مغامرات العُلجوم
عندما وجَد العُلجوم نفسه سجين جدران زنزانة استوطنتْها الرطوبة وتفوح منها رائحة نتنة، وأيقن أن قلعة العصور الوسطى هذه التي يُوجد بها بكل ما بها من ظلمات موحشة تقف بينه وبين أشعة شمس العالم الخارجي وطرقِه السريعة المُمهَّدة حيث كان في أوج سعادته مؤخرًا تاركًا العنان لنفسه وكأنه استحوذ على كل طريق في إنجلترا، طرح جسده كاملًا على الأرض، وأخذت تذرف عيناه الدموع في مرارةٍ وحزنٍ وترك نفسه لتهوي إلى قاع اليأس المظلم. وكان يقول: «هذه هي نهاية كل شيء! أو على الأقل نهاية مسيرة العُلجوم؛ مما يعني الشيء ذاته. هذه نهاية العُلجوم الشهير والأنيق والثري والمضياف، العُلجوم العاشق للحرية وللتهوُّر وللبهجة والمرح!» ثم يُكمل: «من تراه يُخلِّصني مما أنا فيه ويُطلقني مرة أخرى؛ أنا الذي قد سُجنتُ عدلًا لسرقة سيارة جميلة بتهوُّر، ولوقاحتي الصارخة وإهانتي البارعة التصوير التي انهلتُ بها على عدد من رجال الشرطة الغاضبين ذوي الأجساد اللحيمة؟» ثم يقول بعد أن تخنقه الدموع: «كم كنت حيوانًا غبيًّا! فها أنا الآن عليَّ أن أتعفَّن هنا في هذه الزنزانة، حتى يُمحى اسم العُلجوم من ذاكرة الحيوانات التي كانت يومًا ما فخورة بأنها تعرفه! ما أحكم الغُرير العجوز! وما أبرع ذلك الفأر الذكي والخُلد الرشيد! وما أعقل نظرة هؤلاء للأمور، وكم لديهم من علم في جوهر الرجال والأشياء! ويا لتعاسة العُلجوم المنبوذ!» قضى العُلجوم أيامه وبات لياليَه نائحًا في عويل كهذا، حتى انقضت عدة أسابيع ولا يَزال يرفض الطعام الذي يقدَّم له أو الوجبات الخفيفة التي تُعرض عليه. كان هذا بالرغم من أن السجان العجوز والعبوس الذي كان يعلم أن جيوب العُلجوم مكتظَّة بالنقود كان يُلمِّح إليه في غير ذات مرة أن الكثير من سبل الراحة — بل والرفاهية بلا شك — يُمكن استقدامها من الخارج إلى الزنزانة ببعض الترتيبات؛ ولكن كل شيء له ثمن.
كان لذلك السجان ابنة؛ فتاة طيبة ورقيقة القلب تُساعِد أباها في المهام اليسيرة من عمله. كانت تحبُّ الحيوانات حبًّا جمًّا؛ وإلى جانب عصفور الكناري خاصتها — الذي كان قفصه يُعلَّق طيلة ساعات النهار على مسمار بحائط ضخم داخل القلعة فيُزعج السجناء إزعاجًا شديدًا؛ أولئك الذين يَحصلون على قيلولة ما بعد الغداء، وفي المساء كان يُغطَّى بغطاء ويوضع على طاولة الردهة — كانت تُربِّي بعض الفئران المرقَّطة وسنجابًا مُشاكسًا لا يهدأ. أشفقَت تلك الفتاة الرقيقة القلب على العُلجوم البائس، فقالت لوالدها في يوم من الأيام: «أبي! أنا لا أطيق رؤية ذلك الحيوان المسكين تعيسًا هكذا، وقد تضعضع حاله حتى صار جلدًا على عظم! اسمح لي أن أعتني به؛ فأنت تعلم كم أحبُّ الحيوانات. سأطعمه بيدي، وأجعله يعود لحالته الطبيعية، وسأتولى جميع مهامِّ العناية به.»
أجابها والدها بأنها يُمكنها أن تفعل به ما أرادت. فقد فاض به الكيل وضجر منه ومن خُيلائه وزهوه بنفسه وبخله. وفي ذلك اليوم، مضت في مهمتها الخيرية تلك وقرعت باب زنزانته.
قالت متملِّقة وهي تدلف إلى الداخل: «طِب نفسًا يا عُلجوم، هيا! اجلس وجفِّف دمعك وكن حيوانًا رشيدًا. حاوِل أن تأكل لقمة أو لقمتين من طعام الغداء. انظر، لقد أتيتُ لك ببعضٍ من طعام غدائي الخاص، طازجًا وساخنًا من الفُرن مباشرة إليك!»
