السيد غُرير
انتظَرا — لما بدا — وقتًا طويلًا جدًّا بصبر وطول بالٍ وهما يَضربان الأرض بأقدامهما ليُحافِظا على دفء جسدَيهما. وأخيرًا، سمعا صوت أقدام في الداخل بطيئة ومتثاقلة تقترب من الباب، وقد بدا الصوت، كما قال الخُلد للفأر معلِّقًا، صوت حيوان يخطو في نعلٍ منزلي مهترئ وواسع لا يلائم مقاس قدمه. كان ذلك تخمينًا ذكيًّا من الخُلد؛ فقد كانت هذه هي الحقيقة بالضبط.
بعد ذلك سمعا صوت مزلاج الباب وهو يُزاح للوراء ثم فتح الباب فتحًا مواربًا ولكن كافيًا ليُظهر مَن وراءه أنفًا طويلًا وزوجًا من العيون النَّعِسة والخاملة.
علا صوت أجش وحَذِر وقال: «حسنًا، في المرة المقبلة عندما يحدث شيء مثل هذا سأَستشيط غضبًا. مَن الذي يطرق أبواب البيوت في تلك الساعة ليزعج سكانها في ليلة كهذه؟ من هناك، تكلم!»
صاح الفأر: «أيها الغُرير! اسمح لنا بالدخول، من فضلك! إنه أنا، الفأر وهذا صديقي الخُلد. لقد ضللنا الطريق وسط الثلوج.»
صاح الغُرير مندهشًا وقال بنبرة مختلفة: «من؟! فأرون! صديقي الصغير العزيز! تعالَيا، تفضَّلا بالدخول حالًا. لا بد وأن جسدَيكما قد تجمَّدا من البرد! عجبًا، لم يحدث لي أن ضللت طريقي وسط الثلوج وفي البراري أيضًا وفي هذا الوقت من الليل! على كل حال، تعاليا إلى الداخل معي.»
تدافع الحيوانان من شدة اللهفة وهما يهمان بالدخول إلى البيت، ثم سمعا الباب يغلق من ورائهما وقد انتابهما شعور بفرح غامر وراحة بعد عناء.
كان الغُرير يَرتدي رداء نوم طويلًا، وقد كان نعله مهترئًا جدًّا بالفعل ويحمل في يده شمعدانًا مسطحًا، وعلى ما يبدو أنه كان يستعدُّ لكي يأوي إلى فراشه عندما سمع صوت طرقهما للباب وقرعهما الجرس. نظر إليهما برقة وحنو وربت على رأسيهما وقال بعطف أبوي: «هذه ليست ليلة مناسبة لحيوانَين صغيرين مثلكما ليقضياها بالخارج! أخشى أنك كنت تسعى وراء مغامرة طائشة من مغامراتك يا فأرون! على أي حال، تعاليا معي إلى المطبخ؛ فهناك نار كفيلة بتدفئتكما وعشاء لكما وكل ما تحتاجانه.»
جر قدميه أمامهما حاملًا الشمعدان ليُنير لهما الطريق، وتبعاه وهما يتدافعان بمرفقَيهما في ترقُّب، ويسيران في ممر طويل ومظلم، وفي الحقيقة، قذر، قادهما إلى ما يشبه قاعة رئيسية كانا يُمكنهما بصعوبة رؤية سراديب أخرى طويلة تشبه الأنفاق تنبثق منها؛ سراديب يغشاها الغموض وبلا نهاية ترى. وكانت هناك أبواب عديدة في تلك القاعة؛ أبواب ضخمة تسر الناظرين من خشب شجر البلوط. دفع الغُرير أحد تلك الأبواب ففتح، وعلى الفور وجدوا أنفسهم في أحضان مطبخ فسيح ودافئ مضاء بنيران المدفأة.
كانت الأرض مغطاة بقراميد حمراء بالية، وفي المدفأة الواسعة كان الحطب يوقد نارًا بين مدخنتين رائعتين دُفنتا داخل الحائط عند زاويتَي الغرفة مُبعَدتَين عن أي تيار هواء محتمل. وأمام النار كان هناك مقعدان متقابلان ذوا ظهرين عاليين يؤمِّنان راحة أكثر لهذه الجلسة الودودة. وفي منتصف الغرفة كانت هناك طاولة كبيرة عبارة عن ألواح خشبية مستوية موضوعة على حوامل، وعلى كل جانبٍ منها وضعت مقاعد للجلوس. وفي أحد طرفيها، كان هناك كرسي ذو مسندَين أزيح للوراء وكانت بقايا عشاء بسيط ولكن وافر في الوقت ذاته مبعثَرةً على الطاولة. وبرَقَت صفوف من الأطباق النظيفة من أرفف خزانة المطبخ في آخر الغرفة، وتدلَّى من السقف اللحم المجفَّف وحزم الأعشاب المجفَّفة وشباك البصل وسلال البيض. كان المكان يبدو كقاعة يحتفل فيها الأبطال بعد انتصاراتهم؛ أو حيث يجتمع الحاصدون المُنهَكون ليصطفُّوا حول الطاولة في مجموعات لينعموا بالمرح والغناء في وليمة أواخر موسم الحصاد؛ أو حيث يجلس صديقان أو ثلاثة أينما شاءُوا يأكلون ثم يدخنون ويتسامَرون في راحة بال واطمئنان. ابتسم قِرْميد الأرض المتورِّد إلى السقف المُفعَم بالدخان؛ وتبادلَت المقاعد اللامعة العتيقة المصنوعة من خشب شجر البلوط نظراتِ البهجة بعضها مع بعض؛ أما الأطباق في الخزانة فقد ابتسمت إلى القدور على الرفوف ابتسامة ناصعة، ورقص ضوء النار الرشيق وارتعش وتلألأ منعكسًا على كل شيء دون تفريق.
