بين جدة ومكة
الأرض في جدة دائرة. هذه حقيقة لم يسعني، بعد يوم واحد، إلا أن أسلم بها وأقطع بصحتها. وقد تكون الأرض هناك كروية أيضًا — أو كرية، فما أدري أيهما الذي لا غبار عليه — بل هي كروية أو كرية في بعض المواضع ولا سيما في الشوارع، ولها محاور حقيقية لا خيالية وإن كانت لا تدور عليها، ولكنها دائرة على التحقيق، إذا كان هناك شك في كرويتها، على الأقل كلها. وما أسرع ما فطنت إلى هذه الحقيقة الجغرافية الخاصة! فقد كنا مدعوين إلى الشاي في وزارة الخارجية، فلما دنا الموعد أشرفت من النافذة فلم أرَ السيارات، فرددت البصر إلى التليفون فإذا هو لا يزال في مكانه، ولكن صاحب الدار لم يكن حاضرًا، والتليفون في الحجاز يتطلب مهارة كانت تنقصنا، ويحتاج إلى معارف لم يتسع الوقت للإحاطة بها، وكان الخادم قريبًا ولكني استحييت أن أطلب معونته لئلَّا يتوهمنا بعض الهمج من أفريقيا. فسألت الله العون ومضيت إلى التليفون ودققت الجرس مرة، فلم يجبني أحد، فدققته ثانية فلم يعبأ بي مخلوق، فهززت «الشنكل» وأنا يائس، أقول لنفسي إن من لا يحفل الجرس أولى به ألَّا يكترث «للشنكل»، وعاودت الدق والهز مرات، ثم وضعت السماعة وجلست إلى جانبه.
فقال لي أحد الحاضرين: «لِمَ سَكَتَّ؟ دق له!»
قلت: «أأظل أدق إلى المغرب؟»
قال: «لا يا سيدي. دق الجرس ونادِه!»
فراقني هذا ونهضت مرة أخرى وعدت إلى الجرس أدقه وأقول: «يا أخانا! يا حبيبي! يا سيدي ونور عيني وتاج رأسي!»
فلم يعجبه الفصيح الصحيح من اللغة، فقلت أخاطبه بالعامية لعله لها أفهم: «يا أخينا! أنت يا شيخ أنت! ياللي جوه! نبحت حسي ووجعت قلبي. رد يا أخي بقا، الله يقطعك!»
فلم تنفع هذه الرقية، وهممت بالعقود مرة أخري فقال صاحبي: «لا لا لا. ناده باسمه يا أخي!»
قلت: «حسن. وهل مفروض في المصري الذي يأتي إلى جدة أن يعرف اسم عامل التليفون؟ لا بأس!» ووضعت فمي على البوق وجعلت أصيح بما خطر لي من الأسماء لعل واحدًا منها يوافق الصحيح: «يا محمد. يا أبو بكر. يا عمر. يا عثمان. يا علي. يا معاوية. (لزملائي: يظهر أنه أعجمي) يا ناصر خان. يا أزدشير. يا شتربة. انطق قبحك الله! (هل فيكم من يحضره اسم آخر فقد أطار هذا اللعين محفوظي؟ لا بأس) يا بطليموس …»
وهنا قاطعني صاحبي وانتزع السماعة مني ووقف يقول: «يا مركز … يا مركز …»
فسألته: «هل هذا اسمه؟»
فلم يعبأ بي ومضى يقول: «أجول لك. يا مركز، أعطني القناعة. نعم القناعة، رجاء.» فوصله بشركة القناعة للسيارات.