كان الطعام عجَّة بطاطس باللحم والكرنب، وقد وُزِّعت على صحنين، وكانت رائحتها تفوح في أرجاء الزنزانة الضيقة. دغدغت رائحة الكرنب أنف العُلجوم الذي كان طريح الأرض يندب حظه في شقاء، فجالت بباله خاطرة بأن الحياة ربما ليست بذلك السواد والبؤس الذي تخيَّله، لكنه رفض أن يتنعَّم بتلك الوجبة، وأخذ ينوح ويرفس بكلتا قدميه. فابتعدت الفتاة الحكيمة وخرجت على إثر ذلك، ولكن خلَّفت آثارَ رائحة قوية للكرنب الساخن وراءها في الزنزانة. وبينما كانت تفوح تلك الرائحة أرجاء المكان، والعُلجوم غارقٌ وسط دموعه، أخذ يشهق ويُفكر مليًّا. وشيئًا فشيئًا، بدأت تأتيه أفكار جديدة ومُلهِمة: عن تجارب ما تزال تَنتظره ليعيشها، وعن نظم الشعر والفروسية؛ عن المروج الفسيحة التي ترعى الماشية فيها وتمشطها الرياح وتتخلَّلها أشعة الشمس؛ وبساتين الخضر المنزلية وحوافها المزروعة بالأعشاب العطرية وأزهار حنك السبع ذات الألوان الزاهية والنحلُ يلتفُّ حولها؛ والصوت المُريح لقرقعة الصحون وهي ترتب على المائدة في قصر العُلجوم، وصوت صرير المقاعد عند احتكاكها مع الأرض عندما يسحب الجالسون أنفسهم للداخل مقتربين أكثر من المائدة ليبدءوا وليمتَهم. استحالت الدنيا من حوله في تلك الزنزانة فصارت كأن هواءها به مسحة من لون وردي؛ فأخذ يُفكِّر في أصدقائه، وأنهم بلا شك سيُقدمون على إيجاد حلٍّ ما؛ ثم فكر في المحامين وإلى أيِّ مدًى كانوا سيَستمتِعون بالترافع عنه في قضيته، ويا له من أحمق لأنه لم يستعِن ببعضهم. ثم ذكَّر نفسه أخيرًا بدهائه وحيَلِه الواسعة، وكل ما يمكن أن يفعله لو أعطى عقله الرائع فرصة للتصرف. وهكذا شُفي العُلجوم وطابت نفسه.
عندما عادت الفتاة بعد بضع ساعات، كانت تحمل صينية عليها كأس شاي ذي رائحة زكية يتصاعَد البخار منه، وبجانب الكأس كانت شرائح الخبز الساخنة جدًّا والسميكة مكوَّمة بعضها فوق بعض؛ كانت محمَّصة تحميصًا جيدًا على كلا جانبَيها، ومحشوة بالزُّبد حتى سال من الشقوق كقطرات ذهبية كأنها قطرات عسل تتساقَط من قرص نحل. كانت رائحة شرائح الخبز تتحدَّث مع العُلجوم بوضوحٍ ولكن دون صوت؛ ذكَّرتْه بالمطبخ الدافئ وبطعام الفطور في صباح صافٍ ومُثلج؛ وبالجلسة المريحة الهانئة بجانب نيران المدفأة في ليالي الشتاء، عندما ينتهي المرء من جولته بالخارج ويضع قدميه في نعليهما عاليًا على سياج المدفأة؛ ذكرته بخرخرة القطط السعيدة، وبزقزقات عصافير الكناري الناعسة. انتصب العُلجوم قائمًا مرة أخرى وجفَّف مقلتَيه ثم احتسى الشاي والْتَهم شرائح الخبز، وما لبث أن استرسل بأريحية في الكلام عن نفسه وعن البيت الذي كان يعيش فيه وعن أفعاله هناك وعن مدى عُلوِّ منزلته الاجتماعية وآراء أصدقائه الطيبة في شخصيته.
أدركت ابنة السجان أن ذلك الموضوع يُنعشه كما يُنعشه الشاي تمامًا، وبالطبع كانت في ذلك محقة، فشجعتْه على الاسترسال في الكلام.
قالت له: «حدثني عن قصرك يا عُلجوم! إنه يبدو رائع الجمال!»
قال العُلجوم بفخر واعتزاز: «قصر العُلجوم! هو مسكن رائع ومستقل يليق بسيد نبيل. إنه بيت فريد لا نظير له؛ يعود تاريخ تشييده إلى القرن الرابع عشر، ومع ذلك فهو مجهَّز بجميع وسائل الراحة الحديثة، وبه نظامُ صرف صحي حديث. وهو يبعد خمس دقائق عن الكنيسة وعن مكتب البريد وملاعب الجولف. ويَصلُح تمامًا ﻟ…»
انفجرت الفتاة في الضحك وقالت: «اللهمَّ بارك واحفظ هذا الحيوان! أنا لا أرغب في شراء ذلك البيت. قل لي فقط شيئًا مميَّزًا عنه، ولكن دعني أولًا أُحضر لك مزيدًا من الشاي وشرائح الخبز المحمص.»
خرجت الفتاة ثم عادت محمَّلة بصينية مليئة بالشاي وشرائح الخبز، وبينما كان العُلجوم يَلتهِم ما قُدم له بشراهة وشهية مفتوحة، ارتفعت معنوياته وعادت لحالتها الطبيعية، فأخبرها عن مَرفأ القوارب وعن بركة السمك وعن بستان الخضر العتيق المسوَّر؛ وحدَّثها عن زرائب الخنازير وعن الحظائر وبيت الحمام وبيت الدجاج؛ وعن مكان صناعة منتجات الألبان والمغسلة وعن خزانة آنية الخزف؛ وعن خزانة البياضات، وقد راق لها هذا الجزء تحديدًا. ثم أخبرها عن قاعة الولائم، وعن مقدار ما كان يَحظى به من المرح هو وأصدقاؤه هناك عندما يجتمعون حول المائدة، ويكون هو في أبهى وأفضل حالاته؛ يُغني الأغاني ويحكي القصص وغير ذلك من الأمور المُبهِجة. أرادت بعد ذلك أن تعرف المزيد عن أصدقائه من الحيوانات، وكانت متشوِّقة لسماع كل ما لديه من قصص وحكايات عنهم وعن حياتهم وكيف يَقضون أيامهم. لم تُخبره قطعًا بأنها كانت مغرَمة بالحيوانات كحيوانات أليفة يُحتفظ بها في المنزل؛ لأنها أحست أن العُلجوم كان سيَستاء من ذلك استياءً شديدًا. وعندما ودعته وتمنَّت له نومًا هنيئًا بعد أن ملأت له إبريق الماء، ونفشَت له سريره من القش، كان العُلجوم يشعُّ تفاؤلًا ومغتبطًا بنفسه تمامًا كما كان في قديم عهده. أنشد أغنية أو اثنتين من تلك الأغاني التي اعتاد ترديدها أثناء ولائم العشاء، ثم استلقى في فراشه من القش جامعًا رجليه إلى صدره وحصل على قسط كافٍ من الراحة في ليلته وحلم بأسعد الأحلام وأكثرها بهجة.