أجلسهم الغُرير الطيب على أحد المقعدَين ليَنعما بالدفء أمام نار المدفأة، وعرض عليهما أن يخلَعا معطفَيهما وحذاءيهما المبلَّلَين، ثم أحضر لكل واحد رداءَ نومٍ ونعلًا، ثم نظَّف بنفسه قصبة ساق الخُلد المصابة بماء دافئ وضمد الجرح بضمادة لاصقة، حتى رجعت الساق سليمة ومعافاة كسابق عهدها، إن لم تكن أفضل. وفي أحضان الضوء والدفء، جلَس أخيرًا هذان الحيوانان اللذان دفعتْهما العاصفة إلى حيث هما الآن في مخدع آمن في دفء وجفاف وأقدامُهما ممدودة أمامهما، ويسمعان قعقعة الأطباق المثيرة وهي تُرتَّب خلفهما على الطاولة، وقد بدا لهما أن تلك البراري الموحشة والباردة التي خلفاها وراءهما عند الباب تبعد عنهما بُعد المشرقين، وأن كل تلك المعاناة التي قاسياها ما هي إلا حلم بالكاد يذكران أحداثه.
عندما جفَّا وحصَلا على قدرٍ كافٍ من الدفء، دعاهما الغُرير إلى المائدة، حيث كان مُنهمكًا في وضع الطعام. كانا قد شعرا بالجوع قبلًا، ولكن ما إن حطت أنظارهما أخيرًا على المائدة وما بُسط عليها من طعام العشاء، حتى دار في عقليهما سؤال واحد؛ أي طعام سيَنقضَّان عليه لالتهامه أولًا، حيث كل الأطباق على المائدة شهية، وهل ستتكرَّم بقية الأطباق وتنتظرهما حتى يُولياها اهتمامًا؟ كان الحديث على المائدة أمرًا مستحيلًا لوقتٍ طويل، وعندما استؤنف الحديث رويدًا رويدًا، كان حديثًا من تلك الأحاديث التي تستحق الندم على الخوض فيها؛ فقد كانا يتكلَّمان بِفاهَينِ مملوءين بالطعام. لم يُعارض الغُرير مثل هذه التصرفات مطلقًا، ولم يُعلِّق على وضع كلٍّ منهما مرفقيه على الطاولة أو أنهما كانا يتحدَّثان في الوقت نفسه. وحيث إن الغُرير لم يكن قد انخرط في المجتمع بنفسه، فقد ظن أن مثل هذه التصرفات من التوافه التي لا يُلقى لها بال. (نحن نعرف أنه مخطئ في هذا بلا شك ونظرته تلك كانت قاصرة؛ فهذه تصرُّفات في غاية الأهمية، وسنَستغرِق وقتًا طويلًا إذا أردنا أن نشرح لما هي بهذه الأهمية). جلس في مقعده ذي المسندَين على رأس المائدة، وأخذ يهزُّ رأسه موافقًا كل حِينٍ وآخر بينما يَحكي الحيوانان قصتهما؛ لم يبدُ عليه الاندهاش أو الصدمةُ من أي شيء قالاه. ولم يقل لهما: «لقد أخبرتكما بهذا من قبل.» أو «هذا ما قلته لكما مرارًا وتكرارًا.» ولم يشرْ إلى أنه كان عليهما أن يفعَلا كذا وكذا، أو كان عليهما ألَّا يفعَلا شيئًا مما فعلاه. ولهذا بدأ الخُلد يشعر بودٍّ واستلطاف لشخصية الغُرير.
عندما انتهى الحيوانان أخيرًا من تناول العشاء، كان كلٌّ منهما يشعر بأنه محشوٌّ بالطعام إلى حدِّ الامتلاء وأنه بأمان الآن؛ وفي ذلك الوقت لم يكن يهتم أي منهما قيد أنملة بأي شيء أو بأي أحد. جلسا إلى جوار الجذوة المتوهجة للنار المشتعلة في الحطب، ودار بخَلَدهما كم هو جميل السهر لوقت متأخِّر من الليل بلا رقيب ولا حسيب مع الامتلاء بالطعام حد التخمة. وبعد أن دار بينهما وبين الغُرير حوار دام بعض الوقت حول أمور عامة، قال الغُرير بمودة: «والآن قصَّا عليَّ أخبار ذلك الجزء من العالم الذي تعيشان فيه. كيف هو العُلجوم وكيف حاله؟»
رد عليه الفأر على نحو جاد: «أوه، من سيئ إلى أسوأ!» بينما استقام الخُلد في جلسته قرب نار المدفأة متدفئًا بها، وكانت قدماه في مستوًى أعلى من رأسه، وحاول أن يبدو حزينًا ومتفجعًا كما يتطلَّب الموقف. ثم أكمل الفأر: «اصطدام واحد فقط خلال الأسبوع الفائت، وقد كان مروعًا. إنه لا يزال يصرُّ على القيادة بنفسه، وهو للأسف غير أهلٍ لهذا ولا أملَ فيه. ولو أنه استأجر حيوانًا رزينًا ومهذبًا وحسن التدريب وأعطاه راتبًا مناسبًا وترك له الأمر برمَّته، لأراح واستراح. لكن لا؛ فهو يظن في قرارة نفسه أنه سائق موهوب بالفطرة، وأن لا أحد أعلم منه ليُعلِّمه شيئًا يجهله.»
