ يفتش فيما حوله من الحطام، وهكذا فعل الفأر. لم يمر وقت طويل حتى عثرا على طبق زجاجي به بعض الجيلي المصنوع من الجوافة ودجاجة باردة، ولسان حيواني لم تمسه سكين، وبعض الحلوى؛ والكثير من سلطة الكركند. ثم وجَدا داخل حجرة المئونة سلة مملوءة بالخبز الفرنسي وكمية من الجبن والزُّبد والكرفس. كانوا على وشك أن يجلسوا إلى المائدة، عندما ظهر الخُلد وهو يتسلَّق طريقه عبر النافذة وهو يحمل كومة من البنادق بين يدَيه ويضحك ضحكًا مكتومًا.
«لقد انتهى الأمر يا رفاق!» هكذا بدأ يُعطي لهم تقريرًا بما وجده. «أستطيع إخباركم مما استطعت أن ألاحظه، أنه عندما سمعت حيوانات القاقم صوت الصراخ والعويل والجلبة داخل القاعة، وقد كانوا هم أصلًا مهتاجين يملؤهم القلق وتُساورهم الشكوك؛ ألقى بعضهم البنادق على الأرض وفروا هاربين. أما بقيتُهم فقد ثبتوا راسخين في أماكنهم حينًا، ولكن عندما تدفقت حيوانات ابن عرس باتجاههم ظنوا أن خيانة قد حدثَت، فاشتبكت حيوانات القاقم مع حيوانات ابن عرس. كانت فتوات ابن عرس تُصارع للفرار من القصر، فضرب بعضهم بعضًا وتناجَزُوا وتواثبوا ثم ترنَّحوا وتدحرجوا حتى سقط معظمهم في مجرى النهر! أما الآن فقد اختفوا جميعًا بطريقة ما، فجمعت بنادقهم؛ لذلك كل شيء على خير ما يرام!»
قال الغُرير ولحم الدجاج والحلوى يملآن فمه: «حيوان رائع وذو عقل رشيد! والآن، أريدك أن أُكلِّفَك بمهمة أخيرة يا خُلد قبل أن تجلس إلى المائدة لتناول عشائك معنا. وما كنتُ لأُثقل عليك إلا لأنني أثق فيك لإتمام المهام. ويا ليتني أستطيع أن أضع مثل هذه الثقة في أي حيوان أعرفه. كنت لأرسل الفأر لو لم يكن شاعرًا. أريدك أن تأخذ هؤلاء الحيوانات المُمدة على الأرض معك إلى الطابق العلوي، وتجعلهم ينظفون بعض غرف النوم تنظيفًا شاملًا ثم يُرتِّبونها حتى تصير ملاذًا مُريحًا لمن يرتادها. اجعلهم يكنسون تحت الأسرَّة؛ ويستبدلون بأغطيتها ومفارشها المتسخة أخرى نظيفة، ويَثنون أطراف مفارش السرير كما تعلم كيف يجب أن تكون. ثم اجعلهم يضعون في كل غرفة وعاءً من الماء الساخن وبعض المناشف النظيفة وقوالب الصابون الجديدة. وعندما ينتهون، اضربهم إن أحببت، ثم أخرجهم من الباب الخلفي للقصر، وأظن أننا لن نرى أيًّا من وجوههم التعسة مرة أخرى. ثم عد إلى هنا واستمتع ببعض من هذا اللسان البارد؛ فمذاقه رائع. أنا عنك راضٍ تمامًا يا خُلد!»