رغم استمرار الظروف الصعبة التي كان يعيش في كنفها العُلجوم، فقد حظيَ مع الفتاة بعد ذلك بالعديد من المحادثات الشيقة، وقد ازدادت شفقة ابنة السجان ورقَّت بشدة لحال العُلجوم، وتراءى لها أنه من الخزي والعار أن يظلَّ ذلك الحيوان الصغير المسكين حبيس السجن لاقترافه، حسبما رأت، خطأً تافهًا. وظن العُلجوم، بالطبع، في كبرياء وخُيلاء، أن اهتمامها به قد نبع من عاطفة متأجِّجة، ولم يستطع أن يكبح نفسه عن الأسف ولو قليلًا؛ لأن الفجوة الاجتماعية بينهما واسعة وعريضة عرض السماء والأرض؛ فهي فتاة حسناء ومن الواضح أنها قد وقعَت أسيرة لحبه.
في صباح أحد الأيام، كانت الفتاة شاردةً مُستغرِقة في التفكير، وكانت تُجيب عليه بإجابات عشوائية، ولم يرَ العُلجوم أنها تُولي ما يقوله من عبارات ظريفة وتعليقات رائعة اهتمامًا كافيًا.
ثم قالت: «يا عُلجوم! اسمعني، رجاءً! لي عمَّة تعمل في غسل الملابس.»
قال العُلجوم في لطف ودماثة: «لا بأس! لا عليك؛ لا تهتمِّي كثيرًا بهذا الأمر! فلي عمَّات كثُر عملن مُضطرات في غسل الملابس.»
قالت الفتاة: «أطبق فمك ولو دقيقة يا عُلجوم! أنت ثرثار مِكثار، وهذه نقيصتك الكبرى. أنا أجتهد في التفكير وأنت تُصيب رأسي بالصداع. كما كنت أقول؛ لي عمَّة تعمل في غسل الملابس، وتغسل ملابس جميع المسجونين في القلعة هنا؛ فنحن نُحاول أن نُبقيَ أي عمل مُربِح من هذا القبيل داخل إطار عائلتنا، أظنُّكَ تفهم ما أرمي إليه. إنها تجمع الملابس صباح كل اثنين، وتعود بها مساء الجمعة. واليوم هو يوم الخميس؛ لذلك طرأتْ على بالي فكرة وسأُخبرك بها. أنت حيوان غني، كما تتغنَّى بذلك أمامي دائمًا، وهي امرأة فقيرة جدًّا. وبضعة جنيهات منك لن تنقص مالك، ولكنها ستفرق معها فرقًا شاسعًا. الآن، أظن إذا نُوقش هذا الأمر معها على نحوٍ مناسِب — أو كما تقولون أنتم الحيوانات، على نحوٍ نزيه وعادل — فيُمكنُك أن تصل معها إلى اتِّفاق بأن تَحصُل على ثوبها وقلنسوتِها وما شابه، وبعدها يمكنك الهرب من القلعة متخفيًا في زي غسالة الملابس كأنك هي. فأنتما مُتشابهان من نواحٍ عديدة إلى حدٍّ كبير، وبالأخص من ناحية القوام.»
رد العُلجوم وهو يَستشيط غضبًا وقال: «لسنا متشابهَين! فقوامي رشيق ورائع — إذا ما قورنتُ بغيري من العلاجيم.»
ردَّت الفتاة وقالت: «هكذا هي عمتي أيضًا إذا ما قُورنَت بغيرها! ولكن تجرَّع تلك الحقيقة كيفما شئت، أيها الحيوان المزعج المتكبِّر والجاحد. أهذا جزاء شفقتي؟! أهكذا تردُّ على مَن حاولَتْ مساعدتك؟!»
عاجلها العُلجوم بردِّه وقال: «لا، لا! لا بأس بذلك. شكرًا جزيلًا على مساعدتك بكل تأكيد. لكن لنَنظُر للأمر بعين العقل! أنتِ لا ترضَين بلا شكٍّ أن يتجوَّل السيد عُلجوم، مالك قصر العُلجوم، في نواحي البلد متخفِّيًا في زي امرأة تغسل الملابس!»
ردَّت الفتاة وقالت بمعنويات عالية: «لتبقى هنا إذن على هيئتِك كالسيد عُلجوم! أتصوَّر أنك تُريد الخروج من هنا في عربة تجرُّها من الخيول أربعةٌ.»
كان العُلجوم الصادق مع نفسه مستعدًّا دومًا للاعتراف بأخطائه، فقال: «يا لكِ من فتاة طيبة، رقيقة القلب ذات ذهْن حصيف، أما أنا، فعُلجوم غبي ومتكبِّر. قدِّميني إلى عمتكِ الفاضلة، إذا تكرَّمتِ. ولا يُساورُني شكٌّ أني سأصل إلى اتفاق مع هذه السيدة المبجَّلة يُرضي كلينا!»