تساءل الغُرير على نحو عابس: «كم عددها؟»
رد عليه الفأر بسؤال آخر وقال: «أتقصد عدد الاصطدامات أم عدد السيارات؟ أوه، على أي حال، العددان مُتماثلان في حالة العُلجوم. فهذه هي السيارة السابعة. أما عما سبَقها، فإن كنت تعرف المرأب خاصته، فهو عبارة عن أكوام من الخردة؛ أكوام من أجزاء تلك السيارات مُكدَّسة بعضها فوق بعض حتى سقف المرأب، وأكبر جزء من تلك السيارات الست السابقة هو بحجم القلنسوة التي تَعتمرها! وهذا هو عددها حتى الآن!»
أضاف الخُلد: «لقد نُقل إلى المستشفى ثلاث مرات. أما المخالفات التي كان لزامًا عليه أن يُسدِّد قيمتها، فهي ببساطة شيء مُفزع إذا فكرت به.»
أكمل الفأر كلام الخُلد وقال: «أجل! وهذا جزء من المشكلة. إن العُلجوم ذو ثروة ومال، وجميعنا يعرف هذا، ولكنه ليس فاحشَ الثراء. إنه سائق طائش طيشًا لا رجاء معه، ولا يحترم النظام ولا القانون. وسيكون مصيره إن آجلًا أو عاجلًا أحد شيئين لا ثالث لهما؛ إما أن يموت وإما أن يُفلس. ألا ترى يا غُرير أننا أصدقاؤه وأن علينا أن نفعل شيئًا حيال هذا الأمر؟»
أخذ الغُرير يُمعن التفكير في الأمر لبرهة ثم قال أخيرًا بصرامة: «انتبِها جيدًا! أنتما بلا شكٍّ تعرفانِ أني لا أقدر على فعل أي شيء الآن، أليس كذلك؟»
صدَّق صديقاه على كلامه في فهم تام لوجهة نظره. فطِبقًا لآداب وقواعد التعامل بين الحيوانات، لا يُتوقَّع من أي حيوان أن يقدم على فعل أي شيء مُجهِد أو بطولي أو حتى يحتاج إلى مجهود محدود خلال فصل الشتاء؛ فصل الراحة؛ فالجميع يكونون في حالة نعاس، وبعضُهم نيام بالفعل، والرياح والطقس السيئ يُحاصرهم بصورة أو بأخرى. والجميع ينعمون بالراحة بعد أيام شاقة وليالٍ مُجهدة تعرضت فيها كل عضلة من عضلات أجسادهم لأقصى الضغوط، وكل طاقة لديهم للنفاد.
أكمل الغُرير: «حسن إذن! ولكن حين تتبدَّل فصول السنة، وتصير الليالي أقصر ويستيقظ الواحد منا في منتصف الليل وهو يشعر بالملل ويظلُّ منتظرًا ظهور أول خيط من خيوط شمس الشروق، إن لم يَكُن قبل ذلك، بفارغ الصبر ليفعل شيئًا ما … أنتما بالطبع تُدركان ذلك!»
أومأ الحيوانان برأسيهما في جدية؛ فقد كانا يُدركان ذلك!
أكمل الغُرير: «حينها إذن، سنذهب، وأعني بذلك أنا وأنت وصديقنا الخُلد، إلى العُلجوم ونتحدَّث معه بجدية ونتعامل معه مثلما يتطلب الأمر، ولن نسمح بأي حماقات مهما كانت. سنُرجعه إلى رشده، ولو بالقوة إن تطلب الأمر. سنُوجِّهه ليكون العُلجوم ذا العقل الرشيد. إننا … هل أنت نائم أيها الفأر؟!»
رد الفأر بعد أن انتفَض مُستيقظًا: «لا! لستُ نائمًا!»
قال الخُلد وهو يضحك: «لقد غطَّ في النوم مرتين أو ثلاثًا منذ أن انتهينا من العشاء!» كان الخُلد يقظًا؛ بل كان يشعر بالنشاط يَسري في جسده، ولكنه لم يكن يعرف السبب وراء هذه الحيوية والنشاط. وقد كان السبب بكل تأكيد، أنه حيوان من الحيوانات التي تسكن باطن الأرض مولدًا ونشأة، وكان الوضع في بيت الغُرير يناسبه تمامًا، ويجعله يشعر كأنه في بيته، بينما الفأر، الذي كان ينام كل ليلة في غرفة نوم ذات نوافذ تطلُّ على نهرٍ كثير النسمات، شعر أن الجو هادئ وراكد وثقيل.
قال الغُرير وهو ينهض من مقعده ويُمسك بشمعدانَين مسطَّحَين: «حسنًا، ربما حان الوقت لنخلد جميعًا إلى النوم! تعاليا معي وسأُريكما مخدعكما. استيقِظا صباحًا وقتَما تشاءان؛ فالفطور في أي ساعة تريدان!»