أمسك الخُلد الطيب بعصًا ثم صف الأسرى في صفٍّ واحد على الأرض وألقى عليهم التعليمات وأعطاهم الأوامر ثم قال: «بخطوة سريعة! تحَّركوا!» وتقدم فرقته وقادهم إلى الطابق العلوي. بعد مدة ظهر مجددًا وهو يبتسم ويقول إن كل الغرف قد نُظفت وصارت تلمع كنصل سيف جديد، ثم أضاف: «ولم أضطرَّ إلى ضربهم! فكنت أرى في المجمل أن أجسادهم قد أُبرحت ضربًا بما يكفي لليلة واحدة، وقد وافقتْني حيوانات ابن عرس عندما تداولتُ الأمر معهم، وقالوا إنهم لن يُزعجوني ولن يُفكروا في ذلك أبدًا. كانوا نادمين أشد الندم، وقالوا إنهم يشعرون بالأسف الشديد على ما اقترفته أياديهم، وإن كل ما حدث هو ذنب زعيم الفتوات وحيوانات القاقم. وأضافوا أنهم إن كان بإمكانهم في أي وقت أن يُسْدوا لنا أي خدمة تعويضًا عما بدر منهم، فما علينا إلا أن نُخبرَهم بذلك. وهكذا أعطيت كل واحد منهم رغيف خبز وأطلقتُ سراحهم عند الباب الخلفي، فانطلقوا يركضون بأقصى ما يستطيعون!»
سحب الخُلد مقعدَه وقرَّبه من المائدة وبدأ يلتهم اللسان البارد، أما العُلجوم فقد نحى غيرته من الخُلد جانبًا كسيد مهذب ثم قال بمودة: «أشكرك من صميم قلبي يا عزيزي الخُلد على كل ما قاسيته الليلة من مشاقَّ وأتعاب، وأخصُّ ما أظهرته هذا الصباح من فطنة وذكاء!» أعجَبَ صنيع العُلجوم هذا الغُرير فقال: «ها هو العُلجوم الشجاع قد تكلَّم!» وهكذا أنهَوْا عشاءهم في فرحة عارمة ورضًا واطمئنان، ثم خلدوا إلى الراحة في أحضان ملاءات السرير النظيفة، آمنين في بيت العُلجوم الذي ورثه أبًا عن جد بعد أن استعادوه ببسالة لا نظير لها وتخطيط ماهر ومهارة عالية في الضرب بالعصي.
في الصباح التالي، استيقظ العُلجوم متأخرًا من النوم كعادته، وحضر إلى طعام الفطور متأخرًا جدًّا ليجد على المائدة كمية من قشر البيض وكسرات من خبز محمَّص بارد وخشن وإبريق قهوة شُرب ثلاثة أرباعه وبعض الفتات والبقايا التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع، مما لم يُساهم في تحسين مزاجه؛ مع الوضع في الاعتبار أن هذا هو منزله في نهاية المطاف. كان يرى، عبر نوافذ غرفة الفطور الفرنسية الطراز، الخُلد والفأر يجلسان على كرسيين من الخوص في باحة المنزل، وقد بدا عليهما أنهما يقصان القصص والحكايات كلٌّ منهما على الآخر ويَضحكان حتى القهقهة وأرجلهما ترفس الهواء من فرط السرور. أما الغُرير فقد كان يجلس على مقعد ذي مسندَين غارقًا في قراءة صحيفته الصباحية، ولم يزد عن نظرة للعُلجوم وإيماءة له عندما دخل الغرفة. كان العُلجوم قد اعتاد طباع الغُرير؛ لذلك جلس إلى المائدة وأخذ يجمع من بين الفتات والبقايا أفضل فطور ممكن وهو يُتمتم بينه وبين نفسه مسرِّيًا عنها أنه سيسدُّ جوعه بوجبة شهية عما قريب. وعندما أوشك أن ينتهي من طعامه، نظر إليه الغُرير وعلَّق باقتضاب: «أرجو المعذرة يا عُلجوم، ولكن ينتظرك عمل شاق هذا الصباح. فأنت تعلم أن علينا أن نُقيم مأدبة في الحال احتفالًا بعودة القصر. هذا عمل متوقَّع منك؛ ولأصدقك القول، هذا هو العرف.»