ولكني لم أركب سيارة؛ لأن الجهد العقيم الذي بذلته أمام آلة التليفون أحوجني إلى الرياضة، فقلت أتمشى إلى الخارجية فهي قريبة مِنَّا. فوافقني اثنان وخرجنا وسِرْنا على بركة الله نميل مع الطريق حيث يميل، ويصف بعضنا لبعض ما شاهد إلى الآن وماذا كان وَقْعُ ذلك في نفسه، وطال الأمر علينا وخيل إليَّ أننا ندور ونعود إلى حيث كنا، فخطر لي أن أسأل لنهتدي، فانتظرت حتى لقينا فتى فقلت له: «هل لك أن تدلنا على وزارة الخارجية؟»
فحملق في وجهي وقال: «أيش تقول؟»
قلت: «وزارة الخارجية التي فيها حضرة صاحب المعالي الوزير …»
فجذبني أحد الزميلين وقال: «يا أخي أنت فين؟»
فغاظني ذلك واستثار عنادي فقلت: «اسكت أنت من فضلك. قل لي يا صاحبي، صف لي الطريق.»
فقال كلاهما مغمغمًا قدرت أنه الوصف الذي أطلبه وأشار بيده فقلت لصاحبي: «هيا بنا. لقد عرفت منه الطريق.»
فقال أحد الرفيقين: «ولكن ماذا قال لك؟»
قلت: «إن ما قاله لي لا يهم، ويكفيك أني فهمت مراده.»
فقال: «ليتني على يقين من ذلك؛ فإن الواقع أننا نسير في دائرة، وقد رأيت هذا المسجد أربع مرات على الأقل.»
فأكدت له أن هذا كذب لا يليق ولا يشرف بلاده التي يمثلها هنا، وإن كان لم يَعْدُ الحقيقة فيما قال. وصار لا بد من اجتناب الرجوع إلى هذا الشارع إذا أردتُ أن لا يشمت بي صاحبي. فملت بهما إلى طريق جديد لم نضرب فيه من قبلُ وإذا بنا بعد ثلاث دقائق نعود إلى المسجد.
فقال صاحبي بلهجة الشامت المنتقم: «ما قولك الآن؟ أليس هذا هو المسجد بعينه؟ هذه خامس مرة أراه في ثلث ساعة.»
قلت: «محال، إنه ليس أكثر من المساجد في هذه البلاد وهي جميعها متشابهة.»
وأسكتُّه بهذه المغالطة وعمدت إلى أول رجل صادَفَنا بعد ذلك فسألته عن الطريق إلى وزارة الخارجية، فصاح بي صاحبي: «ما دمت تقول «وزارة الخارجية» فلن يفهم كلامك أحد. يا أخي أنت في الحجاز لا في مصر.»
وهكذا ظللنا نسأل والناس لا يفهمون عنَّا وأخيرًا يشيرون بأيديهم فنمضي ولكن إلى حيث بدأنا.
فاقتنعت بحقيقتين: أولاهما أن الأرض هنا دائرة في كل ناحية، وقد أسلفت القول في ذلك. والثانية أن على من يسأل الناس عن طريق أن لا يسير إلى حيث يشيرون.
والمدهش أننا مررنا بالخارجية وكنا نسأل الناس عنها ونحن واقفون أمام بابها! وفي آخر مرة كنا على إفريزها، لأن سيارة كانت مقبلة فخفنا أن ترشنا عجلاتها بالوحل فصعدنا فوق الإفريز لنتقي ذلك وإذا بها تقف وينزل منها بعض زملائنا.
وقد رأيت «برج بيزا» المائل من نافذة وزارة الخارجية أو دارها أو لا أدري ماذا يسمونها هناك. وكنا نتناول الشاي جماعات وجماعات على موائد صغيرة، وكنت قريبًا من النافذة فنظرت فإذا مأذنة مائلة جدًّا، فأطلت النظر إليها وأنا أتوقع أن تنقض، فقال لي جاري: «ماذا يروقك؟»
قلت: «ألا ترى هذه المأذنة المائلة؟ إن أمرها عجيب. ولا أدري ماذا يمنعها أن تسقط؟ لعلها لا تريد أن تزعجنا.»
