السيد عُلجوم
كان صباحًا مشرقًا ليوم في بداية فصل الصيف. كانت قد عادت في هذه الفترة الحياة على ضفاف النهر إلى نحوها الطبيعي ووتيرتِها المألوفة، وبدا أن الشمس بحرارتها المُلتهبة كانت تُحفز كل النباتات الخضراء والأشجار الكثيفة والشائكة أن تنبثق من باطن الأرض باتجاهها كأنها تَسحبها بخيوط. استيقظ الخُلد وفأر الماء منذ الفجر وانشغَلا بأمور متعلِّقة بقاربهما وبداية موسم ركوب القوارب؛ فقد كانا يَطليان قاربهما ويُزيِّنانه، ويصلحان المجاديف ويُجدِّدان المقاعد، ويبحثان عن العصيِّ المفقودة التي تُستخدم في سحب القارب، وغيرها من الأشياء. وكانا في صالتهما الصغيرة على وشك إنهاء فطورهما وهما يناقشان خطط يومهما بحماسٍ عندما سمعا صوت طرق شديد على الباب.
قال الفأر وهو ما يزال يتناول بيضته: «تبًّا! اذهب لترى مَن الطارق أيها الخُلد الطيب طالَما قد انتهيت من فطورك.»
ذهب الخُلد ليرى من بالباب، ثم سمعه الفأر وهو يَصيح مُندهشًا. ثم فتح باب الصالة مندفعًا وأعلن بنبرة فيها تعظيم وإجلال: «السيد غُرير!»
كان هذا أمرًا جلَلًا بلا شك؛ أن يقصدهم الغُرير، أو أن يقصد أي أحد غيرهما، في زيارة رسمية؛ فأنتَ إذا كنت بحاجة ماسة لمقابلة الغُرير، عليك أن تتحيَّنه وهو ينسلُّ في هدوءٍ عبر أحد السياجات في الصباح الباكر أو وقتٍ متأخِّر من الليل، أو أن تذهب في مهمة شاقة وتُفاجئه في منزله بوسط البراري.
تقدم الغُرير بخطوات بطيئة إلى داخل الغرفة، ووقَف ناظرًا إلى الحيوانين بوجه ذي ملامح جادة. هوت مِلعقة البيض من يد الفأر على مفرش الطاولة ونظر إلى الغُرير فاغرًا فاه.
قال الغُرير بعد برهة بنبرةٍ وَقورة: «لقد حان الوقت!»
رد عليه الفأر بارتياب وهو ينظر إلى ساعة الحائط فوق رف المدفأة: «أي وقت؟»
قال الغُرير: «الأحرى أن تقول: وقتُ مَن؟ العُلجوم. لقد حانت ساعة العُلجوم! لقد أخبرتكما أني سأتولى أمر توجيهه حين ينقضي الشتاء، وسأفعل هذا اليوم!»
صاح الخُلد مُبتهجًا: «بالتأكيد إنها ساعة العُلجوم! مرحى! لقد تذكرتُ الآن! سنُعلِّمه كيف يكون عُلجومًا ذا عقل رشيد.»
أكمل الغُرير كلامه وهو يجذب مقعدًا ذا مسندَين: «نما إلى علمي ليلة أمس من مصدر موثوق فيه، أن هذا الصباح، ستصلُ سيارة أخرى جديدة ورائعة على نحو استثنائي إلى منزل العُلجوم ليراها ثم يُوافق على شرائها أو يرفض ذلك. في هذه اللحظات، ربما يكون العُلجوم مشغولًا بارتداء تلك الملابس المحبَّبة إلى قلبه والفريدة في بشاعتها، والتي تحوله من العُلجوم الأنيق نسبيًّا إلى مخلوق يدفع أي حيوان عاقل يراه إلى حافة الغضب والانفعال. علينا أن نفعل شيئًا قبل أن يفوت الأوان. إنكما ستُرافقانني حالًا إلى منزل العُلجوم لنُنجز مهمَّة إنقاذه.»
صاح الفأر: «لا فُضَّ فوك! سنُنقذ هذا الحيوان التعيس والمسكين، وسنجعل حاله أفضل! سيكون في أفضل أحواله بعد أن نَنتهي معه!»
انطلقوا في مهمة الرحمة والإنقاذ هذه، ومضوا في طريقهم والغُرير يقود المسير. عندما يسير الحيوانات معًا في جماعة، يمشون في هيئة منضبطة وواعية؛ في صف واحد بدل أن يمشوا مُبعثَرين بعرض الطريق فلا يستطيعون مساعدة أحدهم الآخر إن وقعت مصيبة أو حدق بهم خطر.
وصلوا إلى مشارف بيت العُلجوم، ووجدوا أمامه، مثلما توقع الغُرير، سيارة جديدة لامعة ضخمة ومطلية بلونِ العُلجوم المفضل؛ اللون الأحمر الزاهي. وعندما اقتربوا من الباب، فُتح باندفاع وخرج منه السيد عُلجوم وهو يرتدي نظارة ويَعتمِر قَلنسوة ويَنتعِل غطاءً قماشيًّا فوق حذائه، ويَلبس معطفًا ثقيلًا، وأخذ يَهبط درجات السُّلم في خيلاء وهو يُدخل يديه في قفاز من جلد متين.
