كلنا عابرو سبيل
كان فأر الماء قلقًا ضيِّق الصدر دون سبب يعرفه. كل شيء حوله يُوحي بأن موكب الصيف واحتفالاته البهيجة ما يزال في أشده وعنفوانه. ومع أن لون الحقول المحروثة الخضراء قد استحال مذهَّبًا وكانت أشجار السمن تزداد حمرة بثمارها، وخُطَّت آثارٌ بُنيةٌ ذات صفرة البراري في نواحٍ متفرقة، فإن الضياء والدفء والألوان الزاهية كانت لا تزال حاضرةً على نحو طاغٍ ولا توجد أي مؤشراتٍ على أن العام على وشك الانتهاء، لكن أناشيد البساتين وسياجات الشجيرات المنتظمة خفتَت واستحالت لأغنية مسائية عرضية يشترك فيها عددٌ قليلٌ من المنشدين لكنهم مُفعَمون بالحماس؛ فقد بدأت طيور أبو الحناء تسعى للفتِ الأنظار إليها مرةً أخرى وكان يفوح في الهواء شعور بالتغيير والرحيل. لم يُسمَع صوتٌ لطيور الوَقْواق منذ وقت طويل، وكذلك العديد من الأصدقاء الآخرين ذوي الريش كانوا مُفتقَدين أيضًا، بعد أن كانوا لشهور جزءًا لا يتجزَّأ من المشهد المألوف للطبيعة وما تنطوي عليه من مجتمع صغير، وبدا أن أصناف الطيور كانت تتضاءل بثباتٍ يومًا بعد يوم. ورأى الفأر الذي كان مولَعًا بحركة الطيور في السماء ومراقِبًا لها أن تلك الطيور تتَّجه إلى الجنوب في حركة يومية، وحتى إنه حين يكون راقدًا في فراشه بالليل، كان يظنُّ أنه إذا خرج وراقب السماء المظلمة، فسيرى خفقات أجنحة الطيور التي لا تطيق الانتظار طاعة وإذعانًا لذلك النداء الذي لا يقبل الرد.
كسائر الأنزال، كان لنُزُل الطبيعة المهيب موسمٌ يزدحم فيه. وبينما النزلاء يَحزمون أمتعتَهم ويُسددون حسابهم ثم يَرحلون الواحد تلو الآخر، والمقاعد حول مائدة الطعام تقلُّ عددًا الوجبة بعد الوجبة على نحو محزن، وبينما يُسرَّح الخدم، وتُغلق الأجنحة والغرف وتُطوى البُسُط، لا يسعُ النزلاء المقيمين حتى يحين موسم العام المقبل إلا أن يَتأثَّروا ولو قليلًا بكل تلك النقاشات الحماسية للخطط والطرق والربوع الجديدة، وأن تهتزَّ مشاعرهم لهذا الكمِّ من الراحلين والمودِّعين، وذلك الانحسار اليومي لزمرة الرفاق والأصدقاء. وينتابهم القلق والغمُّ ويبدءُون في التذمُّرِ والتساؤل. لماذا هذا السعي للتغيير؟ لمَ لا يمكثون هنا مثلنا بين يدَي نعيمٍ مقيم؟ إنهم ليس لديهم أدنى تصوُّر عن حال هذا النزل بعد انقضاء موسم ازدحامه، وعن كمِّ المرح والبهجة التي نحظى بها نحن الذين نبقى لنشهد جميع أيام السنة المُثيرة. دائمًا ما يردُّون عليهم أنهم على حقٍّ بلا شك وأنهم يَغبطونهم على ما هم فيه، وربما يُفكِّرون في أمر البقاء في عامٍ مقبل، لكن هذا العام لديهم ارتباطات ومواعيد؛ ها هي ذي الحافلة تَنتظرهم عند الباب، ولقد حانت ساعة الرحيل. وهكذا يرحلون بابتسامة على وجوهم وإيماءة برءوسهم، ويَفتقدونَهم هؤلاء النزلاء المقيمون ويستاءون لغيابهم. كان الفأر حيوانًا مُكتفيًا بذاته، يَنتمي إلى باطن الأرض في رسوخ؛ يبقى في مكانه أيًّا كان من يرحل. ومع ذلك، لم يلحظ إلى وقتِنا هذا ما الذي يتخلَّل الهواء حتى إنه بدأ يشعر ببعض آثاره تَسري في عظامه.
كان من العويص أن يعهد إلى أي خطة جدية وسط موجة الرحيل هذه. ترك جانب النهر حيث نباتات الأسل تقف قوية وطويلة في مجرى أوشك ماؤه أن يجفَّ وصار راكدًا، ثم انحدر متجولًا باتجاه الريف، ومرَّ بمرعًى أو اثنين كان الكلأ فيهما جافًّا ويعلوه التراب، ثم شق طريقَه شقًّا وسط عباب حقل من القمح الذهبي المموج الذي يتهادَى برقةٍ ويَهمس مغمغمًا بصوتٍ خفيض. هنا، في هذا المكان، كان يحبُّ التجول؛ وسط حَرجةٍ من السيقان القوية اليابسة التي تحمل فوق رأسه سماءً ذهبية خاصة بها؛ سماءً دائمٌ تبختُرها، لازبٌ بريقها، ورقيق حديثها؛ أو تتمايل بقوة مع الريح المارة ثم تَئوب راجعة إلى وضعها في ضحك مرِح طروب. هنا أيضًا حيث كان له من الأصدقاء الضئيلي الحجم كثيرٌ؛ مجتمع متكامل بذاته يعيش أفراده حياة نشيطة وزاخرة، ومع ذلك فدائمًا لديهم بعض الوقت لينهمكوا في القيل والقال وتبادل الأخبار مع الزوار. أما اليوم، فعلى الرغم من أن فئران الحقل وفئران الحصاد كانوا مهذَّبين كعادتهم، فقد بدَوْا مشغولي البال قلقين. كان العديد منهم منهمكًا في الحفر وبناء الأنفاق، والبعض الآخر يلتفُّ في مجموعات صغيرة ويفحص خططًا ورسومات لشقق صغيرة يقال إنها جذابة ومتراصَّة، وتقع على بُعد خطوات من السوق. وكان فريق منهم يجرُّ حقائب كبيرة وسلال ملابس يكسوها الغبار، بينما فريق آخر قد شمَّر وانهمك في حزم مُمتلكاته. وفي كل مكان كانت تُرى حزم وأكوام من القمح والشوفان والشعير وجوز أشجار الزان والبندق والتي كانت مرصوصة بعضها جنب بعض تمهيدًا لنَقلها.
صاحوا بمجرد أن رأوه: «ها هو فأرون؛ صديقنا القديم! لا تقف عندك متكاسِلًا، وتعالَ مُدَّ لنا يد العون يا فأر!»
قال لهم الفأر بنبرة حادة: «أي شيء هذا الذي تُخططون له؟ ما يزال الوقت مبكرًا للتفكير في الاستعداد لفصل الشتاء؛ فما يزال أمامنا وقت طويل!»
