ما أحلى البيت!
بينما كانت الخِراف تركض في تزاحُمٍ متدافعةً باتجاه أسوار المرعى وتنخر الهواء من مناخرها الرقيقة وتضرب الأرض بحوافر قوائمها الأمامية الرشيقة ورءوسها محنية للخلف، وشعاع من الضوء يفيض خارجًا من داخل المرعى إلى السماء المثلجة، كان الحيوانان يجدَّان في المشي بمعنويات مرتفعة مع كثير من الثرثرة والضحك. كانا عائدَين عبر الريف بعد يوم قضَياه مع ثعلب الماء في الصيد والاستكشاف في رحاب الأراضي المرتفعة الشاسعة، حيث كانت تنبثق ينابيع بعض الروافد التي تُغذِّي نهرهم. بدأ ضوء نهار الشتاء القصير بالانسحاب شيئًا فشيئًا، وما زالت أمامهما مسافة كبيرة ليقطعاها. كانا يتهادَيان في مشيتهما عبر الحقول المحروثة عندما سَمعا صوت الخراف وسارا باتجاهها؛ ثم عبَرا مرعى الأغنام هذا، ووجدا نفسيهما على طريق ممهَّد جعل من السير أمرًا أسهل، كما أنه أجاب بوضوح عن ذلك التساؤل الغريزي البسيط الموجود في صدر كل حيوان قائلًا: «أجل، أنت محقٌّ تمامًا؛ هذا الطريق يقودك إلى البيت!»
قال الخُلد بنبرة متشكِّكة بعض الشيء وهو يُبطئ من مشيته: «يبدو وكأننا متجهان إلى قرية ما!» كان الطريق الذي يَسلُكانه قد تفرع في ذلك الوقت إلى درب ثم قادهما الدربُ إلى ممرٍّ أوصلهما إلى طريق آخر معبد ومرصوف، لكن الحيوانات لم تكن تحب القرى وكانت طرقها السريعة، نظرًا لأنها كانت تقصدها كثيرًا، تأخذ مسارًا مستقلًّا دون اعتبار للكنيسة أو مكتب البريد أو الحانة.
رد الفأر: «أوه، لا تشغل بالك! ففي هذا الفصل من فصول العام، يكون الجميع بأمانٍ داخل المنازل في ذلك الوقت؛ إذ يلتفُّ الكل حول النار؛ الرجال والنساء والأطفال والكلاب والقطط. سوف نتسلَّل من هناك دون إثارة أي ضجة أو شجار، كما يُمكننا، إن أردت، أن نختلس نظرة من خلال نوافذهم لنرى ماذا يفعلون.»
هجم ليل منتصَف ديسمبر العَجُول على القرية الصغيرة في الوقت الذي اقتربا منها بخُطًا خفيفة على تباشير بلورات الثلج الناعمة. لم يكن هناك شيء مرئي إلا مربعات امتدَّت على جانبي الشارع، صُبِغت لونًا كلَون السماء ساعة الغسق، حيث كان يفيض الضوء المنبعث من نيران المدافئ أو ضوء القناديل في تلك البيوت الريفية من خلال النوافذ إلى العالم الخارجي المظلم. كانت معظم النوافذ السُّفلية ذات العوارض مكشوفة تمامًا بلا ستائر، ويبدو لمن يُطالع المشهد من الخارج أن هؤلاء النزلاء، سواء المُجتمِعون منهم حول طاولة الشاي أم المُنغمِسون في العمل اليدوي أو المنهمكون في الحديث والضحك والإيماءات، قد أُلبِسوا لباسًا من الرضا الممزوج بالعفوية، في حالة لا يُمكن أن يضاهيها إلا المخضرم من المُمثلين؛ تلك العفوية الطبيعية التي لا يكون معها إلا حالة مثالية من عدم التصنُّع أو إجهاد الفكر. انتقل المُشاهِدان البعيدان كل البعد عن بيتهما، بحرية من مسرح إلى آخر، وهما يشعرانِ بحنينٍ يصاحبه انكسارٌ في أعينهما كلَّما شاهَدا قطًّا يُداعَب، أو طفلًا ناعسًا يُحمل إلى سريره، أو رجلًا يتمدَّد وينفض غليونه على حطبٍ يحترق ببطءٍ دون دخان.
ولكن حين مرا على نافذة صغيرة أُسدل ستارها لتصير محض قطعة صافية من الليل، فاض الكيل وتملكهما حنين شديد إلى البيت وحرمة العالم الصغير بين جدرانه؛ تلك الجدران التي تُنسيك وأنت في أحضانها ذلك العالم الخارجي الواسع بطبيعتِه المجهدة وتمنعه عنك. خلف ذلك الستار الأبيض، كان ظل قفص عصفور معلَّق واضحًا؛ كان كل ضلع فيه، والقصب التي يقف عليها العصفور وملحَقات القفص؛ جميعها كانت ظاهرة ويسهل تمييزها حتى من عجوز كليل البصر. بدا الطائر الجالس على القصبة الوسطى، الذي كان منفوش الريش ورأسه مدفون فيه، قريبًا جدًّا منهما حتى إنهما كانا لَيضربانه دون عناء إن أرادا ذلك، وكانت الأطراف الدقيقة والناعمة لريشِه المنفوش كأنها خطوطٌ دقيقةٌ مرسومةٌ على الستار المضيء. وبينما ينظران إليه، ارتعش صديقنا الصغير الغارق في النعاس رعشة قَلِقة استيقظ في إثرها، ثم نفض جسده ورفع رأسه من مخدعها. كان بإمكانهما رؤية فتحة منقاره الصغير وهو يتثاءب تثاؤب الضجر. نظر حوله ثم أراح رأسه إلى الخلف مرة أخرى بينما سكن ريشه المضطرب شيئًا فشيئًا حتى ثبت كأنه صنم. حينذاك، هبَّت هبة ريح فلفحَت قفويهما، وأيقظتْهُما لسعةٌ خفيفةٌ من الصقيع من حلمهما، وقد انتبها إلى أن أصابع أقدامهما قد تجمَّدَت وخدلت سيقانهما والبيت بعيد بُعدَ المشرق والمغرب.