صاح العُلجوم مبتهجًا عندما لَمَحهم وقال: «مرحبًا يا أصدقاء! هلمُّوا، هلمُّوا! لقد وصلتُم في الوقت المناسب، لأصطحبَكُم في أمتع … لتأتوا معي في … لتأ… في … أمتع …»
تلعثم في كلامه وانطفأ حماس نبرتِه عندما لاحظ النظرة العابسة اليابسة على وجوه أصدقائه الصامتين، فلم يُكمل جملته ولم تكتمل دعوته.
ارتقى الغُرير درجات السُّلم وقال لرفيقَيه في صرامة: «احمِلاه إلى الداخل!» وبينما كان العُلجوم يُدفَع إلى الداخل عبر الباب وهو يُقاوم ويُنازع ويحتج، التفَّ الغُرير إلى السائق المسئول عن تسليم السيارة الجديدة.
وقال له: «أخشى أننا لن نحتاجَكَ اليوم! فالسيد عُلجوم قد بدَّل رأيه ولم يَعُد بحاجة إلى السيارة. رجاءً تأكَّد أن هذا قرار نهائي؛ لذا فأنت لست مضطرًّا للانتظار.» ثم لحقَ بالآخرين داخل المنزل وأغلق الباب.
قال للعُلجوم عندما وقف أربعتُهم في بهو المنزل: «والآن، أولًا وقبل أي شيء، اخلع هذه الأشياء السخيفة عنك!»
ردَّ عليه العُلجوم بكبرياء وقال: «لن أفعل! وهل لي بسؤالكم عن معنى هذا الغضب العارم؟ أريد توضيحًا الآن!»
قال الغُرير آمرًا: «إذن، اخلَعا عنه تلك الأشياء أنتما الاثنان!»
اضطرَّا إلى أن يَطرَحا العُلجوم أرضًا وهو يرفس ويَنهال باللعنات على جميع أهل الأرض، قبل أن يتمكَّنا من الشروع في تنفيذ مهمَّتهما. جلس الفأر على جسده وأخذ الخُلد يَخلَع عنه ملابس القيادة قطعةً قطعة، ثم أوقفاه على قدميه مرةً أخرى. حينها، بدا عليه أن قدرًا كبيرًا من رُوحه المتبجِّحة والصاخبة قد تلاشَى وتبخَّر عندما خُلعَت عنه ملابسُه الأنيقة. والآن وقد أصبح العُلجوم الذي نعرفه، وليس ذلك الحيوان الذي يَنشُر الذعرَ على الطريق السريع، فقد ضحك ضحكةً واهنة ونظر إلى كلِّ واحد منهم نظرة عطوفة وقد بَدا أنه قد تفهَّم ما يحدث.
أوضَح له الغُرير بقسوة وقال: «لقد كنتَ تعرف أن الأمر سيئول إلى هذا عاجلًا أم آجلًا! لقد تجاهلتَ كل التحذيرات التي وجهناها لك، وأخذتَ تُبدِّد المال الذي ورثتَه عن أبيك وتصرفُه ببذخ، وألصقتَ بنا نحن الحيوانات سمعةً سيئةً في المنطقة؛ بسبب قيادتِك الرعناء واصطداماتك ونزاعاتك مع رجال الشرطة. الحرية رائعة بلا شك، ولكننا نحن الحيوانات لا نسمح لأصدقائنا أن يجعلوا من أنفسهم أضحوكة بعد حدٍّ معيَّن، وأنت قد تجاوزتَ هذا الحد. أنت حيوان صالح يُكَنُّ له الاحترام في العديد من النواحي، ولذلك لا أريد أن أقسو عليك، وسأبذُل قُصارى جهدي مرةً أخيرة لأُسمعَك صوت المنطق ولتَرجِع إلى رشدك. لذلك ستأتي معي إلى غرفة التدخين، وهناك سأُطلعُك على بعض الحقائق عن شخصِك وسنَنظُر أتخرُج من تلك الغرفة بنفس العقلية التي دخلتَ بها أم لا.»
تأبَّط يد العُلجوم بحزم، وقادَه إلى غرفة التدخين وأغلق الباب وراءه.
قال الفأر باستخفاف: «هذا لن يُجديَ نفعًا! الحديث وحده مع العُلجوم لن يُداويه؛ فهو سيقول أي شيء.»
جلس كلٌّ منهما على مقعد ذي مسندَين وانتظَرا في صبر. ومن وراء الباب الموصد، كان يَصل إلى أذنَيهما طنينُ صوت الغُرير المُتواصِل وكلامه الطويل وهو يعلو تارة ويَنخفِض تارة في دفقات من البلاغة والفصاحة. لاحَظا بعد ذلك أن تلك الخطبة العصماء بدأت تُلقَى على فترات يَفصِل بينها بكاءٌ ونشيجٌ طويل من الواضح أنه كان يتردَّد في صدر العُلجوم، ذلك الحيوان الرقيق القلب والعطوف الذي كان — في ذلك الوقت — كريشةٍ في مهبِّ الريح؛ يُمكن إقناعه بأي وجهة نظرٍ مهما كانت.