فنظر جاري وعجب، ومن حقه ذلك، فقد كان انحرافها شديدًا، فسألنا واحدًا من أهل الحجاز عنها فابتسم وتنحنح وقال كلامًا لا يقنع، واعتذر بأن المباني في الحجاز ليست متينة أو حسنة جميلة كمباني مصر، فبيَّنَّا له أن المتانة والجمال لا شأن لهما ولا قيمة، وأن المسألة أن هذه المأذنة لا يمكن أن تظل ذاهبة في الهواء لأن مسقطها خارج القاعدة، فإذا كانت مع ذلك ستبقى قائمة فتلك معجزة ولا شك، ومن حق الحجاز حينئذٍ أن يباهي بها برج بيزا المائل بل أن يدل بها عليه.
ولما صرنا في الطريق مرة أخري رفعتُ عيني إلى المأذنة فإذا هي مستقيمة لا مَيْلَ فيها ولا انحراف، رجعت أعدو إلى الخارجية فإذا هي تبدو من النافذة مائلة، فانحدرت إلى الشارع وأَجَلْتُ النظر في بناء الخارجية فلم أر شيئًا يلفت النظر فحرتُ، وأخيرًا بعد أن حاورتني المأذنة وخايلتني حتى كاد يطير رأسي حللت اللغز؛ ذلك أن جدران الغرف غير متساوية الارتفاع فأرضها مائلة، فإذا جلسنا فيها بدت لنا الأشياء منحرفة.
•••
وخرجنا يومًا نتنزه على امتداد الشاطئ فيما وراء جدة، ولجدة سور قديم لا خير فيه إذا كان المراد به الحماية، وكان هناك — في السور — باب كبير للدخول والخروج، ومنه يأخذ المرء أحد الطريقين إلى مكة أو المدينة، فلما جاءت الحكومة السعودية رأت أن بابًا واحدًا لا يكفي، ففَتحت بوابتين كبيرتين: واحدة للدخول والثانية للخروج، وأقامت بينهما مخفرًا يسأل الرائح والغادي ويرقب الحركة بينهما، والأمر تافه لا يستحق الذكر، ولكنه بعض التنظيم الذي أدخلت الحكومةُ السعودية وارتاح به الناس، وهم هناك يضيفون هذا إلى أمثاله ويتَّخِذون من ذلك كله شواهد على اتِّجاه النية نحو الإصلاح، بقدر المستطاع.
ورأينا على مسافة نصف ساعة من جدة بيوتًا بعضُها من الشعر، والبعض جدرانه — إن صحت التسمية — من جوانب صفائح الغاز، وسقوفها كذلك من الخيش أو هذه الصفائح، وبعض البيوت من اللبِن، وخلال هذه البيوت الغنم والجمال، وحولها الكلاب، ولكن المطر هدم البيوت المبنية وأبقى على الشَّعر والصفائح. وقد وقفنا نتأمل هذه البيوت المتقوضة وخُيِّلَ إليَّ وأنا أحدق فيها أني صرت للشعر العربي أحسن فهمًا، بعد أن رأيت بعيني ما الطلول الدوارس، وهو إحساس ظل يلازمني وأنا في الحجاز فكلما رأيت منظرًا من الجبال أو السهول والأودية أو الكثبان أو المراعي أو الدُّور أو الخيام؛ زِدْتُ شعورًا بصدق تصوير العرب لحياتهم في أشعارهم، ولم أستغرب شيئًا مما كنت أَمَلُّهُ وأستثقله من لجاجتهم في وصف الطلول والأسفار والرواحل، والولع بذلك وإيثاره وتقديمه، وصار لهذا وما إليه معنًى جديدٌ عندي ومساغ إلى نفسي، وقد كنت حين أطلع شعر العرب — قدماء أو مولَّدِين — أتخطى هذه الأوصاف؛ إذ كنت لا أجد فيها متعة ولا أراها تنقل لي صورة لها قيمتها في نظري. فالآن أعود إلى هذا الشعر الذي كنت لا أطيقه فأرى الحياة تدب فيه وتفيض منه، وإنما أعني شعر القدماء المقلِّدين من المولَّدين أو المحدَثين الذين يقولون على السماع والمحاكاة.