بعد أن خلَّفا القرية وراءهما وأقفرت الأرض من البيوت على ظهرها، فاحت رائحة الحُقول الودودة من جانبي الطريق مرة أخرى. كانا يملآن رئتَيهما بها في ظلمة الليل وهما يستجمعان قواهما ويَستعدَّان لمسيرةٍ طويلةٍ هي الأخيرة في رحلتهما؛ المسيرة إلى البيت؛ تلك المسيرة التي نعرف يقينًا أنها ستصل إلى نهايتها في وقتٍ ما، حين نسمع صوت قعقعة مزلاج الباب وهو يفتح، ثم نرى نيرانًا فجائية في المدفأة وتُبصِر أعيننا كل الأشياء المألوفة وهي تُحيِّينا كرحَّالةٍ قدموا من أعالي البحار بعد أن طالَت غيبتهم. ضرَبا في الأرض بخُطًا ثابتة وفي صمت تام؛ كان كل واحد منهما غارقًا في أفكاره الشخصية. كان الخُلد يُمنِّي نفسه بعشاء وافر؛ فقد كانا يسيران في ظلمة حالكةٍ بين جنبات بلدة غريبة عنهما على حدِّ علمه، وكان يَتبع الفأر منقادًا لرأيه وتاركًا أمر القيادة كليًّا لحنكته. أما الفأر، فقد كان كعادته متقدمًا قليلًا في سيره، وكتفاه محنيَّان وعيناه مثبَّتتان على الطريق الرمادي الممتد أمامه، ولذلك لم يلحظ الخُلد المسكين عندما بلغتْه أصوات الاستدعاء على حين غرة، ونزلت عليه كالصاعقة.
نحن الكائنات الأخرى، الذين فَقدوا منذ فترة طويلة الحواس الطبيعية الدقيقة، لا نملك حتى المصطلحات التي نُعبِّر بها كما ينبغي عن آليات التواصل بين الحيوانات وما يُحيط بها، سواء كان حيًّا أم غير ذلك، وكل ما لدينا هي كلمة «يشتمُّ» التي نَصِف بها بوتقة من النشوات المرهَفة التي تُدندن في أنف الحيوان ليلًا ونهارًا؛ تستدعيه تارة وتُحذِّره تارة أخرى، تُثيره أحيانًا وتنفره أحايين. كان ما أحسه الخُلد وانتابه فجأة وسط الظلام هو أحد تلك النداءات الخيالية الغامِضة القادمة من الفراغ. كان نداءً ذا جاذبية مألوفة للغاية جعل جسده يرتعش ويشعُر بوخزٍ خفيف، مع أنه لم يكن يَدري ما هو على وجه التحديد. وقَف في طريقه كأن على رأسه الطير، وأنفه تبحث هنا وهناك بأسلوب عشوائي محاولة أن تستردَّ طرف ذلك الخيط الدقيق، ذلك التيار البرقي الذي هزه هزًّا شديدًا. مرَّت دقيقة ثم عثر على طرف هذا الخيط مرة أخرى، ولكن هذه المرة انهمَر طوفان من الذكريات وفاض.
البيت! كان هذا هو معنى ذلك الشيء الذي كان يُغلِّفه بغلاف العطف والألفة، تلك النسمات الرقيقة التي تفوح في الهواء محرِّكة مشاعره؛ تلك الأيادي الخفية التي كانت تجذبه وتشده شدًّا عنيفًا إليها؛ كلها تدفعه في اتجاه واحد! لماذا؟ لا بد أن البيت كان قريبًا منه في تلك اللحظة، بيته القديم الذي تخلَّى عنه على عجَل ولم يقصده مجددًا منذ ذلك اليوم الذي اكتشف فيه النهر! أما الآن، فها هو البيت يُرسل كشافته ويَبعث رسله للقبض عليه وإعادته إلى أحضانِه مرة أخرى. فمنذ هروبه في ذلك الصباح المشرق، لم يُفكِّر في الأمر ولو لوهلة؛ فقد كان مُنغمسًا في حياته الجديدة حتى أخمص قدميه وما بها من مُتَع ومفاجآت، وتجارب ساحرة وخلابة تُنعِش الروح. أما الآن، وبعد طوفان من الذكريات القديمة، كان البيت بكل تفاصيله واضحًا أمامه في هذه الظلمة كالشمس في كبد السماء! إنه بيت في واقع الأمر رث، وضيق وذو أثاث رديء ولكن مع هذا كله، هو لا يزال بيته الذي بناه بنفسه وكان سعيدًا جدًّا بالرجوع إليه بعد دوام العمل. وكان من الجليِّ أن البيت سعيد هو الآخر باحتضانه، بل ويَفتقدُه ويُريد عودته ويلحُّ عليه بذلك عن طريق أنفه، يُخبره بذلك بحزنٍ وأسًى وعتابٍ وتوبيخٍ، لكن دون أن يقسوَ عليه أو يَغضب منه. كان فقط يُنبِّهه في توجُّع إلى وجوده وأنه يريده.
كان النداء واضحًا والاستدعاء صريحًا وعليه أن يُطيعه في الحال ويتبعه. نادى وهو في قمة البهجة وقال: «فأرون! انتظر قليلًا! ارجع، فأنا أريدك حالًا، هيا أسرع!»
ردَّ عليه الفأر بمرح وهو ما يزال يخطو للأمام: «يا إلهي! هيا تحرَّك يا خُلد؛ الآن!»
توسل إليه الخُلد المسكين وقلبه يكاد ينفطر: «توقَّف رجاءً يا فأرون! أنت لا تفهم الأمر؛ إنه بيتي، بيتي القديم! لقد مرت رائحته أمام أنفي للتوِّ وهو قريب من هنا، قريب جدًّا. «يجب» عليَّ أن أذهب إلى هناك، أجل، يجب عليَّ ذلك! عُد إلى هنا يا فأرون! رجاءً، أتوسَّل إليك أن تعود!»