بعد ما يُقارب ثلاثة أرباع الساعة، فُتح الباب وظهر الغُرير وهو يتقدَّم بجدِّية مُمسكًا بكفِّ العُلجوم الذي كان يبدو عليه الحزن والغم. كان جلده مترهِّلًا حول جسده، ورِجلاه تَرتعشان، ووجْنتاه قد تغضَّنتا من كثرة الدموع التي أجرتْها من مدامِعها محاضرةُ الغُرير المؤثِّرة.
قال الغُرير بلطْف وهو يُشير إلى أحد المقاعد: «اجلِس هناك يا عُلجوم!» ثم أكمل كلامَه وقال: «يا صديقي، إنه لمِن دواعي سُروري أن أخبركما أن العُلجوم قد أدرك أخيرًا ما للأسلوب الذي يتبعه من أخطاء. وهو الآن يشعر حقًّا بالأسف لسُلوكياته غير الرشيدة فيما مضى، وقد تعهَّد بأن يَترك أمر قيادة السيارات كليًّا وإلى الأبد. وقد أخذتُ منه وعْد شرفٍ بذلك.»
قال الخُلد متوجِّسًا: «هذا خبر رائع!»
وعلَّق الفأر بارتياب: «هذا خبر رائع بلا شك! ولكن يا ليت … يا ليت …»
كان يُحدِّق بقوة في العُلجوم وهو يقول جملته تلك، ولم يتمكَّن من التغافل عن أن شيئًا غامضًا يُشبه الوميض كان يتلألأ في عينَيْ ذلك الحيوان اللتَين ما تزالان حزينتَين.
أكمل الغُرير الذي رُسمَت على وجهه أمارات الرضا وقال: «يتبقَّى لنا شيءٌ واحد فقط. يا عُلجوم، أريدك أن تُكرِّر أمام صديقَيكَ هنا وعدَكَ الذي قطعتَه لي لتوِّكَ في غرفة التدخين. أولًا، هل أنت آسفٌ على ما اقترفتَه؟ أترى الآن كم كانت تصرفاتُك حمقاء؟»
حلَّت فترة طويلة جدًّا من الصمت. أخذ العُلجوم يتلفَّت يمنةً ويسرة في قنوط، بينما ظلَّ الآخرون مُنتظِرين في صمتٍ تام. وفي النهاية نطق.
قال بنبرةٍ مُستاءةٍ غلب عليها الإصرار: «لا! لستُ آسفًا. ولم يكن ما فعلتُه ضربًا من ضروب الحماقة قطُّ، لكن كان رائعًا بكل ما تحمله الكلمة من معنًى!»
صاح الغُرير في استهجان: «ما هذا الذي تقوله أيها الحيوان الكذاب؟ ألم تَعترِف لي بذلك ونحن في هذه الغرفة قبل ثوانٍ من الآن …»
ردَّ العُلجوم وقد ضاق صدره: «بلى! هذا صحيح، صحيح تمامًا! في تلك الغرفة كنتُ لأقولَ أيَّ شيء تُريده. يا عزيزي الغُرير، لقد وهبَك الله لسانًا فصيحًا بليغًا، يُحرِّك مشاعر مَن يَسمعه فيَقتنِع، كما أنك قد وضَّحت جميع محاور حديثك توضيحًا جيدًا. كان يُمكنك أن تقودَني إلى أيِّ طريق أردت داخل هذه الغرفة، وأنت تعرف هذا؛ ولذلك كنتُ أمعن التفكير فيما قلتَه بالداخل وأعرضه على عقلي بتأنٍّ، وتبيَّن لي أني لا أشعر بداخلي ولو بحبة خردل من أسفٍ أو ندم؛ لذلك لا خير ولا جدوى من قولي خلاف ذلك الآن، ألا تُوافقني؟»
قال له الغُرير: «إذن، ألم تعدْني أنك لن تمسَّ سيارة أبدًا بعد الآن؟»
رد العُلجوم: «لم أقطع مثل هذا الوعد قط! بل على النقيض، أعدُكَ بكل صدق أن أول سيارة سأراها أمامي سأقفز بداخلها وأقودها!»
علَّق الفأر وقال للخُلد: «ألم أقلْ لك إن الكلام معه لن يُجدي نفعًا؟»
قال الغُرير بحزمٍ وهو يقف على قدمَيه: «لا بأس إذن! ما دمتَ لم تُذعِن بالإقناع، لنرى إذن ما سيفعله الإرغام معك. كنتُ أخشى أن يصلَ الأمر إلى ما نحن فيه الآن. لطالَما ألححتَ علينا بطلبك أن نأتيَ نحن الثلاثة ونسكن معك هذا البيت الجميل خاصَّتَك؛ حسنًا، سنَنتقِل إليه الآن، ولن نرحل عنه قبل أن نُعيدَك من هذا الغيِّ إلى رشدك. خُذاه إلى الطابق العلوي أنتما الاثنان وأوصِدا عليه باب غرفة نومه حتى نُسوِّي الأمورَ فيما بيننا.»
«أنت تعرف أن هذا لمصلحتِك يا عُلجومي!» قال الفأر ذلك بلطف للعُلجوم الذي كان يرفس بقدمَيه ويُصارع بينما كان صديقاه الوفيان يقتادانه صعودًا إلى الطابق العُلوي. ثم أكمل: «تخيَّل مقدار المرح الذي سنَحظى به معًا، تمامًا كما اعتدْنا، عندما تتخلَّص من هذه الغواية الفظيعة التي لدَيك!»