قاد الحيوانَين إلى غرفة فسيحة، بدا نصفها كأنه غرفة نوم ونصفها الآخر كمخزن للغلال. مخزون الغُرير الشتوي كان في كل مكانٍ حولهما ويملأ نصف الغرفة، وقد كان عبارة عن أكوام من التفاح واللفت والبطاطس، وسلال ممتلئة بالجوز وجرات من العسل. أما السريران الصغيران اللذان افترَشا بقية الغرفة، فكانا ناعمين وفيهما إغراء جذاب، والمفارش الكتانية التي عليهما، مع أنها كانت خشنة، كانت نظيفة ورائحتها زكية كرائحة أزهار الخزامى. نزع الفأر والخُلد ملابسهما في ثوانٍ قليلة ثم أخَذا يتقلَّبان وسط مفارش السرير في سعادةٍ بالغةٍ ورضًا واطمئنان.
أخذ الحيوانان المُتعَبان بنصيحة الغُرير الطيب، وذهَبا إلى المطبخ ليتناوَلا طعام الفطور في وقتٍ متأخر من الصباح التالي ليَجدا نارًا وهاجة تستعر في المدفأة وقنفذَين صغيرَين يَجلسان على مقعد عريض أمام المائدة ويأكل كلٌّ منهما عصيدة شوفان في صحن خشبي. ترك القنفذان ملاعقهما وانتفَضا وقوفًا مُخفضَي رأسيهما في تحية واحترام للفأر والخُلد وهما يدخلان إلى المطبخ.
قال الفأر بلطف: «على راحتكما! اجلسا، اجلسا، وأكمِلا طعامكما رجاءً! ولكن من أين أتى الفتيانِ الصغيران؟ أأضللتُما طريقكما وسط الثلج؟!»
رد القنفذ الأكبر باحترامٍ وقال: «هذا صحيح يا سيدي! فأنا وأخي الصغير بيلي كنا نلتمس طريقنا إلى المدرسة؛ فأمُّنا تُوقظنا لنذهب إلى المدرسة مهما كان الطقس سيئًا. وكما ترى، لقد تُهنا يا سيدي، وانتاب بيلي شيء من الخوف وأخذ يَبكي؛ فهو صغير وما زال غرًّا. وفي نهاية المطاف وجدْنا أنفسنا أمام باب بيت السيد غُرير الخلفي، وتجرَّأنا على طرقه يا سيدي، لما يُعرَف عن السيد غُرير من أنه حيوان لطيف ورقيق القلب …»
قال الفأر وهو يقطع بعض شرائح اللحم المجفَّف، بينما كان الخُلد يضع بعض البيض في قدر صغير: «فهمتُ الأمر!» ثم أضاف: «وماذا عن حالة الطقس بالخارج الآن؟ كما أنك لست في حاجة لمناداتي بلقب «سيدي» مطلقًا.»
رد القنفذ وقال: «يا إلهي! طقس مروِّع يا سيدي! الثلوج مرتفعة ارتفاعًا مخيفًا. لا أظن أن مثل طقس اليوم مُناسِب لسيدَين مثلكما ليَخرُجا فيه!»
تساءل الخُلد وهو يُسخن إبريق القهوة أمام النار: «ولكن أين هو السيد غُرير؟»
رد عليه القنفذ وقال: «لقد ذهب إلى غرفة المكتب يا سيدي. وقال إنه سيكون مشغولًا جدًّا هذا الصباح ولا يريد تحت أي ظرف كان أن يزعجه أحد.»
استوعب بالتأكيد جميع الحاضرين هذا التوضيح استيعابًا تامًّا. فالحقيقة هي، كما ذكرنا سابقًا، عندما تعيش حياةً تكدُّ فيها بشدة في ستة أشهر من السنة، ثم تسكن وتخلد إلى سبات تامٍّ أو شبه تام طيلة الستة أشهر الباقية، فأنت، كحيوان خلال فترة السبات، لا تَقدر على التحجُّج مرارًا وتكرارًا بأنك نعسان وتريد النوم بينما عليك مهامُّ لتؤديَها وحيوانات حولك في كل مكان؛ فهذا العذر يصبح رتيبًا بمرور الوقت. كانت الحيوانات تعرف جيدًا أن الغُرير، بعد أن تناول فطورًا مُشبعًا، انزوى إلى غرفة المكتب وجلس على كرسيٍّ ذي مسندَين وأراح قدمَيْه بوضعِهما على كرسي آخر، ووضع منديلًا قطنيًّا أحمر اللون على وجهه، وانهمك «مشغولًا» فيما اعتاد عليه في هذا الوقت من العام.
سُمع صوتُ قرع جرس الباب الأمامي عاليًا، وطلب الفأر، الذي كانت يداه متسختَين بالدهن من الخبز المحمَّص المدهون بالزُّبد، من بيلي، القنفذ الأصغر، أن يذهب ليعرف من الطارق. كانت هناك أصوات خطوات متسارعة قادمة من الصالة، ثم ما لبث أن رجع بيلي ووراءه ثعلب الماء الذي هُرع إلى الفأر وعانقه وأخذ يَصيح بعبارات ترحيبية حارة ومحبة.
غمغم الفأر وفمُه ممتلئ بالطعام: «ابتعد عني!»