رد العُلجوم: «بكل تأكيد! سأفعل أي شيء يُرضيك! ولكن أخبرني بالله عليك، لم قد ترغب بإقامة مأدبة في الصباح؟ لستُ أفهم دوافعك! ولكن، أتعلم يا عزيزي الغُرير، أنا لا أعيش في هذه الحياة لأحظى بالمتعة وحدي، ولكن لأرى ما الذي سيُدخل السرور على قلوب أصدقائي وأبذل قصارى جهدي لأحققه لهم!»
رد الغُرير ساخرًا وقال: «لا تتغابَ؛ فحظُّك من الغباء وافر! ولا تحتسِ قهوتك وأنت تُصدِر هذه البقبقات وتلك الأصوات؛ فهذا سلوك سيئ. ما عنيتُه من كلامي هو أن المأدبة ستُقام ليلًا بالتأكيد، لكن الدعوات يجب أن تكتب ثم تُرسل في أسرع وقت، وأنت من سيكتبها. اذهب الآن واجلس إلى الطاولة، وستجد عليها رزمة من أوراق الخطابات معنونة بعبارة «قصر العُلجوم» مكتوبة باللونين الأزرق والذهبي. ادعُ جميع أصدقائنا، وإن صببتَ جلَّ تركيزك في عملك هذا، فربما انتهينا منه قبل حلول وقت الغداء. سأمدُّ لك يد العون فلا تقلق، وسأتحمَّل معك بعض المشقة؛ فأنا سأذهب لأنتقي طعام المأدبة.»
صاح العُلجوم في استياء: «ماذا؟ أنا أجلس داخل المنزل في مثل هذا الصباح المشرق لأكتب تلك الدعوات البغيضة التي لا حصر لها، بينما أتوق إلى التجول حول قصري لأُعيد كل شيء لوضعه الصحيح، ثم أتسكَّع مُستمتعًا بحياتي! كلا بكل تأكيد! فكِّر في الأمر لدقيقة وضع نفسك مكاني يا غُريري العزيز! ما الذي سأجنيه مقارنة بما يَحظى به الآخرون من متع! لا عليك، أنت تُريد هذه المهمة أن تنفذ، إذن سأعمل على تنفيذها. هيا! اذهب يا غُرير وانتقِ طعام المأدبة، انتقِ ما تُحب وتشاء، ثم إذا ما انتهيت، انضم لصديقينا الصغيرين في الخارج وشاركهما مرحهما العفوي، وتناسَ أمري وما عليَّ حمله من واجبات وأعباء. اذهب! فأنا سأُضحي بهذا الصباح كقربان للصداقة والواجب الأخلاقي!»
رمقه الغُرير بنظرة متشكِّكة جدًّا، لكن ملامح العُلجوم الصريحة التي تعكس مشاعرَه ولا تُخفيها صعبت من احتمالية وجود أي دوافع تافهة وراء ذلك التغير السلوكي. وبناءً على هذا، غادر الغُرير الغرفة متجهًا إلى المطبخ. وحالَما أغلق الباب خلفه، أسرع العُلجوم إلى طاولة الكتابة، فقد طرأت فكرة رائعة في عقله وهو يتحدَّث إلى الغُرير؛ فهو سيكتب الدعوات وسيحرص على ذكر دوره البطولي في معركة الأمس وكيف طرح زعيم فتوات ابن عرس أرضًا، وسيُلمِّح إلى مغامراته وسلسلة انتصاراته الطويلة التي في جعبته ليحكيَها. كما سيُنوِّه على ظهر الدعوة أنه سيرتب بعض الأنشطة الترفيهية للأمسية؛ لقد تصور شيئًا كهذا في رأسه:
الخطاب الترحيبي: سيُلقيه العُلجوم.
(وستكون هناك خطابات أخرى يلقيها العُلجوم أثناء الأمسية.)
الخطبة: سيُلقيها العُلجوم.
الافتتاحية – السجون والنظام العقابي في بلدنا – قنوات المياه والصرف في إنجلترا القديمة – تجارة الأحصنة وكيف تَشتري أو تبيع حصانًا – الممتلكات الخاصة: حقوق وواجبات – العودة إلى أرض الوطن – يوم في حياة إقطاعي إنجليزي.