ثم قال الخُلد: «يا عُلجوم، سنَعتني بكل شيءٍ من أجلك حتى تتحسَّن حالتك ونرى أنك لا تُبدِّد مالك، كما كنتَ تفعل في السابق.»
قال الفأر وهو يدفعه ليدخل غرفة نومه: «لا مزيد من تلك المناوَشات المؤسِفة مع رجال الشرطة يا عُلجوم!»
ثم أضاف الخُلد وهو يُوصِد باب الغرفة: «ولا مزيد من أسابيع العلاج في المستشفى وتلقِّي النصائح والتعليمات من المُمرضات.»
هبَطا الدرج والعُلجوم بالأعلى يَنهال عليهم بالسبِّ من ثقْب مفتاح الباب، ثم اجتمع الأصدقاء الثلاثة ليتشاوَروا في هذا الأمر.
قال الغُرير متنهدًا: «أمامنا عملٌ شاقٌّ ومُضجِر. لم أرَ العُلجوم بهذا الإصرار من قبل، ومع ذلك سنُكمِل حتى النهاية. علينا ألَّا نتركَه ولو للحظة واحدة دون رقابة؛ لذلك سنَتناوَب على رقابتِه حتى يبرأ جسده من ذلك السمِّ الزعاف.»
وعلى ذلك، اتَّفقُوا على مناوَباتٍ للمراقَبة. كل حيوان منهم يَبيت ليلةً في غرفة العُلجوم؛ أما النهار، فقد قسَّموه على ثلاث مُدَد فيما بينهم. في بادئ الأمر لم يُطِق العُلجوم حرَّاسَه اليَقِظين وضاق بهم ذرعًا. وعندما كانت تُصيبه تلك النوبة العنيفة التي يتذكَّر فيها شغَفه بالسيارات، كان يُرتِّب مقاعد غرفة النوم ويصفُّها على هيئة سيارة، ثم يجلس على المقعد الأمامي ويَميل نحو الأمام مثبتًا نظره، ويُصدر أصواتًا نكراء تُحاكي ضوضاء محرك السيارة. وكان يظلُّ على تلك الحالة حتى تَصلَ النوبة إلى ذروتها حين ينقلب ويتشقلب في الهواء ثم يَهوي ممددًا وسط حطام المقاعد المبعثَرة وعلى وجهه علامات الرضا والسرور بما حدث، ولكن بمرور الأيام، قلَّت تلك النوبات العنيفة التي تعتريه تدريجيًّا، وكابد أصدقاؤه ليَصرِفوا عقله إلى هوايات جديدة، ولكن يبدو أن شغفه بتلك الهوايات الجديدة لم يحدث أبدًا، وصار ذابلًا فاتر الهمة وحزينًا.
وفي صباح يوم صحو، كان دور الفأر ليَتناوب المراقبة. صعد الفأر الدرَج ليُريح الغُرير الذي وجده يَتملمَل ويتوق إلى الانطلاق ليتريَّض في جولةٍ طويلةٍ في البراري ويَخلد إلى بيته وأنفاقه. قال الغُرير للفأر خارج الغرفة: «ما زال العُلجوم نائمًا. لم أستطعْ أن أُحادثَه كثيرًا، اللهمَّ إلا من بعض الجمل مثل: «اتركني وحيدًا؛ أنا لا أريد شيئًا؛ قد أتحسَّن قريبًا؛ سيَنتهِي الأمر في موعدِه؛ لا تُفرِّط في قلقك.» وما شابه. عليك أن تنتبه جيدًا، يا فأر! عندما يكون العُلجوم هادئًا وخاضعًا ويرقُّ طبعه، فما هو إلا ذئب في ثياب الحُمْلان! حينها، من المؤكَّد أنه يُخطِّط لشيءٍ ما. أنا أعرفه جيدًا. أما وقد بلَّغتُك، فيجب أن أمضيَ في طريقي الآن!»
سأل الفأر بمرحٍ وهو يَقترب من جانب سرير العُلجوم: «كيف حالُك اليوم يا صديقي؟»
اضطرَّ إلى أن ينتظر بضع دقائق حتى يَحصل على إجابة عن سؤاله. سمع صوتًا واهنًا يردُّ عليه ويقول: «شكرًا جزيلًا لك على سؤالك يا عزيزي فأرون! لطفٌ منك أن تسأل عني، ولكن أخبرني أولًا، كيف حالك أنت وكيف هو صديقنا الرائع الخُلد؟»
رد الفأر وقال: «نحن بخير.» ثم استرسلَ في كلامه دون حذر وقال: «الخُلد ذاهب برفقة الغُرير لقضاء بعض المهامِّ السريعة، ولن يعودا حتى الغداء؛ لذلك سنَقضي أنا وأنت وقتًا ممتعًا معًا طوال هذا الصباح، وأعدُك أني سأبذُل جهدي لأسرِّيَ عنك. هيا انهض أيها الحيوان الطيب، ولا تَستلقِ حزينًا كئيبًا في صباح مُشرِق كهذا!»