في مساء اليوم التالي، قادَت الفتاة عمَّتها العجوز إلى زنزانة العُلجوم وهي تَحمِل ثيابه الأسبوعية النظيفة ملفوفة في منشفَة، وقد جُهزت للمقابلة سلفًا. أما تلك العملات الذهبية التي وضعها العُلجوم متعمدًا على الطاولة في موضع واضح للعيان، فقد أنهت الصفقة تقريبًا تاركة أقل القليل من الأمور لتناقش. ومقابل ذلك المال الذي عرَضه، حصل العُلجوم على ثوبٍ قُطني مزركش، ومئزر وشال، وقلنسوة سوداء مُهترِئة. ولكن كان هناك شرط وحيد أصرَّت عليه السيدة العجوز، وهو أن تُكمَّم ويُوثَق رباطها وأن تُلقى في أحد الأركان. وقالت بأنها تأمُل، عن طريق تلك الحيلة غير المقنعة على نحو كبير، والتي ستدعمها بقصةٍ تصويريةٍ من وحي خيالها، أن تنأى بنفسِها عن الشبهات، رغم كل الملابَسات المثيرة للشكوك.
سُرَّ العُلجوم لذلك الاقتراح. فهكذا سيُغادر السجن بأسلوب لافت ودون أن تتضرَّر سمعتُه بأنه حيوان متهوِّر وخطير. وقد ساعد ابنة السجان، عن طيب نفس، قدرَ الإمكان على إظهار عمتها كضحية لظروف أقوى منها لم تستطعْ تحت وطأتها أن تحرِّك ساكنًا.
قالت الفتاة: «والآن، حان دورك يا عُلجوم! انزع عنك ذلك المعطف وتلك الصدرية. فأنت سمين كفاية في وضعك الحالي!»
ثم بدأت تُلبسه، وهي ترتجف من الضحك، الثوب القطني المزركش ذي الأزرار الخطافية، ووضعَت الشال حوله بطريقة احترافية، ثم أحكمت رباطي القلنسوة المهترئة تحت ذقنه.
ثم قالت ضاحكة: «كأنك هي! أنت صورة منها. أنا متأكدة أنك لم تبدُ ولو حتى بنصف تلك الأناقة قط في حياتك. والآن، وداعًا أيها العُلجوم وحظًّا موفقًا. توجه إلى الأسفل مباشرة وتتبَّع الطريق التي قدمت منه. وإذا ما بادرَكَ أي أحد بالحديث، وهو ما سيفعلونه على الأرجح؛ فهم رجال وأنت من المُفترض سيدة، فيُمكنك بالطبع أن تردَّ عليهم متهكمًا ولكن لا تَسترسِل، وتذكَّر أنك أرملة تعيش وحيدة في هذا العالم، ولديكَ سُمعة لتحافظ عليها.»
بقلب يَخفق خفقانًا متلاحقًا ولكن بخطوات عازمة ثابتة على قدر الاستطاعة، شرع العُلجوم بحرصٍ في تنفيذ ما بدت أنها أخطر مهمَّة وأكثرها تهورًا على الإطلاق، ولكن لم يلبث أن تفاجأ بمدى سهولة الأمور وكيف يُسِّر له كل شيء، وفي الوقت ذاته، شعر بالإهانة قليلًا عند التفكير في أن تلك الشعبية التي كان يَحظى بها، والجنس الذي يبدو أنه زكى نيرانها، كانا في الحقيقة ملكًا لشخص آخر. كانت الهيئة القصيرة لغسَّالة الملابس في ثوبها القطني المزركش المألوف بمنزلة تَصريحٍ بالمرور عبر كل الأبواب المغلَقَة والبوابات الكئيبة الموحِشة، حتى إنه عندما ضلَّ الطريق ولم يدرِ أيها يسلك، وجد حارس البوابة التالية يُساعده في محنتِه هذه، وهو يتوق للذهاب لاحتساء كوبٍ من الشاي معه، ويُخبره بأن يحضر في موعدِه وألَّا يتركه منتظرًا مكانه طوال الليل. كانت تلك الدعابات المباغِتة والتعليقات المتهكِّمة التي كان عليه أن يُقاسيَها، والتي كان عليه أن يعدَّ لها ردودًا فورية وفعالة، هي بلا شك خطر كبير محدق بالعُلجوم؛ فقد كان حيوانًا شديد الحساسية تجاه كل ما يجرح أو يمسُّ كرامته. كان يرى أن الدعابات في معظمها رديئة وغير مناسبة، وأن التعليقات المتهكِّمة التي من المفترض أن تُضحك كانت مُفتقرةً لحسِّ الفكاهة تمامًا. ومع ذلك، حافظ العُلجوم على هدوء أعصابه بصعوبة بالغة، وأخذ يُجاريهم في ردوده متقمصًا شخصيتَه المزيفة، باذلًا جهدًا جهيدًا لكيلا يتخطَّى حدود الذوق المقبول.
مرَّ الوقت عليه ثقيلًا كأنه دهر قبل أن يعبر الساحة الأخيرة رافضًا الدعوات اللحوحة من آخر غرفة استراحة للحراس، متفاديًا ذراعَي الحاجب الأخير المبسوطتين وهو يتوسَّل في رغبة مصطنعة أن تعانقَه عناق وداع واحد. وفي النهاية سمع أخيرًا صوت خوخة الباب الخارجي العظيم وهي تُغلَق وراءه. داعب الهواء المنعش للعالم الخارجي جبينه القلق وعرف أنه صار حرًّا طليقًا!