في ذلك الوقت كان الفأر قد قطع شوطًا كبيرًا للأمام؛ بعيدًا جدًّا فلم يسمع ما يُخبره به الخُلد، وبعيدًا أيضًا فلم يميز النبرة الحادة في صوته وهو يُناشده بإيلام. كان الفأر مشغولًا بالطقس؛ لأنه هو الآخر كان يشتمُّ شيئًا ما؛ شيئًا غامضًا ومثيرًا للشكوك مثل اقتراب سقوط الثلج.
رد الفأر على الخُلد وقال: «علينا ألَّا نتوقَّف الآن يا خُلد! سنأتي غدًا لنرى أيَّما ما وجدته، لكن لا يجدر بنا التوقف الآن أبدًا؛ فالوقت متأخِّر والثلوج ستَنهمِر عما قريب مرةً أخرى، ولست أحفظ طريقنا هذا! كما أني أريدك أن تستعمل حاسة شمِّك يا خُلد؛ لذلك أسرع وتعالَ إلى هنا أيها الشاب المطيع!» واستمر الفأر مسرعًا في طريقه دون أن يَنتظِر أي رد.
وقف الخُلد المسكين بمفرده في الطريق وقلبه منفطِر، وقد أخذ ينشج وفيض من الدموع يتراكم عميقًا بداخلِه شيئًا فشيئًا وهو يعلم أنه يفرُّ إلى عينيه في عاطفةٍ متأجِّجةٍ عما قريب. ولكن حتى في ظل هذا الاختبار القاسي لولائه لصديقه، وقَف موقفًا ثابتًا؛ فلم يمرَّ بخاطره قطُّ أن يَهجره. وفي غضون هذه اللحظات، كانت رائحة بيته القديم تهبُّ في تضرُّع وتُناشده وتهمس له، وفي النهاية طلبَت قدومه بإلحاح. لم يجرؤ على التلكُّؤ أكثر وسط دوامته السحرية هذه. طأطأ رأسه إلى الأرض وصدره يَعتصر ألمًا مزَّق أوتار قلبه ثم اتَّبع خُطا الفأر مُذعِنًا مُطيعًا، بينما كانت الروائح الخفيفة المنبعثة من بيته ما تزال تطارد أنفه المنسحب وتؤنِّبه على صداقته الجديدة تلك وعلى فظاظة قلبه.
ببعض الجهد، استطاع الخُلد أن يلحق بالفأر الذي لم يكن يعي جيدًا ما يحدث، وبدأ يُحدِّثه بابتهاج عما سيفعلانه عند وصولهما إلى البيت، وكم من بهجةٍ سيَحظيان بها عند إشعال الحطب في مدفئة الردهة، وطعام العشاء الذي تَتُوق إليه شهيته؛ ولم يلحظ قطُّ صمت رفيقه ومزاجه العكر. أخيرًا وبعد مدة، توقَّف الفأر عندما مرَّا على بعض جذول الأشجار عند حافة أجمة كانت تحفُّ بالطريق، وقال له بعطف: «اسمعني جيدًا يا خُلد! يبدو عليك الإرهاق الشديد يا صديقي العجوز؛ فلم يعدْ لسانك قادرًا على الكلام، وقد أخذْتَ تجرُّ قدميك من شدة التعب. سنَجلِس هنا برهة لنستريح، فها هو الثلج قد تأخَّر ولم يَهطل حتى الآن، وقد مضى أفضل الأجزاء من رحلتنا، ولم يبقَ إلا القليل.»
أراح الخُلد جسده في يأسٍ على جذل شجرة وهو يُحاول أن يحكم السيطرة على نفسه؛ فقد شعر أن نوبة البكاء التي حاربها بداخله طويلًا تأبى الاستسلام وتوشك أن تفيض. أخذ النشيج يعلو شيئًا فشيئًا وهو يشقُّ طريقه بالقوة إلى الخارج؛ تنهد المرة بعد الأخرى، وأخرج الزفرة بعد الزفرة حثيثًا وفي شجن حتى ضعف الخُلد المسكين عن مواجهة ذلك الطوفان، فانسلَّت أخيرًا الدموع من عينَيه وأجهش بالبكاء وانتحب في قنوط. فقد علم أن كل شيء قد انتهى، وضاع منه ما يُمكن بالكاد أن يقول عنه إنه وجده.
لم يستطع الفأر الذي ذُهل وارتاع من قوة نوبة الجزع التي طرأت على الخُلد، أن يَنبس ببنت شفة لبرهة، ثم قال أخيرًا وبصوتٍ هامسٍ وبنبرةٍ رقيقةٍ وعطوفة: «ماذا دهاك يا صديقي العزيز؟ ماذا حدث؟ أخبرني أيما كان ما حل بك، ولنرى ما الذي يُمكنني فعله.»
كان الخُلد المسكين يجد صعوبةً في النطق بأي كلمة وسط جيَشان صدره الذي كانت فيه الشهقة تُلاحق أختها كأنهما في مطاردة، فحبَست لسانه عن الحديث كلما أراد أن ينطق. ثم قال أخيرًا على نحوٍ مُتقطِّع وهو ينتحِب: «أنا أعرف أنه … بيت صغير ورثٌّ وقذر؛ ليس … كمنزلك المريح … أو قصر العُلجوم الجميل … أو حتى بيت الغُرير الكبير … ولكنه كان بيتي الصغير … وكنتُ أحبُّه حبًّا جمًّا … ثم تخلَّيتُ عنه ونسيتُ أمره تمامًا … ثم شممتُ رائحتَه فجأةً وأنا سائر على الطريق، وعندما ناديتُ عليك لم تَستجِب لي يا فأر … ثم مرَّتْ أمامي كل الذكريات مرورًا سريعًا … وأردتُ أن أعود إليه! … يا إلهي، يا إلهي! … وعندما لم تتوقَّف يا فأرون — وكان عليَّ أن أتركه، مع أن رائحته كانت في أنفي طوال الوقت — شعرتُ أن قلبي سينفطر حزنًا! … كان بإمكاننا أن نذهب ونُلقيَ نظرة عليه يا فأرون … نظرةً واحدة فقط … لقد كان قريبًا جدًّا … لكنك لم تستمع إليَّ ولم تتوقَّف يا فأرون! لم ترجع إليَّ قطُّ! يا ألله يا رحيم!»