همهم العُلجوم قائلًا: «يا عزيزي الفأر اللطيف. ما أضحلَ عِلمَك بحالتي، وما أبعَدني عن النهوض الآن أو أبدًا. لكن لا تشغل بالك بي؛ فأنا أكره أن أكون عبئًا على أصدقائي، ولا أتوقَّع أن أظلَّ في حالتي هذه طويلًا. آمُل ذلك بكلِّ تأكيد.»
قال الفأر متأثرًا: «وأنا كذلك آمُل هذا! لقد كنتَ تُزعجنا أيما إزعاج طوال ذلك الوقت، وأنا سعيد لعِلمي أن هذا الإزعاج سيَنتهي. في طقس جميل كهذا، وموسم التجديف على وشك أن يبدأ! عيبٌ عليك ما تفعله يا عُلجوم! أنت لست عبئًا لنتذمَّر منه، ولكنك تُضيِّع علينا الكثير من الأشياء الرائعة!»
رد العُلجوم بفتور: «ومع ذلك، أخشى أني أصبحتُ عبئًا تتذمَّرون منه. هذا أمرٌ فطريٌّ أنا أتفهَّمه جيدًا. لقد مللتُ اكتراثكم لأمري، ولهذا، لن أسألك أن تفعل أي شيء بعد الآن. فأنا مصدر إزعاج، أعلم ذلك.»
رد الفأر وقال: «بلا شك أنت مصدر إزعاج، ولكني أؤكِّد لك أني على استعداد لتحمُّل أي عناء على سطح الأرض، شريطة أن تُصبح حيوانًا ذا عقل رشيد.»
همهم العُلجوم بصوت أوهنَ من ذي قبل: «إذا كان الأمر كذلك يا فأرون، فها أنا ذا أتوسَّل إليك، للمرة الأخيرة على الأرجح، أن تذهب إلى القرية لتُحضرَ الطبيب بأقصى سرعة. أخشى أن أوانه قد فات حتى لو كان موجودًا بينَنا الآن. أنا أعلم أن هذا طلب فيه عناء ومشقة، ولعلَّنا نَنتظر حتى تأخذ الأمور مجراها الطبيعي!»
اقترب الفأر منه ليفحصَه وهو يسأله: «لماذا تحتاج إلى طبيب؟» وبالطبع، لم يحرك العُلجوم ساكنًا وظلَّ راقدًا وصوته واهنًا أكثر وقد تغيَّر أسلوبه تغييرًا كبيرًا.
همهم العُلجوم وقال: «بالتأكيد قد لاحظت منذ مدة … لكن لا، لا! لِم عليك أن تفعل هذا؟ فالملاحظة هي عناء آخر. غدًا، قد تُحدِّث نفسك نادمًا وتقول: «أوه، فقط لو كنت قد لاحظتُ هذا قبل ذلك! لو كنت فعلت شيئًا حيال الأمر!» ولكن لا؛ لا تُرهِق نفسك وتُقاسي عناءً آخر. لا عليك؛ انسَ أني قد طلبتُ منك هذا.»
قال الفأر وقد بدأ يرتاع: «اسمع أيها الحيوان العجوز! سأذهب وأُحضر لك طبيبًا بكل تأكيد إن كنت تظن أنك بحاجةٍ إليه، ولكن لا يُمكن أن تسوء حالتك لتلك الدرجة في هذا الوقت القصير. دعنا نتحدث حول أمر آخر.»
قال العُلجوم وقد ارتسمت على شفتَيه ابتسامة بائسة: «أخشى يا صديقي العزيز أن الحديث لن يُجدي نفعًا في حالتي هذه، وأشكُّ أن الطبيب قد يكون ذا نفع أيضًا. ومع هذا، على المرء ألَّا يتركَ باب أمل إلا ويطرقه. أرى أنك ستَذهب لإحضار الطبيب وأكره أن أُرهقَ كاهلك بعبءٍ إضافي، ولكن الشيء بالشيء يذكر؛ فهلَّا مررتَ على المحامي في طريقِك وأخبرتَه أن يَحضر؟ فهذا هو الوقت المناسب. ففي الحياة دائمًا ما تكون هناك لحظات — ولعلِّي أقول لحظة — حين يضطر المرء أن يتجرَّع كأس المهام المريرة بصدرٍ رحب، ومهما كان ثقلها على النفس المنهكة!»
قال الفأر المذعور محدِّثًا نفسه وهو يهرع خارجًا من الغرفة: «محامٍ! لا بد أن حالته في غاية السوء!» ومع ذلك لم ينسَ أن يُوصِد باب الغرفة بإحكام بعد خروجه.
وخارج الغرفة، وقَف ليُفكِّر في الأمر وحيدًا؛ فصديقاه كانا بعيدَين جدًّا عن بيت العُلجوم، ولا يوجد أحد ليتشاور معه.
قال شاردًا وهو ينعم التفكير: «من الأفضل أن أحتاط وأركن إلى الخيار الآمن. لقد عهدت العُلجوم وهو يُوهم نفسه بأشياء في السابق إيهامًا مُروعًا دون أدنى سبب مطلقًا، ولكني لم أسمع أنه قد طلب محاميًا قط! إن كانت حالته ليسَت بهذا السوء، سيُخبِره الطبيب أنه صار شيخًا عجوزًا وسيَرفع من معنوياته، وسيكون ذلك مكسبًا. من الأفضل أن أُسايرَه فيما يريد وأذهب؛ فلن يَستغرق الأمر وقتًا طويلًا.» وانطلق من فوره إلى القرية مبعوثًا للرحمة.