رد عليه فأر حقل مفسرًا على استحياء: «أجل، نحن نعلم ذلك! ولكن من الأفضل دائمًا أن نبدأَ مبكرًا، ألا تُوافقنا الرأي؟ علينا أن نَحزم متاعَنا وأثاثَنا ونُفرغ مخازننا وأن نَبتعد عن هنا قبل أن تأتيَ تلك الآلات البغيضة وتبدأ النقر والحفر في الحقول. وكما تعلم، في الآونة الأخيرة أصبحَت الشقق الجيدة تُحجز سريعًا، وإذا تأخَّرنا فعلينا أن نرضى بالمتاح منها حينها، مما يتطلَّب الكثير من العمل أيضًا حتى تكون صالحة للسُّكنى والانتقال إليها. بالطبع نحن نعرف أن الوقت مبكر جدًّا، ولكننا قد استهلَلنا بخطوةٍ أولى كبداية.»
قال الفأر: «تبًّا للبدايات! هذا يوم بديع. تعالوا إلى جولة بالقارب أو تريض بطول سياجات الشجيرات أو نزهة في البراري أو أي شيء آخر.»
ردَّ عليه فأر الحقل في عجلة وقال: «شكرًا لك، ولكن لا أظن ذلك اليوم. ربما في يوم لاحق … عندما يكون لدينا متسعٌ من الوقت …»
نخر الفأر نخرة ازدراء ثم لفَّ جسده ليمضي في طريقه، ولكنه تعثَّر في حقيبة قبعات وسقط، فأخذ يُطلق اللعنات.
قال أحد فئران الحقل بنبرة جافة: «لو أن الحيوانات يَنتبهون أكثر وينظرون بحرص إلى طريقهم، فلن يُصيبوا أنفسهم بأي أذى — ولن ينسوا أنفسهم. انتبه لتلك الحقيبة يا فأر! أظن أنه من الأفضل أن تقعد في مكانٍ ما، وفي غضون ساعة أو اثنتين سيكون لدينا متسعٌ من الوقت للتمتُّع بصحبتك.»
رد الفأر ردًّا حاسمًا متكدرًا وهو يشقُّ طريقه خارج الحقل: «أرى أنكم لن تحظَوا بمتَّسع من الوقت حتى حلول أعياد الكريسماس!»
رجع وفي نفسه شيء من يأس إلى ضفة النهر؛ صديقه القديم والوفي الذي ما فتئ محافظًا على طباعه وعاداته؛ صديقه الذي لم يُفكر يومًا في حزم أمتعته والرحيل، أو الذهاب بعيدًا في أشهر الشتاء.
وعند شجر الصفصاف النامي على حافة الضفة، رأى أحد طيور السنونو يقف على أحد الأغصان. وما لبث أن جاء طائر ثانٍ، ثم ثالث، وأخذ الثلاثة الذين كانوا يتململون وهم يقفون على غصنهم، يتحدَّثون معًا بهدوء في موضوع جدِّي.
قال الفأر وهو يمشي باتجاههم: «ماذا؟ أبهذه السرعة؟ لمَ العجلة؟ هذا ما أدعوه ببساطة قرارًا سخيفًا.»
رد عليه طائر السنونو الأول وقال: «لم يَحِن موعد رحيلنا بعد، إن كان هذا ما تقصده. نحن ما نزال نضع الخطط ونُرتِّب الأمور. فكما تعلم، نحن نتشاور في أي طريق نسلُك هذا العام، وأين سنقف، وهلمَّ جرًّا. فهذا هو نصف متعة الرحلة!»
رد الفأر وقال: «متعة؟ أي متعة هذه التي لا أفهمها؟ إذا كان عليكم أن تُغادروا هذا المكان الساحر، وتُخلِّفوا أصدقاء سيَفتقدونكم، وبيوتًا دافئة لم تلبثوا فيها إلا قليلًا، أنا واثق أنكم، عندما يَأزَف الوقت، سترحلون بإقدام وتُواجِهون كل تلك الصعاب والمشقة والتغيير والتجديد ولن تشعروا بتعاسة كبيرة، ولكن أن تَرغبوا في الحديث عن الأمر أو حتى في التفكير فيه حتى تحتاجوا حقًّا إلى ذلك …»
قال الطائر الثاني: «لا! أنت لا تفهم الأمر بالتأكيد. في بادئ الأمر نَشعر بأن بداخلنا اضطرابًا خفيفًا. ثم تطوف الذكريات عائدةً الواحدة تلو الأخرى كالحمام يعود إلى موطنه، فتُقلقِل أحلامنا بالليل، وتُحلِّق معنا في طوافِنا بالنهار. فنُهرع سائلين بعضَنا بعضًا ونُقارن ما نذكره من أحلامنا حتى تطمئنَّ قلوبنا إلى أن هذا هو النداء الحق. فتُرفرف أسماء الأماكن وأصواتها وروائحها التي صارت نسيًا منسيًّا عائدةً شيئًا فشيئًا حتى تُرشدنا.»
اقترح الفأر عليهم بنبرةٍ ملأها الحزنُ: «ألا يُمكنكم البقاء هذا العام فقط؟ سنَبذل جميعًا قصارى جهدنا لتشعروا بالراحة. فأنتم لا تتصوَّرون مقدار المرح والأوقات السعيدة التي نحظى بها هنا بينما أنتم غائبون بعيدًا.»
قال طائر السنونو الثالث: «جرَّبتُ «المكوث» هنا عامًا من الأعوام بعد أن افتُتنتُ بالمكان وشغفت به حتى إذا حانت ساعة الرحيل تخلَّفتُ عن أقراني ومضوا هم دوني. كان كل شيء في أسابيعي الأول رائعًا وخلابًا كفاية، لكن بعد ذلك، كنت أتجَّرع كئوسًا من الليالي الطويلة المُضجِرة، ومن الأيام الغائمة التي لا تطلُّ فيها شمس وتملؤها الرجفات. كان الهواء نديًّا رطبًا يَحمل بين نسماته القارصة فتورًا وتثبيطًا، ولا توجد ولو حشرة واحدة على امتداد فدان من الأرض! كلا، لم يكن المكوث مُمتعًا قط؛ فقد خارت شجاعتي. وفي ليلة عاصفة باردة، أطلقتُ جناحيَّ وشرعتُ في الطيران بعيدًا عن السواحل إثر عاصفة شرقية هوجاء. كان الثلج يَنهمِر بقوة كلما أوغلت في شعاب الجبال الشاهقة؛ كنت أُصارع بضراوةٍ للنجاة. ولن يُمحى من ذاكرتي أبدًا ما شعرتُ به من نعيم عندما لفحَت أشعة الشمس الدافئة ظهري مرةً أخرى وأنا أحلِّق باسطًا جناحيَّ فوق البحيرات التي كان يقبع ماؤها رائقًا في زرقة فيروزية ناصعة، أو مذاق أول حشرة سمينة دسمة تناولتُها حينها. كان ما مضى كأنه كابوس مزعج، وما ترامى أمامي من مستقبل كان يَمتلئ أسبوعًا بعد أسبوع بتباشير عطلة سعيدة وهانئة كلما اتجهتُ جنوبًا في خمول وتسكُّع ودون عناء قدر ما استطعت، ومع ذلك كنتُ أُصغي بانتباه إلى النداء! كلا! فلقد وقعتُ في المَحظور مرة، ولن أفكِّر أبدًا في عصيان النداء مرة أخرى.»