وفي السهل الواقع شرق جدة ثكنة للجنود واسعة رحيبة، ومركز للاسلكي وحظيرة للطيارات. وليس في هذا كله ما يستوقف المرء، فما منه شيء غريب، ولكن هناك أيضًا على مقربة من الثكنة فضاء رحيب مسوَّر سُدَّ بابه بالحديد، وكان الناس يفِدُون إليه زائرين بل حاجِّين؛ لأن فيه على المشهور هناك قبر حواء، وقد هدَمه السعوديون ولم يُبقُوا من قبابه شيئًا، ومنعوا الناس أن يزوروه. وحدثني بعض مَن شهِدوه قبل تقويضه أن طول القبر أربعون قدمًا، وأنه كانت هناك عدة قباب صغيرة على رأسها وصدرها إلى آخر جسمها، وكان الاعتقاد السائد أن أُمَّنَا حواء بهذا الطول، ولهذا مدوا قبرها وذهبوا به طولًا وعرضًا، فإذا صح هذا، فقد كانت أمنًا إذن مهولة، ولا عجب أن تلد كل هذه الخلائق وأن تكون أم هذه الأناسي كلها في الشرق والغرب؛ فليت من يدري كيف كان آدم؟ لا شك أنه كان أفحل وأهول، ومع طولهما وعرضهما خدعتهما الحية وأخرجتهما من الجنة. فليست العِبرة إذن بالطول! وفي هذا عزاء لي عن قِصَر قامتي!
ولم أرَ في الحجاز امرأة ولا بائعًا متجولًا ولا شيخًا همًّا يقوم على الراحتين، ولا جنازة ميت. فأما المرأة فلم أستغرب الحجاب المضروب عليها، فنحن في مصر لا يزال مِنَّا من يحجب المرأة ويوصد عليها الأبواب. وأما الباعة المتجولون فلا حاجة بأحد إليهم في مدينة صغيرة لم تتباعد أطرافها ولم تَفْشُ فيها المدنية ولا يزال الزمن يدور فيها متمهلًا متباطئًا. ولعلِّي لم أَرَ مُقْعَدًا أو سَطِيحًا أو كسيحًا لأني لم أبغهم حيث يكونون، ولكنهم على كل حال لا يُرَوْن في الطرقات وعلى أبواب المساجد وأفاريز الشوارع. ولكني استغربت أن أقضي ستة أيام في الحجاز فلا تقع عيني على جنازة ميت، ولا أسمع أن أحدًا مَلَّ هذه العاجلة وآثر عليها الآجلة، ولا أدري ماذا يغري الناس هناك بالبقاء ويُحبِّب إليهم الدنيا وهي بلاقع، على حين يستطيعون أن ينتقلوا في طرفة عينٍ إلى الفردوس وقصوره وحوره وولدانه وأنهاره من لبن وعسل وخمر!
ولقد اضطررت أن أسأل عن ذلك فضحك الرجل وربت على كتفي وهَمَّ أن ينصرف عني، ولكني تعلقت به وسألته: «اصدقني، هل أنتم تموتون في سركم؟»
قال: «في سرنا؟ ماذا تعني؟»
قلت: «أعني أنكم تموتون أو لا تموتون؟»
قال: «كيف لا نموت؟ إن الموت حق.»
قلت: «لست أراه حقًّا هنا.»
قال: «أستغفر الله العظيم. يا رجل!»
قلت: «أستغفر الله ألف مرة، ولكن لماذا لا تموتون؟»
فقال مبتسمًا: «هل تكره لنا الحياة؟»
قلت: «لا أكرهها لكم، ولكني أكره أن نموت دونكم، لماذا يكون الموت حقًّا علينا وحدنا؟»
وقد أبَوْا أن يموت منهم ولو واحد فقط ليقنعني، حتى ذلك الطبيب الذي كان يقتلني بمَصْليه، لم تهن عليه نفسه ولو إكرامًا لخاطرنا أو في سبيل التدليل على صحة النظرية — فهي في الحجاز نظرية فقط — القائلة إن الموت حق. كأن وظيفة الطبيب أن يميت ولا يموت.