أخذ العُلجوم، الذي قفز برشاقة من السرير حين سمع صوت المفتاح وهو يدور في القفل، يُراقب الفأر من النافذة باهتمام حتى اختفى في طريقه بعيدًا. ثم ارتدى أحسن حلَّة لديه في ذلك الوقت بأسرع ما يُمكنه وهو يقهقه من الضحك، ثم ملأ جيوبه بالنقود التي حصل عليها من درج صغير في طاولة التزين، ثم أخذ يعقد ملاءات السرير معًا ليَفتِل حبلًا، ثم لفَّ طرف ذلك الحبل المبتكَر حول العمود الأوسط لنافذة الغرفة ذات الطراز التيودوري والتي كانت إحدى معالم غرفة نومه. وبعد ذلك، أخرج جسده من النافذة وانسل بخفة حتى وصل إلى الأرض، ثم سلك طريقًا معاكسًا للطريق الذي سار فيه الفأر، وانطلق فيه مسرعًا خاليَ البال، منشرح الصدر، يُدندن لحنًا سعيدًا.
كان غداءً مغمًّا قابضًا لنفس الفأر حين رجع الغُرير والخُلد بعد وقت طويل. وكان عليه أن يُواجهَهُما على مائدة الطعام بأحداث تلك الواقعة المثيرة للشفقة وغير المقنعة. يُمكن تخيُّل كم كانت تعليقات الغُرير وملاحظاته لاذعة، بل وقاسية، إلا أن الفأر استطاع تحمُّلها. ولكن ما آلمَ الفأر هو أنه لم يَسلم كذلك من انتقاد الخُلد على الرغم أنه كان يحاول الوقوف في صف صديقه قدر الإمكان، فقال له: «لقد كنتَ أخرقَ بعض الشيء هذه المرة يا فأرون! والعُلجوم من وسط جميع الحيوانات!»
قال الفأر بنبرةٍ حزينةٍ وقد أصابَه الغم: «لقد كان بارعًا براعة لا مثيل لها!»
رد الغُرير عليه بحدة وقال: «بل احتالَ عليك ببراعةٍ لا مثيل لها! على أي حال، الكلام لن يُصلحَ ما فسد من الأمور. من المؤكَّد أنه في الوقت الحالي في مكانٍ ما بعيد كل البعد عن هنا، ولكن أسوَأَ شيء، أنه سيعجب ويتفاخَر بما يظن أنها براعة وسيُقدم على فعل أي حماقة. ولكن سلوانا هي أننا أصبحنا أحرارًا الآن ولسْنا بحاجةٍ إلى تضييع مزيدٍ من أوقاتنا الثمينة في مراقبته. ولكن علينا أن نَبيت في بيت العُلجوم مدة أطول، فلربما يعود في أي وقت، ولا أدري أمصابًا على نقالة أم مقبوضًا عليه من قِبَل رجلَين من رجال الشرطة.»
وهكذا قال الغُرير، جاهلًا بما يُخبئه المستقبل بين طياته، وبمقدار الوقت الذي سيستغرقه العُلجوم ليصفوَ كدر مائه ويعود ليسكن بيت آبائه وأجداده مرة أخرى.
في ذلك الوقت، كان العُلجوم يسير في الطريق السريع، على بُعد عدة أميال عن المنزل، بنشاط وهمة في غاية السعادة مستخفًّا بعواقب الأمور. في أول الأمر، سلك طرقًا جانبية وعبَرَ العديد من الحقول وغيَّر مساره المرة بعد المرة مخافة أن يكون ملاحَقًا، ولكن الآن بعد أن أحسَّ بأنه في مأمنٍ من أن يُدرَك، والشمس تغمره بأشعتها الدافئة الحنونة، وكل الطبيعة من حوله تهلِّل له وتُصفِّق في استِحسانٍ لأنشودة الثناء على النفس التي يُغنيها له قلبه، كاد يرقص على طول الطريق من فرط الرضا والخُيَلاء.
قال مُثنيًا على نفسه وهو سعيد: «يا لها من حيلة ذكية بارعة! عندما يكون الدهاء في مواجهة القوة الغاشمة، دائمًا ما يتفوَّق العقل كما هو مقدَّر له. يا لفأرون المسكين! يا إلهي! ماذا سيفعل عندما يعود الغُرير؟ إنه حيوان جدير بالاحترام ويتمتَّع بالعديد من الصفات الطيبة ولكنَّ له نصيبًا ضئيلًا من الذكاء ولا حظَّ له مطلقًا من التعليم. عليَّ أن آخذ بيده يومًا ولنرى إن كنت أستطيع أن أجعل منه حيوانًا ذا شأن.»