غرد العصفوران الآخران وقالا بنغمة حالِمة: «أجل، أجل! نداء الجنوب … نداء الجنوب! يا إلهي! أتذكر أنغامه وألوانه ودفء هوائه …؟» نسيا أمر الفأر وانغمَسا في استرجاع الذكريات بعاطفة متأجِّجة، بينما كان هو يستمع إليهما في ولَهٍ وفُتون وقلبه الذي خلف ضلوعه يتحرَّق شوقًا. كان يشعر بداخله هو الآخر أن شيئًا ما قد اهتز أخيرًا؛ ذاك الوتر الذي ظلَّ مستكينًا حتى هذه اللحظة ولم يكن في الحسبان. محض ثرثرةٍ لطيور تعزم الرحيل إلى الجنوب وتَسرد قصصًا ركيكةً تلوكها الألسنة حتى اهترَأت، كان لها من القوة ما أيقظ بداخله ذلك الشعور الجامح وألهب حماسه وأجَّجه. فما بالك بعمل لحظة يعيشها هناك في نفسه؟ لحظة يُعانق فيها أشعة شمس الجنوب وينساب في أريج هوائه. وبعينين مغمضتَين، أطلق العنان لخياله ليحلمَ حلمًا جسورًا بلا قيود، وعندما فتح عينيه مرةً أخرى، بدا النهر باهتًا وكأن زهوته قد انطفأت، والحقول الخضراء قد يَبست وأظلمت. وحينها أخذ قلبه الوفي يَستصرخ نفسه الهشة الذاوية مستنكرًا غدرها.
تحدَّى طيور السنونو في غيرة وقال: «لماذا ترجعون إلى هنا إذن؟ ما الذي تجدونه جذابًا في هذه البلدة البائسة الصغيرة؟»
رد الطائر الأول وقال: «أتظن أن النداء في الفصول الأخرى ليس لنا أيضًا؟ نداء حشائش المروج الغناء، والبساتين الرطبة، والبرك الدافئة المسكونة بالحشرات؛ نداء قطعان الماشية المسوَّمة، وحش الكلأ وتجفيفه، وكل أبنية المزرعة التي تتجمَّع حول البيت ذي الإفريز المثالي؟»
سأله الثاني: «أتظن أنك الكائن الحي الوحيد الذي يتوق شوقًا ويتلهَّف لسماع تغريد طائر الوقواق مجددًا؟»
قال الثالث: «في الوقت المحدَّد سيملؤنا الحنين إلى الديار مرة أخرى؛ سنَشتاق لرؤية زنابق الماء تتمايل على صفحة مياه نهر إنجليزي. ولكن في الوقت الحاضر، كل ذلك يبدو باهتًا واهنًا وبعيدًا. فقلوبنا الآن تطرب لألحان الجنوب وتتراقَص على أنغامه!»
انخرطوا في الحديث معًا مرة أخرى، وهذه المرة كانت ثرثرتهم العذبة تدور حول البحار البنفسجية، والصحارى ذات الصفرة النحاسية، والجدران التي تسكنها السحالي.
سار الفأر قلقًا مُضطربًا على غير هدى مرة أخرى، وارتقى الربوة التي بدأت تعلو علوًّا طفيفًا من جانب ضفة النهر الشمالية حتى انتهت مطلَّةً على سلسلة التلال المهيبة التي أعاقت رؤيته لمسافة أبعد باتجاه الجنوب؛ كان ذلك هو خط أفقه البسيط في هذه اللحظة من حياته؛ أقصى ما نزعت إليه نفسه وأبعد ما ترامى إليه بصره؛ حده الفاصل حيث لا يهتم لرؤية أو معرفة أي شيء يقبع وراءه. واليوم، بينما كان يُحدِّق جنوبًا وقلبه مهتاجٌ برغبة وليدة وملحَّة، بدت السماء الصافية والمطلة على أفق تلك التلال المنخفض الممتد وكأنها تنبض بالوعود؛ فاليوم بدا ذلك المجهول الذي يقبع وراء الأفق هو الدنيا بأسرِها؛ أصبح ذلك المجهولُ هو الحقيقة الوحيدة في الحياة. صار هذا الجانبُ من التلال الآن عنوانًا للرتابة المطلَقة، أما على الجانب الآخر فقد كان يرى بوضوح بعين بصيرته مشاهد مفعمة بألوان من المباهج والأحداث. يا ترى، أي بحار زرقاء ضاربة إلى الخضرة تقبع هناك وتتناطح أمواجها الهادرة! وأي سواحل مُشمسة تصطف البيوت البيضاء بطولها متألقة أمام أحراج أشجار الزيتون! وأي مرافئ هادئة مكتظة بالسفن الباسلة التي أسدلت أشرعتها منطلقة في رحلة البحث عن الجزر الأرجوانية الغنية بالنبيذ والبهارات؛ الجزر الصغيرة المنبثقة في مياه هادئة!
صعد وهبط الربوة باتجاه النهر مرة أخرى، ثم غير رأيه وقصد حافة الطريق الترابي. رقَد هناك شبه غارق في العشب الكثيف والرطب الذي نما حول سياج من الشجيرات حيث يُمكنه التفكير في الطريق وفي كل ما يمكن أن يقود إليه من عالم مليء بالعجائب، وفي كل عابري السبيل الذين مروا به والثروات التي سعوا لتحقيقها والمغامَرات التي حلموا بها، وخُطا الآيبين الذين رجعوا دون تحقيقها؛ هناك، بعيدًا وراء الأفق!
تَهادى إلى أذنيه صوت وقع أقدام، ثم ظهرت هيئة حيوان يمشي مشية واهنة بعض الشيء تبيَّن بعدها أنه فأر وأنه أشعث أغبر. عندما اقترب منه عابر السبيل ذاك، حياه بإيماءة احترام كانت تدلُّ على أنه غريب عن المكان. تردد لوهلة ولكن ما لبث أن رسم على فمه ابتسامة ومال عن الطريق وجلس إلى جانبه على العشب الندي. بدا مرهَقًا، فتركه الفأر يستريح بلا سؤال، متفهِّما بعضًا مما كان يَعصف في رأسه من أفكار، ومدركًا القيمة التي توليها الحيواناتُ للصحبة الصامتة في بعض الأوقات؛ حين تتراخى العضلات المُنهَكة ويحصل العقل على بعض الراحة.