ترجَّل بسرعةٍ باتجاه أضواء البلدة وهو ما يزال مشدوهًا من ذلك النجاح السهل لمغامرتِه الجريئة. كان لا يدري بتاتًا ما هي خطوته التالية، ولكنه كان يعلم شيئًا وحدًا علم اليقين، وهو أن عليه الرحيل بأسرع ما يُمكن عن ذلك الحي الذي تُعرف فيه هذه السيدة التي أجبر على التنكُّر في ملابسها، ويذيع صيتها.
وبينما هو يسير متفكرًا إلى الأمام، جذبت انتباهه أضواء حمراء وخضراء تنبعث من بعيدٍ على أحد جوانب البلدة، وأصوات نفيخ المحركات وصليلها وقرقعة العربات المتلاحِقة وصلت إلى مسامعه. فكر وقال: «رائع، هذا حظ من السماء! محطة قطار هي جلُّ ما أريده من هذا العالم في هذه اللحظة. والأروع أني لن أحتاج إلى أن أذرع البلدة لأستقلَّه، ولن أضطر إلى أن أزيد الطين بلة، وأنا متخفٍّ في هذا الزي المهين، بالتفوُّه بالردود التي رغم فعاليتها، لا تساعد الواحد منا على الشعور باحترام ذاته.»
شقَّ طريقه إلى المحطة ووجد أن أحد القطارات سيمرُّ على مقربةٍ من بيته بنحوٍ أو بآخر وسيتحرَّك في غضون نصف ساعة. قال العُلجوم لنفسه وقد لامسَت معنوياته عَنان السماء: «مزيد من الحظ!» ثم توجه إلى مكتب الحجز لشراء تذكرته.
أعطى المسئول اسم المحطة التي يعلم أنها الأقرب إلى القرية التي مَعْلمها الرئيسي هو قصر العُلجوم، ثم أدخل أصابعه تلقائيًّا إلى حيث جيب صدريته باحثًا عن ثمنِ التذكرة، ولكن اعترض طريقها الثوب القطني الذي ظلَّ يُخفي هويته طوال ذلك الوقت بنبْل وشهامة، ولكن العُلجوم أنكر فضله ذاك ونسيَه، ثم حاول أن يُدخل يده من خلاله ولكن ضاعت جهوده سدًى. وفي مشهد أشبه بكابوس مروِّع، ظل يصارع ذلك الشيء الغريب الذي كان كأنه مُمسك بيده، وبدَّد كل جهده العضلي حتى تصبَّب عرقًا من الذعر، ثم أخذ يَسخر منه ضاحكًا طيلة الوقت، بينما كان المسافرون المصطفون خلفه ينتظرون في تململٍ وأخذوا يُقدِّمون اقتراحاتٍ لا فائدة منها تقريبًا، ويُبدون تعليقاتٍ أقرب للصرامة والحدة بنحوٍ أو بآخَر. وأخيرًا وبطريقةٍ ما لم يُدرك كيفية حدوثها قط، تجاوز كل العقبات ونال مُبتغاه ووصلت يده إلى حيث توجد دائمًا جيوب صدريته؛ ولكنه لم يجد مالًا ولا جيبًا يحمله ولا صدرية ليشقَّ فيها الجيب.
تذكَّر في فزعٍ أنه ترك معطفه وصدريته في الزنزانة، وترك معهما نقوده ومفاتيحه وساعته، وأعواد ثقابه، ومفكرته وحافظة أقلام الرصاص خاصته، وكل ما يعطي لحياة المرء قيمة يحيا من أجلها. فقَد كل ما يُميز الحيوان المتعدد الجيوب، أعلى المخلوقات رتبة ومنزلة، عن باقي المخلوقات الوضيعة وأرذلِها ممن يَملكون جيبًا واحدًا أو لا يَملكون جيوبًا أصلًا؛ تلك المخلوقات التي تُفني حياتها بين القفز هنا والتنزُّه هناك دون وعيٍ وهم غير مجهَّزين لخوض صراع الحياة الحقيقي.
في خضمِّ معاناته وشقائه، أقدم على محاولةٍ أخيرةٍ لربما كلَّلت مساعيه بالنجاح بعدها. عاد إلى طباعه القديمة، مزيج من سيد إقطاعي نبيل وعميد إحدى الكليات، ثم قال: «استمع لي! لقد تبيَّن لي أني قد نسيتُ نقودي! هلَّا أعطيتَني تلك التذكرة لو سمحت، وسأُرسل لك ثمنها غدًا؟ فأنا شخص ذو سمعة ومعروف في هذه الأنحاء.»
حدَّق الموظف المسئول لوهلة فيه وفي القلنسوة السوداء المهترئة ثم ضحك وقال: «أنا متأكِّد من أنكِ معروفة في تلك الأنحاء، إن كنتِ قد مارست تلك الحيلة مرات ومرات. أما هنا، فرجاء تنحي جانبًا، يا سيدتي، عن شباك التذاكر؛ فأنتِ تُعطِّلين غيركِ من المسافرين.»
دفع العُلجوم بعيدًا رجلٌ عجوز كان ينكزه من الخلف منذ مدة، والأسوأ من ذلك أنه نعَتَه بالمرأة الصالحة، مما جعَل العُلجوم يَستشيط غضبًا ويثور لذلك أكثر من أي شيء آخر حدَث له تلك الليلة.