•••
وسيذكرني الحجاز دائمًا بأن عصاي قطعت الطريق بين جدة ومكة، قطعته ساعة كاملة لا تنقص دقيقة بل ولا ثانية، وردت الناس من الجانبين، ووقفتهم صفين من الناحيتين متقابلين على أقدامهم إلا من شاء أن يضرب في طريق آخر ويسير على نهج جديد.
وشَرْحُ ذلك أنَّا في اليوم الثالث تغدينا عند الشيخ الطويل، صاحب شركة القناعة للسيارات، وقد كان على عهد الملك الحسين مديرًا للجمارك، وكان صاحب مال وفير فأتى عليه الاقتراض منه، فلم ينقذه إلا انقراض حكم الحسين وابنه علي ومجيء العهد السعودي بالأمن والطمأنينة وحرية التجارة. فاتَّجر بالسيارات وعاد فوقف على رجليه.
وكان المقرر أن نركب إلى مكة بعد الغداء مباشرة، ولكن الأكل طال والألوان تعددت فنسِينا مكة وذهلنا عن كل شيء، وأخيرًا قُمْنَا عن المائدة آسفين متلفتين متلكئين، وذهبنا إلى بيوتنا فخلعنا ثيابنا ونضونا كل ما على أجسامنا ولففناها — أعني أجسامنا — في مشامل — كالبشاكير — غير مخيطة، حتى أقدامنا خلعنا أحذيتها واعتضنا منها السباعيات، وهي نعال لها سبعة سيور من الجلد تدخل في بعضها الأصبع ويلتف البعض حول المفاصل، ورمينا طرابيشنا، ثم جمعنا ثيابنا في الحقائب وتوكلنا على الله.
وركبنا سيارة لا أدري من أي طراز هي، وإنما الذي أدريه أنها كانت فخمة وجديدة، وأنها لم تخرج إلا في يومنا ذاك، وقلنا للسائق: سر على بركة الله وبقوة البنزين الذي خلقه الله، واعلمْ أننا سنتعشى عند سمو الأمير في قصر جلالة الملك بإذن الله، وأن عليك أن تبلغنا مكة قبل موعد هذا العشاء بوقت يكفي للطواف والسعي ثم ارتداء الثياب.
فقال: «الله معنا. إن السيارة جديدة وليس في وسعي أن أسرع بها لئلا تتلف.»
فقلنا: «فلتتلف؛ فإن موعد الأمير لا يمكن إرجاؤه.»
وما زلنا به نلح عليه ونحاوره ونداوره حتى أطلقها ومضى بسرعة خمسين كيلو. وجزنا أول محطة في الطريق ومضينا نبغي الثانية وإذا به يُطِلُّ ثم يقف ويلتفت إلينا ويقول: «حريق! انزلوا!»
ففتحت الباب من ناحيتي وأسرعت فنزلت، ويظهر أن عصاي التي لم أُعْنَ بها من فرط الفزع سقطت إلى الأرض، وصار في وسعنا بعد أن بعدنا عن السيارة أن ننظر إليها وأن نرى الدخان صاعدًا من بين عجلاتها، والسائق يهيل عليها الرمل عوضًا عن الماء فانقطع الدخان وشرع يعالجها، وكانت سيارتان قد أدركتانا ونزل زملاؤنا ووقفنا نتحدث، واقترح رياض أفندي المصور أن يرسمنا ونحن مُحرِمون.
ولا أطيل. ركبنا السيارة واستأنفنا السير على مهل، وأُنسيت العصا لأن الخوف من احتراق السيارة صرفني عنها، وجعلت وُكْدِي طول الطريق أن أخرج وجهي من نافذة السيارة وأنظر إلى العجلة من ناحيتي وأن أشم، لعل دخانًا صاعد فأنبه السائق.
والطريق إلى مكة طريقان: واحد للسيارات وهو حسن ومكبوس بما نسميه «وابور الزلط» وقد رأينا «الوابور» يستريح عند سفح الجبل، والآخر للجِمال والمُشاة، على يميننا ويسارنا، والجمال التي رأيتها صغيرة وهي أشبه بالبعران في بلادنا، وأحسبها كذلك لضعف المرعى وقلة القوت، وهي تسير قوافل قوافل، وقد عددت خمسين جملًا في قافلة، وكانت تحمل بضائع شتى في الصناديق والأكياس أو الغرائر، وليس معها سوى طفل واحد هو كل حرس هذه القافلة المغرية.