بذكره ما حدث، فاضت موجات جديدة من الحزن والأسى، وتمكَّن منه النشيج والشهيق مرةً أخرى ومنَعاه من نطق المزيد من الكلام.
وقف الفأر أمام الخُلد مباشرة صامتًا لا يتكلم وأخذ يُربِّت بلطفٍ على كتفه، ثم تمتمَ بحزنٍ بعد فترةٍ وقال: «الآن فهمتُ الأمر! كم كنتُ أحمقَ! أجل! أحمق وغبي؛ هذا ما كنت عليه. لستُ إلا أحمقَ شديد السفه!»
انتظر حتى قلَّت حدَّة عبَرات الخُلد وصارت ذات إيقاع؛ انتظر حتى هدأ وبدأ الشهيق يتردَّد على صدره، وصار بكاؤه متقطعًا. حينها، قام من مجلسه ثم قال بلا مبالاة: «حسنًا، يَجدر بنا أن نمضيَ الآن في طريقنا أيها الشاب!» ثم بدأ السير مرة أخرى ولكن راجعًا في اتجاه الطريق المُهلِك الذي قطعاه من قبل.
ردَّ الخُلد الدامع وهو ينظر إلى أعلى في قلق وقد أخذ الشهيق يقاطع كلامه: «إلى أين ستَذهب يا فأرون؟»
قال له الفأر بلُطف: «سنَشرع في البحث عن منزلك هذا يا صديقي العزيز! هيا أسرع، فسيتطلَّب العثور عليه جهدًا، وسنحتاج إلى حاسة شمك.»
صاح الخُلد وهو يَنهَض ويُسرع وراءه وقال: «يا إلهي! ارجع إلى هنا يا فأرون، رجاءً! استمِع إليَّ؛ لا فائدة من البحث، فلقد فات الأوان وحل الظلام والمكان بعيد جدًّا، وها هو الثلج يُوشِك أن يَنهمر! أنا … أنا لم أقصد قطُّ أن أُخبرَك بمشاعري هذه تجاه الأمر … لقد فقدتُ السيطرة وحدث هذا الخطأ! ثم ما لك لا تُفكِّر في ضفة النهر وفي عشائك؟!»
ردَّ عليه الفأر بحماس: «دعْك من ضفة النهر ومن العشاء أيضًا! أنا أقول لك إني سأَجد هذا المكان الآن، حتى ولو بقيت بالخارج طوال الليل. هيا أيها الشاب، ابتهجْ وتعالَ خُذ بيدي، وقريبًا جدًّا سنكون هناك مرة أخرى.»
كابد الخُلد ورفيقه العَجول يُرغمه أن يعود أدراجه، وما فتئ يَنخر ويتوسَّل إليه غير راغب في العودة، لكن سيلًا من الحديث المَرِح والطرفات جاد به الفأر كان كفيلًا ليُعليَ من معنويات الخُلد ويَطويَ ذلك الطريق الطويل له. وعندما تراءى للفأر أخيرًا أنهما اقترَبا من البقعة التي كان الخُلد واقفًا فيها على الطريق، قال: «لنتمهَّل! من الآن فصاعدًا لا مزيد من الكلام. علينا العمل! أطلق حاسَّة شمِّك وركز فيما تشمُّه!»
مشَيا في صمت مسافة ليست بالطويلة، وفجأةً شعر الفأر بصدمة كهربية ضعيفة تسري في جسد الخُلد وتَنتقِل إليه عبر يده الممسكة به. أفلَتَ يده على الفور، وتباطأ في مشيته وترقَّب منتبهًا غاية الانتباه.
كانت الإشارات تبثُّ في اتجاههما!
تصلَّب الخُلد في مكانه لوهلة بينما كان أنفه المرفوع الذي يَرتعِش قليلًا، يتشمَّم الهواء.
ثم بادر بركضة قصيرة للأمام … اتجاه خاطئ … كبَح حركته … محاولة أخرى؛ والآن تقدُّم بطيء بخُطًا واثقة وثابتة.
تتبَّع الفأر المتحمِّس خطوات الخُلد خطوة بعد خطوة، وهو يُلاحق شيئًا ما في الهواء كأنه يسير وهو نائم. عبَر الخُلد خندقًا جافًّا، واندفع وسط أحد السياجات، ثم تحسَّس طريقه بأنفه تحت ضوء النجوم الخافت عبر أرض فضاء جرداء وغير مطروقة.
وفجأةً ودون سابق إنذار، توارى الخُلد عن النظر بغتة؛ لكن الفأر كان يَقِظًا وتبعه بسرعة إلى أسفل النفق حيث قادتْه على نحو صحيح أنف الخُلد التي لا تخطئ.
كان ضيقًا ولا هواء فيه ورائحة التراب تفوح منه فوحانًا شديدًا، وبدا للفأر أن دهرًا قد مرَّ قبل أن يَنتهي النفق ويتمكَّن من الانتصاب واقفًا ونفَض جسده ومطَّه. أشعل الخُلد عود ثقاب وعلى ضوئه رأى الفأر أنهما يقفان في مكان واسع، والأرض تحت أقدامهما مكنوسة ومُسوَّاة بعناية. أمامهما مباشرة كان يقبع الباب الأمامي الصغير لبيت الخُلد، وعبارة «بيت الخُلد» مكتوبة فوق مدقَّة الجرس، التي بجانب الباب، بالخط القوطي.