كان عابر السبيل رفيعًا وذا ملامح حادة، وكان مقوَّس الكتفين بعض الشيء. وكانت كفاه نحيلتيْن وطويلَتَيْن، وكان جانِبا عينيه متغضِّنين بشدة، وكان يزين أذنيه ذواتا السمت الحسن والموضع الجميل بقرطَين صغيرين من ذهب. وكان قمصيه الصوفي المُحاك ذا لون أزرق فاتح، وكان سرواله المرقَّع والملطَّخ يُوحي بأنه كان أزرق اللون أيضًا. وكان يضع أمتعتَه القليلةَ في صرةٍ من منديل قطني أزرق.
عندما استجمَّ ذلك الغريب ونال قسطًا من الراحة، زفر وتنسَّم الهواء حوله ثم أخذ ينظر حوله.
علق قائلا: «زهرة البرسيم! كانت تلك النفحة الدافئة في الهواء هي زهرة البرسيم. وما نسمعُه خلفنا من جز للعشب هو صوت الأبقار تقضم مِلء فيها وتنخر بهدوء ما بين القضمة والأخرى. هناك صوتٌ قصي لآلات حصاد، وهنالك يتصاعد عمود دخان أزرق من بيت ريفي قبالة أرض الغابة. هناك نهر يشقُّ الأراضي قريبًا منا، فأنا أسمع قرقرة دجاج الماء، وأُخمِّن من هيئتك أنكَ ملاح نهري. كل شيء يبدو هادئًا، ولكن الأمور تسير على قدم وساق دون توقُّف. ما أجملها من حياة تلك التي تعيشها يا صديقي! إنها بلا شك الأفضل في هذا الكون، إن كنت على قدر كافٍ من القوة لتحياها.»
رد عليه فأر الماء حالِمًا، ولكن دون إيمانه الصادق المعهود، وقال: «صدقت! إنها الحياة المثلى، والوحيدة، التي يُمكن أن يحياها المرء.»
رد عليه الغريب بحذر: «لم أقصد ذلك بالتحديد. ولكن دون شك إنها الحياة الأفضل. لقد عشتُها يومًا، وأعرف متعتَها. ولأني قد جربت هذه الحياة طوال ستة أشهر وأعرف أنها الأفضل، فها أنا ذا أفر منها، مُقرَّح القدمين خاوي البطن، وأنشد الجنوب متتبعًا النداء العتيق، راجعًا إلى الحياة القديمة؛ حياة أحياها كيفما شئت؛ حياة لن تتخلَّى عني أو تَنقلِب عليَّ!»
عجب الفأر وقال: «عجبًا! أهو حيوان آخر من محبِّي الجنوب؟» ثم سأله: «ومن أين قدمتَ إذن؟» ولم يجرؤ على سؤاله عن وجهته، فقد كان يعلم الإجابة علم اليقين.
أجابه عابر السبيل باقتضاب: «مزرعة صغيرة وسعيدة بعيدًا في ذلك الاتجاه …» ثم أومأ باتجاه الشمال. أردف وقال: «دعك منها! كنت أحظى هناك بكل ما يمكن أن أتمناه؛ كل شيء حسن يحقُّ لي أن أنتظره من هذه الدنيا، بل وأكثر. وها أنا ذا! ممتن لوجودي هنا الآن كامتناني لحياتي هناك! لقد قطعت أميالًا طوالًا من طريقي، وأقترب رويدًا رويدًا مما يصبو إليه قلبي!»
رمقت عيناه اللامعتان الأفق في ثبات وعزيمة. كان كأنه يُنصت إلى صوتٍ ما كان مفتقدًا في مزرعته البعيدة عن السواحل؛ كان صوتًا يصدح بالغناء مصحوبًا بألحان المراعي وساحات المزارع العذبة الطروب.
قال فأر الماء: «أنت غريبٌ ولست تُشبهنا! وإن كنتُ مُدليًا بدلوي في هذا الأمر، لقلتُ إنك لست بالمزارع ولا حتى من أهل بلدنا هذا.»
قال الغريب: «صدقت! أنا فأر بحر؛ ومسقط رأسي هو ميناء القسطنطينية. ومع ذلك، فأنا غريب عن أهلها أيضًا، إن جاز التعبير. أظن أنك قد سمعت عن القسطنطينية يومًا ما يا صديقي. إنها مدينة جميلة وعتيقة ومجيدة. كما أنك ربما تكون قد سمعت عن سيجرد ملك النرويج وعن رحلته إلى القسطنطينية في أسطول من ستين سفينة، وكيف امتطى هو ورجاله الجياد في الشوارع وعليهم حلَّة من الفخر والمجد وثياب ذهبية وأرجوانية؛ وكيف خرج الإمبراطور وزوجته من القصر وذهَبا للغداء معه على متن سفينته. وعندما هم سيجرد بالرحيل، قرَّر العديد من رجاله المكوث وانضموا إلى حراس الإمبراطور، وقد بقي جدي الكبير؛ وهو فأر نرويجي الأصل، هو الآخر مع السفن التي أهداها سيجرد للإمبراطور. ومنذ ذلك الحين ونحن نجوب البحار، ولا عجب في ذلك؛ أما فيما يتعلَّق بي، فإن المدينة التي وُلدتُ فيها لم تعد وطنًا لي، بل هي كغيرها من الموانئ الساحرة التي أجوبها في الطريق بين هناك ونهر لندن. فأنا أعرفها جميعًا وهي تعرفنُي. أوصلني إلى رصيف أو شاطئ أي مرفأ منها، وهكذا أكون قد عدت إلى وطني!»
قال له فأر الماء بحماس مُتزايد: «أظن أنك تُبحر في رحلات مُمتعة، تمرُّ خلالها الأشهر وراء الأشهر دون أن تلمح أثرًا لليابسة، ويقلُّ الزاد وتشحُّ المياه فيُصرفان في حصص يومية، ويُناجي عقلك ذلك المحيط الجبار ذا البأس الشديد، وكل هذه الأشياء، أليس كذلك؟»
قال فأر البحر في صراحة: «لا شيء من هذا مُطلقًا! مثل تلك الحياة التي ذكرتها لن تُناسبني مطلقًا. فأنا أكون في سفن التجارة الساحلية، ونادرًا ما تَغيب اليابسة عن ناظري. ما يروقني ويروق أي بحار آخر هي الأوقات المرحة التي نقضيها على الشواطئ. يا ألله! ما أروع المرافئ الجنوبية! رائحتها وأضواء سفنها الراسية ليلًا، إنها السحر بعينه!»
قال فأر الماء متشككًا في كلامه بعض الشيء: «حسن! ربما اخترت الطريق الأفضل للعيش! هيا قص عليَّ إذن بعضًا من رحلاتك هذه إن شئت، وما الذي يُمكن أن يجنيَه حيوان شجاع مقدام ويأمل أن يعود به إلى بيته ليُدفئ أيامه الآتية بحرارة الذكريات وزهوها وهو يجلس قرب المدفأة. فلا أخفيك سرًّا، أصبحت أشعر أن حياتي الحالية صارت محصورة ومملة بعض الشيء.»