ظل يخطو للأمام في ثقة، وعقله مملوء بكل تلك الأفكار المتعجرفة، حتى وصل إلى قرية صغيرة حيث ذكَّرته لافتة تتأرجح أعلى الطريق في منتصف الشارع الرئيسي ومكتوب عليها «الليث الأحمر»، بأنه لم يتناول فطوره بعدُ وأنه يتضوَّر جوعًا بعد أن قطع كل تلك المسافة ماشيًا. قصد تلك الحانة وطلب أفضل وجبة غداء يُمكن إعدادُها في وقت قصير، ثم جلس ليتناولَها في غرفة تقديم المشروبات.
كان قد الْتهم نصف وجبتِه عندما سمع صوتًا يعرفه جيدًا يقترب من أقصى الطريق والذي جعل جسده يَنتفِض من منبت شعره إلى أخمص قدميه. كان صوت سيارة — «تووت! تووت!» — والذي أخذ يَقترب أكثر فأكثر حتى كان يمكن سماع السيارة وهي تدخل ساحة انتظار الحانة ثم تقف ساكنة. قبض العُلجوم بيده ممسكًا بإحدى قوائم المنضدة ليُسيطِر ويُخفي انفعاله الجياش. في ذلك الوقت، دخل أصحاب السيارة إلى غرفة تقديم المشروبات وهم جوعى ولكن سُعداء لا تكاد ألسنتهم تسكُت عن الحديث عن مغامراتهم الصباحية والمميزات التي منحتْهم إياها تلك السيارة التي أوصلتْهم إلى هنا دون عناء أو مشقة. أنصت العُلجوم جيدًا واسترق السمع لبعض الوقت، ثم لم يعدْ يَحتمل أكثر. انسلَّ خارجًا من الغرفة بهدوء ودفع ثمن طعامه للساقي، وعندما خرج بدأ يمشي الهوينى باتجاه ساحة الانتظار وقال لنفسه: «لا ضرر إن ألقيتُ نظرة عليها فقط!»
كانت السيارة واقفة في منتصف الساحة مهمَلة دون حراسة؛ ففتية الإسطبل وغيرهم من المُساعدين كانوا يتناولون غداءهم. دار العُلجوم حولها بأناة وأخذ يتفحَّصها ويحدِّد عيوبها ويتأملها بعمق شديد.
تساءل وقال: «يا ترى، أتدور هذه السيارة بسهولة؟»
في اللحظة التالية، وجد نفسه، دون أن يشعر كيف حدث ذلك، ممسكًا بذراع التدوير ويُديره. وعندما ارتفع ذلك الصوت المألوف، استيقظ شغفُه القديم حتى تمكَّن منه وسيطر على جسده وروحه سيطرة كاملة. وكما لو كان يحلم، فقد وجد نفسه بطريقة أو بأخرى، جالسًا في مقعد السائق وسحب ذراع نقل السرعة ودار بالسيارة في الساحة ثم انطلق خارجًا من البوابة ذات القنطرة. وكما في الأحلام، بدا أن بوصلة الصواب والخطأ عنده قد توقَّفت بصفة مؤقَّتة، وكذلك الخوف من العواقب الوخيمة الواضحة. زاد من سرعته، وأخذت السيارة تطوي الطريق من تحتها طيًّا وهي منطلقة للأمام على الطريق السريع وسط الريف. كان واعيًا فقط بحقيقة أنه قد عاد العُلجوم مرةً أخرى، العُلجوم في أفضل حالاته وأوج قوته. عاد العُلجوم الرهيب؛ قاهر القواعد المرورية وملك الدروب الخالية. عاد العُلجوم الذي على الجميع أن يُفسحوا الطريق أمامه، وإلا رضوا بأن يُسحَقوا إلى العدم والفناء الأبدي. كان يُغني وهو يكاد يطير، وشاركته السيارة في لحنه بطنين رنان. كانت الأميال تُلتهم تحت عجلات السيارة كلما زاد من سرعتها وهو لا يدري إلى أين هو ذاهب، فقد كان يُشبع غرائزه ويعيش اللحظة، غير عابئ بما يخلفه من عواقب.
علق رئيس قضاة الجلسة بابتهاج وقال: «أرى أن الإشكالية الوحيدة التي تَفرض نفسها في هذه القضية الواضحة كوضوح الشمس في كبد السماء؛ هي كيف يتسنَّى لنا أن نوقع أقصى عقوبة بهذا الشقي العنيد والهمجي ذي الرأس الصلب الذي نراه يَنكمِش مرتعدًا في القفص الذي أمامنا. لنَسرد ما لدينا من حقائق: لقد قُبض عليه متلبسًا بالجرم المشهود؛ أولا بسرقة سيارة ثمينة؛ ثانيًا بالقيادة بتهور وتعريض حياة العامة للخطر؛ وثالثًا بالتعامل بوقاحة وسفاهة مع رجال شرطة الريف. أيها الكاتب، هلا أخبرتنا رجاءً ما هي أقصى عقوبة يمكن لنا الحكم بها في كلٍّ من تلك التُّهَم؟ وبالطبع دون إعطاء السجين أي فرصة للتشكيك؛ فلا مجال لذلك أصلًا!»