الأغنية: سيُنشدها العُلجوم.
(سيُنشِد أغنية ألَّفها بنفسه.)
الأغاني الأخرى: سيُنظمها العُلجوم.
وسيُنشدها المغني بنفسه خلال فقرات الأمسية.
أعجبته الفكرة إلى حد بعيد، فعمل بجد واجتهاد إلى أن أنهى كتابة جميع الدعوات عند الظهيرة. وفي تلك الساعة أُخبِر أن هناك حيوانًا صغيرًا أشعثَ متَّسخ الثياب من حيوانات ابن عرس يقف عند الباب ويسأل في حياء إن كان السيد يرغب في أي خدمة فيقضيها له. ذهب إليه العُلجوم متبخترًا في مشيته، فوجد أنه أحد الذين أُسروا الليلة الماضية، وكان مهذَّبًا يتلهَّف أن يحوز الرضا. فربَّت على رأسه وألقى بحُزْمة من الدعوات بين كفَّيه، ثم أمره أن يُسلمها إلى المدعوين بأسرع ما يمكن. وقال له إنه إذا أحب أن يعود في المساء، فربما أعطاه شلنًا وربما لا، فبدا الامتنان على ابن عرس المسكين ثم أسرع في لهفة ليُنجز مهمته.
وعندما عادت الحيوانات الأخرى لتناول طعام الغداء، مفعمين بالحياة والنشاط، والسعادةُ تعلو وجوههم، بعد أن قضوا صباحهم على ضفاف النهر، نظر الخُلد الذي كاد أن يقتله وخْز ضميره إلى العُلجوم بارتياب؛ فقد كان يتوقع أن يجده حزينًا محبطًا، ولكن على النقيض، كان العُلجوم معتدًّا بنفسه وقد انتفخ كبرًا وغرورًا لدرجة أن الخُلد بدأ يلحظ شيئًا ما، بينما تبادل الفأر والغُرير نظراتٍ ذات مغزى.
وعندما انتهى طعام الغداء، دفَن العُلجوم كفيه في جيبي سرواله ثم علق دون تكلف: «حسن يا رفاق! استمتعوا بأوقاتكم، ولا تتردَّدوا في طلب أي شيء تشتهونه!» ثم تهادى باتجاه الحديقة حيث أراد أن يتفكَّر في بعض الموضوعات لخطبه القادمة، ولكن الفأر أمسكه من ذراعه حينها.
ارتاب العُلجوم فيما أراده الفأر، فبذل جهده ليتملَّص من قبضته، لكن عندما قبض الغُرير على ذراعه الأخرى بقوة بدأ يرى أن هناك مؤامَرة تحاك ضده. قاده الحيوانان إلى غرفة التدخين الصغيرة التي تُطل على قاعة الاستقبال ثم أغلقا الباب وأجلَساه على أحد المقاعد. وقف الحيوانان أمامه بينما ظل العُلجوم جالسًا في صمت وهو ينظر إليهما وقد تعكَّر مزاجه وساورته الظنون.
قال الفأر: «والآن، اسمعني جيدًا يا عُلجوم! الأمر يتعلَّق بمأدبة الليلة. أنا آسف لأني مُضطرٌّ لأن أحدثك بهذه اللهجة، ولكن نُريدك أن تفهم ما سأقوله فهمًا واضحًا وبلا نقاش. لن تكون هناك أي خطب أو أغانٍ أثناء المأدبة. حاول أن تعيَ حقيقة أننا هذه المرة لا نتناقَشُ معك أو نُجادلُك؛ إننا نُخبرك فقط بما سيحدث!»
وجد العُلجوم نفسه قد حُوصر. لقد فَطِنا إلى ما يسعى إليه، ورأيا ما يختلج قلبه من أفكار وسبقاه وتقدَّما عليه. فأدرك أن حلمه السعيد قد تلاشى.