بدأ فأر البحر يقص عليه ويقول: «آخر رحلة بحرية لي، تلك التي رسَت أخيرًا على شاطئ هذا البلد وأوصلتْني مُفعمًا بالآمال متطلعًا للذهاب إلى مزرعتي البعيدة عن السواحل، أظن أنها تُعد مثالًا جيدًا لتلك الرحلات، وهي بلا شك ستُعطيك انطباعًا وصورة موجزة عن حياتي الزاخرة بألوان المباهج والمرح. أشعلَت المشاكل العائلية فتيل الأمر كالعادة. بدأت مشكلة عائلية كبيرة فالتحقتُ بسفينة تجارية صغيرة كانت ستَنطلِق من ميناء القسطنطينية إلى الجزر اليونانية وبلاد الشرق متَّخذةً طريق البحار القديم حيث كل موجة تعلو هادرة تتركُ في المرء ذكرى لا تنسى. يا لروعة وجمال تلك الأيام والليالي! كان داخل المرفأ وخارجه يعجُّ طوال الوقت بالأصدقاء القدامى؛ الذين كانوا نيامًا إما في أحد المعابد ذات الهواء اللطيف أو في أحد صهاريج المياه الأرضية القديمة خلال قيظ النهار، ويُنشِدون الأناشيد ويقيمون الولائم بعد الغروب تحت سماء مخملية تُرصِّعها نجوم ساطعة. ومن هناك تحركنا وأبحرنا بطول سواحل البحر الأدرياتيكي، التي كان لون مياهها خليطًا من اللون الكهرماني واللون الوردي واللون الزمردي. رسَونا في موانئ يحيط بها البر من كل اتجاه، وطُفْنا بين المدائن القديمة والفخمة، حتى سطعت الشمس من ورائنا في إجلال ذات صباح ونحن نَمضي نحو مدينة البندقية وسفينتُنا تشق عباب بحر من ذهب. ما أجمل البندقية! وما أحلاها من مدينة! هناك حيث يتجوَّل الفأر على مهل ويستمتع بوقته في هدوء. وإذا يحلُّ عليه التعب من التجوال فله أن يجلس ليلًا على ضفة القناة الكبرى ويولم مع أصدقائه على ألحان عذبة تملأ الهواء ونجومٍ براقة تُزين السماء، والأضواء تومض وتلألأ على المقدمات اللامعة المصنوعة من الصلب للجناديل المتمايلة، والتي كانت مُكدَّسة بعضها بجوار بعض حتى إنك يُمكنك الانتقال عبرها من أحد جانبي القناة إلى الجانب الآخر. ثم دعني أحدثك عن الطعام … هل تحبُّ المحار؟ حسنًا، حسنًا، دعْنا لا نُسهب في الحديث عن هذا الآن.»
صمت لوهلة وصمتَ فأر الماء هو الآخر متيَّمًا بما سمعه من أحداث طافيًا فوق قنوات صوَّرها له عقله وأذناه تلتقطان لحنًا خياليًّا يصدح عاليًا فوق جدران رمادية يَكسوها الضباب وتتكسَّر الأمواج على سطحها.
استرسل فأر البحر وقال: «ثم أبحرنا جنوبًا بعد ذلك بمحاذاة السواحل الإيطالية حتى وصلْنا أخيرًا إلى باليرمو. وهناك توقَّفتُ لفترة طويلة وهانئة. فأنا لا أُطيل المكوث في سفينة واحدة؛ فهذا يُضيِّق أفق المرء ويحمله على التعصب والتحيُّز. وفوق ذلك، صقلية هي أحد الأماكن المحبَّبة إلى قلبي؛ فالجميع هناك يَعرفني وطرق عيشهم تلائمني. قضيت أسابيع عدة على تلك الجزيرة ملئت مرحًا وبهجة مع الأصدقاء بعيدًا عن الشاطئ، وعندما تمكَّن مني الملل مرة أخرى وضاق صدري بالمكان، اغتنمت سفينة كانت مبحرة إلى جزيرتي سردينيا وكورسيكا في رحلة تجارية. حينها شعرت بالسعادة مرة أخرى عندما داعب نسيم الهواء المُنعِش وجهي وبلَّله رذاذ مياه البحر.»
سأله فأر الماء: «ولكن أليس الجو خانقًا وحارًّا بالأسفل في ذلك المكان … الذي تُسمونه على ما أعتقد مخزن السفينة؟»
نظر إليه فأر البحر وغمزه بعينيه أو هكذا هُيِّئ لي، ثم قال في نبرة بسيطة: «أنا فأر محنَّك! قمرة القبطان تكفيني.»
غمغم الفأر وقد غرق في بحر أفكاره: «إنها، بكل المقاييس، حياة شاقة.»
رد عليه فأر البحر بنبرة جادة، وعينه على وشك أن تجود بغمزة: «هي حياة شاقَّة ولكن لطاقم السفينة!»
ثم استكمل سردَه وقال: «ومن جزيرة كورسيكا، ركبتُ على متن سفينة تحمل النبيذ إلى سواحل البر الرئيسي دون الجُزُر. وصلْنا إلى بلدة ألاسيو في المساء وأوقفنا السفينة بالقرب منها. ثم أخرجنا براميل النبيذ وألقينا بها إلى البحر من على ظهر السفينة، وشددْنا وثاقها معًا بحبل طويل. ثم ركب البحارة قواربهم وجدَّفوا باتجاه الشاطئ وهم يُغنون وصفٌّ طويل من البراميل المتقارعة يتبعهم كأنه قطيع من خنازير البحر. وعلى رمال اليابسة كانت الجياد تنتظرهم، التي جرَّت مهرولة البراميل على طول الشارع المنحدر لتلك البلدة الصغيرة ومخلفة صوت قرقعة والبراميل تتصادم بعضها ببعض. وعندما حُمل آخر برميل، ذهبنا واستعدْنا نشاطنا وارتحْنا وجلسنا في جلسة سمر استمرت لساعة متأخِّرة من الليل نحتسي الشراب مع الأصدقاء. وفي صبيحة اليوم التالي، قصدتُ حرج أشجار الزيتون العظيم لأنعم ببعض النوم والراحة. في ذلك الوقت كنتُ قد ضقت ذرعًا بالجزر، وكانت الموانئ كثيرة وسفن الشحن وفيرة؛ لذلك عشت حياة كسولة بين القرويِّين، أستلقي بينما أشاهدهم يكدُّون في العمل، أو أتمدَّد على رأس التل المنحدِر فأرى زرقة البحر المتوسط قابعة بعيدًا تحتي. وعلى هذا الحال مضى وقتٌ طويلٌ، تنقلتُ فيه على رِسْل وتمهُّل ما بين مترجِّل أو على متن السفن حتى وصلتُ إلى مارسيليا حيث قابلتُ أصدقاء البحر القدامى، وزرتُ السفن الضخمة التي تشقُّ مياه المحيطات، وأقمْنا الولائم والاحتفالات مرة أخرى. وهذا يدفعُني للحديث عن المحار! عجبًا، إني أحلم في بعض الليالي بمحار مارسيليا وأقوم من نومي باكيًا!»