بعد أن بُهت وغرق في بحر من اليأس، أخذ يتجوَّل هائمًا على وجهه في رصيف المحطة حيث يَنتظر القطارُ ركابه واقفًا. كانت الدموع تنهمر من عينيه وتتساقط على الأرض من جانبَي منخارِه. فكر في حاله وقال في نفسه إنه لشَيءٌ قاسٍ أن تكون على شفير النجاة وعلى مقربة من البيت، ثم تقف حفنة من الشلنات الحقيرة وسوء ظن وضيع لأحد الموظفين بينَكَ وبين مأربك ذاك. قريبًا سيُكتشَف هروبه وسيبدءون بالبحث عنه، وسيُمسَك ويُنهال عليه بالسباب واللعن والتحقير، وسيُجرُّ مغلولًا بالقيود ليعود إلى السجن مرة أخرى حيث الخبز والماء وسرير القش، وستُضاعَف عقوبته ويزداد حراس زنزانته. وآهٍ من التعليقات الساخرة التي ستَنهال الفتاة بها على أذنيه! ما الذي كان في جَعْبته ليفعله؟ لم يكن سريعًا رشيق الخطوات، وكان لسوء حظه ذا هيئة مميزة. ألم يقدر على حشر نفسه تحت أي مقعد في إحدى عربات القطار؟ لقد رأى قبل ذلك طلاب المدارس يَنتهجون مثل تلك الحلول، عندما يحولون مسار نقود الرحلات التي أعطاهم إياها آباؤهم العطوفون، لتُصرَف في مصرف آخر أجدر بها وأنفع. وبينما هو غارق في التفكير، وجد نفسه أمام قاطرة القطار التي كان سائقها العطوف يعتني بها ويشحمها ويُنظفها. كان هذا السائق رجلًا قوي البنيان، ويُمسك في إحدى يديه قنينة زيت وفي الأخرى كومة من بواقي قطن مُهمَل.
بادره سائق القطار قائلًا: «مرحبًا يا أمي! ما خطبكِ؟ أرى الحزن يكتنفكِ.»
رد عليه العُلجوم وقد بدأ يَذرف دموعًا من جديد: «عطفك يا سيدي! فأنا غسَّالة ملابس حزينة ومسكينة، وقد فقدتُ كلَّ مالي ولا أملك ثمن تذكرتي. وعليَّ أن أكون في البيت هذه الليلة بأي طريقة، ولكن لا أدري ماذا أفعل! رحماكَ يا ألله! رحماك!»
قال سائقُ القطار متأثِّرًا: «هذه حال لا تَسرُّ أبدًا بالفعل. فقدتِ مالَكِ … ولا تستطيعين الرجوع إلى البيت … وأظن أن أطفالكِ ينتظرونكِ أيضًا، أليس كذلك؟»
نشَج العُلجوم ثم قال: «لي من الولد عشرة! سيَبيتون ليلتَهم جياعًا … يلعبون بأعواد الثقاب … ويُفسِدون المصابيح، يا لهؤلاء الأبرياء المساكين! … وسيَتشاجرون ويضرب بعضُهم بعضًا حتى الصباح. الطُفْ بهم يا رحيم!»
قال له سائق القطار الطيب: «إليكِ ما سأفعله إذن. لقد قلتِ إن صِنعتكِ هي غسل الملابس. حسن إذن، ليكن الأمر كذلك! وأنا سائق قطار، كما سترين، ولا سبيل إلى إنكار أن مهنتي هذه مهنة بها ما يكفي من الشحوم والأوساخ. أنا أستهلك عددًا هائلًا من القمصان حتى كلَّت زوجتي وتعبَت من غسلها؛ لذلك إن كنتِ تُوافقين على غسل بعض قمصاني عندما ترجعين إلى بيتكِ وتُرسلين إياها لي بعد ذلك، فمرحبًا بكِ وسأُوصِّلكِ على متن قاطرتي. أعلم أن هذا مُخالِف لقوانين الشركة، ولكن في هذه المناطق النائية تقلُّ الرقابة والتفتيش.»
استحالَ حزن العُلجوم وبؤسه فرحة عارمة وهو يُكوِّم نفسه داخل كابينة قاطرة القطار. إن العُلجوم بالطبع لم يغسل قميصًا في حياته قط، وحتى إن همَّ بذلك، فلن يستطيع. على أي حال، هو لم يَنتوِ أن يفعل، ولكنه فكَّر وقال لنفسه: «عندما أصل إلى بيتي سالمًا، وأضع يدي على مالي مرة أخرى وأرتدي ملابس ذات جيوب لأضع فيها ذلك المال، حينها سأُرسل إلى سائق القطار ما يكفي لتُغسَل قمصانُه مرات ومرات. أظن أن ذلك هو الشيء نفسه، بل لعمري إنه لأفضل.»
لوَّح حارس المحطة بالعلم، فاستجاب له سائق القطار بصفير بهيج وتحرَّك القطار بعيدًا عن المحطة. وكلما زادت سرعة القطار، كان العُلجوم يرى على جانبي القطار حقولًا وأشجارًا وسياجات شجيرات وأبقارًا وخيلًا، تَطير جميعها بعيدًا إلى الوراء. وعندما تأمَّلَ كم كانت كلُّ دقيقةٍ تُقرِّبه أكثر إلى قصر العُلجوم، وأصدقائِه الودودين، وصوت رنين النقود العذب في جيبه، وسريره الوثير الذي يَهجع إليه، والْتهام ما لذَّ وطاب من ألوان الطعام، وعبارات المدح ونظرات الإعجاب وهو يقصُّ مغامراته ويحكي عن مهاراته وحذاقته التي لم يعهد لها مثيل، أخذ يَقفز ويتراقص ويُغني مُقتطَفات من أغانٍ على مرأى ومسمع من السائق المذهول الذي خالط من قبل الكثير من النسوة اللائي يَعملن في غسل الملابس على مدى فترات طويلة، ولكن لم تكن إحداهن قطُّ مثل تلك.