توسل في خضوع وقال: «هل لي بأن أنشد لهم إحدى الأغاني الصغيرة فقط؟»
رد الفأر بحزم مع أن قلبه كاد أن يَنفطر حزنًا عندما رأى شفة العُلجوم المسكين ترتجف من خيبة الأمل، وقال: «لا! ولا حتى أغنية صغيرة واحدة. الأمر ليس مقبولًا، أنت تعرف يا علجمي الصغير أن جميع أغانيك تمتلئ فخرًا وغطرسة وتكبُّرًا؛ وخطاباتك كلها تمدح فيها ذاتك و… و… وتعجُّ بالمبالغات الفظيعة و… و…»
ثم أضاف الغُرير بنبرته المعهودة: «وتفيض بالثرثرة!»
أكمل الفأر: «هذا لمصلحتك يا علجم! أنت تدري أنك لا بد أن تبدأ صفحة جديدة في حياتك عاجلًا أم آجلًا كنقطة تحوُّل في مجرى حياتك؛ والآن يبدو وقتًا ملائمًا جدًّا لذلك. أرجو ألا تظنَّ أن قولي هذا لا يؤلمني، بل يؤلمني أكثر مما يُؤلمك.»
ظل العُلجوم غارقًا في التفكير مدة طويلة، ثم رفع رأسه في النهاية وآثارُ انفعالات قوية ظاهرة على تقاسيم وجهه وقال بنبرة كسيرة وحزينة: «هنيئًا لكما انتصاركما يا صديقَيَّ! قطعًا لم يكن ما طلبته منكما إلا معروفًا صغيرًا؛ فسحة أسرِّي بها عن نفسي وأفرِّج عنها ليلة أخرى؛ فسحة ليملأ صوت التصفيق الحار أذنَيَّ، ذاك الصوت الذي دائمًا ما كان بمقدوره، بطريقة ما، أن يُخرج أفضل ما في طبيعتي من صفات وميزات. ولكن على أي حال، أنتما محقان، وأنا أقر بأني على خطأ. ومن الآن فصاعدًا، سأكون عُلجومًا مختلفًا تمامًا. أعاهدكما يا صديقيَّ أني لن أضع نفسي في موقف تخجلان فيه من معرفتي! لكن يا ويلي! يا ويلي! كم هو قاسٍ هذا العالم!»
ثم ضغط بمنديله على وجهه وغادر الغرفة بخطوات متثاقِلة مُتداعية.
قال الفأر: «ما لي أشعر كأني حيوان قاسٍ وفظٌّ يا غُرير! ما الذي تشعر به أنت؟»
رد الغُرير بحزن شديد: «يا ألله! أنا أتفهَّم تمامًا ما تشعر به! ولكن كان علينا فعل هذا على أي حال. سيعيش هذا الشاب الطيب هنا في هذا المكان وسيُدبر أموره بنفسه وسيفرض على الجميع احترامه. أتريد أن يكون أضحوكة بين الحيوانات، وتَهمِز حيوانات القاقم وابن عرس وتَلمِز كلما رأوه؟»
قال الفأر: «بالطبع لا! وبالحديث عن حيوانات ابن عرس؛ فيا له من حظٍّ سعيد أن نتعثَّر في ذاك الحيوان الصغير في طريقنا، وهو يهمُّ ليُوزع الدعوات التي خطها العُلجوم. بدأت الشكوك تُساورني مما أخبرتني به، فنظرت إلى دعوة أو دعوتين وكانتا ببساطة فضيحة بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. صادرت الدعوات، وفي الوقت الحالي، يجلس الخُلد الطيب في الغرفة الزرقاء ويكتب الدعوات الجديدة.»