قال ثعلب الماء في سعادة: «أخبرَني حدسي أني سأجدكما بخير هنا! عندما ذهبتُ هذا الصباح إلى ضفة النهر، وجدت جميع الحيوانات هناك في حالة من الذعر والقلق. قالوا لي إن الفأر لم يرجع إلى بيته الليلة الماضية ولا الخُلد أيضًا؛ لا بد أن مصيبة قد حلَّت بهما، وبالتأكيد غطى الثلج كل الطرق أمامكما، ولكني كنت أعلم أن أي حيوان يقع في ورطة أو مأزق غالبًا ما يلجأ إلى الغُرير، أو أن الغُرير يعرف الأمر بطريقةٍ ما؛ لذا سلكت طريقي عبر البراري والثلج وجئت إلى هنا مباشرة. يا لها من متعة أن يكون طريقك مغطًّى بالثلج بينما الشمس المُلتهِبة تعلو في إشراقها خلف جذوع الأشجار السوداء! وبينما أنت تَمضي في طريقك وسط السكون، تُفاجَأ بين الفينة والأخرى بسقوط كتلةٍ من الثلج انزلقَت من الأغصان، مما يبثُّ الرعب في أوصالك، فتقفز فزعًا وتركض باحثًا عن مكان تختبئ فيه! ظهرت قلاعُ وبيوت الثلج من العدم خلال الليل، كما بُنيت الجسور والمصاطب والأسوار أيضًا من الثلج ولم أكن لأشعر بالضجر لو قضيتُ ساعاتٍ وساعاتٍ ألعب حولها. في كل مكان حولي كنتُ أرى أغصانًا ضخمة قد كُسرت بسبب وزن الثلوج، وطيور أبي الحناء تتبختَر وتقفز عليها في مرح وغرور، كما لو أنها هي من كسرتْها وأسقطتْها. وقد مر سربٌ غير منتظم من الإوَزِّ البري فوقي محلِّقًا عاليًا في قلب السماء الرمادية، ودار عدد من الغِرْبان حول الأشجار وأخذَت تُفتِّش المنطقة ثم انطلقَت عائدةً إلى بيوتها وعلى وجوهِها نظرة اشمئزاز؛ لكنني لم أقابل أي حيوان راشد لأستطلع منه الأخبار. وعند منتصَف الطريق تقريبًا، قابلت أرنبًا يجلس على جذل شجرة ويُنظِّف وجهه المضحك بكفيه. كان خائفًا يَملؤه الذعر عندما تسلَّلتُ خلفه ثم وضعت أحد كفَّيَّ على كتفه بقوة. كان عليَّ أن أضربَه على رأسه مرةً أو مرتين حتى أحصلَ منه على أي معلومة مفيدة. وأخيرًا انتزعت منه معلومة وهي أن أحد الأرانب قد رأى الخُلد في البراري الليلة الماضية. قال إن هذا الأمر كان حديث كل الجحور تلك الليلة؛ كيف كان الخُلد؛ صديق الفأر المقرَّب، في ورطة شديدة، وكيف ضلَّ طريقه في الوقت الذي خرجوا هم فيه للصيد والمطاردة، وأخذوا يحومون حوله ويُطاردونه. سألته: «لماذا إذن لم يُقدم أحدكم على «فعل» شيء؟ ربما لم يهبْكم الله ذكاءً وعقلًا رشيدًا، ولكن فيكم المئات من ذوي الأجساد الضخمة والقوية، وجحوركم تمتد في كل الاتجاهات! كان بمقدوركم أن تأخذوه عندكم وتُوفِّروا له مكانًا آمنًا ومريحًا، أو أن تُحاولوا فعل ذلك على الأقل!» وكان رده: «ماذا؟ نحن؟ نُقدم على فعل شيء؟ نحن الأرانب؟» لذلك ضربتُه مرة أخرى وتركته ومضيتُ في طريقي؛ فلم يكن باليد حيلة أخرى! على أي حال، لقد علمت منه شيئًا، وإن كان قدِّر لي وكنت محظوظًا كفاية لأقابل أحدًا منهم غيره، كنت قد علمت أشياء أخرى، أو كنت قد لقنتُه درسًا.»
سأله الخُلد وقد انتابَه شيء من فزع الأمس عند ذكر البراري: «ألم تكن … خائفًا أو قلقًا مطلقًا؟»
رد عليه ثعلب الماء ضاحكًا وقد أظهر صفَّين لامعَين من الأسنان البيضاء القوية وقال: «خائفًا أو قلقًا؟ كنت لأزأر في وجوههم إن حاول أيٌّ منهم العبث معي. من فضلك يا خُلد، هلا تكرمت وقلَيت لي بعض شرائح اللحم المدخن؟ إنني أتضوَّر جوعًا، وفي صدري الكثير والكثير من الأشياء التي أريد أن أتحدَّث فيها مع فأرون؛ فأنا لم أرَهُ منذ دهر!»
أطاعه الخُلد المهذب وقطع بعض شرائح اللحم وأعطاها للقنفذَين ليَقلياها، ثم رجع وأكمل فطوره بينما كان الفأر وثعلب الماء يتجاذبان أطراف الحديث حول أخبار ضفاف النهر بلهفة وشوق، وهو حديث طويل وأخبار كثيرة لا نهاية لها. وظل الحديث يتدفَّق تمامًا كما تتدفَّق مياه النهر.
كان قد قُضيَ على طبق مليءٍ باللحم المقلي وأُرسلَ عائدًا طلبًا للمزيد، عندما دخل الغُرير يتثاءب ويَفرك عينيه، حياهم جميعًا بهدوء وبساطة كعادته، وسأل كلَّ واحد منهم سؤالًا لطيفًا عن حاله، ثم قال لثعلب الماء: «لقد اقترب موعد الغداء! تريَّث قليلًا حتى تتناوله معنا؛ فلا بد أنك جائع بعد هذا الصباح البارد.»