قال فأر الماء دمث الخلق والكريم: «حديثك هذا قد ذكرني بأنك قد قلت بأنك جائع. كان عليَّ أن ألتفتَ إلى هذا الأمر قبل الآن. أنت ستحلُّ عندي ضيفًا وسنتناول الغداء معًا، ما رأيك؟ فجُحري قريب من هنا؛ لقد تجاوزنا الظهر بقليل، وأنت مرحب بك أيًّا كان ما هناك.»
رد فأر البحر وقال: «هذا ما أدعوه لطفًا وكرمًا وأخوة منك. كنت فعلًا أتضور جوعًا عندما جلست، ولكن منذ أن ذكرت المحار سهوًا عن غير قصد، زادت تقلُّصات معدتي ازديادًا رهيبًا. ولكن، ألَا يمكنك أن تجلب الطعام هنا؟ فأنا لستُ من محبي المكوث في الأماكن المغلَقة إلا إذا اضطررتُ لذلك. وبينما نحن نأكل هنا، يمكنني أن أقص عليك مزيدًا من أحداث رحلاتي وحياتي الماتعة التي أعيشها؛ على الأقل، أنا أجد فيها متعتي، كما أرى أنها تروق لك أيضًا، مما هو بادٍ عليك من الإصغاء والانتباه. أما إذا ذهبنا لنأكل في البيت، فإني أعلم يقينًا أني سأغطُّ في النوم على الفور.»
قال فأر الماء: «هذا اقتراح رائع بلا شك!» ثم أسرع إلى بيته حيث أخرج سلة الغداء وملأها بوجبة بسيطة مراعيًا تفضيلات ذلك الغريب وبلد نشأته؛ إذ حرص أن يُضمِّن الوجبةَ رغيفًا طويلًا من الخبز الفرنسي، وسجقًّا تفوح منه رائحة الثوم، وبعض الجبن ذي الرائحة القوية، وقارورة يُغطيها القش طويلة العنق تمتلئ بمشروبٍ تشبَّع بضوء الشمس وخُزِّن بعيدًا على المنحدرات الجنوبية. ثم رجع سريعًا محمَّلًا بما لذَّ وطاب، واحمرَّت وجنتاه فرحًا وهو يتلقَّى استحسان البحَّار المحنَّك الذي أخذ يمدح ذوقه واختياراته بينما كانا يُفرغان محتويات السلة معًا على عشب جانب الطريق.
وبمجرد أن هدأ جوع فأر البحر بعض الشيء، أكمل رواية أحداث رحلته البحرية الأخيرة، آخذًا مُستمعَه البسيط من ميناء إلى آخر حول إسبانيا، ثم انتقل به إلى لشبونة وبورتو وبوردو. ثم عرفه على مرافئ كورنوول وديفون الساحرة، ثم أبحرَ به إلى القناة الإنجليزية حتى وصَل إلى رصيف الميناء الأخير الذي رسا فيه وقد أنهكَه الجو وقذفتْه الرياح المعاكسة بعد أن ضربتْه طويلًا. وحينها وقعَت عيناه على التباشير والآثار الساحرة لفصل ربيع آخر، فانطلق متحمِّسًا في رحلة طويلة على قدمَيه داخل البلاد ونفسه تتوق لتجربة العيش في مزرعة هادئة؛ بعيدًا كل البعد عن تقلبات البحار المهلكة والكئيبة.
رافق فأر الماء، وهو مفتون يرتعش من فرط الإثارة، المغامر في رحلاته فرسخًا بفرسخ؛ على طول الخلجان العاصفة، وبين المرافئ التي تعجُّ بالسفن، وعبر الأرصفة الرملية يَدفعهم المد المتسارع، وعبر الأنهار المتعرِّجة الملتوية التي تُخفي قراها الصغيرة النشطة بين انعطافاتها غير المتوقَّعة، ثم تركَه أخيرًا بزفرة ندمٍ عند مزرعته المُملَّة البعيدة عن السواحل؛ تلك المزرعة التي رغب عن سماع أي شيء عنها.
في ذلك الوقت كانوا قد انتهَوْا من تناوُل طعامهم، واسترجع البحار عافيته وقوته وصار صوته نابضًا أكثر بالحياة، وتلألأت عيناه بضياء بدا كنور منارة لبحر بعيد. ثم ملأ كأسَه بشراب الجنوب الأحمر المتوهِّج والمُعتَّق ومال إلى فأر الماء حتى سلبه بصره وملَك عليه جسده وروحه بينما يتكلم. كان لون عينيه يشبهان اللون الفيروزي المائل للرمادي لمياه بِحار الشمال الهائجة والمزغبة. وصفا الكأس فسطَع ما فيه كياقوتةٍ حمراء تراءَت كأنها قلب الجنوب النابض يتحرَّق شوقًا للقائه، وقد كان لديه من الشجاعة ليستجيب لتلك الخفقات. أسَرَ هذان اللونان؛ الرمادي المتقلب والأحمر الراسخ، لبَّ فأر الماء وفتَناه وسلَبا قُواه وإرادته فصار كالمسحور. تقهقر العالم الهادئ الذي يقبع خارج سلطة أشعتهما بعيدًا واختفى من الوجود. أما الحديث العجيب، فقد أخذ يتدفق، ولكن كان لا يدري أكان كلامًا في مجمله أم استحال في بعض أجزائه إلى أغنية؛ كأغنية يُردِّدها البحارة وهم يرفعون المرساة التي تقطر ماءً؛ كأزيز رنان جادت به حبال صاري السفينة أثناء هبوب رياح شمالية شرقية عاصفة؛ كأغنية شعبية للصيادين الذين يسحبون شباكهم وقت الأصيل والسماء فوقهم قد صار لونها كلون المشمش؛ كصوت أوتار جيتار أو مندولين على متن جندول أو زورق صيد. هل تغيَّر إلى صوت قصف الرياح وهي حزينة محتجة في البداية، ثم غاضبة مزمجرة كلَّما اشتدت، ثم ارتفع حتى صار صفيرًا يصمُّ الآذان ثم انخفض حتى استحال لصوتٍ ذي نغمٍ موسيقي لنسمة هواء خفيفة وهي تضرب الحافة الخلفية لشراع منتفخ؟ بدا أن المستمع المشدوه كانت تصل إلى أذنيه كل تلك الأصوات ومعها نعيق النوارس الجائعة وهدير تكسُّر الأمواج الهادئة وصرخات حصباء الشواطئ الرافضة. رجع إلى الحديث مرة أخرى وأصغى بقلبٍ خافق وحماس شديد إلى العشرات من مغامرات المرافئ والشجارات وخطط الهروب والحشود المجتمعة والصحبة والرفاق والمهام الخطيرة، أو مغامرات البحث عن الكنوز المفقودة في الجزر والصيد في البحيرات الراكدة والنوم طوال النهار على الرمل الأبيض الدافئ. قَصَّ عليه رحلات الصيد في البحار العميقة وقصص الأسماك الفضية اللامعة وهي تملأ الشباك الطويلة؛ وحكى له عن الأخطار المفاجئة، وعن ضوضاء الأمواج المتكسِّرة في ليالي المحاق، وعن المقدمة الطويلة لبواخر الركاب الكبيرة وهي تخترق الضبابَ شيئًا فشيئًا. حدَّثه عن بهجة العودة للأوطان عندما ترى اليابسة وقد تقوَّست كلسانٍ بحريٍّ وأضواء الميناء وهي تبدو في الأفق، وجموع الناس بهيئاتهم الضبابية وصياحهم المرحِّب، والرذاذ الناتج عن ارتطام حبال الإرساء بالماء، وحدَّثه كذلك عن المشي بتثاقل في ذلك الزقاق المنحدِر الصغير باتجاه وهج ضوء النوافذ المغطَّاة بالستائر الحمراء الذي يبعث في النفس الراحة والطمأنينة.