اقتربت ساعة المأدبة بعد طول انتظار، وكان العُلجوم، الذي انسحب إلى غرفة نومه وانزوى فيها بعد أن ترك صديقَيه، ما يزال يجلس هناك مهمومًا متفكرًا. كان يضع رأسه على كفه في قنوط غارقًا في تفكير عميق وطويل. بدأت ملامحه تصفو شيئًا فشيئًا وأخذت ابتسامة ضعيفة تشق طريقًا طويلًا لتُرسَم على ثغره، ثم بدأ يضحك ضحكًا خفيفًا في خجل وتحفُّظ. بعد ذلك قام من مكانه وأغلق الباب وغطى النوافذ وواراها بالستائر ثم جمع كل كراسي الغرفة ورتَّبها في نصف دائرة واتخذ في وسطها مكانًا له ثم بدأ ينتفخ فخرًا وزهوًا. انحنى أمام الكراسي تحية لها، ثم تنحنحَ مرتَين وأطلق لنفسه العنان فصدح صوته بالغناء ليُمتِّع أسماع جمهوره الذي كانت عيناه تراه بجلاء:
أنشد هذه الأغنية بصوتٍ جهورٍ وبسعادة غامرة وإلقاء معبِّر. وعندما انتهى، عاد الكَرَّة من جديد وأنشدها مرة أخرى.
ثم ملأ صدره بالهواء وتنفَّس الصعداء؛ كان نفَسًا عميقًا جدًّا.
غمس فرشاة شعره في إبريق الماء ثم فرق شعره من منتصف رأسه، فهذَّب كل نصف وسوَّاه ثم أرسله على جانبي رأسه. بعدها، فتح الباب وبدأ يهبط الدرج بهدوء ليُحييَ ضيوفه الذين علم أنهم يجتمعون في غرفة الرسم.
هللت جميع الحيوانات عندما تخطى باب الغرفة، ثم التفُّوا حوله ليُهنِّئوه وليُثنوا على شجاعته وحنكته وبراعته في القتال، لكن العُلجوم لم يزدْ في ردِّه عن ابتسامة ضعيفة ثم كان يقول هامسًا: «شكرًا جزيلًا!» أو يقول أحيانًا على سبيل التغيير: «أنا لا أستحقُّ كل هذا!» أما ثعلب الماء، الذي كان يقف على سجادة المدفأة يصف لثلَّة من الأصدقاء المعجَبين به كيف كان ليناور ويقاتل إن شهد تلك المعركة، ما إن رأى العُلجوم حتى حيَّاه بصيحة وقدِمَ باتجاهه ثم وضع ذراعه حول عنقه محاولًا أن يطوف به الغرفة في جولة احتفالية بالنصر، لكن العُلجوم تجاهَلَه بلُطف وعلق بلطف وهو يُخلِّص نفسه: «كان الغُرير هو الرأس المدبر، وتحمَّل الخُلد والفأر وطأة القتال وشدَّته. أما أنا فقد شاركت في القتال ولم أفعل إلا القليل.» بدت الدهشة على الحيوانات وانبهروا بهذا السلوك الذي لم يعهدُوه عن العُلجوم. وبينما انتقل العُلجوم من ضيف إلى آخر وهو يردُّ بردوده المتواضِعة والخجولة، كان يشعر أنه يستحوذ على اهتمام الجميع واستحسانهم.