ردَّ عليه ثعلب الماء وهو يَغمز للخُلد وقال: «أود ذلك بكل تأكيد! فرؤية هذين القنفذَين النَّهِمين وهما يَلتهمان كل هذا اللحم المقلي أمر يُسيل اللعاب ويجعلني أتضوَّر جوعًا.»
نظر القنفذان، اللذان بدأ شعور الجوع يتسلَّل إليهما مجددًا بعد عصيدة الشوفان بعد أن بذَلا جهدًا مُضنيًا في قلْي اللحم لثعلب الماء، إلى الغُرير وقد اعتراهما الخوف، ولكن خجلهما الشديد منعَهما من قول أي شيء.
قال لهما الغُرير بعطف ورقة: «هيا أيها الصغيران! حان وقت الرجوع إلى المنزل لأمِّكما، وسأُرسل معكما حيوانًا ليَدُلكما على الطريق. أنا واثق أنكما قد مَلأتما بطنَيكما ولا تحتاجان أي غداء.»
ثم أعطاهما ستة بنسات وربَّت على رأسَيهما، وانطلق القنفذان بعد أن خفَّضا قَلَنْسُوتيهما احترامًا وتحية له.
جلسوا جميعًا حول المائدة لتناول الغداء. ووجد الخُلد نفسه جالسًا بجانب السيد غُرير، وبينما كان الحيوانان الآخَران ما زالا مُنهمِكين في أحاديث ضفة النهر انهماكًا لا يُمكن لأي شيء أن يصرفهما عنه، انتهز الخُلد الفرصة وأخبر الغُرير كيف أن منزله مريح ويُشعره أنه في بيته، ثم قال له: «عندما تكون آمنًا تحت الأرض، تعرف تمامًا أين أنت! لا شيء يُمكن أن يصيبك ولا يُمكن أن يصل إليك أحد. فأنت سيد نفسك تمامًا، ولا حاجة لك لأن تشاور أحدًا ولا أن تنتبه لكلامه. سترى الأشياء فوقك تَمضي في مسيرتها الطبيعية الرتيبة، وستدعها تَمضي ولا تُلقي لها بالًا. وحتى إذا أردت الخروج والانخراط في الحياة الخارجية، فإن الأشياء ستكون هناك بانتظارك!»
تبسَّم له الغُرير وقال: «هذا رأيي بالضبط! فلا أمان ولا سلام ولا هدوء ولا سكينة إلا تحت الأرض. وفرضًا، إذا ضاق المكان بك وبأفكارك وتُريد مكانًا أوسع، فما عليك إلا الحفر والنبْش قليلًا وها أنت ذا! وإذا شعرت أن بيتَك واسع ولا حاجة لك بكل تلك المساحة، فما عليك إلا ردم حفرة أو حفرتين وها أنت ذا مرة أخرى! لا عمال بناء ولا تعامل مع أصحاب الحرف، ولا تعليقات تَنصبُّ فوق رأسك من الرفاق بعد أن يتفحَّصوا حائطك، وعلاوة على كل هذا، أنت بعيد عن الطقس وتقلباته. انظر إلى الفأر كمثال؛ بضع أقدام من مياه الفيضان وسيضطرُّ إلى الانتقال للعيش في إحدى الغرف المفروشة بالإيجار؛ إنها غرف غير مريحة وتقع في مكان غير ملائم وذات تكلفة كبيرة جدًّا. انظر إلى العُلجوم كمثال آخر. أنا لا أعيب على منزل العُلجوم في شيء؛ فهو من أفضل المنازل في تلك الأرجاء. ولكن فرضًا أن حريقًا قد نشب فيه، أين سيذهب العُلجوم؟ لنَفترض أن بلاط الأرضية قد تكسر أو سقطت الحيطان أو تشقَّقت، أو تهشَّمت النوافذ، أين سيذهب العُلجوم حينها؟ لنَفترض أن تيار الهواء كان عاليًا في غرف المنزل — أنا أكره تيارات الهواء — أين سيذهب العُلجوم؟ لذلك دعْنا نتَّفق على أن المكان بالأعلى خارجًا هو مكان جيد للتجوُّل والتسكع ولإحضار خزين البيت مما يُقتات عليه، ولكن تحت الأرض هو المكان الذي نأوي إليه ونعود في النهاية. هذا هو تصوُّري عن البيت!»
أبدى الخُلد موافقته على كل كلمة من كلامه؛ ولذلك كان الغُرير ودودًا جدًّا معه وقال له: «عندما نُنهي غداءنا، سأصحبُك في جولة في منزلي المتواضع هذا. فأنا أرى أنك ستُقدِّر ما سترى! أنت تفهم المعمار الداخلي وما يجب أن يكون عليه البيت.»
بعد انتهاء الغداء، وبينما كان الحيوانان الآخران قد قعَدا بجانب المدفأة وانهمَكا في نقاشٍ حامٍ حول موضوع ثعابين الماء، أشعلَ الغُرير فتيل مصباح ثم أمر الخُلد أن يتبعه. عبَرا القاعة ودخَلا إلى أحد الأنفاق الرئيسية، وأنار ضوء المصباح المُرتعش جانبي النفق مُعطيًا لمحة عمَّا بهما من غرف صغيرة وأخرى كبيرة؛ بعضها ما هو إلا خزانات صغيرة، والبعض الآخر واسعٌ فسيحٌ وفخم، مثل قاعة الولائم في قصر العُلجوم، ثم قادهما ممرٌّ ضيق جهة اليمين إلى ممر آخر، وهناك تكرَّرت نفس الغرف صغيرها وكبيرها. ذهل الخُلد من حجم المكان واتساعه وتشعُّب طرقه وممراته؛ كان مندهشًا من طول تلك الأنفاق المظلمة، ومن الأقبية الصلبة لغُرَف التخزين الممتلئة، والأبنية الحجرية الموجودة في كل مكان، ومن الأعمدة والبوابات المقوَّسة والأرضيات المرصوفة. نطق الخُلد أخيرًا وقال: «يا إلهي! متى وجدت وقتًا وقوةً لتبنيَ كل هذا يا غُرير؟ إنه بيت مُذهِل!»