مدَّ الخُلد يده والتقط مصباحًا كان معلَّقًا على الحائط بمسمار وأوقده، بينما الفأر كان يُطالع المكان حوله وأدرك أنهما في مكان بدا كأنه باحة أمامية. كان أحد كراسي الحديقة موضوعًا على جانب من جانبَي الباب، وعلى الجانب الآخر كانت تتكئ على الحائط أداة لتسوية الأرض؛ فالخُلد عندما كان يَسكُن البيت كان حيوانًا منظمًا، فلم يكن يطيق أن تضرب الحيوانات باحة منزله بأرجلِها رائحةً غاديةً وتتركها أرضًا منقَّبة. أما على الجدران فقد كانت السِّلال السلكية المملوءة بنبات السرخس معلَّقةً بالتبادُل مع حوامل عليها تماثيل من الجصِّ لكلٍّ من الملكة فيكتوريا، والنبي صموئيل طفلًا، والقائد الحربي جاريبالدي وغيره من أبطال إيطاليا المعاصِرة. وفي أحد أركان الباحة، اصطفَّ على امتداد ساحةٍ للعب لعبة القناني الخشبية؛ عددٌ من المقاعد وطاولات خشبية صغيرة كان على سطحها آثار لحلقات تُشير إلى كئوس الجِعَة. وفي وسط الباحة، كانت هناك بركة صغيرة مدوَّرة تسبَح بها سمكة ذهبية وحافتها الخارجية مغطَّاة بأصداف المحار. من منتصف تلك البركة، برز عمود رائع مُغطًّى بالأصداف أيضًا وتعلوه كرة ضخمة من الزجاج المُفضَّض تَعكِس كل شيء حولها انعكاسًا مخربطًا ولها تأثير ظريف.
تلألأ وجه الخُلد لرؤية كل تلك الأشياء العزيزة إلى قلبه، واستعجل الفأرَ مناديًا عليه من خلال الباب. أوقد قنديلًا في صالة البيت وألقى نظرةً سريعة على بيته القديم. كان الغبار متراكمًا على كل شيء، ورأى نظرة التعاسة والهجر على كل شيء في هذا البيت الذي أُهمل طويلًا، وتأمَّل أبعاده الضيقة والحَرِجة وأثاثه الرث والمُهترئ. ارتمَى منهارًا مرةً أخرى في أحضان أحد مقاعد الصالة وكفَّاه تُغطيان أنفه وقال باكيًا في مرارة: «فأرون يا صديقي! ما الذي جعلني أفعل هذا؟ لماذا أحضرتُك إلى مثل هذا المكان الضيق البارد والموحش في ليلة كهذه، بينما كنت لتكون على ضفة النهر في هذا الوقت تَنعم بالدفء أمام نار متَّقدة وحولك كل أشيائك اللطيفة!»
لم يُصغِ الفأر إلى أيٍّ من توبيخ النفس الحزين ذاك، بل كان يَقفز من مكان إلى آخر، ويفتح الأبواب ويَفحص الغرف والخزانات، ويُشعِل الأنوار والشموع ويضعها في كل مكان حوله. صاح في بهجة وقال: «يا له من منزل أنيق وصغير. إنه منزل مُحكَم ذو تخطيط جيد! به كل شيء وكل شيء في مكانه الصحيح! سنُمضي فيه ليلة هانئة، ولكن نحتاج أولًا إلى أن نُوقد نارًا لتدفئنا. سأتولى أنا هذا الأمر؛ فلطالَما كنتُ بارعًا في إيجاد الأشياء. هذه هي صالة المنزل، أليس كذلك؟ ممتاز! وهل تلك المَخادع المحفورة في داخل الحائط من بنات أفكارك؟ ذَوق رفيع! سأذهب الآن لأُحضر بعض الحطب والفحم، واذهب أنت يا خلد لتَجلِب منفضة الغبار؛ ستجد واحدة في درج طاولة المطبخ. هيا يا فتى! شمِّر وابدأ بنفض الغبار عن المكان قليلًا.»
نهض الخُلد متحفزًا بعد سماعه لرفيقه المتحمِّس، وبدأ ينفض الغبار ويُلمِّع الأشياء بكل حيوية ونشاط، بينما كان الفأر يركض جيئة وذهابًا حاملًا ملء ذراعَيه حطبًا وفحمًا، وما لبث طويلًا حتى سمع صوت طقطقة نيران المدفأة وهي تتلظَّى. نادى على الخُلد ليأتيَ ويَنعم بالدفء، ولكن حل الغم والحزن على الخُلد مرةً أخرى، وخر جالسًا على أريكة في يأس وقنوط ودفَن وجهه وسط منفضة الغبار وقال أسفًا: «ماذا ستأكل وقت العشاء يا فأرون؛ أيها الحيوان المسكين المرتعش من البرد، والمنهَك من وعثاء السفر وقرص الجوع؟ فأنا لا أَملك شيئًا لأقدمه لك، لا شيءَ على الإطلاق ولو حتى كسرة خبز!»
ردَّ عليه الفأر موبخًا: «أي نوع من الحيوانات أنت لتَستسلِم بهذه السهولة؟ لماذا؟ لقد رأيت أمامي للتوِّ بوضوحٍ شديد فتاحة علب سردين في خزانة المطبخ؟ وهذا يعني، وكل الحيوانات تَعرف هذا، أن هناك علب سردين في مكانٍ ما في الجوار. هيا تمالكْ نفسك وانهض لنبحث معًا عنها!»
شرَعا في البحث عن علب السردين، وأخذا يفتشان عنها في كل خزانة وينظران عن كثب في كل درج. في النهاية، لم يعودا من بحثَيهما بخفَّي حُنَين، ولكن كانت آمالهما أفضل من ذلك؛ فقد وجَدا علبة سردين، وعلبة بسكويت جافٍّ شبه مُكتملة، وبعض السجق الألماني الملفوف في ورق فضي.