وفي نهاية حلمه الذي طاف فيه وهو مُستيقظ، بدا له أن المغامر قد نهض واقفًا على قدميه، لكنه كان لا يزال يتحدَّث ولا يزال يأسر لبَّه بعينيه اللتين تُضاهيان البحر في لونه الرمادي.
كان يقول بصوت رقيق: «أما الآن، فأنا سأمضي في طريقي نحو الجنوب متمسِّكًا به لأيام طوال مغبرة حتى أصل إلى تلك البلدة الصغيرة المطلَّة على البحر الرمادي التي أحفظها وتفاصيلها عن ظهر قلب، والتي شُيدَت على منحدَر طويل بجانب المرفأ. هناك ترى وأنت تخترق الظلمة مجتازًا مداخل البيوت درجات السلالم الحجرية المنسدلة التي تعانقها أجمات كثيفة من أزهار الناردين ذات اللون الوردي وتُفضي إلى مساحةٍ متلألئةٍ من المياه الزرقاء. إن الزوارق الصغيرة الراسية، التي ربطت في حلقات حائط صد الأمواج القديم وأوتاده، مطليَّة بألوان زاهية مُبهِجة تمامًا كتلك التي اعتدتُ تسلُّقها والقفز منها أيام طفولتي؛ وأسماك السلمون تتقافَز خارج الماء عندما يَصل المد أشدَّه؛ وأسراب أسماك الماكريل تُومض وتمرُق على جوانب المرسى وصدر الشاطئ في لعب ومرح؛ وإذا نظرت من النوافذ، ترى البواخر العظيمة ليلًا ونهارًا وهي تنساب على الماء عائدة إلى أحضان الميناء أو تشرع في شقِّ عباب البحر الواسع مرةً أخرى. وهناك عاجلًا أم آجلًا، ترسو السفن من جميع البلدان التي تجوب البحار؛ وهناك في الوقت المقدَّر، ترفع السفينة التي أختارها مرساتها وتنطلق. أتريَّث وأتلكَّأ وأنتظر حتى تأتي السفينة المناسبة وتقبع في انتظاري؛ تكون حمولتها خفيفة وتُجرُّ إلى وسط تيار البحر وصاري المقدمة باتجاه المرفأ. حينها أتسلل إلى سطحها عبر قارب أو أتسلق قَلْسًا من أقلاسها، ثم أفيق ذات صباح على صوت أغاني البحارة ووقْع أقدامهم، وطنين آلة الرفع وجلجلة سلسلة المرساة الحديدية وهي تُسحب لأعلى في جوٍّ من المرح والسرور. ثم ها نحن ذا، نُنزل شراع الصاري الأمامي، والقلع الأمامي الصغير، وما تلبث المنازل البيضاء على جانب المرفأ أن تختفيَ ببطءٍ خلفَنا بينما السفينة تبحر في طريقها، وهنا تكون الرحلة البحرية قد بدأت! وبينما السفينة تشقُّ طريقها إلى الأمام باتجاه اللسان الساحلي، تُسدَل كافة الأشرعة كأنما تُكسى بالثياب. وحين نجاوز ذلك اللسان البحري، تَخضع السفينة تحت وطأة صفْق رياح البحار الخضراء العظيمة متَّجهة إلى الجنوب!
وأنت ستأتي أيضًا يا صديقي الصغير! فكما ترى، الأيام تمضي ولا تعود أبدًا، والجنوب ما يزال في انتظارنا. خُضِ المغامرة واتبع النداء، تحرَّك الآن قبل أن تمضي هذه اللحظة فلا تعود أبدًا! كل ما يتطلَّبه الأمر هو أن تُغلق باب بيتك خلفك ثم تأخذ خطوة واحدة للأمام تَنشُد بها سعادتك، حينها ستُصبح حرًّا من قيود حياتك القديمة وتنغمس في الحياة الجديدة! ثم يومًا ما بعد فترة طويلة، عندما يجفُّ نبع حماسك وتفرغ من مغامراتك، تعود إلى بيتك إن أردت وتجلس على ضفة نهرك الهادئ محمَّلًا بمخزونٍ ضخم من الذكريات لتقصَّها على رفاقك. أنت يُمكن أن تتخطَّاني وتسبقني بسهولةٍ على الطريق؛ فأنت شابٌّ وأنا هرم أمشي رويدًا رويدًا. سأمضي في طريقي وسأتلكَّأ، وعندما أنظر خلفي، أنا واثق أني سأراك قادمًا يملؤك الحماس والشغف وتضيء وجهَك أشعةُ شمس الجنوب!»
خفَت الصوت وتضاءل حتى اختفى تمامًا كما يتضاءَل طنين حشرة صغيرة بسرعة حتى يسودَ الصمت. أما فأر الماء فقد كان جسدُه عاجزًا عن أي حركة وعيناه تُحدِّقان في تلك البقعة السوداء البعيدة على ظهر الطريق الأبيض.
نهض الفأر تلقائيًّا وبدأ في جمع محتويات سلة الغداء بحرص وعلى مهل. ثم عاد إلى بيته دون تفكير وجمع بعض الأشياء الضرورية وبعضًا من كنوزه القريبة إلى قلبه ووضَعَها في حقيبة. كان يتصرَّف في تُؤَدة وهدوء ويذرع الغرفة هائمًا على وجهه منصتًا لشيء ما فاغرًا فاه كأنه يسير وهو نائم. وضع الحقيبةَ على كتفِه واختارَ بعنايةٍ عصًا غليظةً يتوكأ عليها في ترحاله وسار باتجاه عتبة الباب دون تسرُّعٍ ودون أن تُساورَه ذرة تردُّد، ثم ظهر الخُلد فجأة أمام الباب.