رد الغُرير ببساطة: «كان ليكون مذهلًا حقًّا، لو كنتُ بنيته بيدي! لكن، في الحقيقة، أنا لم أرفع حجرًا واحدًا من مكانه، ولم أفعل شيئًا سوى تنظيف الممرات والغرف التي كنت أحتاجها؛ فهناك المزيد والمزيد منها حولنا في كل اتجاه. أنا أرى علامات الحيرة على وجهك؛ لذلك عليَّ أن أُفسِّر لك الأمر. في قديم الزمان، هنا، في هذه البقعة التي نُسمِّيها البراري، وقبل أن تنمو أشجارها وتترعرع لتصير ما هي عليه الآن، كانت هناك مدينة؛ مدينة يسكنها البشر. على هذه الأرض عاشوا ودبَّت أرجلهم، وتكلموا، وناموا. هنا، في هذا المكان سعوا إلى أرزاقهم، وأراحوا جيادهم وأقاموا الولائم. ومن هنا، انطلقوا خارجين إلى معاركهم، أو محمَّلين بالبضائع للتجارة. كانوا أقوياء أشداء ذوي مال وثراء وبنَّائين مهَرة. شيدوا المدينة لكي تبقى لأنهم اعتقدوا أنها ستبقى للأبد.»
سأله الخُلد: «ولكن ماذا حلَّ بهم؟»
أجابه الغُرير: «من يَدري؟! ينزل البشر على مكان ما فيَمكُثون فيه حينًا من الزمان ويُعمرونه ويُشيدون البيوت، ثم يرحلون. هذا دأبهم. ولكن نحن نبقى. حُكيَ لي أن حيوانات الغُرير كانت تعيش هنا حتى قبل أن تُشيَّد تلك المدينة بوقت طويل. والآن وها نحن ذا، ما زلنا نسكن هذه البقعة. إننا جنسٌ باقٍ؛ ربما اضطررنا إلى الانتقال مدة، ولكن ننتظر وننتظر في صبر وترقب، ثم نعود أدراجنا. هذا ما نفعله وما سنظل نفعله أبد الدهر.»
سأل الخُلد: «عجبًا! ولكن متى رحل هؤلاء البشر في النهاية؟»
أكمل الغُرير كلامه: «متى رحلوا؟ تولت أمرهم الرياح العاصفة والأمطار المنهمرة سنة بعد سنة بصبرٍ ودون انقطاع. وربما نكون، نحن حيوانات الغُرير بأحجامنا الصغيرة، قد ساهمنا أيضًا ولو بالشيء اليسير، من يدري! انهار كل شيء شيئًا فشيئًا؛ صارت البيوت أطلالًا ثم سويت بالأرض ثم ذرتها الرياح بعيدًا. ثم عادت الحياة للأرض شيئًا فشيئًا؛ فنمَت البذور إلى شجيرات، واستطالت الشجيرات إلى غابات، وزحفت شجيرات السرخس والعليق لتمدَّ يد المساعدة. تساقطت أوراق الأشجار حتى غطت الأرض وتعفَّنت ثم تحلَّلت وانمحَت، وجعلت تياراتُ الأنهار في فيضانات الشتاء الرمال والطَّمي يتراكمان ويُغطيان كل شيء، ومرت الأيام وتعاقبت السنون حتى صار بيتنا مهيَّئًا لنا مرة أخرى وانتقلنا إليه. فوقنا على سطح الأرض، حدث الشيء ذاته؛ قدم الحيوانات من كل حَدَب وصَوْب ونال المكان إعجابهم، فآوى كل واحد منهم إلى ركنٍ واستقروا وتكاثروا وازدهروا. لم يعبئوا بأحداث الماضي ولم يفعلوا ذلك قط؛ فهم مشغولون جدًّا. كانت طبيعة الأرض حينها ذات مرتفَعات وهضاب ومليئة بالحفر، ولكن كان ذلك في مصلحتهم. وهم لا يُعيرون المستقبل أي اهتمام كما الماضي مثلًا بمثل؛ المستقبَل حين يُمكن أن نشهد البشر وقد قرَّروا أن يَنتقلوا ليعيشوا هنا حينًا آخرَ من الزمان، وهو شيء وارد. إنَّ البراري مكتظة بالسكان من كل الفصائل والأنواع؛ فهناك، دون ذكر أسماء بعينها، الطيب الصالح وهناك الخبيث الطالح وما بين هذا وذاك؛ فلا يستقيم للدنيا أمرها إلا بوجود كل هؤلاء معًا. أظن أنك قد تعرفت عليهم بعض الشيء بنفسك.»
رد الخُلد وقد سرت في أوصاله رعشة خفيفة: «نعم! لقد فعلت!»