علَّق الفأر وهو يُعدُّ المائدة: «استعد، فهناك مأدبة بانتظارك! أعرف حيوانات قد تُضحِّي بالغالي والنفيس فقط ليَجلسوا معنا وينالوا حظًّا من عشائنا الليلة!»
أَنَّ الخُلدُ في كدر وقال: «ليس لدَينا خبز! ولا زبد، ولا …»
أكمل الفأر باسمًا وقال: «ولا نَملك عجائن كبد الإوز ولا مشروبات روحية! وهذا يُذكرني بسؤال وهو: إلى أين يؤدِّي هذا الباب في نهاية الردهة؟ إلى قبو البيت بكل تأكيد! توجد كل الرفاهيات في هذا المنزل! انتظرني لحظة.»
خطا باتجاه باب القبو، ثم ظهر بعد مدةٍ يعلوه الغبار بعض الشيء ويحمل في كلتا يدَيه زجاجة جِعَة، ويتأبَّط زجاجة أخرى تحت كل ذراع، وقال معلقًا: «يا لك من فقير لكن مُنغمِس في الملذات يا خُلد! إنك لا تحرم نفسك شيئًا! هذا بلا شك أبهج المنازل الصغيرة التي زُرتها. والآن، أخبرني من أين لك بكل هذه التُّحف واللوحات؟ فهي تُضفي روحًا على المكان تجعل المرء يحسُّ كأنه في بيته! لا عجب أنك تهيم به حبًّا يا خُلد. حدثني عن بيتك هيا، وكيف بنَيتَه وأثَّثته ليصير على ما هو عليه الآن.»
وبينما انشغل الفأر في إحضار الأطباق وشوكات وسكاكين الطعام، وتحضير صلصة الخردل في بولة بيض، كان الخُلد ما يزال يتنهَّد وصدره مثقلٌ من وطأة انفعاله الأخير، وبدأ يَروي على مسامع الفأر كيف فكر وخطط وبنى هذا البيت؛ في بادئ الأمر بخجل بعض الشيء، ولكن كلَّما استرسل في كلامه عن هذا الموضوع، ازداد ثقة وتحرُّرًا. حكى له كيف أن هذه كانت إحدى عطايا خالته السخية، وأن تلك كانت لقية رائعة وصفقة جيدة، وأن هذا الشيء اشتراه من مالٍ ثابَرَ في ادِّخاره وحرم نفسه الكثير من أجله. كانت روحه المعنوية قد عادَت إلى طبيعتِها، وأحسَّ بأن عليه أن يلاطفَ ويعتنيَ بمُمتلكاته تلك. أوقَد قنديلًا وأخذ يُري محاسنها لضيفه ويُسهب في الحديث عنها ونسيَ طعام العشاء الذي كان الاثنان في أشد الحاجة لأكله. كان الفأر يتضوَّر جوعًا ولكنه جاهد ليُخفيَ ذلك، وأخذ يومئ بجدٍّ مقطبًا حاجبَيه ويقول معلِّقًا بين الفينة والأخرى كلما سنحت له فرصة ليبدي رأيه: «ممتاز!» و«يا لَلبراعة والإتقان!»
وأخيرًا بعد مدة من الوقت، نجح الفأر في أن يَستدرجه إلى المائدة، وكان قد انهمك في استخدام فتَّاحة علب السردين عندما علَت أصوات خارجية صادرة من الباحة الأمامية للمنزل؛ كانت أصوات مشيٍ مُتثاقِل لأقدامٍ صغيرةٍ على أرض حصباء، وهمهمات متداخلة لحيوانات صغيرة، وقد نمَا إلى مسامعهما بعض أجزاء من الكلام: «والآن، قِفوا جميعًا في صفٍّ واحد … ارفع القنديل لأعلى قليلًا يا تومي … والآن تَنحنَحُوا وهيِّئوا حناجركم … ولا أحد يكح بعد العد، واحد اثنان ثلاثة … أين هو بل الصغير؟ — هيا أسرع واحضُر إلى هنا فورًا؛ فجميعنا بانتظارك …»
توقف الفأر عن فتح علبة السردين وقال متسائلًا: «ما الخطب؟»
رد الخُلد وقال في نبرة شابها اعتزاز وفخر: «لا بد أنهم فئران الحقل! إنهم، في هذا الوقت من العام، يجوبون المكان بانتظام مُنشِدين الترانيم. إنهم يعدُّون أحد التقاليد في هذه الأراضي. إنهم لم ينسوا أن يمُّروا على بيتي من قبل قط؛ فهم يأتون إلى بيت الخُلد في نهاية جولتهم. وكانت لي عادة أن أسقيَهم شرابًا ساخنًا وأُقدِّم لهم طعام العشاء في أحايين كثيرة حين أستطيع ذلك. يُذكِّرني سماعهم مرة أخرى بالأيام التي مضت.»
صاحَ الفأر وهو يقفز من مكانه ويركض باتجاه الباب: «لنَذهبْ ونُلقِ نظرة عليهم!»
يا له من مشهد خلاب جاء في أوانه هذا الذي وقعَت عليه أعينهم حينما فتَحا الباب في اندفاع وحماس. كان هناك فئران حقل صغيرة يتراوح عددهم بين الثمانية والعشرة يقفون في باحة المنزل الأمامية وتَنعكِس على وجوهم أشعة ضوء خافتة من قنديل مصنوع من قرون الثيران. كانوا يقفون على شكل نصف دائرة ويلتحفون أوشحةً حمراء من الصوف حول أعناقهم، وأكفهم مدفونة داخل جيوبهم، وأرجلهم ترتعش متراقصةً طلَبًا للدفء. وبأعينهم اللامعة التي تُشبه حبات الخرز، كانوا ينظرون بعضهم إلى بعضٍ في خجل، ويضحكون ضحكًا مكتومًا أحيانًا ويَتنشَّقُون وهم منشغلون في هندمة أكمام معاطفِهم. وعندما فُتح الباب، كان يقول أحد أكبرهم سنًّا والذي كان يحمل القنديل المُضيء: «الآن، واحد اثنان، ثلاثة!» وفورًا صدحت أصواتهم الصغيرة وعلَتْ في الهواء وبدءوا يُنشِدون إحدى الترانيم القديمة التي نظَمها أسلافهم وهم في الحقول غير المزروعة ويَحبِسُهم الصقيع في باطنها، أو عندما يُحاصِرُهم الثلج في المداخن ويَحتجزهم، وتناقلتْها الأجيال لتُنشَد في الشوارع الموحلة على مسامع النوافذ المضاءة بالقناديل في وقت احتفالات ميلاد المسيح.