كانا قد قطعا أميالًا وراء أميال، وكان العُلجوم يُفكر ماذا سيأكل على طعام العشاء عندما يصل إلى البيت عندما لاحظ السائق تَعتلي وجهَه نظرةٌ فيها ارتباك وحيرة، وقد أمال رأسه إلى أحد جانبي القاطرة وأخذ يُنصت مستمعًا بإمعان. ثم رآه يتسلَّق أعلى كومة الفحم وينظر محدِّقًا من أعلى القطار، ثم تدلَّى وقال للعُلجوم: «ما أغرب ذلك! نحن كنا آخر قطار يَخرج من المحطة الليلة في هذا الاتجاه، ولكني أكاد أقسم أني سمعتُ صوت قطار آخر يلحق بنا!»
كفَّ العُلجوم عن رقصه وعبثه في الحال، ونزلت به حالةٌ من الهم والغم، وسرى ألمٌ ثقيلٌ من أسفل عمودِه الفقري إلى رجلَيْه، فطرحه جليس الأرض وحاول عبثًا تجنُّب أي محاولة للتفكير فيما قد تئول إليه الأمور.
في ذلك الوقت، كان القمر منيرًا ساطعًا، واستطاع سائق القطار بعد أن وازن نفسه على كومة الفحم أن يرى بوضوح القضبان التي يسير عليها قطاره على مدى مسافة بعيدة خلفه.
ثم صاح من فوره وقال: «أستطيع أن أرى هذا الشيء الآن بوضوح! إنه قطار يسير وراءنا في نفس الاتجاه وبسرعة رهيبة! يبدو وكأنه يُلاحقُنا!»
كان العُلجوم التعيس يربض وسط غبار الفحم ويُحاول بقوةٍ أن يفكِّر في حلٍّ ما وصدرُه مقبوض يَستسقي ولو قطرة من التوفيق.
صاح سائق القطار قائلًا: «إنهم على وشك اللحاق بنا! والقطار مُكدَّس على بكرة أبيه بأصناف غريبة من الناس! رجال كحراس العصور القديمة يُلوحون بالفئوس في وعيد؛ رجال شرطة يَعتمرون خوذاتهم ويُلوِّحون بعصيِّهم في إنذار وتهديد؛ ورجال عليهم ثيابٌ باليات وفوق رءوسهم قبَّعات مُستديرة، وهم بوضوح ودون أدنى شك، حتى من ذلك البُعد، مُحققون مُتَخفون في ملابس مدنية يُلوحون بمسدساتهم وعكاكيزهم. الجميع يُلوِّحون ويصيحون بالكلمة ذاتها: «توقَّف! توقف! توقف».»
خرَّ العُلجوم على ركبتَيه صاغرًا بين قطع الفحم ورفع يدَيْه وقد قبضت كل واحدة منهما على الأخرى في تضرُّع واسترحام، ثم قال باكيًا: «أتوسَّل إليك أن تُنقذني أيها السيد الكريم سائق القطار! أنقِذْني وسأعترف أمامك بكل شيء! أنا لستُ تلك المرأة البسيطة التي تعمل في غسل الملابس وأتنكَّر في ثيابها! ليس لي أطفال يَنتظرون قدومي؛ لا أبرياء ولا غير ذلك! أنا عُلجوم؛ السيد عُلجوم المشهور الذائع الصيت وصاحب الأملاك والأراضي، وقد هربتُ لتوِّي مستعملًا دهائي وفطنتي من زنزانةٍ كريهةٍ مُستقذَرةٍ طرَحني فيها أعدائي. وإذا تمكَّن هؤلاء الرجال من اللحاق بي والقبض عليَّ، فسيكون مصيري مغلولًا بالسلاسل وطعامي خبزًا وماءً، وفراشي كومة من القش، ولأعيشنَّ حياة الكدر والشقاء مرة أخرى، وأنا عُلجوم بريء!»
نظر إليه السائق في غلظة وقال له: «أخبرْني الحقيقة! ما الذي فعلته ليُزجَّ بك في السجن؟»
رد عليه العُلجوم البائس وهو يتصنَّع ببراعة: «لم أفعل سوى أمرٍ من سفاسف الأمور! استعرتُ سيارةً بينما كان أصحابها يتناولون الغداء؛ لم يكونوا بحاجةٍ إليها في ذلك الوقت. وأنا لم أنوِ قط سرقتَها وليشهد الله على ذلك، ولكن الناس، وبالأخص القضاة، يَنظرون لمثل هذه التصرُّفات الطائشة والحماسية نظرةً قاسيةً وجافة.»
بدا سائق القطار جادًّا وعابسًا وهو يقول: «أخشى أنك كنتَ بلا شك عُلجومًا شريرًا ومفسدًا، وحقيق عليَّ أن أُسلمك إلى العدالة التي أهنتَها بهروبك، ولكن يبدو عليك جليًّا أنك في بلاء عظيم وألم شديد؛ ولذلك لن أخذلَك وأتخلَّى عنك، لسببين؛ أولهما أنني لستُ من مُناصري ولا محبي السيارات، وثانيهما أني لا أرتضي أن أؤمر من رجال الشرطة وأنا على متن قطاري. كما أني دائمًا ما يرقُّ قلبي على نحو غريب لزفرات حيوان تعيس اغرورقَت عيناه بالدموع. هيا! كُفَّ عن البكاء يا عُلجوم! سأبذل قصارى جهدي؛ فما تزال فرصتنا سانحة لنتفوَّق عليهم!»