كانت المأدبة شهية وموفقة؛ فقد انتقى الغُرير كل شيء على أحسن وجه وبأفضل جودة، وتخلَّلها الكثير من المسامرة والضحك والمزاح بين الحيوانات. ولكن خلال كل هذا، كان العُلجوم، جالسًا على كرسيه بالطبع، يميل برأسه ويهمس بكلام طيب ولطيف إلى الحيوانات إلى جواره. وكان يسترق النظر إلى الغُرير والفأر بين الفينة والأخرى، وكلما نظر إليهما وجدهما ينظر كلٌّ منهما إلى الآخر في ذهول فاغرًا العينين من الدهشة، فكان يُشعره ذلك بارتياح ورضًا عظيمَين. وبينما تمضي الأمسية، همست بعض الحيوانات الشابة، التي ما يزال عنفوان الحياة يسري في عروقها، إلى بعضها واشتكوا بأن الحفلة ليست مُمتعة كسابقتها من الحفلات في الماضي، ثم بدأت أصوات القرع على الطاولات ترتفع وعلَت الهتافات وقالت: «عُلجوم! خطبة! ليُلقِ العُلجوم خطبة! لينشد أغنية! أغنية من نظم العُلجوم!» لكن العُلجوم هز رأسه بلطف ورفع كفه رافضًا بدماثة، ثم بدأ يشغل نفسه بأن يلحَّ على ضيوفه بأن يستزيدوا من الطعام الشهي، وبالمحادثات القصيرة والسؤال باهتمام والاطمئنان على أفراد عائلات الحيوانات الذين ما يزالون صغارًا ليَحضروا المناسبات الاجتماعية. وهكذا نجح في أن يوصل لضيوفه رسالة بأن هذا العشاء مُقامٌ وَفق نظام صارم.
لقد كان حقًّا عُلجومًا مختلفًا!
بعد أن انقضت هذه المأدبة، استكمل الحيوانات الأربعة حياتهم في سعادة غامرة وهناء بعد أن نغصتها وعكرت مجراها تلك الحرب الأهلية البائسة، فلم يقلقهم بعدها أي ثورة أو عدوان. واختار العُلجوم، بعد مشاورات وافية مع أصدقائه، قلادة ذهبية تُرصِّعُها حبات اللؤلؤ، وأرسلها إلى ابنة السجان مع خطاب حتى الغُرير أثنى على ما احتواه من تواضُع وشكر وعرفان بالجميل. ثم أتى دور مالك السيارة، الذي شكره شكرًا وافيًا وقدَّم له تعويضًا عن جميع المتاعب والأضرار. حتى المرأة صاحبة الزورق البخاري، بحث العُلجوم عنها بعد إلزام وإجبار شديدَين من الغُرير. وقد واجهته بعض المتاعب في بحثه عنها، لكنه وجدها وأعطاها قيمة الحصان؛ مع أنه اعترض بشدة على ذلك؛ فقد كان يرى أنه سبب من الأسباب التي سخَّرها الله لتُعاقَب امرأة بدينة ذات أيادٍ قذرة ولا تقدر على التعرُّف على سيد نبيل حين تراه. لم يكن المبلغ الذي دفعه ثمنًا باهظًا لقاء حصان؛ فقد أقر المثمنون المحليُّون أن تقدير الغجري كان أقرب شيء للصحة.
في ليالي الصيف الطويلة، من وقت لآخر، كان الأصدقاء الأربعة يذهبون معًا للتنزه في البراري التي رُوِّضت بنجاح الآن بالقدر الذي يرونه مُناسبًا؛ وكانت الحفاوة والاحترام اللذان يُحيِّيهم بهما سكان تلك البراري يشرح الصدر. وكانت الأمهات من حيوانات ابن عرس تنادين على أطفالهن وتقفن معهم على حافة الجحور وتُشِرن بأصابعهن وتقلْنَ لهم: «انظروا هناك يا صغاري! هذا هو السيد عُلجوم ذو المهابة! وذاك الذي يمشي معه، هو فأر الماء ذو القلب الشجاع والمُحارِب الجسور! وهناك ترى السيد خلد ذائع الصِّيت الذي تسمعون عنه كثيرًا في حكايات والدكم!» ولكن عندما يَعنِد أولادهنَّ ويخرجون عن السيطرة، كنَّ يُرهبنهم ويأمرنهم بأن يهدءوا ويُهذبوا من سلوكهم وإلا فسيأتي الغُرير الرمادي المُرعب ويأخذهم بعيدًا. كان ذلك تشويهًا وضيعًا لصورة الغُرير الذي رغم أنه لم يكن يهتم لأمر المجتمع إلا قليلًا، كان يُحبُّ الأطفال حبًّا جمًّا، لكن هذا الترهيب كان ينطلي على الأطفال في كل مرة كالسحر.