وليس أحلى ولا أفتن من منظر الأطفال حين يحاولون ركوب الجمل، والطفل لا يُبْرِكُ الجمل حين يريد أن يصعد إلى ظهره، وإنما يعمد إليه وهو سائر ويتعلق بذيله ويتخذ من هذا الذيل حبلًا أو سُلَّمًا أو مرقاة مستعينًا بقدميه يخطو بهما على فخذي البعير كأنهما جداران، ثم إذا هو فوقه.
وأمتع من ذلك وأبعث على الدهشة أن ترى بعيرًا على سنامه رجل وعلى عسيبه — عظم الذئب — طفل، والعسيب منحدِر وعظمته حادة فكيف يقعد عليها الطفل وماذا يمسكه فوقها؟ ساقاه يقبض بهما على الجانبين.
وبلغنا الشميسة قبيل الغروب بدقائق — إذا اعتبرنا ساعتي وهي بالحساب الغربي — وقبله بأكثر من نصف ساعة إذا اعتبرنا أن الحجازيين يُحَتِّمُون على الشمس أن تغيب في الساعة السادسة لا في منتصفها.
وهناك في الشميسة استقبلَنا وفد طويل عريض من مكة جاء ليرحب بنا ويحتفي بمَقدَمنا، وبينما نحن نتحادث دُعِيَ مدير الشرطة أو لا أدري من هو إلى التليفون، فاستأذن وذهب ثم عاد يسأل: «هل لأحدكم عصا؟»
قلت: «نعم أنا لي عصا ولكنها واللهِ في السيارة. تركتها فيها؛ لأني لا أدري هل يجوز أو لا يجوز أن يحمل الُمحرِم عصا.»
قال: «ما أوصافها؟»
قلت: «وما شأنك أنت بالله؟ هي عصا والسلام.»
قال: «لا لا لا. لقد وُجِدَتْ عصا في الطريق قرب الرغامة فقطعت على الناس السبيل.»
فضحكت وقلت: «أؤكد لك أن عصاي تحترم القانون ولا تخرج على النظام ولا تعرف قطع الطريق.»
فلم يجُد حتى بابتسامة، وضاعت عليَّ النكتة في هذا البلد الجاد، وقال: «ابحث عنها من فضلك؛ فإن الطريق مقطوع ولا أحد يروح ولا أحد يغدو.»
فهرولت في مشاملي إلى السيارة فلم أجد العصا فعدت وقلت له: «هي عصاي قاطعة الطريق، فاسمح لي أن أعتذر بالنيابة عنها.» فمضى عني إلى التليفون، وخفت أن يأخذوني بها ويجزوني بما صنعت؛ فإن للقوم هنا شريعة غير القانون المدني، فعدوت وراءه وأسررت إليه وهو يتكلم في التليفون: «اذكر من فضلك أن الله تعالي يقول في كتابه المنزَّل «ولا تزر وازرة وزر أخرى».»
فلم يزد على أن التفت إليَّ وقال: «هل نردها إلى جدة أو ندركك بها في مكة؟»
فقلت: «لست أريدها واللهِ فإنها فاجرة كما ترى وأخشى أن ينزو برأسها خاطر آخر، أفلا يمكن دفنها في الرمال مثلًا؟»
فقال للتليفون لالي: «أرسلها مع الشرطة إلى الضيافة.»
فصحت به: «لا لا. ردها إلى جدة من فضلك فحسبي ما صنعت.»
فقال لمخاطبة في التليفون: «بل ردها إلى بيت العويني في جدة رجاء.»
ثم التفت إليَّ وقال: «هيا بنا فقد تأخرتم.»