الترنيمة
انقطعت الأصوات، وأخذ المُنشِدون يتبادلون النظرات الجانبية في خجل والابتسامة تعلو وجوههم، وحل الصمت بعد ذلك؛ ولكن للحظات قليلة فقط. ثم نمَا إلى آذانهم صوت بعيد من السماء دنا إلى النفق الذي عبروه منذ قليل، ليسمعوا صوتًا خافتًا ذا لحن عذب، هو صوت قرع الأجراس البعيدة وهي تُجلجِل بصوتٍ رنَّانٍ ومبهج.
صاح الفأر بحماسة وقال: «ما أحسن أصواتكم يا فتيان! والآن، ادخلوا جميعًا إلى البيت واجلسوا بجانب النار لتُدفئوا أجسادكم ولتحتسُوا شرابًا ساخنًا!»
صاح الخُلد متلهفًا: «نعم! تعالوا إلى الداخل يا فئران الحقل الأعزاء. تمامًا كالأيام السالفة! أغلِقُوا الباب خلفكم. واسحبوا ذلك المقعد إلى جانب النار والآن انتظروا دقيقة حتى … أوه، يا فأرون!» ثم صاح في قنوط وهو يهوي بجسده على أحد المقاعد والدمع يُرقرق عينيه وقال: «ما الذي نفعله؟ فنحن لا نملك شيئًا حتى نقدمه لهم!»
قال الفأر الماهر: «دع كل هذا لي!» ثم نادى وقال: «أنت! يا من تحمل القنديل! تعالَ إلى هنا، أريد أن أحادثك. والآن أخبرني، هل هناك أي متاجر ما تزال مفتوحة في هذا الوقت من الليل؟»
رد فأر الحقل بأدبٍ وقال: «بالطبع، يا سيدي، ولكن لماذا تسأل؟ في هذا الوقت من العام تظلُّ متاجرُنا مفتوحة طوال اليوم.»
قال له الفأر: «إذن، اسمعني جيدًا! ستَذهب على الفور مع قنديلك هذا وتأتني ﺑ …»
تبع هذه المحادثة الكثير من الهمهمات التي سمع الخُلد بعض أجزائها فقط، ومن تلك الجمل التي سمعها: «انتبه! لتُحضرَه طازجًا … كلا، رطلًا واحدًا سيَكفي الجميع … ستَتناوَبون عليها، فلن أجلب المزيد … لا، أفضلها فقط … إن لم تجدها هناك، فاذهب إلى متجر آخر … نعم، بالتأكيد، صناعة منزلية لا مُنتَجات معلبة … والآن، فلتَبذل قصارى جهدك!» ثم سمع أخيرًا صوت رنين العملات المعدنية وهي تَنتقِل من كف لأخرى، وأُعطي فأر الحقل سلة كبيرة ليضع فيها مشترياته، ومضى في طريقه مسرعًا حاملًا قنديله.
أما بقية فئران الحقل فقد اصطفُّوا جالسين على المقعد وأرجلهم القصيرة تتدلَّى متأرجِحة، ولم يدَّخروا جهدًا في الاستمتاع بحرارة النيران وتدفئة أصابعهم المتجمِّدة من الصقيع حتى تورَّدت وسرَتْ فيها الدماء مرة أخرى. بينما لجأ الخُلد الذي أخفق في جذب أطراف الحديث معهم بسلاسة، إلى الحديث عن تاريخ العائلة؛ وجعلهم فأرًا فأرًا يَسردون أسماء إخوتهم الكثُر الذي تبيَّن أنه لم يُسمَح لهم بالمشاركة في إنشاد الترانيم هذا العام لصغر سنهم، ولكنهم يتطلَّعون لكسب موافقة والديهم عما قريب.
وأثناء ذلك، كان الفأر يُدقِّق النظر في ملصق إحدى زجاجات الجعة، ثم علق مستحسِنًا وقال: «أعتقد أن هذه من نوع أولد برتون! أنت ذو عقل رشيد يا خُلد! هذا هو ما نحتاجه تمامًا! يُمكننا الآن أن نعدَّ بعض الشراب الساخن اللذيذ! هيا حضِّر الأشياء المطلوبة يا خُلد بينما أفتح أنا الزجاجات!»
لم يستغرق إعداد الشراب ووضْع القدر في قلب النار الموقَدة وقتًا طويلًا؛ وسرعان ما كان كل فأر من فئران الحقل يَحتسي شرابًا ساخنًا ثم يُسعل أو يشرق به، ثم يمسح دموع عينيه ويضحك وكأنه ما أحسَّ بلسعة برد في حياته قط.
أوضح الخُلد للفأر وقال: «هؤلاء الفتيان يُقدِّمون عروضًا مسرحية أيضًا! إنهم يُؤلِّفونها بأنفسهم من أول مشهد إلى آخر مشهد، ثم يُمثِّلونها بعد ذلك. والحق أقول: يا لَبراعتهم في التمثيل! لقد قدموا لنا عرضًا متألقًا السنة الماضية حول فأر حقل أسرَتْه إحدى سفن قراصنة البربر واستُعبِدَ عاملًا يُجدِّف على متنها؛ وعندما استطاع الهرب وعاد إلى بيته، وجد حبيبته قد صارت راهبة. أنت، هناك! لقد كنتَ أحد أبطال تلك المسرحية، أنا أتذكَّرك. هيا قف وأعد لنا بعض مشاهدها!»