حك الكاتب أنفه بالقلم ثم علَّق قائلًا: «قد يَعدُّ بعض الناس سرقة السيارة هي الجريمة الأفظع؛ وهم في ذلك مُحِقون. ولكن إهانة رجال الشرطة والتعامل معهم بوقاحة تستحقُّ أقصى عقوبة بلا أدنى شك؛ وهذا ما ينبغي أن يكون. لنفترض أن عقوبة السرقة هي اثنا عشرَ شهرًا، وهي بذلك عقوبة مخففة؛ وعقوبة القيادة المتهوِّرة هي ثلاث سنوات، وهي بذلك عقوبة فيها قدر كبير من التسامح؛ وعقوبة إهانة رجال الشرطة هي خمسة عشر عامًا؛ فقد كانت الوقاحة على نحوٍ لا مثيل له استنادًا إلى شهادة الشهود، حتى إذا صدَّقنا فقط عُشْر ما قالوه؛ فأنا، شخصيًّا، لا أصدق أكثر من ذلك. تلك الأحكام إذا جُمعَتْ معًا جمعًا صحيحًا، فسيكون الناتج تسعة عشر عامًا …»
قال رئيس القضاة: «كلام لا غُبار عليه!»
قال الكاتب متمًّا كلامه: «… لذلك أرى أن نحتاط من أمرنا ونجعلها عشرين سنة!»
قال رئيس القضاة مستحسنًا: «اقتراح ممتاز!» ثم أكمل: «يا متَّهم! هيا اجمع شتات نفسك وانتصبْ واقفًا. لقد حُكم عليك بالحبس لمدة عشرين سنة. وحاذر أن تقف أمامَنا مرةً أخرى مُدانًا بأي تهمة مهما كانت، وإلا فسنضطرُّ لعقابك بقسوة بالغة.»
أحاط الضباط الشديدو البأس بالعُلجوم المسكين، وغلُّوه بالسلاسل والقيود ثم جرُّوه إلى خارج المحكمة وهو يَصرخ تارةً ويتوسل أو يحتج تارة أخرى. مرُّوا به على السوق حيث انصبَّ عليه العامة الذين مُلئوا نشاطًا بالسخرية وقذفوه بالجزر ونعتوه بالألفاظ والعبارات القبيحة؛ هؤلاء العامة المنافقون الذين دائمًا ما يتعاملون بعنف تجاه من يُضبط بجريمة، وفي الوقت نفسه، هم أشد الناس تعاطفًا ومساعدة عندما يكون الشخص ممَّن هم مطلوب القبض عليهم. ثم مروا على جمع من طلاب المدارس الذين أخذوا يُطلقون صيحات استهجان وكانت تُضيء وجوههم البريئة تلك السعادة التي لا تكون إلا عندما يشاهدون رجلًا فاضلًا في محنة. ثم عبروا الجسر المتحرك الأجوف ومرُّوا تحت الباب الحديدي المُنزلِق ذي الأسنان المدبَّبة الذي يتدلى من قنطرة عبوسة في قلعة موحِشة وقديمة والتي كانت أبراجها العتيقة ترتفِع عاليًا في السماء. ثم مرُّوا على غرف الحراس المليئة بالجنود المُبتسِمين في فترة الراحة، ثم بالحارس الذي أخذ يسعل في تهكُّم وسخرية؛ لأن هذا هو ما يَستطيع فعله كحارس للتعبير عن ازدرائه واحتقاره للجريمة. صعدوا سلالم ملتفَّة بالية، ثم مروا على جنود يرتدون دروعًا وخوذًا من صلب وفي أعينهم نظرات وعيد وإنذار. ثم عبروا ساحة القلعة حيث الكلاب الضخمة تضرب الهواء بقوائمه وتجذب السلاسل وتُريد أن تكسرها لتنال منه. ثم مرُّوا على السجانين العجائز ومطاردهم مسنودة على الحائط وقد غَفوا في قيلولة بعد أن تناولوا فطيرة وإبريقًا من الجعة البُنية. بعدها مروا على غرفتي التعذيب الواحدة تلو الأخرى؛ غرفة المخلعة ثم غرفة لولب الإبهام، ثم على المنعطف الذي يؤدِّي إلى المشنقة، حتى وصلوا إلى باب أكثر الزنازين رعبًا وترويعًا في قلب هذا الحصن المنيع. وهناك توقفوا أخيرًا حيث كان يقف سجانٌ عجوزٌ يُمسك حلقة من المفاتيح الضخمة بأصابعه.
صاح الرقيب وهو يخلع خوذته ويمسح عرق جبينه: «يا رحيم! قم واقفًا أيها الوغد الأشيَب واستلم منا هذا العُلجوم القذر؛ إنه مُجرم ذو ذنب عظيم ودهاء لا يُضاهيه دهاء وحيلة واسعة. ضعه في زنزانة وراقبه مراقبة صارمة. لا تتهاون في معاملته أيها العجوز؛ فإن حدثت أي مشكلة منه، فستُعاقبان أنتما الاثنان؛ رأسك العجوز أمام رأسه؛ لعن الله ذَينك الرأسَين!»
هز السجان رأسه متجهمًا وهو يحطُّ يده الهزيلة على كتف العُلجوم البائس. دار المفتاح الصدِئ في القفل مُصدرًا صوت صرير، ثم قرقع الباب الضخم وهو يقفل خلفه. وأصبح العُلجوم سجينًا لا حول له ولا قوة في أبعد زنزانة في بطن أشد القلاع حراسة وأعتاها في مشارق إنجلترا الحبيبة ومغاربها.