ولست مبالغًا فيما رويت عن عصاي وما صنعت، فقد كنا في الطريق إذا بلغنا محطة واحتاج السائق إلى ماء يبرد به جوف هذه السيارة الذي يغلي، نصيح بأحد الواقفين: «هات ماء.» فلا يتزحزح ولا يدنو منا بل يقول وهو واقف مكانه: «تفضل.» فينزل السائق ويجيء منه بما يريد. وقد سألنا عن سر هذه الجفوة وقلة الذوق فقيل لنا: بل هو الخوف من أن يدنو الغريب من السيارة فيتفق لسوء الحظ أن يضيع شيء من الأدوات أو ممَّا تحمل السيارة فيُتَّهَم الرجل بالسرقة. وجزاء السارق هناك قطع اليد، وقد أمَّن ابن السعود الناس على أرواحهم وأموالهم بشيئين: بقطع يد السارق وبما يسمونه التصبيحة.
فأما السرقة وقطع اليد فأمرهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وقد قسا ابن السعود في أول الأمر ليزجر اللصوص، حتى لقد حكوا لي أن رجلًا جاءه بكيس فيه بُنٌّ وقال له: «هذا كيس بُنٍّ وجدته في الطريق.»
فسأله: «ومن أدراك أن فيه بنًّا؟ جسسته أو فتحته ونظرت فيه، ولو وجدت فيه مالًا بدلًا من البن لأخفيته ولم تُظهرْه ولم تسعَ به إليَّ. كلا! حتى الجس لا يجوز. اقطعوا يده.»
ومن أجل ذلك يقع الناس على الشيء في الطريق فلا يقربونه أبدًا، بل بلغ من ازدجارهم أنهم ربما مالوا إلى طريق آخر غير الذي فيه هذا الشيء المطروح حتى يمر شرطي فيحمله ويبحث عن صاحبه، ويمروا هم بالشرطي فيُبلِغوه. وإذا لم يقعوا على صاحبه نشروا في «أم القرى» إعلانًا تحت عنوان «لقطات».
أما التصبيحة فشيء آخر، تكون هناك عشيرة ضربت بالسطو فينذرها ابن السعود مرة ثم أخرى وثالثة، فإن كفت وتركت الناس آمنين واستقامت على الهدى فبها ولله الحمد، وإلا همس في أذن واحد من قواد جيشه أن يُصبِّحها فيذهب الرجل في فرقة من الجيش من غير أن يفضي إلى أحد بغايته ومقصده، ويجنب في طريقه إلى العشيرة مواضع الماء، ويضرب بجيشه في الصحراء التي لا تطؤها قدم ليظل أمره خافيًا وغايته مكتومة، ويقع على العشيرة في الفجر فيصلي بجيشه ثم يطلق عليها رجاله فيُصبِّحونها وهم يصيحون: «هبت هبوب الجنة. أين أنت يا باغيها؟»
«خيالة التوحيد إخوان من أطاع الله.»
فلا يبقون ولا يذرون.
ولم يصبح ابن السعود سوى عشيرة واحدة قرب المدينة مذ دخل الحجاز؛ لأن الأمر بعد ذلك لم يحوجه إلى تصبيحة أخرى.
والطريق إلى مكة وادٍ غير ذي زرع، وعلى جانبيه جبال شتى الشكول متفاوتة العلو، ومناظرها تُوقع في الرُّوع أنها غاصة بالمعادن المختلفة، ولست أعلم أن أحدًا درس طبيعتها، وفي الطريق محطات أو استراحات، يجد فيها المسافر القهوة والشاي، ويستطيع أن يبيت فيها إذا أدركه الليل أو التعب أو كلَّت مطيته، وكبراها بحرة في منتصف الطريق، ولها سوقٌ دكاكينها من الخيش والخشب، ووراء السوق على الجانبين البيوت الساذجة فيها عيادة أنشأتها الحكومة أو مستشفى صغير لمن يقعد به المرض في الطريق من الحجاج أو الأهالي، وفي كل محطة مخفر وتليفون. ولم أستغرب هذا الطريق الموحِش ولم أجد فيه جديدًا؛ فإني في مصر أعيش في رقعة من الصحراء وإلى جانبي الجبل.
وقد دخلنا مكة بعد العشاء.