سأله الخُلد وهو في دهشة عظيمة وقد أمسك بذراعه: «إلى أين أنت راحل يا فأرون؟»
لم يَنظر الفأر إليه وهمهم بصوتٍ حالمٍ رتيبٍ وقال: «إلى الجنوب! مع البقية. سأمضي باتجاه البحر أولًا، ثم سأُكمل طريقي على ظهر سفينة إلى أن أصلَ إلى الشواطئ التي تُناديني!»
ثم اندفع إلى الأمام دون عجلة أو تردُّد وبثبات وإصرار واضعًا غايته نصب عينَيه. ذعر الخُلد فوقف أمام الفأر سادًّا طريقَه ثم نظرَ إلى عينيه فرآهما متأهبتَين فيهما بريق لامع وقد استحال لونهما رماديًّا متقلبًا. هاتان ليستا عيني صديقه، بل عينَي حيوان آخر لا يعرفه! دفعه إلى داخل البيت بعد صراع عنيف ثم ألقى به أرضًا وثبَّته.
نازعه الفأر بيأسٍ لعدة دقائق، ثم بدا عليه أن قواه قد خذلتْه وخارتْ فجأة، فرقد على الأرض لا يُحرِّك ساكنًا منهكًا مغمَض العينين وهو يرتعش. ساعده الخُلد ليقف وأقعده على كرسي حيث جلس منهارًا ومُنكمشًا. كان جسدُه ما يزال يرتعش رعشاتٍ شديدةً ومع الوقت أخذ ينتابه الهلع ويَبكي دون أن يذرفَ دموعًا. أحكمَ الخُلد قفل الباب، وقذف بالحقيبة داخل دولاب وأغلقه ثم جلَس هادئًا إلى جانب صديقه على الطاولة منتظرًا ذهاب تلك النوبة الغريبة عنه. بدأت سِنة من النوم تأخذ الفأر شيئًا فشيئًا، يقطعها غمغمات مضطربة بأشياء غريبة وجامحة وغير مألوفة للخلد قليل الخبرة. بعد ذلك غطَّ الفأرُ في سباتٍ عميق.
ترك الخُلد صديقه نائمًا لبعض الوقت وانهمك في الأعمال المنزلية وقد اكتنفَه قلقٌ شديد. كان الظلام يُسدل ستائره عندما رجع إلى صالة البيت ليجدَ الفأر في مكانه الذي تركه فيه. كان مستيقظًا لكنه فاتر الهمة وصامت وحزين. ألقى نظرة خاطفة على عينيه فوجَدهما صافيتَين بُنِّيتَين مرة أخرى كما كانا مما أسعده كثيرًا. ثم جلس بجانبه وحاول أن يسري عنه وأن يحمله على سرد ما حدث له.
بذل الفأر المسكين قُصارى جهده لشرح الأمور له شيئًا فشيئًا؛ ولكن أنى له أن يصيغ بعبارات باردة جامِدة ما كان في معظمه حلمًا جال برأسه وهو شارد؟ كيف يستعيد من أجل غيره أصوات البحر المتلاحِقة وأناشيده التي غنَّت له؟ كيف يَنسخ سحر مئات من ذكريات البحار وهي تُقصُّ عليه؟ حتى بالنسبة إليه، بعد أن فكَّ السحر وذهب البريق، كانت هناك صعوبةٌ في تفسير ما بدا قبل ساعات أنه الشيء الأوحد والمحتوم. فلا عجب إذن أنه قد عجز عن نقل فكرة واضحة للخلد عما مرَّ به طوال ذلك النهار.
أما الخُلد، فكان يرى بوضوحٍ أن قبضة ذاك الشيء الذي كانت تلبسه أو تلك النوبة التي أصيب بها قد ارتخت، وقد عاد للفأر رشده من جديد. لكنه كان ما يَزال يرتجف مطرق الرأس منكسِر الخاطر. كان باديًا عليه أنه في وقته الحاضر قد فقَد الرغبة كليًّا ولم يعدْ يكترث لكل تلك الأشياء التي كانت تُشكل لَبِنات حياته اليومية. كما فقدَ شغفه في تداول التوقُّعات اللطيفة والتنبؤ بما سيَعتري الأيام المقبلة وما بها من نشاطات من تغيير يبشر بقدومه ذاك الموسم الذي يهم بالرحيل.
حوَّل الخُلد مجرى كلامه، دون تكلُّف ثم بلامبالاة، إلى موسم الحصاد الذي بدأ يهلُّ عليهما والعربات المحمَّلة حتى ليراها المرء برجًا مشيدًا والعاملين بكدٍّ عليها؛ وأكوام القش التي تعلو شيئًا فشيئًا؛ والقمر وقد ازداد حجمًا وهو يطلُّ على الحقول العارية وحزم القش تُرقِّطها. حدثه عن التفاح الذي نضج هنا وهناك؛ وعن الجوز الذي اسمرَّ لونُه؛ وعن المربات والمعلَّبات وعمليات تقطير أنواع الشراب المختلفة. تابع السردَ قافزًا برشاقةٍ من محطةٍ إلى أخرى حتى وصل إلى وقت مُنتصَف الشتاء وما فيه من بهجةٍ تشرح الصدور وحياة منزلية دافئة وثيرة. ثم تابع فكان كلامه نابعًا من عاطفته كأنما يعزف على أوتار قيثارة.
سرعان ما اعتدل الفأر في جلسته وانخرط في الحديث؛ لمعَت عيناه الخاملتان وقطع صمت استماعه شيئًا فشيئًا.
انسلَّ الخُلد اللَّبِق بعيدًا ثم رجع ومعه قلم رصاص وبضع ورقات صغيرة، ثم وضعهما على الطاولة بجانب مرفَقِ ذراع صديقه.
ثم قال: «مرَّ وقتٌ طويلٌ وأنت لم تَنظِم بيت شعر واحدًا! ما رأيك أن تُحاول كتابة بيت أو بيتين هذا المساء بدل أن تُمضي وقتك وأن تُطيل التفكير في تلك الأشياء؟ أشعر بأنك ستَشعُر بتحسُّنٍ كبير عندما تُمسك يدك القلم وتخط به على الورق؛ حتى إن دوَّنتَ القوافي فقط.»
نحَّى الفأر الورق جانبًا بوهن، فانتهز الخُلد الحكيم الفرصة وغادر الغرفة. وعندما اختلَسَ النظر بعد قليل، كان الفأر منهمكًا في الكتابة كأنه يَهيم في عالمٍ آخر؛ كان تارة يُخربش بالقلم على عجلٍ ثم يضع رأس القلم بين شفتيه ليُفكِّر. والحق يُقال؛ كان يمصُّ القلم بين شفتَيه أكثر مما يُخربش، ولكن كان الخُلد في غاية السعادة عندما رأى الدواء وقد بدأ أثره في الظهور.