قال الغُرير وهو يُربِّت على كتف الخُلد: «حسنًا يا فتى! لا بأس؛ فقد كان ذلك أول لقاء لك معهم. وكما رأيت، هم ليسوا سيِّئين تمامًا، وعلينا أن نعيش وندع الآخرين يعيشون. سأنشر خبر صداقتنا غدًا وسط الحيوانات وأظن أنك لن تواجه أي متاعب بعد الآن. فأي صديق لي يذهب إلى حيث شاء في هذا المكان، ومن يعترض طريقه، فعليه أن يُواجهني أنا شخصيًّا!»
عندما رجَعا مرة أخرى إلى المطبخ، وجَدا الفأر وقد بلغ منه القلق ما بلغ وأخذ يَذرع المكان جيئة وذهابًا. كان الجو في باطن الأرض خانقًا له ويضغط على أعصابه، وبدا عليه خوفٌ شديدٌ كأن النهر قد يَنضب ويجري ماؤه بعيدًا إن لم يكن موجودًا ليَعتنيَ بأمره ويُراعي شئونه؛ لذلك كان مرتديًا معطفه ومسدَّساه مُثبتان في حزام حول خصره مجددًا، وقال في توتُّر عندما لمَحهما قادمَين: «هيا بنا يا خُلد! علينا أن نمضيَ في طريقنا بينما ضوء الشمس ما زال ساطعًا. فأنا لا أريد أن أقضي ليلة أخرى في البراري!»
قال ثعلب الماء: «لا تقلق يا صديقي العزيز! سآتي معكما في رحلتكما، وأنا أحفظ طرق البراري عن ظهر قلب، وإذا ما واجَهَنا شيء يستدعي العراك، فدعِ الأمر لي؛ إذ يُمكنك الاعتماد عليَّ في ذلك!»
قال الغُرير بهدوء: «لستَ بحاجة إلى القلق يا فأرون! فأنفاق بيتي وممراته تمتد إلى أبعد مما تتصوَّر، ولديَّ مخارج عند حافة البراري في اتجاهاتٍ عدة، ولا أهتم إن عرف مكانهم أحد. عندما تريد حقًّا أن تُغادر، فيمكن أن تسلك أحد تلك الممرات المختصرة. أما الآن، فدع عنك القلق واقعد واسترِح!»
لكن الفأر كان ما زال قَلِقًا يتلهَّف للمغادرة ويتوق للقاء نهره؛ لذا حمل الغُرير مصباحَه مرة أخرى وقادهم إلى نفق متعرِّج رطبٍ لا هواء فيه وذي انحدار شديد، كان جزء من النفق مَقبوًّا، والآخر منحوتًا وسط الأحجار الصلبة. كان الطريق وعرًا ومُرهِقًا كأنهم قد ساروا أميالًا بعد أميال. وفي النهاية، بدأ ضوء النهار يَنسلُّ في خجل من بين الأغصان المتشابكة التي تتدلى من فوهة النفق، وودَّعهم الغُرير وداعًا سريعًا ثم دفعهم في عجلة من الفوهة، ولملمَ بعض جذور النباتات المتسلِّقة وبعض الأغصان والأوراق الجافة وبذل ما بوسعه ليُعيد كل شيء كما كان قبلًا، ثم عاد أدراجه إلى بيته.
وجدوا أنفسهم يقفون على حدود البراري. وخلفهم تقبع الصخور وشجيرات العليق وجذور الأشجار بعضها خلف بعض ومتشابكة. وأمامهم امتدت أرضٌ شاسعة من الحقول الساكنة التي تُحيط بها سياجات من الشجيرات التي تبدو سوداء قاتمة مع بياض الثلج. وخلف تلك الحقول، تلألأ وميضُ مياه النهر المألوف، وكان الوقت أصيلًا وشمس الشتاء راقدة فوق الأفق في حمرة. وبما أن ثعلب الماء كان يعرف الطرق كلها، تولى أمر قيادة المجموعة فاصطفُّوا كسِرْب من النحل ليَعبُروا إحدى البوابات التي تقترب. توقَّفوا هناك للحظةٍ ونظروا خلفهم فرءوا أرض البراري كاملة، والتي كانت تبدو ككتلةٍ كثيفةٍ ومتلاحمةٍ تقبع عابسة ومتوعِّدة وسط محيط واسع من بياض الثلج المتساقط. أداروا وجوههم على الفور ومضوا مُسرِعين في طريقهم إلى البيت حيث ضوء نار المدفأة الذي يَنعكس على الأشياء والمقتنيات التي اعتادوها، والأصوات البهيجة التي تملأ المكان خارج النافذة، وحيث النهر الذي يعرفونه ويثقون فيه في كل أحواله؛ ذلك النهر الذي لم يجعلهم يومًا خائفين أو مَذعورين.
وبينما كان الخُلد مجدًّا في سيره يستعجل اللحظة التي يكون فيها في أحضان بيته ووسط كل ما اعتاد عليه وأحبَّه من الأشياء، أدرك أنه بلا شك حيوانٌ يَنتمي إلى الأراضي الزراعية المحروثة، وسياجات الأشجار، وأنه مُرتبِط بالمراعي التي يرتادها، وأماكن جلسات السمر الطويلة والحدائق المزروعة. أما المشقات أو الجلَد أو صدام الصراع الواقعي المُرتبط بالوجود في الأراضي الوعرة، فعليه أن يأخذ حذره منها، وأن يلزم الأماكن اللطيفة التي خُطَّت حدوده عندها؛ فتلك الأماكن تحمل في طياتها وبأسلوبها الخاص من المغامَرات ما يَكفيه لبقية حياته.