أخذا يُكومان المزيد من الفحم ويجرفانه داخل الفرن حتى تأجَّجت ناره واستعرَت وتطاير الشرر وثارت القاطرة واشتدَّ دورانها، ومع ذلك، كان مطاردوهما ما يزالون في إثرهما. مسح سائق القطار عرق جبينه بملء يده من بواقي القطن وهو يزفر متحسِّرًا ثم قال: «أخشى أن هذا لن يجدي نفعًا يا عُلجوم! فكما ترى، قاطرتهم أفضل من قاطرتنا، بالإضافة إلى أنهم يطاردوننا بقطارٍ خاوٍ. هناك شيء أخير متبقٍّ لنا، وهو أيضًا فرصتك الوحيدة، لذا أَعِرْني سمعك وعِ ما سأقوله جيدًا. أمامنا بمسافة قصيرة، سنمرُّ عبر نفق طويل، وتقع خلف ذلك النفق غابة كثيفة الأشجار. أنا الآن سأزيد من سرعة القطار إلى الحد الأقصى بينما نمرُّ داخل النفق، ولكن هؤلاء الذين في القطار الآخر سيُبطئون من سرعتهم على نحو طبيعي مخافة الاصطدام بنا. وعندما نعبر النفق، سأُطفئ المحرك وأستخدم المكابح بكل ما أوتيت من قوة، وفي اللحظة التي يكون فيها أمر القفز آمنًا، عليك بالقفز والاختباء في تلك الغابة قبل أن يعبروا النفق هم أيضًا ويروك. بعدها سأنطلق بالسرعة القصوى مرة أخرى، وليُطاردوني إن أرادوا. ليطاردوني أنَّى شاءوا ولأي مسافة مهما طالت. والآن، جهِّز نفسك واستعد للقفز حين أقول لك!»
كوَّما المزيد من الفحم، ومرَق القطار في النفق كسهم نافذ، وأخذت القاطرة تزأر وتدور وتؤزُّ حتى قذفوا خارج الجهة الأخرى للنفق إلى الهواء الطلق وتحت ضياء القمر الهادئ. كانت الغابة تقبع أمامهما على جانبي السكة الحديد في ظلام دامس، وخيرًا فعلَت. أطفأ السائق المحرك وأعمل المكابح، ووقف العُلجوم ممسكًا بسلالم العربة، وعندما بَطُؤَت سرعة القطار بشدة، سمع السائق وهو يصيح ويقول: «اقفز! الآن!»
قفز العُلجوم وتدحرج إلى أسفل حاجز ترابي قصير، ثم نهض ولا جرح به، واندفع داخل الغابة ليتوارى عن الأنظار.
اختلس النظر فرأى قطاره قد بدأ يزيد من سرعته مرةً ثانية حتى اختفى بسرعة. ثم اندفع القطار المطارِد خارجًا من النفق كطلقة رصاص وهو يزأر مُطلِقًا صافرته، والركاب على متنه بمختلف ألوانهم يُلوِّحون بأسلحتهم المتنوعة ويصيحون: «توقَّف! توقَّف! توقَّف!» عندما مرُّوا بعيدًا، أخذ العُلجوم يضحك من قلبه حتى القهقهة، وذلك لأول مرة منذ أن زُجَّ به في ذلك السجن.
ولكنه سرعان ما كتم ضحكه حيث تذكر أن الليل البهيم قد نشر أجنحته وتسرب البرد وعمَّ الظلام المكان. وكان هو في غابة مجهولة دون مال أو طعام للعشاء، وما يزال بعيدًا كل البُعد عن بيته وأصدقائه. كان الصمت المطبق على كل شيء بعد أن اختفى زئير القطار وأزيزه أمرًا أشبه بالصدمة. لم يجرؤ على مغادرة غطاء الأشجار وسترها، لذلك شق طريقه داخل الغابة وفي رأسه فكرة واحدة فقط؛ أن يبتعد عن السكة الحديدية قدر الإمكان.
بعد عدة أسابيع وراء جدران السجن، وجد العُلجوم الغابة مكانًا غريبًا غير ودود ويميل إلى السخرية منه، بحسب ظنه. كانت طيور السبد، وهي تُصدِر مُكَاءها الشبيه بصوت الآلة، تجعله يظن أن الغابة قد مُلِئَت بالحراس الذين يبحثون عنه وقد أوشكوا على الإيقاع به. طارت بومة بخفَّة ورشاقة باتجاهه دون صوت يُسمع ومسَّت كتفه بجناحها، فانتفض فزعًا ظنًّا منه أن ذلك كان يدًا أطبقَت على كتفه، ثم رفرفت بجناحَيها وطارت كالعُثَّة وهي تسخر منه ضاحكة مصدرة نعيقًا خفيضًا، وكانت تلك سخرية رديئة في نظر العُلجوم. ثم قابل ثعلبًا في طريقه، والذي توقَّف وأخذ ينظر إليه بازدراء وتهكُّم من أعلاه إلى أسفله، ثم قال: «مرحبًا بغسَّالة الملابس! هذا الأسبوع أضعتِ إحدى فردتَي جورب، وغطاء وسادة! انتبهي المرة القادمة!» ثم مضى في حال سبيله مختالًا وهو يَضحك ويُقهقه. بحث العُلجوم عن حجَرٍ حوله ليَقذفه به، ولكنه لم يجد أي أحجار حوله فاستثار ذلك غضبه أكثر من أي شيء آخر. وفي النهاية، أوى، جائعًا شاعرًا بالبرد وقد أنهكه التعب، إلى شجرة مجوفة كملجأ حيث أعدَّ لنفسه سريرًا وثيرًا قدر الإمكان من الأغصان ونفض الأشجار، ونام في هدوء حتى الصباح.