نهض فأر الحقل المخاطَب واقفًا على قدميه، وضحك ضحكة خافتة على استحياء ونظر حوالَيه وعقد لسانه فلم ينطق ببنت شفة. بدأ رفاقه يُلقون عليه عبارات تشجيعية، وتملَّقَه الخُلد وأثنى عليه. أما الفأر فقد بالغ في تشجيعه وأخذه من كتفَيه وضمه إليه وهزه، ولكن لم يُساعده أيٌّ من ذلك على تخطِّي رهبة المسرح. كانوا جميعًا منشغلين به كما لو كانوا رجال إنقاذ يُطبِّقون تعليمات الجمعية الملكية للإغاثة على إحدى حالات الغرق، عندما سمعوا صوت قرقعة المزلاج ثم فتح الباب وظهر فأر الحقل صاحب القنديل وهو يمشي مُترنِّحًا من ثِقَل سلته التي يحملها.
انقطع الحديث حول تمثيل مشاهد المسرحية عندما قُلبَت السلة وأُفرغت محتوياتها الشهية على الطاولة. وتحت قيادة الفأر البارعة، كان كل واحد من الموجودين قد كُلِّف بإنجاز مهمة ما أو إحضار شيءٍ ما. وفي دقائق معدودة كان العشاء جاهزًا والخُلد يَجلس على رأس الطاولة في مشهد حالم وقد رأى أمامه تلك المائدة المجدبة قد استحالت مائدة عامرة بشتى أنواع الطعام، وشاهد البهجة تشعُّ من وجوه أصدقائه الصغار وتغمُرهم وهم يجلسون إلى المائدة دون تأخير، ثم نفض الكلفة عن نفسه وانقضَّ على الطعام الذي أعد بأعجوبة يَلتهمه — فهو أيضًا كان يتضوَّر جوعًا — وهو يحدث نفسه أن بعد كل ذلك العناء، لقد كان عودًا حميدًا إلى البيت. وأثناء الطعام، تجاذبوا أطراف حديث حول الأيام الخوالي، وأطلعتْه فئران الحقل على جديد أخبار الحي وأجابوا قدر استطاعتهم على ما ألقاه عليهم من مئات الأسئلة. لم يُشاركهم الفأر بالكثير أو ربما لم يَقلْ حرفًا واحدًا؛ فقد كان منشغلًا بتلبية رغبات الضيوف وحصولهم على ما طلبوه وزيادة، كما حرص على ألَّا يشعرَ الخُلد بالقلق أو يُصيبَه همٌّ حيال أي شيء.
انتهَوْا من طعامهم في النهاية وهموا بالرحيل وهم مُمتنُّون ويتبادلون تهاني وأمنيات الفصل الجديد، وجيوب معاطفهم محشوة بالتذكارات ليهدوها إلى إخوتهم وأخواتهم الصغار في المنزل. وعندما خرج آخر فأرٍ منهم وأغلق الباب وخفتت أصوات خشخشة القناديل شيئًا فشيئًا، سعَّر الخُلد والفأر نار المدفأة وقرَّبا مقعديهما منها وأعدَّا وتناوَلا كأسًا أخيرة من الجعة الساخنة قبل أن يناما، ثم أخذا يَسردان مجريات ذلك اليوم الطويل. وفي النهاية، تثاءب الفأر بقوة وقال: «يا خلد، يا صديقي العزيز، أنا مستعدٌّ للدخول في نوم أبدي؛ فكلمة نعسان ليست المفردة المناسبة في هذا السياق. هل هذا مخدعك هناك على هذا الجانب؟ رائع جدًّا، إذن، سأنام أنا في المخدع الآخر هنا. يا له من بيت صغير مُدهِش! كل شيء تحتاجه في متناول يدك!»
صعد إلى سريره في عناء ولف جسده جيدًا بالألحفة وغطَّ في النوم من فوره، كحزمة شعير انسلَّت بين أحضان آلة الحصاد.
كان الخُلد المنهَك هو الآخر سعيدًا أنه سيهجع إلى سريره دون أي تأخير، وسرعان ما أراح رأسه على الوسادة في رضًا واطمئنان. وقبل أن يغمض عينيه، أجالهما في غرفته القديمة التي كانت تحت وهج النار الذي أنار أحيانًا أو تمايل على محتويات المكان المألوفة التي لطالَما كانت لا شعوريًّا جزءًا من روحه، وها هي قد استعادت مكانها عنده دون عتاب أو ضغينة. كان الخُلد في الحالة النفسية التي سعى الفأر الحكيم في صمت لأن يعيشها. اتَّضح له الآن كيف أن كل شيء كان سهلًا بسيطًا ويسيرًا — بل وحتى صغيرًا — ولكن اتضح له جليًّا أيضًا أهميةُ كل تلك الأمور له، والقيمة الاستثنائية لوجود نقطة ارتكاز مثل هذه في حياة المرء. إنه لم يُرِد أن يتخلَّى عن حياته الجديدة وأماكنها المبهرة، ولم يُرِد أن يولي ظهره للشمس والهواء الطلق وكل محاسنهما، وأن يعود زاحفًا إلى البيت ويبقى هناك؛ فالعالم الخارجي يأسر لبَّه ويُنادي عليه حتى وهو في باطن الأرض. كان يعرف أن عليه أن يعود إلى الأفق الواسع والأرض الرحبة، ولكنه كان يخالجه شعور طيب أن لديه هذا المكان ليرجع إليه؛ هذا المكان الذي كان ملكًا له وكل تلك الأشياء التي كانت ممتنة لرؤيته مجددًا ويَستطيع دائمًا الاعتماد عليها لترحب به دائمًا دون عتاب.